خيرالله خيرالله..كاتب من لبنان
بضاعة النظام السوري التي لا تجد من يشتريها...
خير الله خير الله,,,
في ضوء ما تشهده سورية من أحداث ذات طابع تاريخي، يبدو البلد وكأنه دخل مرحلة جديدة لا علاقة لها بالماضي. تغيّر شيء ما في سورية، بقي الرئيس بشّار الأسد في السلطة أم اضطر إلى التخلي عن الرئاسة، لا فارق. يتبين كل يوم أن النظام القائم لا يمتلك مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً أو حضارياً واضحاً يقدمه للناس. ولذلك، من الخطأ الكلام عن إصلاحات وما شابه ذلك. كل ما في الأمر أن النظام، الذي لا يمكن إصلاحه، يمرّ في أزمة عميقة عمرها أعوام مديدة كان لا بدّ من أن تتكشف يوماً. وها أنها تكشفت. مارس النظام لعبة التذاكي طويلاً. هذه لعبة مفيدة، إذا وجد من يتقنها شرط توافر ظروف معينة. تستطيع هذه اللعبة أن تخدم أي نظام لفترة ما. ولكن في نهاية الأمر، هناك استحقاقات لا يمكن الهرب منها. الأهم من ذلك كلّه، أنه لا يمكن لدولة ذات مؤسسات متخلفة على كل الصعد واقتصاد هزيل تغطية عجزها عن طريق اتباع سياسة تقوم على بيع الأمن للآخرين. ستجد هذه الدولة أن هناك من هو على استعداد لشراء هذه السلعة مرة ومرتين وثلاث وربما مئة مرة... إلى أن تكتشف أن توفير الأمن للآخرين بضاعة كاسدة وأن هذه التجارة ستعود في المدى الطويل بالخسارة على من يمارسها، بل سترتد عليه عاجلاً أم آجلاً. وهذا ما حصل بالفعل مع النظام السوري.
تكمن مشكلة النظام السوري في العام 2011 في أنه لم يعد يجد من يشتري منه بضاعته. نسي أن المنطقة كلها تغيّرت منذ الاجتياح الأميركي للعراق في العام 2003. سقط النظام السوري عملياً مع سقوط النظام العائلي- «البعثي» الذي أقامه صدّام حسين. كان عليه أن يغيّر نوع البضاعة التي يبيعها. لم يستطع ذلك. بقي أسير الشعارات التي رفعها والمفاهيم الخاطئة التي اعتمدها، على رأسها الاعتقاد أن لبنان بلد «هش» وأن في الإمكان التحكم به انطلاقاً من دمشق. إلى الآن، لم يستوعب النظام السوري معنى خروجه عسكرياً من لبنان في العام 2005 واضطراره إلى الاعتماد على ميليشيا إيرانية اسمها «حزب الله» لتأكيد أنه لا يزال يسيطر على الوطن الصغير ذي الصيغة الفريدة من نوعها بحسناتها الكثيرة وسيئاتها التي قد تكون أكثر من حسناتها. لكنها في النهاية صيغة صلبة مكنت البلد من الصمود والتماسك طوال ما يزيد على أربعين عاماً، منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969. لم يكن من هدف لذلك الاتفاق الذي ضغطت سورية مع آخرين من أجل فرضه على لبنان سوى تفتيت الجمهورية اللبنانية والقضاء عليها عن طريق إغراق أراضيها بالسلاح غير الشرعي بدءا بإقامة ما يسمّى جزيرة أمنية اسمها «فتح لاند» في جنوب لبنان.
