بيت المقدس
إعداد نافذ أبو حسنة
المصدر:
المركز الفلسطيني للاعلام
http://www.palestineinfo.
info/arabic/books/beet_maqdes/maqdes.htm
البوابات
أبواب القدس، إنها المدخل إلى الجوهرة، والحد الفاصل بين العادي والمقدس.. وإن كانت المدينة تماثل
الجوهرة جمال ورهبة. القدس التي ل تشبهها مدينة أخرى ل تشبه أبوابها بوابات المدن. ومذ كانت
فكرة السور، كانت للسور بوابات ومع تعاقب الزمان والدهور، لم يعد أحد يعرف بالضبط كم هو عدد
أبواب القدس، وما هي مواقعها مذ كانت القدس.
البواب المعروفة اليوم، هي أحد عشر بابا سبعة منها مستعملة وأربعة مغلقة. وهي علت أو حلت محل
أبواب أخرى سابقة عليها. وبأسماء مختلفة أيضا.
أكثر البواب المستعملة اليوم، تعود إلى زمن السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي بنى عام ألف
وخمسمائة واثنين وأربعين للميلد سورا عظيما يحيط بالقدس.
اشتهرت أبواب القدس جميعا بدقة الصنعة والجمال، وإن فاق بعضها البعض الخر شهرة ومكانة أما
أشهرها:
* فباب العمود الذي يعرف أيضا بباب دمشق وهو في منتصف الحائط الشمالي لسور القدس تقريبا.
تعلوه قوس مستديرة، قائمة بين برجين. ويؤدي بممر متعرج إلى داخل المدينة.
أقيم فوق باب يرقى إلى العهد الفرنجي، وكشفت الحفريات عن بقايا بابين يعود أحدهما إلى منتصف
القرن الول للميلد، والخر إلى منتصف القرن الثاني.
من أبواب القدس الخرى:
* باب الساهرة، ويقع في الجانب الشمالي من سور القدس على بعد نصف كيلو متر شرقي باب
العمود. وقد بني ضمن برج مربع. حاول الصهاينة اختراقه أكثر من مرة في معارك سنة ألف وتسعمائة
وثمان وأربعين في القدس.
* باب السباط: ويسمى أيضا باب القديس أسطفان، يقع في الحائط الشرقي، ويشبه من حيث الشكل
باب الساهرة. بناه الظاهر بيبرس وتم تجديده أيام سليمان القانوني.
* باب المغاربة، يقع في الحائط الجنوبي للسور، وهو أصغر أبواب المدينة، ويفتح على حارة المغاربة
التي هدمها الصهاينة بعد عدوان حزيران. وباب المغاربة، هو قوس قائمة ضمن برج مربع.
* باب النبي داوود: وهو كبير متعرج يؤدي إلى ساحة داخل السور.
*باب الخليل: ويعرف أيضا بباب يافا. يقع على الحائط الغربي من السور.
*الباب الجديد: وهو أحدث أبواب القدس عهدا إذ فتح سنة ألف وثمانمائة وثمان وتسعين، لمناسبة
زيارة المبراطور اللماني غليوم الثاني إلى القدس.
أما البواب المغلقة فهي:
*باب الرحمة، ويعرف بالباب الذهبي، نظرا لجماله ورونقه الفائقين. ويقسمه بعض المعماريين إلى
بابين: باب الرحمة وباب التوبة.
يقع على مبعدة مائتي متر جنوب باب السباط في الحائط الشرقي للسور. وهو باب مزدوج تعلوه
قوسان، ويؤدي إلى باحة مسقوفة بعقود ترتكز على أقواس قائمة، فوق أعمدة كورنثية ضخمة.
بني هذا الباب في العهد الموي، وهو يؤدي مباشرة إلى الحرم القدسي الشريف، وأغلق أيام
العثمانيين.
يرتبط إغلق هذا الباب بحادثة! ففي زمن العثمانيين سرت شائعة بأن الفرنجة، سوف يعودون إلى
احتلل القدس، وسيكون دخولهم إلى المدينة عن طريق هذا الباب.
خشي المقدسيون من إطلق هذه الشائعة، فعمدوا إلى إغلق الباب الذي ل يزال مغلقا حتى اليوم، إذ
تحرص الوقاف السلمية حاليا على إبقاء الباب مغلقا خشية تسلل الصهاينة إلى الحرم المقدسي منه.
البواب الثلثة الخرى المغلقة، تقع في الحائط الجنوبي من السور قرب الزاوية الجنوبية الشرقية،
وتؤدي جميعا إلى داخل الحرم القدسي الشريف مباشرة. أول هذه البواب ابتداء من زاوية السور:
* الباب الواحد: ويسميه بعض المعماريين الباب البسيط، وتعلوه قوس واحدة.
* الباب المثلث: وهو مؤلف من ثلثة أبواب تعلو كل واحد منها قوس.
* الباب المزدوج: ويسميه البعض الباب المضاعف وهو مؤلف من بابين يعلو كل منها سور.
وهذه البواب جميعا أنشئت في العهد الموي. أبواب القدس كلها اليوم، المفتوحة والمغلقة، مغلقة على
أهل القدس المزنرة بالمستوطنات، وحواجز الجنود الصهاينة الذين يمنعون على القدس أهلها.
)إن ما عثر عليه من أبواب قديمة للمدينة أثناء الحفريات التي وقعت تحت باب العمود، يدل على وجود
أبواب أخرى تحت البواب الحالية، أو في مواضع مختلفة من سور البلدة القديمة، وهي ترقى إلى
عهود موغلة في القدم(.
التكايا والربط
ة، هي الكلمة التركية المسايرة للخانقاه وللزاوية، فقد أطلق العثمانيون على الخوانق والزوايا التي ] التكي
كانت قبلهم أو تلك التي أسموها اسم التكايا. وكلمة تكية نفسها، كلمة غامضة الصل، وفيها اجتهادات،
فبعضهم يرجعها إلى الفعل العربي "وتأ" و"اتكأ" بمعنى استند أو اعتمد، خاصة أن معاني كلمة " تكية "
بالتركية: التكاء والتوكؤ والستناد إلى شيء للراحة والسترخاء.
ومن هنا تكون التكية بمعنى مكان الراحة والعتكاف. ويعتقد المستشرق الفرنسي "كلمان هوار" أن
الكلمة أتت من "تكية" الفارسية بمعنى جلد، ويعيد إلى الذهان، أن شيوخ الزوايا الصوفية، كانوا
يجعلون جلد الخروف أو غيره من الحيوانات شعارا لهم.
الكلمة عند العثمانيين، كانت تطلق على ثلثة أشياء:
* مقام أو مزار أحد الولياء.
* زاوية أو خانقاه يقيم فيها الدراويش والصوفية.
ل لراحة الحجاج والمسافرين _ ز` * خان أول ن
هذه المعاني كانت جميعا مستعملة في فلسطين ولكن المعنى الغالب، هو المعنى الثاني، وهو أن التكية
مكان تقيم فيه الدراويش، ويأكلون مجانا، ويقضون أوقاتهم في العبادة، وفي الذكر، الذي كان كثيرا ما
يصحب بالرقص الصوفي والموسيقى.
وفي كثير من الحيان تجدد معنى التكية، بحيث أصبحت في المعنى الكثر شيوعا منشأ، لتقديم الوجبات
الشعبية المجانية للفقراء والمجاورين للمسجد القصى، وأولئك الذين يقومون على خدمة المساجد
والحرم الشريف دون أن يكون لذلك علقة مباشرة بالدراويش والصوفية.
كان عدد التكايا في بيت المقدس ومدن فلسطينية أخرى، كبيرا جدا في العهد العثماني، حتى إن الرحالة
التركي "أوليا جبلي" الذي زار بيت المقدس في القرن الحادي عشر للهجرة، قال: إنه كان في القدس
تكايا لسبعين طريقة، منها الجيلنية، والبدرية والسعدية، والرفاعية، والمولوية، وغيرها.
تنبغي الشارة إلى أنه مع اضمحلل المدارس في العهد العثماني، انتعشت الزوايا والتكايا، وازداد عدد
الصوفية والدراويش.
من أهم التكايا التي أقامها العثمانيون في القدس التكية المولوية، وقد بناها قومندان القدس، خداوند
كاربك عام تسعمائة وخمس وتسعين للهجرة.
وكان تعيين شيخ التكية يأتي من الشيخ العلى للطريقة المولوية في قونية بالناضول. كانت التكية
المولوية مؤلفة من طابقين وبناؤها جميل متواضع له مدخل ضيق وجدران بيضاء. ولها أملك وأوقاف
للنفاق عليها، اندثرت كلها. وتوفي في سبعينيات القرن الماضي آخر شيخ من شيوخها، وهو الشيخ
عادل المولوي الطرابلسي الصل.
يذكر أن الطريقة المولوية التي تبنتها الدولة العثمانية أسسها جلل الدين الرومي الشاعر المشهور في
قونية ببلد الناضول، وهي طريقة دراويش تمتاز برقص دائري مشهور وموسيقى، وكانت الطريقة
موجودة في القدس قبل الحتلل العثماني. وقد ثبت السلطان سليم، عندما زار القدس رئيس الدراويش
المولوية أخفش زاده، في وظيفته، ومنحه خمسمئة أقجة صدقات، وفي القرن الحادي عشر الهجري،
كان في القدس عدد كبير من أتباع الطريقة المولوية، يتقاضى الواحد منهم خمسمائة أقجة.
زار التكية ووصفها سنة ألف ومائة وواحد للهجرة، الشيخ عبد الغني النابلسي المتصوف المشهور.
ومن تكايا القدس المشهورة، تكية خاصكي سلطان، الواقعة في عقبة التكية المعروفة، باسم عقبة
المفتي، شرقي دار اليتام السلمية.
أنشأتها خاصكي سلطان، زوجة السلطان سليمان القانوني، سنة تسعمائة وتسع وخمسين للهجرة.
ووقفت عليها أوقافا كثيرة. أشرف على بناء التكية المير بايرام جاويش بن مصطفى الذي أشرف على
عمارة سور القدس، وكانت التكية من أهم المنشآت التي أقامها العثمانيون في فلسطين، لمساعدة
الفقراء وطلبة العلم في القدس، وقد ظلت حتى ستينيات القرن الماضي تقدم الطعام للفقراء.
أما الربط، فالرباط في الصل بيت المجاهدين، ولكن الصوفيين، استعملوا الكلمة فيما بعد بمعنى
الخانقاه، على أساس أنهم كانوا يخوضون جهادا روحيا.
وقد أسست أول الربط العسكرية في فلسطين، في القرن الثاني للهجرة، ولكن أهميتها قلت بعد القرن
الثالث عندما استتب المر للمسلمين. ولكنها عادت بقوة بعد دحر الفرنجة، فأنشئ الكثير منها في القرن
السابع الهجري وما تله، كأبراج للمراقبة.
والربط لم تكن كلها عسكرية بعد دحر الفرنجة، وخاصة في القدس والخليل، بل كان الهدف الساسي
منها، توفير أماكن لقامة الزوار والحجاج، والكتابات الباقية على بعض هذه الربط تدل على أنها أنشئت
لهذا الغرض.
كانت الربط تغذي الوافدين إليها بالتعليم الديني، وتوفر لهم غذاء روحيا، فينقلبون إلى جنود محاربين
إذا دعا داعي الجهاد. وفي العصر العثماني أصبح كثير من الربط ملجىء للفقراء من نساء ورجال
يقدم لهم فيها الطعام وتصرف المساعدات المختلفة. وكانت الربط مراكز للتعليم الصوفي، بالضافة إلى
مهامها الجتماعية والسياسية، وكان في بعضها مكتبات. وفي حين كان الصوفية يقيمون في الخوانق
بصورة دائمة أو شبه دائمة، كان زوار الربط يقيمون فيها لمدد قصيرة نسبيا، غير أن التمييز بين
الخوانق والربط لم يكن متيسرا في كثير من الحيان.
وأشهر ربط القدس سبعة هي:
* رباط البصير، عند باب الناظر، وهو أقدم ربط القدس، أنشئ سنة ستمائة وستين للهجرة، على يد
المير علء الدين، ناظر الحرمين الشريفين، زمن الظاهر بيبرس، وهو ل يزال قائما ومسكونا.
* الرباط المنصوري، عند باب الناظر، مقابل رباط البصير، وقد وقفه قلوون الصالحي، سنة ستمائة
وإحدى وثمانين للهجرة، ووقف عليه أوقافا في غزة ونابلس وصفد وغيرها، ول يزال قائما ومسكونا.
* رباط الكرد، عند باب الحديد، أنشأه المقر السيغي كرد، صاحب الديار المصرية، سنة ستمائة وثلث
وتسعين، وهو الن دار سكن، بعد أن شهد انهيارا جزئيا سنة ألف وتسعمائة وإحدى وسبعين للميلد
نتيجة حفريات الصهاينة.
* رباط المارديني، عند باب حطة، ووقفه منسوب إلى امرأتين من عتقاء صاحب ماردين سنة سبعمائة
وثلث وستين للهجرة.
* الرباط الزمني، عند باب المطهرة، وقفه الخواجكي شمس الدين سنة ثمانمائة وإحدى وثمانين
للهجرة.
* رباط بايرام، في حارة الواد، وقد أنشئ في العهد العثماني، والمنشئ هو بايرام جاويش سنة
تسعمائة وسبع وأربعين للهجرة.
* الرباط الحموي، عند باب القطانين، ول يعرف مؤسسه، ول تاريخ تأسيسه، وكان مؤلفا من رباطين
أحدهما للرجال، والخر للرامل من النساء.
إحراق المسجد القصى
جاء الحريق المتعمد للمسجد القصى المبارك في بيت المقدس، يوم الحادي والعشرين من شهر آب،
سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين ليظهر مبلغ الحقد الصهيوني على السلم والمسلمين وحلقة شديدة
الخطورة في التآمر الصهيوني على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
حبك الصهاينة الخطة حبكا أرادوه محكما لتقويض المسجد، فقبل أربعة أشهر من ذلك اليوم المشؤوم
وصل إلى فلسطين المحتلة الرهابي الصهيوني السترالي "مايكل روهان" بهدف محدد ومتفق عليه مع
رؤساء الرهاب في الكيان الصهيوني وهو إحراق المسجد القصى.
سهل الصهاينة "لروهان" الدخول إلى المسجد وكذلك دخول معاونين له، إذ إن الحريق اندلع في أكثر من
مكان، ما يدل على أن الفاعل ليس فردا واحدا فقط. وأن مهمة الرهابي روهان كانت إضرام النار في
المحراب والمنبر فيما تولى آخرون مهمة إحراق جوانب أخرى.
اندلعت ألسنة اللهيب في المسجد، وأخذت ترتفع وتمتد، دون أن يحرك أفراد الشرطة الصهيونية ساكنا،
بل أنهم عمدوا إلى قطع المياه عن الحرم القدسي، لجعل مهمة إطفاء الحريق صعبة، فضل عن أنهم
أعاقوا وصول سيارات الطفاء.
تعالت نداءات الستغاثة عبر مآذن الحرم وهب أبناء القدس مسلمين ومسيحيين، تركوا دكاكينهم
وبيوتهم مفتوحة، واتجهوا إلى ساحة الحرم لطفاء النيران التي تحولت إلى كتلة كبيرة وسط المسجد.
تقاطر أبناء القدس وهم يحملون الجرار وكل ما يمكن أن يصلح وعاء لنقل الماء واشتبكوا مع شرطة
الحتلل التي بعد أن أمنت هرب الفاعلين وعلى رأسهم الرهابي روهان، وقطعت المياه عن الحرم،
ضربت حصارا على المنطقة وأرادت منع أبناء القدس من إنقاذ مسجدهم.
كانت تلك الساعات مريرة وصعبة، رعت عناية ال المسجد، وتمكن المقدسيون من إطفاء النيران التي
التهمت المنبر الموجود في المسجد منذ تحرير القدس من الفرنجة، كما أتت على سقف الجناح الجنوبي
الشرقي، ومحراب زكريا، حيث دمرت سقوف ثلثة أروقة، وكادت تأتي على قبة المسجد لول عناية ال
واستماتة المقدسيين في محاصرة الحريق وإخماده.
ادعى الصهاينة في البدء أن تماسا كهربائيا كان السبب في الحريق، ولكن تقارير المهندسين العرب
أوضحت بجلء أن الحريق تم بفعل أيد مجرمة، مع سبق الصرار والتصميم، وأن الفاعل أكثر من
شخص واحد، بدليل أن حريقين انطلقا في ذات اللحظة داخل المسجد.
خلفت الجريمة غضبا واسعا في فلسطين والعالمين العربي والسلمي، وجرى الصرار على ضرورة
كشف الفاعلين، فأعلنت الحكومة الصهيونية أن الفاعل هو دينس مايكل وليم روهان البالغ من العمر
ثمانية وعشرين عاما، وأنها اعتقلته وسوف تقدمه للمحاكمة، ولكن بعد وقت قصير، أعلنت السلطات
الصهيونية أن روهان هذا، معتوه وأطلقت سراحه، لينجو بفعلته، وليظل سر هذه الجريمة وتفاصيلها
الفعلية دون كشف حتى الن، هذه الجريمة البشعة، لفتت نظر العالم السلمي إلى الخطر الذي تتعرض
له المقدسات في فلسطين، فجرى تشكيل منظمة المؤتمر السلمي في أعقابها، ورغم أن الخطر الذي
يهدد المسجد ل يزال ماثل، فإن حجم الجهد المبذول في المواجهة مازال دون المستوى المطلوب، ول
يرقى إلى مستوى التحديات خاصة من قبل الهيئات التي انبثقت بفعل جريمة الحراق البشعة.
يذكر أن مجلس المن الدولي أدان في قراره رقم مائتين وواحد وسبعين الكيان الصهيوني لتدنيسه
المسجد، ودعا هذا الكيان إلى أن يقوم باتخاذ جميع التدابير التي من شأنها عدم تغير وضع القدس.
اصطف هذا القرار إلى جانب ما سبقه من قرارات، وتلته قرارات أخرى، دون أن يغير الصهاينة في
مواقفهم قيد أنملة.
إصلح المصلى المرواني
يعود المصلى المرواني المقام في الحرم القدسي الشريف إلى العهد الموي. وقد عرف في فترة من
الفترات باسم " الصطبلت" في تزوير مقصود لمحاولة نزع صفة المسجد عنه. وهو لم يكن مغلقا
بالكامل، لكنه كان محتاجا إلى ترميم، ويستخدم في أوقات محددة مثل شهر رمضان المبارك، حيث
تزدحم باحات المسجد القصى، أو في أوقات اشتداد المطر والحر، حيث يتعذر أداء الصلة في ساحات
الحرم.
في مطلع التسعينيات، أطلق الشيخ رائد صلح رئيس الحركة السلمية في الراضي المحتلة عام ثمانية
وأربعين، مبادرة لصلح وترميم المصلى، وباشر جمع التبرعات لهذه الغاية، لتنطلق أعمال الترميم
أواسط التسعينات.
أثار الصهاينة ضجة كبيرة ضد عملية الصلح هذه، وكتبت الصحف الصهيونية عن أن المسلمين
يقيمون مسجدا سريا تحت المسجد القصى.
واستصدرت جماعات يهودية أمرا من محكمة البداية في القدس، لوقف أعمال الترميم في المصلى
المرواني، معتبرة أنه إشادة جديدة، وتوسعة للحرم غير مسموح بها.
لم ترضخ دائرة الوقاف لهذه الضغوط وواصلت العمل في المسجد معتبرة أن من حقها تنفيذ العمال
التي تراها مناسبة داخل الحرم، وأن المر ل يتعلق بمسجد سري، أو توسعة، وإنما بترميم مسجد هو
مفتوح من الصل.
عرقلت السلطات الصهيونية كثيرا إجراءات العمل في الترميم، وهددت مرارا بقطع المياه عن الحرم،
وقامت بذلك بالفعل، واحتجزت شاحنات تحمل مواد أولية لزمة للعمال في المصلى.
ومع ذلك استطاعت الوقاف إنجاز الجزء الكبر من العمل والحتفال بافتتاحه في تشرين أول من عام
ستة وتسعين.
حاول الصهاينة مقايضة هذا الفتتاح بالبقاء على النفق المفتوح تحت المسجد القصى قائما. ما رفضته
دائرة الوقاف السلمية، والتي أوضحت أن الصهاينة عرضوا مثل هذه الصفقة الكريهة، عشية افتتاح
المصلى المرواني بعد استكمال العمال الساسية فيه.
جدد الصهاينة حملتهم بعد افتتاح المصلى، وأطلقوها في اتجاهات عدة، بدأت بالربط بين المصلى
والنفق، ثم استكملت بتهديدات للحركة السلمية في الراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين، وللشيخ رائد
صلح بالذات، وسرعان ما انتقلت هذه التهديدات إلى الحديث عن تقويض المصلى المرواني، أو عن
معادلة بقائه مفتوحا بإقامة كنيس يهودي داخل الحرم.
كتبت الصحف اليهودي مجددا عن أن افتتاح المصلى، هو أكبر العمال المعادية لليهودية منذ ثلثين
عاما، وطالبت بإغلقه على الفور، ثم صرح الرهابي شموئيل مئير، نائب رئيس بلدية القدس
الصهيوني، بان افتتاح المسجد السري ويقصد المسجد المرواني، يجعل من الصعب وقف مخططات
جماعة يهودية تنوي إقامة كنيس في الحرم ردا على افتتاح المسجد.
اتخذت الحملة الصهيونية طابعا مسعورا، عندما أعلن عن أن كبار الحاخامات اليهود عقدوا اجتماعا
لتحديد المكان المناسب لقامة الكنيس، في المنطقة التي يطلق الصهاينة عليها اسم إضافة هيرودوس،
والتي يعتبرونها خارج الحرم، ول توجد موانع توراتية من دخول اليهود إليها.
ثم بالعلن عن النية في افتتاح نفق جديد تحت المصلى المرواني، وهو نفق اكتشف بالقرب من باب
الرحمة إلى الشرق من الحرم القدسي، ويهدد افتتاحه بتقويض المصلى المرواني.
رفضت الوقاف الرضوخ لهذه الضغوط، وقامت الحركة السلمية بزعامة الشيخ رائد صلح، بإقامة
احتفال بافتتاح المصلى، معلنة عن النية باستكمال عمليات الترميم، التي تشمل رصف بلط جديد،
وتجديد كساء الجدران وعمليات تنظيف.
وقد استؤنفت أعمال الترميم مجددا سنة تسع وتسعين، وبذل الصهاينة محاولت حثيثة لوقفها، فأصدر
الرهابي ايهود اولمرت، رئيس البلدية الصهيونية للقدس، أمرا بوقف عمليات الترميم، رفضته الوقاف
باعتبار أن العمال داخل الحرم هي من اختصاصها.
وعندما قامت الوقاف بافتتاح بوابة طوارئ في المصلى أواخر عام تسعة وتسعين، هددت جماعات
صهيونية بإطلق تظاهرات ضخمة لن تتوقف إل بإغلق البوابة أو المصلى نفسه.
ومرة أخرى كان الوقوف في وجه الضغوط الصهيونية سببا أساسيا في استكمال ترميم المكان
السلمي.
الجامعة العبرية
في لقاء جمعه مع السلطان العثماني عبد الحميد عام ألف وتسعمائة واثنين، طلب تيودور هرتزل الزعيم
الصهيوني من السلطان الموافقة على إنشاء جامعة يهودية في القدس، فرفض السلطان هذا المر رفضا
قاطعا.
ولكن الجهود الصهيونية في هذا التجاه لم تتوقف ذلك أن فكرة تأسيس الجامعة تعود إلى المؤتمر
الصهيوني الول، وفي المؤتمر الحادي عشر تقرر إنشاء الجامعة، وشكلت لجنة تنفيذية لهذا الغرض،
سعت للحصول على الرض المناسبة لقامة المشروع.
وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر، قدم البريطانيون أرضا استولوا عليها بموجب قانون نزع
الملكية، وطردوا أصحابها منها، إلى الصهاينة، وذلك لشادة الجامعة العبرية عليها، وفي العام نفسه
قام الزعيم الصهيوني، حاييم وايزمن، بوضع حجر الساس لهذه الجامعة في منطقة جبل الزيتون في
بيت المقدس.
استمر العمل في بناء هذه الجامعة سبع سنوات حاولت خللها السلطات البريطانية، إقناع الصهاينة بأن
تشيد جامعة بريطانية في القدس، ولكنهم رفضوا هذا القتراح.
أقيمت الجامعة، في منطقة ترتفع ثمانية وعشرين مترا فوق سطح البحر، وبدأت الدراسة الفعلية فيها
عام ألف وتسعمائة وثلثة وعشرين، غير أن افتتاحها الرسمي تم في حفل كبير، حضره اللورد أرثر
بلفور، صاحب وعد بلفور المشؤوم، وذلك في نيسان من عام ألف وتسعمائة وخمسة عشرين.
اعتبر الصهاينة افتتاح الجامعة إنجازا كبيرا للمشروع الصهيوني، وقد تحدث في حفل الفتتاح الشاعر
اليهودي حاييم يياليك قائل: في هذا اليوم ستصل النباء السارة إلى جميع عائلت إسرائيل المبعثرة في
كل مكان، بأن أول وتد في عملية تشيد القدس العالمية قد ثبت اليوم وللبد.
التحق بالجامعة فور افتتاحها فريق من كبار الباحثين والساتذة كان من بينهم مارتن بوبر الفيلسوف
اليهودي النمساوي الذي شغل منصب أستاذ الفلسفة الجتماعية في الجامعة، والدكتور يهودا ماغنس،
الحاخام الصلحي المريكي الذي أصبح عميدا للجامعة.
أدت الجامعة العبرية عند افتتاحها خدمة دعائية كبيرة للحركة الصهيونية، إذ ظن المثقفون الوربيون
أن اليهود المهاجرين إلى فلسطين، هم وحدهم القادرون على النفتاح العلمي، وعلى السهام في سير
الحضارة الوربية في منطقة الشرق الوسط.
وفي وقت لحق سوف يستخدم الصهاينة هذه الجامعة في تعزيز تغلغلهم في أفريقا وأسيا. عبر منح
الدراسة في الجامعة التي قدمت لطلب من دول القارتين، كما أن مراكز التجاهات التابعة للجامعة،
قامت بأعداد دراسات وأبحاث تتعلق بالتطوير الزراعي في تلك البلدان.
استقطبت الجامعة دورا كبير من الدارسين وكذلك من الساتذة، ففي عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين
كان يدرس فيها وسبعة وستون أستاذا منهم ثمانية وثلثون يحملون درجة بروفيسور، فيما بلغ عدد
طلبها في العام نفسه سبعمائة وأربعة وثمانين طالب وطالبة، التحق نحو نصفهم بكلية الداب التي
تدرس علم اللغات، والعبرية، التوراة والتلمود، وآداب اللغة العبرية، والفلسفة اليهودية والتاريخ
السرائيلي، وعلم السر الفلسطينية، والتاريخ السلمي، والثقافة السلمية، والتربية وعلم النفس، أما
كلية العلوم، فتدرس الرياضات والطبيعيات والكيمياء وعلم الحيوان والنبات والصحة والبكتريولوجيا.
وأنشئ معهد زراعي تابع للجامعة، التي قصرت التدريس فيها على اللغة العبرية إل في بعض دراسات
اللغة الجنبية.
لعب استجلب اليهود المتزايد إلى فلسطين دورا في التطور السريع للجامعة، إذ أضيفت كفاءات علمية
عديدة من المستجلبين الذين حصلوا علومهم في أوروبا إلى طاقم التدريس في الجامعة.
أنشأ الصهاينة جامعات أخرى في فلسطين بعد النكبة، إل أن الجامعة العبرية، مازالت أهم الجامعات
الصهيونية العاملة في فلسطين.
الزوايا والخوانق
بيت المقدس الذي شهد قدوم أعداد كبيرة من الصحابة والتابعين بعد الفتح العربي السلمي، شهد أيضا
قدوم زهاد ومتعبدين وصالحين، للعتكاف في المسجد وحوله.
ومن هؤلء على سبيل المثال: قييصة بن ذؤيب، وعبد ال بن محيريز، وهانىء بن كلثوم، وأم الدرداء:
هجيمة بنت حيي، زوج الصحابي أبي الدرداء التي كانت تجالس الفقراء والمساكين وتحسن إليهم.
عاش الزهاد الولون حياة بسيطة وأقاموا في معتكفات للتعبد وذكر ال. وفي القرن الثاني للهجرة، قدم
عدد كبير من الصوفية إلى الديار الفلسطينية المقدسة.
وفي مقدمة هؤلء أم الخير رابعة بنت اسماعيل العدوية، وبشر الحافي، وذو النون المصري، وإبراهيم
بن أدهم، والسري بن المفلس السقطي.
الصوفيون كانوا أفرادا في الصل، ثم تجمعوا في منظمات منذ القرن الثالث الهجري. ولكن رواج
الطرق الصوفية، إنما تم في القرن السادس الهجري، وانتشرت انتشارا كبيرا ابتداء من القرن السابع
الهجري، فيما بلغت قمتها في القرن الثامن حيث لقي الصوفيون تشجيعا من الحكام المماليك.
ارتبط بوجود الصوفية نشوء الزوايا والخوانق. والخانقاه كلمة فارسية تطلق على المباني التي تقام
ليواء الصوفية الذين يحلون فيها للعبادة. وقد سميت في العهد العثماني "تكايا" كما أطلق عليها أيضا
اسم الربط.
تركزت معظم الزوايا والخوانق في مدينتي القدس والخليل، وقد بدأ تأسيسها في القرون السلمية
الولى، ولم تكن مقصورة على الصوفية وإنما شغلها زهاد ومتعبدون. ولم يبق من معظمها أية آثار في
الوقت الحاضر.
ولعل من قبيل الستثناءات النادرة، بقاء الزاوية الدهمية في القدس، التي تنسب إلى الصوفي إبراهيم
بن أدهم المتوفى سنة مائة وإحدى وستين للهجرة.
أما معظم الزوايا التي ل تزال آثار كثير منها ماثلة فترجع إلى عصر المماليك، الذين اجتهدوا في تعمير
زوايا ومنشآت كانت موجودة قبلهم، فضل عن إنشاء مؤسسات جديدة.
واليوم ل يعرف عن كثير من الزوايا سوى اسمها، أو أسماء منشئيها فيما اندثرت هي.
ومع أن تعبيرات الزوايا والخوانق والتكايا والربط، كانت تطلق على مؤسسة واحدة ليواء الصوفية،
فإنها كانت مختلفة، وكل منها تعني نمطا مختلفا من هذه المؤسسات.
فالزوايا التي انتشرت في معظم أنحاء فلسطين، وكان في القدس أربعين منها، هي مؤسسات شخصية،
غير مرتبطة في جميع الحيان بالصوفية. إذ الزاوية هي مقر رجل من التقياء أو بيته، يجمع فيها
حوله جماعة من التلميذ، وفيها مصلى. ولهذا السبب كانت الزوايا أصغر من الخوانق والربط وأكثر
منها عددا، كما أنها أقدم منها عهدا، فقد كان العتكاف في غرفة صغيرة أو منارة في المسجد أمرا
عاديا للزهاد والعباد منذ فجر السلم.
وكان هذا المعتكف يدعى زاوية منذ عهد الصحابة. ومما يدل على الهمية التعليمية للزوايا، فإن كثيرا
من المدارس في بيت المقدس، ومدن فلسطينية أخرى كانت تسمى زوايا. وبالعكس، فالزوايا المينية،
والنصرية والختنية في القدس، كانت تسمى مدارس أيضا.
وفي بعض الزوايا أقيمت مكتبات هامة كما هو الحال في الزاوية النصرية في القدس، التي أقيمت في
القرن الخامس للهجرة.
في بيت المقدس كان عدد الزوايا ينوف عن الربعين ومن أشهرها: النصرية، الجراحية، الدركاء،
الدهمية، البسطامية، الرفاعية، زاوية الهنود، زاوية الفغان– وغيرها.
أما الخانقاه فهي بعكس الزاوية، إذ أنها ليست شخصية، وإنما لها غالبا مقام رسمي في الدولة، إذ هي
تنفق عليها، وتعين لها الشيوخ بمراسيم سلطانية.
انتشرت الخوانق بتوسع منذ القرن الخامس الهجري، وهي أكبر بيوت الصوفية، كانوا يقيمون فيها
بصورة دائمة، ويتلقون مخصصات محددة، كما أن الخانقاه كانت مؤسسة للتعليم الديني أيضا. وكانت
على النازلين فيها التزامات معينة للتعبد والدرس والذكر.
أول الخوانق التي أسست في القدس، هي خوانق الفرقة الكرامية، أتباع محمد بن كرام المتوفى سنة
مائتين وخمس وخمسين للهجرة، وقد ذكرها الجغرافي المقدسي في كتابه أحسن التقاسيم.
أما أول خانقاه معروفة معرفة جيدة نسبيا، ول تزال قائمة حتى الن، فهي الخانقاه الصلحية التي بناها
صلح الدين سنة خمسمائة وثلثة وثلثين للهجرة وكانت لها أوقاف كثيرة.
وأهم خوانق القدس:
الخانقاه الدوادارية: وتقع عند باب العتم وقفها المير علء الدين سنجر، سنة ستمائة وخمس وتسعين،
على ثلثين نفرا من الصوفية، من العرب والعجم، وكانت مدرسة في الوقت نفسه.
الخانقاه الكريمية: عند باب حطة، وقفها الصاحب كريم الدين بن عبد الكريم بن المعلم هبة ال، سنة
سبعمائة وثماني عشرة للهجرة، وقد زارها ابن بطوطة، سنة سبعمائة وست وعشرين للهجرة، وكانت
مدرسة أيضا.
الخانقاه التنكزية: عند باب السلسلة أنشأها المير تنكز الناصري سنة سبعمائة وتسع وعشرين للهجرة،
وكانت مدرسة وخانقاه، ودار حديث، ومكتب أيتام.
الخانقاه الفخرية: في الجنوب الغربي من باب الحرم، وقفها القاضي فخر الدين محمد بن فضل ال،
ناظر الجيوش السلمية، المتوفى سنة سبعمائة واثنين وثلثين للهجرة، وكانت خانقاه ومدرسة، هدمها
الصهاينة سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين، مع ما هدموه من زاويا، منذ عام ألف وتسعمائة وسبعة
وستين، وأشهرها: زاوية المغاربة، وزاوية أبو مدين.
الخانقاه السعردية، شمالي رواق الحرم الشمالي، وقفها مجد الدين السعردي، سنة سبعمائة وإحدى
وسبعين للهجرة وكانت مدرسة أيضا.
الخانقاه المنجكية: عند باب الناظر وقفها المير منجك، نائب الشام سنة سبعمائة واثنين وستين
للهجرة.
الخانقاه المولوية: في حارة السعدية، أنشأتها الدولة العثمانية، لتباع الطريقة المولوية سنة تسعمائة
وخمس وتسعين للهجرة وتعرف أيضا بالتكية والزاوية المولوية.
بخلف الزوايا، التي اتسمت بالبساطة الشديدة، وسيادة مظاهر التقشف انسجاما مع طبيعتها وغرضها،
فقد اهتم المماليك بعمارة الخانقاه وزينتها وكسوتها وحرصوا على تدوين أسمائهم عليها كمنشئين لها،
منفقين الموال على عمارتها وخدمتها والنفاق على الصوفيين فيها.
المحاولت اليهودية المبكرة للسيطرة على حائط البراق
ففي ذلك الوقت كانت الهجرة اليهودية من أسبانيا إلى الدولة العثمانية في حالة ازدياد مستمر بفعل
عامل الجذب العثماني المتسامح، مقابل ما واجهه اليهود في أسبانيا.
مع حلول العام ألف وخمس مائة وعشرين دخل الحائط الغربي إلى التقاليد اليهودية الجديدة وصار جزأ
منها .. وتحول إلى حائط لبكاء اليهود عنده.
لم يدرك السلطين العثمانيون ما يبيته اليهود للحائط وللقدس وفلسطين عموما، وفي أجواء التسامح،
أدوا طقوسا قرب الحائط، سرعان ما أخذوا يعبرونها حقوقا لهم.
محاولين استغلل أية فرصة لتثبيتها، فقد سمحوا إلى استغلل سيطرة المصريين على القدس، فتقدم
يهودي يتمتع بالحماية البريطانية بطلب للسماح له بتبليط الرصيف الواقع أمام الحائط أو الزقاق
المجاور له.
وحين عرض الطلب على المجلس الستشاري الذي أنشأه محمد على باشا في القدس، رفض الطلب،
وثبت محمد على وابنه إبراهيم هذا الرفض.
وطلب الخير من متسلم القدس أن يمنع اليهود من رفع أصواتهم أثناء طقوسهم مع السماح لهم
بالزيارة لقاء رسم محدود لمتولي الوقف في حينه. وفي منتصف القرن التاسع عشر بذل الصهاينة
جهودا حثيثة للستيلء على الحائط، فقد حاول الحاخام عبد ال، حاخام بومباي شراء الحائط، كما سعى
الثري اليهودي موشيه مونتفيوري إلى استصدار إذن من السلطات العثمانية يسمح لليهود بوضع مقاعد
وكراسي في المكان، ونصب أعمدة لقامة مظلت واقية من المطار .. ولكن مساعي مونتفيوري لم
تنجم سوى عن السماح مؤقتا بوضع طاولة للقراءة قرب الحائط أزيلت بعد فترة وجيزة بناء على طلب
السلطات السلمية الدينية.
لحقا حاول ردتشيلد شراء حارة المغاربة المجاورة للحائط، وفشلت جهوده، إل أن اليهود كانوا
يستغلون التسامح والسماح بالزيارة على مدار الوقت كي يتحول المر إلى حق ثابت، فعادوا إلى رفع
أصواتهم والبكاء، ومع حلول عام ألف وتسع مائة وأحد عشر حاولوا مجددا إحضار الكراسي للجلوس
عليها أثناء البكاء، ووضعوا ستارا بين مكان الرجال ومكان النساء، ولكن كل ذلك أزيل بأمر السلطات
العثمانية بعد شكوى متولي الوقف السلمي.
تغيرت الصورة مع فرض النتداب البريطاني على فلسطين، فهذا النتداب كان يهدف أساسا إلى تهيئة
إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين وكان نورمان بنويش، وهو أحد كبار موظفي حكومة النتداب
البريطاني في فلسطين يعتبر "أن أكبر محفل ديني لجتماع اليهود في القدس هو الحائط الغربي".
استغل اليهود الصهاينة تأييد حكومة النتداب لهم، وعادوا إلى وضع أدواتهم أمام الحائط، ما فجر
غضب المسلمين الذين واجهوا هذا الوضع عام ألف وتسع مائة وخمسة وعشرين، مطالبين بإزالة ما
وضعه اليهود من أدوات أمام البراق، ولكن هؤلء واصلوا القيام بالبكاء والصراخ مع تركيز أدواتهم
عند الحائط، وهو ما فجر ثورة البراق سنة ألف وتسع مائة وتسع وعشرين التي أسفرت عن مقتل مائة
وثلثة وثلثين مستوطنا صهيونيا، واستشهاد مائة وستة عشر مواطنا فلسطينيا.
بعد ثورة البراق جاءت لجنة تحقيق دولية إلى فلسطين. قررت بنتيجة التحريات التي قامت بها، أنه
للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءا ل يتجزأ
من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملك الوقف.
وأعطت اللجنة لليهود حرية السلوك إلى الحائط لقامة التضرعات، دون جلب أي أدوات. مع ذلك واصل
الصهاينة التحرش بالبراق، حتى كان عدوان حزيران واحتلل القدس.
السواق
البلدة القديمة من القدس، لم يحدث أن اختصرت جغرافية بهذا الحجم، كل هذا الحشد من تفاصيل
التاريخ وزحم الحاضر، ول تلمس مكان عبق القداسة، وخاصية التشبت بالجزئيات الصغيرة كما هو
الحال هنا.
الدكاكين تستند إلى السوار، وكأنها تتكئ على الثبات، وتتزود من التاريخ لمواجهة الراهن، في حالة
رفض مستمرة للقتلع والسحق.
مذ بدأت القدس مقصدا للحجيج بما تضمه من مقدسات إسلمية ومسيحية، دخلت السواق في تكوين
معلم المدينة، وكأنها خلقت معها، لتصير من خصائصها البارزة، وواحدة من ميزاتها الهامة التي
اكتسبت مع الوقت شهرة عالمية، بما حمله السائحون والزائرون معهم من تذكارات جميلة، نقلت إلى
جهات الرض، صورة عن الفلسطيني الصانع الماهر، والصانع هنا توارث الدكان عن الباء والجداد
ورث عنهم حب القدس، وصناعة متقنة، حيث أقامت كل فئة من الصناع سوقا خاصة بها.
أسهب الرحالة المسلمون قديما في وصف أسواق القدس، التي كان يقال أنه ل يوجد بغالب البلد
نظيرها.
حرص بناه السواق على أن تكون ملصقة لسور الحرم ومن سوق القطانين كان يمكن الصعود مباشرة
إلى رصيف الحرم القدسي، وكانت السواق جميعا موقوفة على مصالحه.
ل تزال أسواق القدس، أو ما بقي منها، ميزة للمدينة، فقد كثر تجار التذكارات مع توسع القدس لكن
ذلك لم يخطف من السواق القديمة وهجها، السواق الثلثة البرز اليوم هي: سوق الخانقاه سوق
الدباغة، سوق حارة النصارى.
وأمام دكاكين هذه السواق يأخذ المرء إحساس بأن الناس والشياء راسخة هنا، بلط الزقاق، الجدران،
النقوش، والنسان حاميا على مصنوعاته الدقيقة، معمرا المكان الذي يشده إليه تواصل ل يدرك سره
ول كنه إل هو.
السواق الثلثة ترتبط ببعضها البعض متشعبة إلى أنحاء البلدة القديمة، وصول إلى منافذها الرئيسية
في باب الخليل وباب العمود، حتى لتبدو مثل سوق واحدة، وفي كل سوق عشرات الدكاكين: خمسة
وثمانون محل في سوق حارة النصارى، مئة وخمسون محل في سوق الدباغة، خمسة وأربعون محل
في سوق الخانقاه.
مثل كل شيء في القدس، لم تسلم السواق من الهجمة الصهيونية الشرسة، فقد أزالت الجرافات سوقي
الباشورة والحصر عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين وهدمت أجزاء من أسواق أخرى فيما الباقي
مهدد، بعد تدمير سوقي الباشورة والحصر، أقام الصهاينة سوق "كاردو" وجهزوه بكل المرافق اللزمة
لبعاد السياح والزوار عن السواق العربية، ولعب الدلء الصهاينة دورا كبيرا على هذا الصعيد.
وشنت سلطات الحتلل حملة إفقار منظمة ضد تجار السواق العربية من خلل فرض الضرائب الباهظة
عليهم، وهي تعلم أنهم جميعا من أصحاب رؤوس الموال الفردية التي تعجز عن اليفاء بدفع الضرائب
وإدامة دورة النشاط القتصادي الخاصة بهم.
ول تقدم سلطات الحتلل خدمات مقابل الضرائب بل تعمد إلى إبقاء الحفريات قائمة في السواق، وإلى
البقاء على انتشار استفزازي لجنود الحتلل فيها. فيما نصب المستوطنون سللم حديدية، وأقاموا
طريق اتصال بين الحي اليهودي، وأسطحة السواق، المر الذي يهدد السطحة بالضرر والتآكل، ويتيح
للمستوطنين فرض ممارسة أشكال مختلفة من التضييق على التجار المقدسيين، ومن ذلك مصادرة
المحال.
أدت هذه الممارسات الصهيونية إلى إغلق عدد كبير من المحال في أسواق القدس الثلثة، فجرى
إغلق خمسة وعشرين محل في سوق حارة النصارى، وخمسة وسبعين محل في سوق الدباغة
وعشرين محل في سوق الخانقاه.
المحلت المغلقة تصبح عرضة للمصادرة من قبل المنظمات الستيطانية الصهيونية الناشطة في البلدة
القديمة والتي استولت على محلت جديدة في نهاية العام ألفين.
أما المحلت الخرى فيتواصل الضغط على أصحابها بغية إجبارهم على تركها وإغلقها، ويقول التجار
المقدسيون: أن سبب الغلق هو عدم قدرتهم على الستمرار إزاء الضرائب الباهظة وضعف الحركة
الناجم عن سياسات الحتلل ضد أسواق البلدة القديمة.
)المقدسيون يدركون أن الهجمة على السواق ليست لسباب اقتصادية فقط، بل لتهديد معلم من المعالم
الساسية لعروبة وإسلمية القدس لذلك يقترحون دعما يعين أصحاب المحال في السواق على البقاء
فيها ومما يقترحونه أيضا ربط السواق الثلثة بسوق خان الزيت المكتظ بالمشترين المحليين، وتغيير
المهن في أسواق القدس الثلثة حتى تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة الهجمة الصهيونية.
الحرم القدسي الشريف
الحرم القدسي الشريف ..هو من يعطي القدس معناها، فهو البيت ..ولكأنه المدينة كلها. يضفي على
تميزها وفرادتها، ما تباهي به المدن، لتكون القدس زهرة المدائن، قلب العالم تشده إليها، وتبدو كمن
يمسك بأطرافه كافة، وبالحرم هي المقدس، وغيرها العادي.
والحرم هو الذي يضم المسجد القصى الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في فاتحة سورة السراء،
ومسجد قبة الصخرة التي عرج منها رسول ال صلى ال عليه وآله وصحبه وسلم إلى السماء إل أن
المفهوم الشرعي للمسجد القصى يتضمن كل ما هو داخل سور الحرم القدسي.
كما يضم بين جنباته الطاهرة، مساجد وزوايا، وبيمارستانات وقباب وسبلن، حتى أن البعض وصفه
بمدينة صغيرة، أو بمجمع روحي ثقافي.
ويقع بعض الخلط أحيانا، بين الحرم القدسي الشريف، وبين المسجد الجامع، المسجد القصى، وبين قبة
الصخرة، على أن كل منها مختلف عن سواه.
يقع الحرم الشريف في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة القدس القديمة، ويأخذ شكل شبه المنحرف،
طول ضلعه مئتان وواحد وثمانون مترا من الجنوب، وثلثمائة وعشرة أمتار من الشمال، وأربعمائة
واثنان وستون مترا من الشرق، وأربعمائة وواحد وتسعون مترا من الغرب.
ويحيط بالحرم سور يشترك من جهة الشرق والجنوب مع سور المدينة القديمة، ولذلك كان من الطبيعي
أن يشترك الحرم والمدينة في عدد من البواب القائمة على السوار، إذ أن للحرم خمسة عشر بابا،
أكثرها في الجهتين الغربية والشمالية، اتخذت لها أسماء تاريخية كان بعضها يبتدل مع الزمن.
في الشرق: باب البراق، وباب التوبة، وباب الرحمة، وهي مسدودة غير مستعملة غالب الوقت، وفي
الشمال: باب السباط وباب حطه، وباب شرف النبياء الذي تغير اسمه مرارا ويعرف الن باسم باب
فيصل أو الباب العتم، وفي الجهة الغربية، ثمانية أبواب هي من الشمال إلى الجنوب: باب الغوانمة
وباب الرباط الناصري الذي تغير اسمه أيضا ويعرف باسم باب الحبس، أو باب المجلس، وباب الحديد،
وباب القطانين، وهو من أهم البواب، بني في عهد السلطان الناصر بن محمد بن قلون سنة سبعمائة
وسبع وثلثين للهجرة، وقد وصفه العمري ابن فضل ال، بقوله "أبواب مصفحة بالنحاس المذهب
المخرم، متقن العمارة والزخرفة" يلي باب القطانين، باب الطهارة أو باب الموضأ، ثم باب السلسلة فباب
السكينة، ثم باب المغاربة.
ويعتبر الحرم بمجملة صحنا لمسجد، أو مسجدا في الهواء الطلق يمارس فيه المسلمون صلواتهم باتجاه
القبلة، لعل هذا ما يفسر إقامة العديد من المساجد والمحاريب فيه، كما أنه يفسر الخلط في السماء
الذي وقع فيه البعض حسبما أشرنا بداية.
إلى مسجدي الصخرة والقصى الكبيرين يضم الحرم عددا من المساجد، منها مسجد ملصق للقصى من
جهة الغرب دعي بمسجد النساء، ويليه جامع المغاربة.
ين الشمالي والغربي بعضها أقيم فوق i أما المدارس فقد ذكر العمري والحنبلي مجموعة منها على السور
أروقة سور الحرم وبعضها على السور وحوله، إضافة إلى عدد من الزوايا والربطة أهمها الزاوية
الصخرية، والرباط المنصوري. أما مآذن الحرم الربع، فقد جاءت إقامتها منسجمة مع طبيعة تموضعه
في القدس إذ أن سوري الحرم من الشرق والجنوب، يكملن سور المدينة، قد خل من المآذن التي
أقيمت على جداريه الشمالي والغربي، لتكون أكثر صلة بأحياء المدينة.
المئذنة الولى أقيمت على السور الشمالي بين باب السباط وباب حطة، وقد شيدت عام سبعمائة وتسعة
وستين للهجرة في أيام السلطان الشرف شعبان.
أما الثانية ففي الزاوية الشمالية الغربية من السور عند باب الغوانمة، بناها ناظر أوقاف الحرمين،
القاضي شرف الدين بن الوزير الخليلي أيام السلطان المنصور بن حسام الدين لجين، سنة ستمائة
وسبع وتسعين للهجرة، وهي أتقنها عمارة وأعظمها بناء كما يقول الحنبلي.
وأقيمت المئذنة الثالثة، على باب السلسلة في منتصف السور الغربي، وقد بنيت في ولية المير تنكز
نائب الشام، سنة سبعمائة وثلثين للهجرة .أما المئذنة الرابعة ففي الجهة الجنوبية الغربية شيدت على
سطح المدرسة الفخرية.
جرى ترميم هذه المآذن مرارا في العهد العثماني وفي العصر الحديث، لكنها ما تزال على طابعها القديم
كنموذج لهندسة المآذن في العهد المملوكي.
كان السور محاطا بالروقة من داخله، تحملها العمد والعضائد، لكنها لم تكن تحيط بكل أجزائه، وظل
قسم من الحرم مفروشا بأشجار الزيتون والتين وغيره، ل سيما في الجهة الشرقية.
ومعظمة مفروش بالبلط، كما أنه ليس في مستوى واحد، فالقسم الذي أقيمت عليه قبة الصخرة كان
مرتفعا يؤلف ما يسمى بالدكة، يصعد إليه من أرض الحرم بواسطة أدراج حجرية موزعة في الجهات
الربع للدكة. تنتهي غالبا بمجموعة من القناطر أطلق عليها اسم الميازين ومنها: الميزان الشمالي
الشرقي، ويقوم على عمودين قديمين، ويمتاز بطنف جميل، وإفريز مسنن وعليه كتابة تفيد في تاريخ
إنشائه زمن الملك المنصور قلوون، في سبعمائة وإحدى وعشرين للهجرة.
والميزان الشمالي، ويقوم على عمودين وعليه كتاباتان، والميزان الغربي في أقصى الشمال، ويقوم
على ثلثة أعمدة، ويليه الميزان الغربي على ثلثة أعمدة، فالميزان الغربي في أقصى الجنوب على
عمودين قديمين.
أما الميزان الجنوبي، فمؤلف من ثلثة أعمدة ويتصل بمنبر برهان الدين، ويقع على محور المسجد
القصى وقبة الصخرة، وعليه مزولة يستدل بها المؤذن على وقت الصلة إضافة إلى ميازين أخرى في
الجنوب.
وتتوزع حول مسجد الصخرة قباب صغيرة أهمها قبتا السلسلة والمعراج، ويبدو أن هذه القباب قديمة،
وبعضها من العهد الموي، وقد ذكر المهلبي في القرن الرابع الهجري، أربعا منها :السلسلة والمعراج
والميزان والحشر، وحول الدكة في أرض الحرم، زوايا وقباب عديدة من عهود مختلفة أسهب في
ذكرها ووصفها العمري والحنبلي، منها قبة سليمان الكائنة في الجانب الشمالي، وقبة موسى التي بناها
الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة ستمائة وثلث وأربعين للهجرة، في الجهة الغربية قريبا من باب
السلسلة، وقبة الطومار في الجانب الشرقي الجنوبي، ومن الجهة الشرقية زاوية كانت تسمى الصمادية
وإلى جانبها زاوية البسطامي. وعلى الطرف الجنوبي للدكة، إي ضمن مسجد الصخرة، منبر رخامي،
من العهد المملوكي، نسبة الحنبلي إلى القاضي برهان الدين جماعة.
وهناك البار والصهاريج الموزعة في أنحاء الحرم، التي عد منها الحنبلي اثنين وثلثين بئرا، وسمى
الكثير من أسمائها: بئر الرمانة، بئر الجنة، بئر الشوك، بئر الكأس ..وغيرها والسبلن العديدة، التي
أحسن بناؤها وزخرفتها، وأنشئ أكثرها في العهدين المملوكي والعثماني، وأهمها سبيل من عهد
السلطان قايتباي سنة ستمائة وثمان وسبعين للهجرة، وسبيل قاسم باشا عند باب السلسلة من عهد
السلطان سليمان القانوني، ويتبقى الحديث عن المسجدين الكبيرين، المسجد القصى، ومسجد قبة
الصخرة، وهما داخل الحرم القدسي الشريف.
) الحرم القدسي الشريف ) 2
المسجد القصى، داخل الحرم القدسي الشريف، ومثلما ل خلف على القداسة، فلخلف على الموضع
د، ذلك أن القداسة والموضع، هما من اختيار إلهي، وإرادة ] أيضا ..وإنما هو اختلف على من بنى وشي
ربانية.
وإجماع الراء أن المسجد بني داخل الحرم في العهد الموي، سنة اثنتين وسبعين للهجرة، تدل على
ذلك لوحة محرفة، أما البناء الحالي فمن أعمال الملك عيسى ابن العادل، بعد تحرير القدس من أيدي
الفرنجة، وقد جدد فيه الناصر بن قلوون، ثم الملك قانصوه الغوري، ورمم مرارا.
التفاق على أن البناء تم في العهد الموي يتبعه خلف، فالبعض ينسبه إلى الخليفة عبد الملك بن
مروان، والبعض الخر إلى ابنه الوليد بن عبد الملك. وأرجح الراء أنه شرع في البناء زمن عبد
الملك، وتابعه الوليد، مضيفا بعض الزخارف من رخام وفسيفساء.
ويعتمد المؤرخون في نسبة البناء إلى عبد الملك أن مخطط القصى الموي، كان يقوم على أساس
البلطات المتعامدة مع القبلة، الوسط منها واسع ومرتفع عن بقية البلطات المجاورة له، وهو تخطيط
قريب الشبه بمخطط الكنائس البيزنطية، على خلف جامع دمشق الموي، وجوامع الشام الخرى التي
تتجه بلطاتها موازية لجدار القبلة. ولو أن الوليد هو الذي بنى المسجد القصى لقامه على شاكلة
مسجد دمشق، الذي كان له يد في تصميمه بهذا الشكل المغاير لما قبله من المعابد.
والحق أن المسجد القصى يمثل نمطا جديدا في العمارة السلمية، وهو ما جعله يتصف بميزات
وخصائص معمارية، لم تكن شائعة من قبل، ومن هذه الميزات خلو المسجد القصى من الصحن، أو
الفناء الداخلي المكشوف وهذا من المور النادرة في المساجد التي شيدت منذ صدر السلم، وحتى
العصر العباسي، التي يعتبر الصحن المفتوح من خصائصها الساسية. كما أن محرابه ل يتوسط جدار
القبلة، وبذا يشذ عن القاعدة العامة لغلب المساجد السلمية، التي روعي فيها توسط المحراب لجدار
القبلة.
وبلطات المسجد، متعامدة مع القبلة وليست موازية لها. وبهذا كله يكون المسجد القصى قد تميز عن
أغلب مساجد العصر الموي كما أن المسجد على الشكل الذي بني عليه في ذلك العصر، بلطه وسطى
واسعة، وإنما كانت مساوية ومشابهة لبقية البلطات وذلك لخلو المسجد من القبة في حينها، وقد يكون
عدم وجود قبة في المسجد القصى راجعا إلى الرغبة في إبراز قبة الصخرة القريبة منه.
عام مائة وثلثين للهجرة، وقع زلزال، أدى إلى تهدم القصى الموي، فأمر أبو جعفر المنصور بترميمه
سنة مائة وأربع وخمسين، ثم تعرض لزلزال أخر عام مائة وثمانية وخمسين، فأمر المهدي بإعادة
بنائه.
ويبدو أن أجزاء القصى الموي بقيت، وأدمجت في مخطط القصى العباسي، ومنها البلطة الوسطى
واثنتان على جانبها.
واستحدث المهدي سنة مائة وثلث وستين، توسيعا في البلطة الوسطى بعد الستغناء عن صف من
الدعامات كان يتوسط بيت الصلة، وغطاها بسقف جملوني ضخم يعلوه منور لدخال الضوء، وقبة
خشبية مزدوجة مغلفة بصفائح من الرصاص من الخارج، مزينة بالجس من الداخل، وحسب أوصاف
الرحالة، فقد كان للقصى العباسي رواق من الجهة الشمالية، يتقدم أبواب المسجد.
أما القصى في العهد الفاطمي، فمحل خلف فمن قائل أنه تهدم جراء زلزال وقع عام أربعمائة وأربعة
وعشرين للهجرة، وإن الخليفة الفاطمي الظاهر، قام بإعادة بنائه، وحوله من مسجد كبير مؤلف من
خمس عشر بلطة إلى أربع بلطات فقط، إلى قائل بأن الزلزال الذي وقع في التاريخ المذكور، لم يطل
القصى، وأن الخليفة الفاطمي قام بأعمال تجديد وترميم فقط، وربما تكون اقتصرت على بناء القبة من
جديد، بحسب كتابه أوردها الرحالة الهروي حين زار المسجد سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة،
أثناء وجوده تحت احتلل الفرنجة.
غاب الحديث عن القصى زمنا طويل، أثناء الحتلل الفرنجي، وفيما أشار الهروي إلى أن الفرنجة لم
يحدثوا تغييرا فيه، يتحدث العماد الصفهاني كاتب صلح الدين عن تغييرات واسعة حدثت في المسجد.
ويقول شهاب الدين المقدسي، نقل عن العماد، كانوا قد بنوا من غربي القبلة دارا وسيعة وكنيسة،
فأوعز صلح الدين بهدم ذلك الحجاب وهدم ما قدامه من البنية، ونقض ما أحدثوه بين السواري، وأمر
صلح الدين بتعمير المحراب وترخيمه، واحتيج إلى منبر فذكر السلطان المنبر الذي أنشأه الملك العادل
نور الدين محمود لبيت المقدس قبل فتحه بنيف وعشرين سنة، وأمر أن يكتب إلى حلب ويطلب فحمل"
ل يزال المحراب قائما، أما المنبر الذي ظل يزين القصى كأحسن منابر السلم، فقد أحرقه الصهاينة
سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين. يعتبر الوصف الذي قدمه مجير الحنبلي، سنة تسعمائة للهجرة،
للمسجد القصى قريبا مما هو عليه المسجد اليوم، إذ أن كل الصلحات التي جرت لحقا، لم تؤد إلى
إحداث تغيير في عمارته، ويجدر أن نذكر أن أعمال الفسيفساء التي أشرف على ترميمها المهندس
التركي كمال الدين، أوائل القرن العشرين، كشفت عن فسيفساء تعود إلى العهد الفاطمي، فريدة من
نوعها، خص بها الفاطميون المسجد القصى، وليس لها مثيل في هذا العصر أو العصر اليوبي، أما
العناصر الزخرفية الخرى فقد بقيت هي ذاتها التي كانت في العصور الموية، والعباسية والفاطمية،
وحتى في العهد المملوكي، والمسجد القصى حاليا، يبلغ طوله ثمانون مترا وعرضه خمسون، له بابان
من الجهة الغربية وواحد في الشمال وأخر في الشرق. تعود البواب الشمالية للعهد الفاطمي، وتشكل
البوابة الرئيسية رواقا مؤلفا من سبع فتحات تعلوها أقواس منكسرة والفتحة المتوسطة هي أكثرها
زخرفة، وتعلوها أخرى مقوسة في أعلها جبهة عالية ذات شراشيف، وعبر هذه الفتحات نجد رواقا
زين بزخارف ملونة وللرواق أبواب سبعة تعود إلى المسجد، ويقود الباب الوسط منها إلى المحراب،
ولقد غطي بجمالون ممتد بالعمق حتى القبة، وزين سقفه من الداخل بالزخارف الملونة.
ويبلغ عدد العمدة ثلثة وخمسين عامودا تعلوها تيجان مقرنصة عدا العضادات، ترتفع العمدة
والتيجان لخمسة أمتار وعلى جانبي البلطة الوسطى تقوم على العمدة قناطر ارتفاع قمتها عن الرض
تسعة أمتار ونيف وفوق هذه القناطر يقوم جسم ذو فتحات مقنطرة ارتفاعها عن الرض تسعة أمتار،
وثمانون سنتيمترا، وارتفاع الفتحة متران، أما ارتفاع السقف فاثنا عشر مترا وأربعون سنتيمترا ويبلغ
ارتفاع القبة عن الرض سبعة عشر مترا وفي الجهة الشرقية من المحراب يقوم مسجد عمر، ومقام
الربعين شهيدا ومحراب زكريا، ومن الجهة الغربية يتصل المسجد بجامع النساء أما زخارف المسجد،
فأروع ما بقي منها اللواح الخشبية المحفورة والمزخرفة بالحفر النافر بعناصر نباتية من أوراق
الكرمة والغصان.
هذه اللواح موجودة الن في متحف الحرم الشريف، مصنوعة من خشب الصنوبر، وكانت تغطي أسفل
الجدران بشكل قائم، ولم تكن في سقف المسجد، وهذا أمر فريد في عمارة القصى، أما التحفة
المعمارية المذهلة بحق فقبة الصخرة المشرفة.
) الحرم القدسي الشريف ) 3
قبة الصخرة ..لعلها قمة القداسة، التي دفعت نحو البحث عن نموذج معماري مكتمل، يتساءل آثاري
عربي معروف هو الدكتور عفيف بهنسي عن السبب الذي دعا المعماريين: رجاء بن حياة الكندي،
ويزيد بن سلم، إلى اختيار هذا الشكل الثماني، لبناء آبدة تكريمية تحضن الصخرة المقدسة، أو هي
بناء تعبدي، مسجد، أو قبلة للصلة؟ يتساءل قبل أن يجيب:
لقد وصلت قبة الصخرة إلى أقصى حدود الكمال المعماري ..ولكن أهمية هذه القبة، وقد أصبحت أهم
رمز إسلمي بعد الكعبة تبدو في احتوائها على معان قدسية رسخت أسس الفكر المعماري السلمي،
وكانت أصل يقتدى في العمارة اللحقة.
بنيت القبة في العهد الموي وتاريخها المعماري والفني واضح ل لبس فيه، إذ حافظ هذا البناء على
وضعه الصيل بشكل يندر مثاله بين العمائر التاريخية الخرى في العالم.
لم يتغير مخططه، ولم تتبدل بنيته الصلية أو عناصره المعمارية، وكل ما طرأ عليه خلل تاريخه
الطويل، إصلحات طفيفة تناولت الكسوة الخارجية والعناصر الزخرفية، حرصا من العرب المسلمين في
كل العهود على بقاء هذا البناء المكرم في أجمل حلة وأبهى منظر.
ل شك أن صخرة المعراج كانت هي المنطلق ..وكان الهدف من المشروع العناية بها وإحاطتها بالطار
المعماري اللئق، فكانت القبة هي أنسب شيئ وأجمله .. ومن القبة التي تضم الصخرة وتظلها انتقلت
الفكرة نحو التكامل.
وهكذا من عامل الحاجة، والعامل الفني، ظهر إلى حيز الوجود مسجد الصخرة بمخططه الفريد ومظهره
البالغ غاية الجمال والتناسق الذي ترتاح النفس إليه أشد الرتياح.
والذي قال عنه المؤرخ بوركهارت :"إن إشادة بناء بهذا المستوى من الكمال والتقان الفني، يعتبر عمل
خارقا في دولة السلم التي لم يكن قد مضى على ظهورها قرن واحد" أمام عظمة هذه البدة وجمالها
"سعى كثيرون إلى مقارنتها بأبنية أخرى سابقة مثل قبة القديسة هيلنة في إيطاليا، ولكن قبة الصخرة
أكدت على الدوام فرادتها وطرازها المعماري الخاص، الذي وجد فيه كريزويل استاذ العمارة السلمية،
تناسبا ل متناهيا وانسجاما فوق العادة في كل جوانب البناء، فقال :أن هذا أمر ملفت للنظر حقا.
يتألف مسجد الصخرة من جدار خارجي، شكله مثمن منتظم، طول ضلعه عشرون مترا وسطيا وقطره
خمسون، يليه مثمن مصغر، طول ضلعه خمسة عشر مترا، وقطره أربعون ثم تأتي دائرة القبة، وقطرها
عشرون مترا، يحدث المثمنان حول القبة رواقين، الداخلي وعرضه عشرة أمتار والخارجي وعرضه
أكثر من أربعة أمتار.
أما من حيث الرتفاعات، فتندرج من اثني عشر مترا في الجدار الخارجي، وتنتهي بخمسة وثلثين مترا
عند رأس القبة باستثناء الهلل الذي يرتفع أربعة أمتار أخرى.
أقيمت القبة على الصخرة المكرمة التي ترتفع قرابة متر ونصف المتر عما حولها، وتقدر أطوالها
العظمية بثمانية عشر مترا طول، وثلثة عشر عرضا.
وتتألف دائرة القبة من أربع دعائم حجرية مستطيلة، يتوزع فيما بينها اثنا عشر عمودا من الرخام،
تعلوها قناطر بعددها، أي ست عشر قنطرة، نصف دائرية الشكل، فوقها رقبة القبة، أو كرسيها، كما
سماه القدماء. وهي أسطوانية الشكل تنفتح في أعلها ست عشرة نافذة.
وتغطي الرقبة طاسة القبة، المصنوعة من طبقتين من الخشب بينهما فراغ، والهدف من هذا الشكل، أي
بناء طبقتين، تخفيف الحمولة على الركائز والعمدة، وخلق عازل هوائي، يحمي داخل القبة من
تحولت الطقس.
وظاهر القبة مكسو بالرصاص، وفوقه صفائح النحاس المذهب، ما يساعد على حمايتها من المطار
والشمس، فيما كسي داخلها بالجص المزخرف بالصبغة واللوان.
يتكون المثمن الداخلي الذي يلي القبة من دعائم وعمد تحمل القناطر والسقف، وهي ثماني دعائم في
رؤوس المثمن، يتوزع بينها ستة عشر عمودا، فوقها قناطر بعددها أي أربع وعشرون قنطرة، يصل
بينها سواكف، أو جسور خشبية متينة فوق التيجان، تحكم ترابط البناء.
أما المثمن الخارجي الذي يؤلف واجهة البناء، فمكون من جدران حجرية ارتفاعها تسعة أمتار ونصف،
تعلوها ستائر فوق سطح البناء ارتفاعها متران ونصف، وفي كل تثمينة أو جدار، سبعة محاريب أو
تجويفات قليلة العمق، تنتهي في أعلها بنوافذ، باستثناء التجويفين الخريين في كل تثمينة، فإنها دون
نوافذ، وبذلك يصبح عدد النوافذ في المثمن الخارجي أربعين نافذة، تمد المسجد بالنور، إضافة للنوافذ
الست عشرة المفتوحة في رقبة القبة، الستائر التي تعلو الجدران، كانت هي الخرى مزودة بمحاريب
أو كوى صغيرة، في كل منها ثلثة عشر، طمست معالمها حين وضعت الكسوة القاشانية، في عهد
السلطان العثماني، سليمان عام تسعمائة واثنين وخمسين للهجرة.
يلحظ وجود كورنيش بين جدران المثمن والستائر، تخرج منه ميازيب المياه، وهي ستة في كل تثمينة.
أما أبواب المسجد الربعة المفتوحة في وسط التثمينات الواقعة في الجهات الصلية فهي مستطيلة تقدر
فتحتها بأربعة أمتار ونيف ارتفاعا، وبمترين ونصف المتر عرضا، وتعلو سواكفها عقود نصف دائرية
تكمل النوافذ.
ويتقدم البواب سقائف عرضها متران ونصف المتر، مؤلفة من قبوة نصف اسطوانية، محمولة على
أعمدة، ونجد أكبر هذه السقائف أمام الباب الجنوبي حيث يبلغ طولها خمسة عشر مترا وهي محمولة
على ثمانية عمد.
السقف يمتد من أسفل رقبة القبة نحو التثمينة الخارجية، وهو من طبقتين، الخارجية مائلة، وكانت
مصفحة بالرصاص منذ القديم، والسفلية مستوية تغطيها الزخارف والصبغة، ل تقل الكسوة الزخرفية
لمسجد قبة الصخرة جمال وأهمية عن فرادة المعمار، والزخرفة كانت تتألف من عنصرين رئيسيين:
الرخام والفسيفساء، أما الرخام ففي العمدة التي تنوعت ألوانها وأصنافها، وفي ألواح الرخام الجدارية
من النوع المعرق الذي أطلق عليه القدماء اسم المجزع، وهو يكسو القسام السفلية للجدران والعضائد
جميعا، داخل وخارجا، ويحتل كذلك أماكن العقود في القناطر بألوانه المتناوبة.
هذه الكسوة الرخامية الداخلية، ما تزال تحافظ على أصالتها منذ العهد الموي، إل في أجزاء صغيرة،
جددت في العهدين المملوكي والعثماني.
وأما الفسيفساء، وهي من النوع المكون من فصوص الزجاج الملون، المفصص بعضه والمذهب، فإنها
تغطي القسام العليا للجدران جميعها في الداخل، وفي الواجهات الخارجية وتزين القناطر ورقبة القبة،
وتتألف من مواضيع هندسية، ونباتية متنوعة.
في الداخل، ما تزال الفسيفساء موجودة بحالة جيدة، ومعظمها أصيل من العهد الموي لكنها زالت من
الواجهات الخارجية واستبدلت بألواح الخزف القاسي أيام سليمان القانوني العثماني.
في الزخرفة، استخدمت أيضا عناصر أخرى من بينها النحاس أو البرونز المذهب، صفائح بسيطة أو
مزخرفة تكسو وجوه البواب وسواكفها، وتغطي الجسور الخشبية التي تربط بين القناطر وتيجان
العمدة واستخدمت الصبغة كما استخدم ماء الذهب في تزيين السقوف الخشبية كلها. طالت أعمال
التجديد والترميم العناصر الزخرفية فاستبدلت الفسيفساء بالقاشاني أيام العثمانيين كما أشرنا.
وجددت في الوقت نفسه شبابيك النوافذ الربعين بالخزف، بعد أن كانت في الغالب من الرخام.
أما البواب فجرى تجديدها في العهد العباسي، وبعد أن كانت مصفحة بالفضة والذهب، جاءت العباسية
مذهبة كلها، هذه البواب لم تدم، فأعيد في العهد المملوكي تصفيحها بالنحاس المضغوط المزين
بالنقوش والكتابات.
وجددت القبة في عهد الظاهر الفاطمي وتجددت كسوتها الخارجية مرارا، حتى كانت آخر مرة سنة
1964 م بعد أن لحقت بها أضرار جراء القصف الصهيوني في حرب 1948 كما جرت أعمال ترميم لها
أوائل تسعينيات القرن الماضي، وكما في كل مرة دون تغيير في معمارها الفريد.
إصلحات المسجد القصى
حرص المسلمون دوما على العناية بالمسجد القصى المبارك، وترميم بنائه وإصلحه وتزيينه، وفضل
عن أعمال البناء والترميم والصلحات، التي جرت في العهود العباسية والفاطمية واليوبية والمملوكية
والعثمانية، فقد جرت أعمال بناء وترميم في العصر الحديث.
ففي سنة ألف وتسعمائة واثنين وعشرين، انتخب المجلس السلمي العلى في فلسطين المتولي شؤون
الوقاف والمحاكم الشرعية، لكن أهم أعمال المجلس كانت مشروعا واسع النطاق لتعمير المسجد
القصى من أثر الزلزال الذي تعرض له سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين ومما طرأ على البنيان من
وهن لطول العهد وتقادم الزمن. لسيما بعد أن لوحظ تصدع في الجدران والسقف.
أطلق المجلس حملة واسعة لجمع التبرعات في العالم السلمي، ولبى الكثيرون نداءه. وقد كان لزاما
على المعماريين قبل البدء بعمليات الصلح أن يراجعوا الكتب التاريخية القديمة والحديثة للطلع على
جميع التفاصيل والمسائل المتعلقة بالمسجد، والسير على ضوئها في تنفيذ أعمالهم لعادة المسجد إلى
حاله الصلية.
استغرقت عمليات الصلح نحو سبع سنوات بإشراف المهندس التركي كمال الدين، أستاذ الهندسة في
جامعة اسطنبول، تساعده لجنة فنية من كبار المهندسين والختصاصيين.
وعام ألف وتسعمائة وثمانية وثلثين، شعر المجلس السلمي العلى أن خطرا جديدا يتهدد المسجد
القصى، فطلب بعثة من المهندسين المصريين أجروا دراسة لنجاز عدد من الصلحات وتمت المباشرة
بالفعل في بعض أعمال الزخرفة مثل النقش والترميم السقفي الرواقين الوسط والشرقي، إل أن العمال
لم تستكمل بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية.
وأثناء عدوانهم على القدس ، سنة ألف وتسعمئة وثمان وأربعين، تعمد الصهاينة إسقاط القذائف على
الحرم القدسي الشريف ، فأصيبت قبة الصخرة المشرفة ، وقبة المسجد القصى .
فانطلقت عمليات ترميم جديدة في خمسينيات القرن الماضي، لصلح الضرار التي تسببت بها قذائف
الصهاينة .
وبعد الجريمة الوحشية التي قام بها الصهاينة بإحراق المسجد القصى المبارك، سنة ألف وتسعمئة
وتسعة وستين ، انطلقت في السنة التالية، أعمال ترميم استغرقت ثمانية عشر عاما . حاول الصهاينة
خللها عرقلة أعمال الترميم مرارا ، كما حاولوا إجبار الهيئة السلمية العليا في القدس على طلب
ترخيص من الحكومة الصهيونية لتمام عمليات الترميم . المر الذي رفضته الهيئة ، بلسان الشيخ سعد
الدين العلمي الذي قال : لن نأخذ أية رخصة لجراء أي تعمير في مسجدنا . أدت هذه الصلحات إلى
استعادة المسجد القصى شكله السابق قبل الحريق ، وبقيت الحاجة قائمه إلى أعمال في الكسوة
الداخلية استغرقت نحو عامين .
وفي تسعينات القرن الماضي ، أعيد إطلق عملية ترميم أخرى ، فاتخذت ما سميت محكمة العدل العليا
في الكيان الصهيوني ، قرارا بوقف الترميمات سنة ألف وتسعمئة وثلث وتسعين ، رفضته الوقاف
السلمية ، وتتابع العمل ، حتى انبعث في السنة التالية بريق ذهبي من قبة الصخرة المشرفة التي
كسيت بألواح النحاس المذهبة .
مع هذه العمليات ، ظلت هناك حاجة للمزيد من أعمال الترميم ، فسعت السلطات الصهيونية إلى
عرقلتها مجددا ، وسنة ألفين صادرت تلك السلطات شاحنتين محملتين بالمواد الولية اللزمة لعمليات
الترميم ، بعد أن كانت قد هددت بقطع المياه عن الوقاف السلمية ، والحرم القدسي الشريف بسبب
عمليات الترميم .
كما سعت مجددا إلى محاولة إجبار الوقاف السلمية ، على تقديم طلبات ترخيص لنجاز عمليات
الترميم ، المر الذي رفضته الوقاف رفضا قاطعا ، وأصرت على حقها في القيام بالصلحات اللزمة
في الحرم دون إذن من الصهاينة .
السلطات الصهيونية بتضييقها على أعمال الترميم والصلح ، إضافة إلى الحفريات التي تقوم بها تحت
أساسات المسجد ، إنما تهدف إلى إلحاق أفدح الضرار بالحرم القدسي ، وربما تقويضه .
الستيطان في البلدة القديمة
الستيطان الصهيوني في البلدة القديمة من القدس حكاية ألم ينطق بها كل متر مربع في المدينة
المقدسة، حيث جرى تطويق الحرم القدسي الشريف بالمستوطنات والبؤر الستيطانية، سواء بالستيلء
القسري المخادع الظالم لملك العرب أو بفتح النفاق من حوله لقامة مدارس تلمودية فيها، أو ببناء
مستوطنة قبيحة شاذة، في مكان حارة الشرف، تشوه عمران القدس التاريخي، أو بتنزيف شراء الدور
بجوار البطركية والستيلء على أملك راهبات السكوب في حارة السعدية.
السلوك الستيطاني الصهيوني في البلدة القديمة، إيذان بتدمير وجود، وطمس حضارة وتاريخ، والعبث
بمقدسات وأديان، وإخلل بواقع سكاني، واستهتار وانتهاك بالعراف والقوانين والمواثيق الدولية،
والستيطان في البلدة القديمة هو حكاية المقدسات المهددة، والدور المستولى عليها.
في أعقاب عدوان حزيران عام سبعة وستين بدا أن الستيطان الصهيوني في البلدة القديمة يسير على
نحو عفوي، فقد اندفعت مجموعات من العائلت اليهودية، لخلق وقائع جديدة أسوة بالمستوطنين الذين
اندفعوا تجاه مناطق أخرى من الراضي المحتلة، وكانت وسيلة هؤلء في القدس تتمثل في وضع اليد
على البيوت المهجورة بفعل الحرب، فاستولت ثمان وثلثون عائلة من المستوطنين على بيوت عربية
حتى عام ألف وتسعمائة وسبعين.
ترافق هذا الندفاع مع قيام السلطات الصهيونية بتوجيه سيل من المستوطنين إلى القدس، ومصادرة
أراضي المقدسين لقامة المستوطنات الجديدة عليها، ففي نيسان من عام ثمانية وستين صادرت
الحكومة الصهيونية، بقرار من المسمى وزير القتصاد مئة وستة عشر دونما داخل البلدة القديمة،
بحجة ترميم الحي اليهودي وتطويره، منشئة في الوقت ذاته شركة بالسم نفسه لنجاز المشروع،
وبادئة بذلك تركيز البؤر الستيطانية داخل أسوار القدس.
الراضي المصادرة داخل الحي السلمي، كانت تقوم عليها حارة الشرف وأجزاء من حارة المغاربة،
وقد أقامت شركة تطوير الحي اليهودي عليها، مستوطنة باسم "هارافع ها يهودي" وأسكنت فيها ستمائة
عائلة من المستوطنون، يتراوح عدد أفرادها ما بين أربعة وخمسة آلف نسمة، وجرى توسيع هذه
المستوطنة باستمرار ليدور الحديث اليوم عن حي يهودي، وسط الحي السلمي في البلدة القديمة من
القدس.
بعد أن بدأ المواطنون الفلسطينيون بصد عمليات الستيلء على البيوت المهجورة بفعل الحرب ورفضوا
تأجريها تحت ضغوط الترهيب والترغيب تولت المنظمات الستيطانية الصهيونية ترتيب عمليات
الستيلء على البيوت مستخدمة كل وسيلة ممكنة وغير ممكنة لتحقيق أهدافها وغاياتها، وهي ترفع
شعار :بيت وراء بيت وتكون القدس لنا.
قدمت تلك المنظمات أموال طائلة للستيلء على أملك من أوقاف الكنيسة، وبيوت وعقارات أخرى،
وتسربت عبر وسيلة الترغيب الضاغطة هذه بعض الملك إلى يد الصهاينة، فحولوها إلى بؤر تتوسع
باستمرار وحتى العام ألف وتسعمائة وتسعين سيطر الصهاينة على أربعين عقارا في البلدة القديمة
قريبة من المسجد القصى، بأساليب مختلفة.
وفي العام نفسه قررت حكومة شامير، باتفاق مع الحزاب الدينية الصهيونية، إقامة أربعة عشر ألف
وحدة سكنية استيطانية في البلدة القديمة، وتصفية الوجود العربي فيها حتى نهاية العام ألفين.
وفي هذا السياق قام الرهابي أرئيل شارون بالستيلء على عقار عربي في القدس، وجعله بيتا له،
داعيا المستوطنين للقتداء به، غير أن تصدي المقدسين لهذه الهجمة الستيطانية أفشل مخطط حكومة
شامير، ولكن الهجمة ذاتها لم تتوقف.
ففي العام نفسه الذي شهد العلن عن خطة تصفية الوجود العربي في البلدة القديمة، قدم الرهابي
شارون، بوصفه وزيرا للسكان في الحكومة الصهيونية، ثلثين دونما من الرض، لجماعة عطيرات
كوهانيم الستيطانية، والتي أعلنت بعد عامين من ذلك أنها حصلت على موافقة لقامة مجمع سكني من
مائتي منزل على هذه الرض.
تزامن العلن عن المخطط الجديد، مع نشر إحصائية تقيد بأن أربعين أسرة من المستوطنين، إضافة
إلى ثلثمائة من طلبة اللهوت، يعيشون في بيوت مستولى عليها في الحي السلمي بالقدس.
خاض المقدسيون معارك شرسة حول كل بيت من البلدة القديمة، فالمستوطنون الذين يستولون على
بيت ما، يشرعون فورا بالعمل على إقامة بؤرة استيطانية وتوسيعها، مهددين أصحاب البيوت القديمة،
ومطلقين شتى أشكال المضايقات لدفعهم للرحيل.
هذا يحدث دوما وإلى جانبه حكايات صمود أسطورية لصحاب البيوت في عقبة الخالدية، مثل عائلة أبو
رجب، ونورا غيث، ودور الزربا والزرو، وآل رصاص، ودار المحتسب، ودور السلفيتي، والخياط
وعويضه.
هؤلء أصحاب بيوت، يصمدون في وجه الهجمة الستيطانية على البلدة القديمة، والتي تزداد بشاعة
وشراسة كل يوم.
السكندر البطالمة السلوقيون
أنهى السكندر المقدوني، الوجود الفارسي في بيت المقدس وفلسطين، مفتتحا عصرا جديدا من
الصراعات الشديدة.
ورب قائل إن المر كان دوما هكذا في بيت المقدس وفلسطين، لكن أحدا ل يستطيع نكران حقيقة أن
الطور الجديد قد اتسم بعنف زائد في صراع مرير.
عشية حملة السكندر على فلسطين، كان العرب الكنعانيون والراميون، هم العنصر الغالب من السكان،
فيما واصل الفلسطينيون اندماجهم مع الكنعانيين وتموضعت جماعتان يهوديتان، أحدهما إلى جانب
العرب في القدس، والخرى في السامرة، كانت تعتبر نفسها اليهودية الحقيقية، ومعبدها هو الساس.
وكان بين الجماعتين صراع، لن السامريين يقدسون جبل جرزيم. ومعلوم أن الجماعة اليهودية في
ين الذين جاؤوا القدس مع الحملت الفارسية، وحظوا برعايتها. ] القدس، كانت من المسبي
بدأ السكندر حملته سنة ثلثمائة وأربع وثلثين قبل الميلد. وأنجز احتلل سهل بعد هزيمته ملك
الفرس في ايسوس في كليكيا، فسيطر على مصر والشام، دون مقاومة تقريبا. إذ لم تواجهه سوى
صور وغزة، وثار السامريون ضده بعد وقت قليل من احتلل مدينتهم فنكل بهم تنكيل شديدا.
أما القدس فقد دخلها قواد السكندر دون مقاومة. تابع السكندر حملته باتجاه الشرق فأخضع فارس
وأواسط " آسيا " وحوض السند، ومات في بابل سنة ثلثمائة وثلث وعشرين قبل الميلد.
خلف السكندر لقادته إمبراطورية شاسعة جدا، لم يتمكنوا من الحفاظ عليها موحدة سوى سنتين، إذ
اندلعت الحروب بينهم، فتولى سلوقي الجزاء السيوية منها، واستأثر بطليموس بمصر وضم إليها
الشام، من خط يمتد جنوبي دمشق إلى الساحل غربا.
لم يكن هذا التقسيم سليما، بل اقتضى حربا استمرت اثنين وعشرين عاما، ذاقت خللها فلسطين
المرين، حيث عبرتها الجيوش المتحاربة سبع مرات، واقتحمت بيت المقدس مرة واحدة على القل.
وطوال القرن الثالث قبل الميلد، اندلعت بين البطالمة والسلوقيين خمس حروب، تنازعا خللها السيطرة
على الشام، إلى أن استقرت في يد السلوقيين سنة مائتين قبل الميلد.
وهكذا يمكن التمييز بين عصرين من الحكم اليوناني لفلسطين وبيت المقدس. عصر البطالمة، وعصر
السلوقيين.
اعتبر البطالمة القسم الذي ظل في حوزتهم من سورية وحدة إدارية سموها " سوريا – فينيقيا" وأطلقوا
على القسام الدارية التي قسمت الولية على أساسها " إبارخيات " واحدتها إبارخية. وكانت هذه ستا.
الجليل وقصبتها بيسان. وتشمل الجليل العلى وتلل الجليل الدنى ومرج ابن عامر حتى بحيرة طبرية
ونهر الردن شرقا.
أما في الغرب فكانت حدودها تنتهي عند أقدام مرتفعات الجليل وجبل الكرمل . ثم أبارخية السامرة
وعاصمتها جبل جرزيم، أما السامرة فأصبحت مستعمرة عسكرية مقدونية.
واحتفظت " أبارخية " القدس من الحدود التي كانت لها في التقسيم الداري الفارسي، فقد شملت
المنطقة الممتدة من منحدر جبال القدس غربا إلى نهر الردن والبحر الميت شرقا ، ومن حدود السامرة
شمال إلى خط يمتد شمالي مدينة الخليل جنوبا ، وكانت المقدس العاصمة .
أما البارخية الدومية، فقد وسعت، إذ أصبحت مدينة الخليل ودورا، وما ولهما شرقا وغربا جزءا
منها. وكانت عاصمتها تل صفد حنه. وأنشئت أبارخية ساحلية، مركزها الداري حصن ستراتون.
وأبارخية اسدود، ومركزها يبنا.
وتمتعت يافا، وعسقلن، واسدود الداخلية وغزة، بحكم ذاتي، وكانت مرتبطة بالملك البطليمي مباشرة.
كانت لكل أبارخية إدارة يرأسها ستراتفوس. وهو ضابط رفيع المستوى بصلحيات عسكرية ومدنية.
ويوناني بالضرورة. كان هناك ستراتفوس للقدس، وهذا يعني أنها لم تكن تتمتع بأي استقلل سياسي،
ولن تعرف كدولة إل في العصر الهليسنتي لحقا. وفي مصر البطالمة كانت تسمى: ايروسوليما،
المكونة من جذرين الول: ايرو التي تشير إلى قدسيتها، كما هي الحال في مدن أخرى كثيرة في
المنطقة منها ايرابوليس ) منبج ( وبعلبك وغيرهما .. والثاني : هو سوليما .. ولعل معناه السلم.
المر الذي يعطي انطباعا أنها عوملت كمدينة مقدسة وأبقى فيها على تقليد كان سائدا منذ العصر
الفارسي وهو مجلس شيوخ يسمى غيروسيا، كان أعضاؤه من رؤساء السر الكبيرة ورجال الدين
الكبار والنبلء العلمانيين الثرياء وأصحاب الملك، ويرئسه الكاهن العظم، الذي يتولى المنصب
بالرث العائلي.
ولكن المدينة كانت تحت إشراف ملكي دقيق كما هو حال جميع المدن، وتخضع الراضي ووراداتها فيها
لشراف حكومي في شؤونها المالية. في العهد البطليمي ، نشأ في بيت المقدس اتجاه يميل إلى
السلوقيين، وكان يتزعمه الكاهن العظم في حينه: سمعان الوني، مؤيدا من أسرة يوسف طوبيا التاجر
الثري الذي انتقل من شرق الردن إلى القدس، وكانت له مصالح تجارية مع البطالمة في مصر، لكنه
غير اتجاهه، عندما رأى المور تسير في صالح السلوقيين.
وقد استقبل ملك السلوقيين انطيوخس الثالث استقبال حارا في بيت المقدس عند دخولها بعد انتصاره
على البطالمة في بانياس وإخضاع الشام لحكمه، ومقابل ذلك، سمح لهم العيش بمقتضى ناموسهم
وأعفاهم من الضرائب لثلث سنوات وأعفى أعضاء الفيروسيا من دفع الضرائب نهائيا. وهذه معاملة
كانت تلقاها عادة المدن الدينية من البطالمة والسلوقيين.
حول هذه النقطة ل بد من نقل رأي حرفي للمؤرخ د . نقول زيادة، حيث يقول:
" ثمة أمر حري بالهتمام، وهو أن الشعب اليهودي لم يكن له كيان سياسي مستقل خاص به، ولم يتمتع
حتى باستقلل داخلي، وكل ما هناك هو أن ما قام به السلوقيون نحو شعوب ودول " هياكل أخرى ، لم
يجد من يدونه بتفصيل كي يتضح العمل للجيال التالية. أما الب اليهودي الديني فقد دون هذه المور
بتفصيل كبير. وهو لم يدون للتاريخ والحقيقة، بل كانت الغاية من ذلك إظهار هذه المور بأنها إتمام
لعناية يهوه بالشعب اليهودي. فقد خلق العبرانيون قضية العهد الذي قطعه يهوه لشعبه إذ اختاره دون
الشعوب الخرى، ووعدوه بأمور كثيرة منها أرض الميعاد.
وهذه القضية التي خلقها العبرانيون القدامى واعتبروها عهدا من يهوه يترتب عليه المحافظة عليه،
تبناها اليهود فيما بعد، وأكدوا عهد يهوه لشعبه المختار، ومن الواضح أن جميع هذه المور ادعاءات
ومختلقات.
وقد أصبحت هذه العقيدة اليهودية عقدة في تاريخ الشعب وتاريخ علقاته بالشعوب الخرى على مدى
الجيال وما تزال". )انتهى المقتطف(.
سرعان ما انخرط السلوقيون في حروب خارجية وداخلية أنهكتهم، وامتصت قواهم ومواردهم فمدوا
أيديهم إلى أموال معبد زفى في سوسة، ومعبد بيت المقدس، وصارت رئاسة الغيروسيا في بيت المقدس
تشترى من الملك الموال فكثر المتنافسون، وتصارعوا فيما بينهم أيضا، وأصبحت الهلينية مدار صراع
جديد في القدس، عندما أقام فيها السلوقيون معبد ألزفس.
سنة مئة وتسع وستين احتل أنطيوخس الرابع بيت المقدس، ونهب أموال المعبد بالتفاق مع منلوس
زعيم الغيروسيا، الذي اشترى منصبه بالمال، وبعد عام واحد، ومع انتشار التذمر فيها، أرسل
أنطيوخس قائده ابولينوس، فدمر المدينة، ونهبها، وبنى فيها الكرا، أي القلعة التي أصبحت شاهدا
عمليا للوجود الهليني القوى في القدس، وأصبحت المدينة من الناحية العملية مستعمرة عسكرية.
بالطبع بالغ التدوين اليهودي مبالغة كبيرة في تصوير هذه الحداث كما سيبالغ لحقا في سرد أحداث
ثورة المكابيين ضد السلوقيين، فالثورة التي كانت ذات طابع سياسي، في مواجهة محاولت أنطيوخس
الرابع فرض القيم الهيلنية، وضرب القيم الخاصة، صورها التدوين اليهودي، على أنها ثورة ضد
الضطهاد الديني لليهود. وعرفت هذه الثورة باسم ثورة المكابيين، لن زعيمها ، كان يدعي "المطرقة "
وهي "مكابي" بالعبرية. وقد استمر طورها الول من عام مئة وسبعة وستين إلىعام مئة واثنين
وأربعين قبل الميلد. وانتهى هذا الطور بقيام السرة الحشمونية كأسرة ملكية، وسمي ملكها الول
ارستوبولس الول.
لكن ما ساد بعد ذلك هو القتل ولضطراب ، إذ دبت الخلفات داخل السرة نفسها . ويقول د . نقول
زيادة :
أحاق بفلسطين بسبب هذه الثورة د، وخاصة خلل الفترة التي مرت بين تأسيس السرة الحشمونية
ووصول بومبي إلى فلسطين سنة ثلث وستين قبل الميلد. مصائب ومعارك أتت على الحرث والضرع،
ولما اشتد التنافس بين أفراد السرة، ثم لما ثار الفريسيون، وهم على الراجح بقايا الحسديم، على
المكابيين، زادت المصائب حجما ومساحة وعمقا، بحيث كان مجيء بومبي إنقاذا لرواح الذي لم
تحصدهم سيوف المكابيين من مخالفيهم، بقطع النظر عن العنصر الذي انتسبوا إليه أو الجهة التي
أيدوها.
التوزيع الديمغرافي في القدس
أعطى المشروع الصهيوني اهتماما كبيرا لتعزيز الستيطان في القدس، وتركيز أكبر عدد ممكن من
اليهود فيها، وذلك لسباب عديدة وثيقة الرتباط باليديولوجية الصهيونية، وبمشروعها الستعماري
ككل.
ومازال الكيان الصهيوني، يعمل باستمرار من أجل زيادة عدد المستوطنين الصهاينة في المدينة، كما
أنه يعيد تشكيل حدودها الدارية وحجمها في خدمة السياسة الهادفة إلى إظهار غلبة للمستوطنين
اليهود فيها، على أهلها العرب الفلسطينيين.
تبعا لذلك، فإن تحديد التوزيع الديمغرافي في المدينة ينطوي على صعوبة بالغة، فهناك مفهومان
ورؤيتان لحدود القدس ومساحتها، رؤية صهيونية ورؤية فلسطينية، إذ يتعامل الصهاينة مع كتلة كاملة
دون تحديد، يعتبرونها موحدة وعاصمة لكيانهم، ولكنها متحركة باتجاه التوسع باستمرار.
وهكذا، فإذا قلنا إن البلدة القديمة من المدينة لم تكن في يوم من اليام تضم غالبية يهودية، فإن هذا
القول ل ينطبق على القدس التي ينظر إليها الصهاينة. ونظرتهم هذه، هي التي تفسر القفزات السريعة
في الميزان الديمغرافي لصالح الصهاينة في المدينة المقدسة.
ما ينبغي أن يكون واضحا أن مجيء اليهود إلى فلسطين ارتبط بالتسامح السلمي تجاههم فاستقبلت
فلسطين عدة آلف منهم في العهد العثماني، انضافوا إلى أقلية صغيرة جدا كانت تعيش في البلد،
وسكن معظم هؤلء في مدينة القدس، لكن عددهم مع ذلك، لم يتجاوز الربعين ألفا في كل أنحاء
فلسطين مطلع القرن العشرين، وكان ربع هؤلء يحملون جنسيات أوروبية، ومسجلين في قنصليات
الدول الوروبية.
مع استجلب أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين بعد صدور وعد بلفور، ونشوء حكومة النتداب
البريطاني في فلسطين، وصل عدد اليهود في فلسطين، عام سبعة وأربعين إلى مائة وسبعة وخمسين
ألف نسمة، كان منهم أحد عشر آلفا في البلدة القديمة، مقابل أربعة وستين ألف مواطن فلسطيني، فيما
استوطن ثمانية وثمانون ألف يهودي، الحياء الستيطانية في القدس الجديدة وحول القدس، مقابل ألف
وخمسمئة عربي.
إذا كانت الكثافة العربية متركزة في البلدة القديمة، فيما احتل الصهاينة الحياء الستيطانية الجديدة،
حيث شكل العرب 85 % من سكان البلدة القديمة، بينما شكل اليهود 60 % من مجموع السكان في
البلدتين القديمة والجديدة والضواحي.
عمل الصهاينة بشكل كثيف على زيادة تمركزهم في القدس، وبعد عام سبعة وستين، ركزوا على
اختراق البلدة القديمة، و أحياء القدس الشرقية، لتصبح كثافتهم العددية فيها أعلى من كثافة السكان
الفلسطينيين، أصحاب البلد الصليين، حيث يستهدف الصهاينة، جعل نسبة المواطنين الفلسطينيين في
القدس كلها ل تتجاوز العشرين في المائة. وقد وصل عدد المستوطنين الصهاينة في الحياء
الستيطانية حول القدس القديمة عام ستة وثمانين إلى مائة وثمانية وأربعين ألف مستوطن، مقابل
ثلثمائة وواحد وخمسين ألف مواطن عربي، في حين وصل إجمالي الصهاينة في كل القدس إلى ما
71 % من إجمالي سكان المدينة، أي ثلثمائة وواحد وثلثين ألف مستوطن، داخل الحدود \ نسبته 5
الدارية للقدس.
وعام اثنين وتسعين، وبعد أن ضم الصهاينة عددا من المستوطنات إلى حدود القدس الدارية، أصبح
عدد الصهاينة في شرقي القدس، وللمرة الولى في التاريخ أعلى من عدد المواطنين الفلسطينيين، إذ
وصل عدد المستوطنين إلى مئة وستين ألفا. مقابل مئة وخمسة وخمسين ألف عربي فلسطيني. أما في
كل القدس، فبلغ عدد المستوطنين اليهود أربعمائة وسبعة آلف مستوطن، مقابل مئة وواحد وستين ألف
مواطن فلسطيني، ما اعتبره الصهاينة نسبة زائدة لعداد الفلسطينيين الذين يتكاثرون بمعدلت طبيعية
هي العلى في العالم.
ما أدى إلى ارتفاع نسبتهم عام ألفين وواحد، إلى 32 %، مقابل 27 % مطلع السبعينات، وحتى العام
ألفين، كانت الغالبية الساحقة من سكان البلدة القديمة هي من الفلسطينيين البالغ عددهم ثلثة وثلثين
ألفا، مقابل ثلثة آلف مستوطن صهيوني.
المكتب المركزي للحصاء الفلسطيني، وضع تقديرات إحصائية للعام ألفين، مبنية على معطيات
إحصائية تم جمعها عام سبعة وتسعين ولوحظت الزيادة الطبيعية للمواطنين الفلسطينيين في محافظة
القدس، التي تضم وفق الرؤية الفلسطينية الرسمية، القدس الشرقية المحتلة عام سبعة وستين
وضواحيها، وبحسب هذه التقديرات فإن عدد المواطنين الفلسطينيين في محافظة القدس وصل الى
ثلثمئة و أربعة وخمسين ألفا وأربعمئة وسبعة عشر مواطنا فلسطينيا، بضمنهم مواطنو البلدة القديمة.
ويستهدف الصهاينة الن رفع عدد المستوطنين في القدس وضواحيها إلى مليون مستوطن. وذلك
لحباط أي إمكانية لن يشكل التكاثر الطبيعي للفلسطينيين تعديل حادا في الميزان الديمغرافي المائل
بحدة لصالح المستوطنين الصهاينة.
المكتبات
المكتبات من المعالم البارزة في بيت المقدس، فبعد تحريرها من الفرنجة مباشرة، بدأ تزويد خزانة
المسجد القصى بالكتب، وكذلك تزويد المدارس والزوايا.
ولكن مكتبة المسجد القصى ظلت الشهر والغنى وهو تحوي ألف مخطوط من المصاحف والربعات،
والكتب التي تعود إلى العصرين المملوكي والعثماني.
وفيها كتب متفرقة في الدب والفقه والتفسير والحديث. ومن نفائسها، مخطوط كتاب "نشق الزهار في
عجائب القطار" للمؤرخ المصري ابن إياس من القرن التاسع للهجرة. ومخطوط "تلخيص المتشابه في
الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم" لبي بكر البغدادي من القرن الخامس
للهجرة.
ومخطوط "طبقات الشافعية" لتقي الدين الدمشقي من القرن التاسع للهجرة، ومخطوط "كتاب القاليم"
للصطخري من القرن الرابع للهجرة.
وتضم خزانة المسجد القصى أكثر من عشرة آلف كتاب أكثرها مطبوع.
وفي بيت المقدس العديد من خزانات الكتب الخاصة منها:
خزانة آل أبي اللطف، خزانة آل البديري، وكانت مكتبة كبيرة تضم عددا وافرا من المخطوطات، لكنها
تبددت بعد أن اقتسمها أفراد العائلة، وآل قسم من مخطوطاتها إلى الشيخ محمد البديري فجعلها في
جناح من أجنحة المسجد القصى.
ومنها، خزانة آل الترجمان، وخزانة آل الحسيني، وخزانة النشاشيبي، وخزانة محمود اللحام، وفيها
أربعة آلف مصنف.
ى سنة ألف ومائة وسبع o أما خزانة آل الخليلي، فقد وقفها الشيخ محمد الخليلي مفتي الشافعية المتوف
وأربعين للهجرة، وهو أول من حقق فكرة إيجاد مكتبة عامة في القدس، استنادا إلى وقفية كتبه، والتي
حفظت في المدرسة البلدية بباب السلسلة.
ومن الخزانات التي نهبت أو تفرقت كتبها خزانة عبد ال مخلص في حي الشيخ جراح، وكانت تحوي
نفائس المخطوطات، ويبدو أن المكتبة نقلت بعد النكبة إلى بعض الديرة قرب سور المدينة، وقيل أيضا
إن الصهاينة قد نهبوها.
أما خزانة آل قطينة بباب العمود، فكانت تضم مخطوطات نفيسة في الرياضيات والفلك والتنجيم، لم يبق
منها اليوم شيء.
وكانت خزانة آل فخري تضم عشرة آلف مجلد اقتسمها أفراد السرة فتفرقت كتبها.
وفي القدس خزائن كتب مسيحية عربية وأجنبية أكثرها تابع للطوائف الدينية، والبعثات الثرية
والتبشيرية الفرنسية والنكليزية والمريكية. ومن هذه الخزائن:
مكتبة القبر المقدس، ومكتبة دير الروم، وفيها نحو ألفين وثمانمائة مجلد باليونانية وغيرها بينها
مخطوطات يونانية، تعود إلى القرن العاشر للميلد.
وهناك أيضا مكتبة دير الدومينيكان، مكتبة الباء البيض، مكتبة دير الفرنسيسكان، مكتبة دير الرمن،
خزانة الثار المريكية، خزانة الثار النكليزية، مكتبة المجمع العلمي الثري البروتستانتي، ومكتبة
الجامعة العبرية.
لكن المكتبة الخالدية في القدس تبقى أهم دور الكتب الخاصة في فلسطين وأغناها، أوقفها الحاج راغب
الخالدي سنة ألف وتسعمئة للميلد، إنفاذا لوصية والدته، وبمعونة ومشورة الشيخ طاهر الجزائري
مؤسس المكتبة الظاهرية بدمشق والشيخ ابن الحبال الدمشقي، فوضعا فهرسا بأسماء كتبها.
تحتوي المكتبة على عشرة آلف كتاب ثلثاها مخطوط، والثلث من نوادر المطبوعات القديمة في العلوم
العربية والسلمية. وقد ضمت إليها خزانتا الشيخ يوسف ضياء باشا الخالدي، ومحمد روحي الخالدي،
وضمت إليها لحقا خزانة الشيخ أحمد بدوي الخالدي، بالضافة إلى ما أهدي إليها من نفائس مطبوعات
المستشرقين.
تضم المكتبة كتبا في التفسير والتجويد والقراءات والرسم والحديث ، والصول والفتاوي والفقه
والفرائض والتوحيد والتصوف والمواعظ والنحو واللغة والداب والسياسة والقوانين والدواوين
والمدائح النبوية، والسيرة النبوية والمناقب والتراجم والفلك والطب والروحانيات.
وفيها عدد كبير من المجامع في مختلف العلوم الدينية والدنيوية. ومن أهم المخطوطات النادرة فيها:
إتحاف الخصا في فضائل المسجد القصى لبي شرف الشافعي.
وحسن الستقصا لما صح وثبت في المسجد القصى لبن التافلني. والمدهش، لبن الجوزي، من القرن
السادس للهجرة. واختصار السيرة النبوية للشيخ محي الدين بن عربي.
مدارس القدس
) 1 (
بيت المقدس الذي يضاعف ال سبحانه وتعالى، أجر العبادة فيه للمسلمين، ببشرى الرسول الكريم صلى
ال عليه وآله وسلم، في أحاديثه الشريفة، هو أيضا بيت العلم، وموئل الباحثين عن التفكر في أمور
دينهم ودياناتهم. ومنذ أن فتح العرب المسلمون المدينة، انتقل إليها عدد من الصحابة الكبار، فكان
الصحابي عبادة بن الصامت، وهو من حفظه القرآن الكريم، قاضي بيت المقدس.
ومع إقامة المسجد القصى، فقد كان بيتا للعبادة، ودارا للعلم معا، كما هو الحال في المساجد في كل
الديار السلمية، حيث كانت تدرس فيها علوم القرآن والحديث.
فيما كان استمر العطاء العلمي للتابعين وتابعي التابعين، وانتشرت في بيت المقدس الكتاتيب التي تعلم
ور _ ور د i القرآن والحديث، وحفل بالقراء والمحدثين والمفسرين والفقهاء. واستمرت المساجد تلعب د
العلم حتى القرن الخامس الهجري عندما أنشئت المدرسة النصرية، أو الناصرية، ومدرسة أبي عقبة.
المدرسة الناصرية:
على برج باب الرحمة من أبراج السور الشرقي لمدينة القدس.مؤسسها هو الشيخ نصر بن إبراهيم
النابلسي المقدسي، شيخ الشافعية في عصره، القرن الخامس للهجرة.
وعرفت هذه المدرسة أيضا بالغزالية ،نسبة إلى المام أبي حامد الغزالي، الذي ألقى دروسا في هذه
المدرسة أثناء وجوده في القدس، فسميت باسمه بعد ذلك.
ويقال أن المام الغزالي أتم أثناء وجوده في القدس تأليف كتابه "أحياء علوم الدين".
جدد بناء المدرسة الملك عيسى بن أيوب سنة ستمائة وعشرة للهجرة، وجعلها زاوية لقراءة القرآن
والشتعال بالنحو، ووقف عليها كتبا منها بعض المراجع، مثل كتاب "إصلح النطق" لبي يوسف يعقوب
بن إسحق بن السكيت.
اندثرت هذه المدرسة في القرن التاسع الهجري بعد تحرير بيت المقدس من الفرنجة، وقع اهتمام واسع
وكبير بإنشاء المدارس، وعلى نحو غير مسبوق في المدينة،وكذلك بإنشاء الزوايا التي كانت دور علم
أيضا.
عام خمسمائة وخمسة وثمانين للهجرة، تأسست المدرسة الصلحية للفقهاء الشافعية، وأوقفت عليها
وعلى مصالح المسجد القصى أوقاف حسنة منها السواق الثلثة المتحاذية، المعروفة اليوم بأسواق
العطارين واللحاميين والصياغ.
ثم أنشئت المدرسة الميمونية، على بعد حوالي مائتي متر إلى جنوب شرق باب الساهرة داخل سور
المدينة، سنة خمسمائة وثلث وتسعين للهجرة على يد المير ميمون بن عبد ال القصري.جدد عيسى
بن أبي أيوب سنة ستمائة وعشرة المدرسة النصرية، وأقام القبة النحوية لدراسة الداب العربية.
والقبة النحوية بناء جميل يقع عند الزاوية الجنوبية من صحن قبة الصخرة كما بنى المدرسة المعظمية.
وتعرف أيضا بالمدرسة الحنفية، إذ أوقفها على فقهاء الحنفية وجعل لها أوقافا كثيرة.
يروي عارف العارف، أنه زار بناء المدرسة سنة سبع وأربعين وتسعمائة وألف فوجد الخراب مخيما
على الجانب الكبر منها وقد احتكر مواطنون مقدسيون أجزاء منها.
وقد أقيمت المعظمية مقابل باب شرف النبياء، المعروف اليوم بباب الملك فيصل.على يمين الخارج من
الحرم، من باب شرف النبياء تقوم المدرسة الدوادارية، التي بناها ووقفها المير على الدين الدوادار
الصالحي سنة ستمائة وخمس وتسعين للهجرة، وهي تعرف اليوم بمدرسة الناث السلمية. وإلى
جوارها من جهة الشمال تقع المدرسة السلمية ،المشادة سنة سبعمائة للهجرة ومن المدارس الخرى:
-المدرسة الجاولية: روضة المعارف الوطنية، وهي من مدراس القدس المشهورة، تقع عند زاوية
الحرم الشمالية إلى الغرب، وقد وقفها المير علم الدين سنجر الجاولي، نائب غزة والقدس، في القرن
السابع الهجري، وجعلها مدرسة فسميت باسمه.
بناؤها الصلي قديم، يرجع إلى ما قبل الميلد فيقال أنها كانت قلعة أو برجا أو حصنا، واتخذها الرومان
مقرا لولتهم.
ويقال إن الوالي الروماني بيلطس الذي حاكم السيد المسيح أقام فيها، حولها العثمانيون إلى دار للحكم
فعرفت باسم السرايا القديمة، وبقيت كذلك حتى بداية الحرب العالمية الولى، وفي بداية عهد بداية عهد
الحتلل البريطاني وضع المجلس السلمي العلى يده عليها باعتبارها من أملك الوقف، وأقام فيها
39 اتخذها النكليز مقرا للشرطة، ثم - مدرسة، سميت روضة المعارف، وأثناء الثورة الفلسطينية 36
عادت بعد ذلك مدرسة.
وبالقرب من باب حطه، إلى جهة الشرق، أقام ناظر الخواص الشريفة بالديار المصرية، المدرسة
الكريمية سنة سبعمائة وثماني عشر للهجرة، وسنة سبعمائة وثلثين للهجرة، أقام الصاحب أمين الدين
عبد ال المدرسة المينية، على الجانب الغربي من الطريق المؤدي إلى الباب الحرم المعروف بباب
شرف النبياء.
في الجهة الشمالية من الحرم، بالقرب من باب شرف النبياء إلى جهة الغرب، أقيمت المدرسة
الفارسية، أقامها المير فارس الدين البكي،سنة سبعمائة وخمس وخمسين للهجرة، وذلك إلى جانب
المدرسة الملكية التي أقامها الحاج آل ملك الجوكندار سنة سبعمائة وإحدى وأربعين.
وعلى ميسرة الخارج من الحرم من باب الحديد تقوم المدرسة الرغونية، التي أقامها