في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وجد النظام السوري دوراً مهماً له يتمثل في إيجاد توازن بين البعثين السوري والعراقي. لقي دعماً دولياً وعربياً، خصوصاً أنه كان مطلوباً وقتذاك إيجاد من يضع حداً لتهور صدّام حسين الذي تفوق عليه الرئيس الراحل حافظ الأسد في استيعاب المعادلات الإقليمية والدولية وموازينها الدقيقة. أكثر من ذلك، أكد الاسد الأب بالملموس بعدما أغلق جبهة الجولان منذ العام 1974 أنه يحترم أي اتفاق يتوصل إليه مع أي طرف دولي أو إقليمي عندما يتعلق الأمر بسورية. وعرف خصوصاً تسويق وجوده العسكري في لبنان، بالتفاهم مع الإدارة الأميركية، من منطلق قدرته على السيطرة على مسلحي «منظمة التحرير الفلسطينية»، حتى العام 1982، ومنع «حزب الله» الذي حل مكان «منظمة التحرير الفلسطينية» ابتداء من العام 1983 من التمادي في خطف الأجانب وتدمير ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية. هل صدفة أن خطف الأجانب توقف مع عودة الجيش السوري تدريجاً إلى بيروت في أواخر العام 1986 وبداية العام 1987 بضوء أخضر أميركي؟
استطاع حافظ الأسد تجاوز مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن الماضي عن طريق الانضمام إلى التحالف الدولي الذي شارك في تحرير الكويت. استفاد في الوقت ذاته من غباء شخص اسمه ميشال عون، لا يعرف شيئاً من ألف باء السياسة والعسكرية، ليسيطر على قصر بعبدا، أي قصر الرئاسة في لبنان. فرض إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية بعد التخلص من رينيه معوض، الرئيس الشهيد الذي رفض أن يكون مجرد أداة طيعة للنظام السوري. فرض في 1998 على اللبنانيين شخصاً اسمه اميل لحود بعدما تحول بشّار الأسد ابتداء من مرحلة معينة إلى شريك في صنع السياسة العليا لسورية. لم يدرك اميل لحّود يوماً أن السياسة شيء والحقد على مشروع الانماء والإعمار الذي كان يقف خلفه الرئيس الشهيد رفيق الحريري شيء آخر.
في العام 2011، لم يستوعب بشّار الأسد أنه كان عليه أن يتغيّر منذ العام 2003 وأن قواعد اللعبة الإقليمية صارت مختلفة كلياً منذ سقوط النظام العائلي- «البعثي» الآخر في العراق. لم يستوعب أن الشعب السوري ليس بالغباء الذي يعتقده وأنه دخل مرحلة لم تعد لديه بضاعة يبيعها لا للعرب ولا لغير العرب بدليل أنه اضطر إلى الانسحاب عسكرياً من لبنان نتيجة اغتيال رفيق الحريري وأنه لم يجد أخيراً من يشتري منه ورقة تشكيل أكثرية نيابة جديدة في لبنان أسقطت حكومة سعد الحريري معتمدة على السلاح الإيراني الذي في يد «حزب الله» وهو سلاح مذهبي أوّلاً وأخيراً.
في العام 2011، لا يستطيع النظام السوري تجاوز أزمته مع السوريين قبل أي شيء آخر. أنها العودة إلى المربع الأوّل. هناك شعب يؤمن بثقافة الحياة وليس بثقافة المقاومة أو الممانعة التي ليست سوى تعبير آخر عن ثقافة الموت. أثبت السوريون، على الرغم من كل الظلم والقهر اللذين تعرضوا لهما، انهم متعلقون بسورية وبالحرية والكرامة وأنهم يفرقون بين النظام من جهة ووطنهم الغالي من جهة أخرى وأنهم لا يصدقون اولئك المتملقين اللبنانيين الذين يخلطون الآن بين سورية وبين النظام.
كل ما فعله هؤلاء اللبنانيون، الذين يكسبون لقمة عيشهم من لعب دور الأداة، حتى لا نقول من عرق ركابهم، هو خداع النظام السوري بأن هناك أكثرية في لبنان تقف معه. انها كذبة كبيرة لا تشبهها سوى كذبة أن هناك في سورية، باستثناء قلة قليلة من المرتزقة والمنتفعين، أكثرية ساحقة تقف مع النظام وتؤيده... هل يمكن أن يعبد المواطن السوري جلاده ومن لا همّ له سوى استعباده وقهره وتفقيره وتجهيله... أو استغبائه، في أحسن الأحوال؟ |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق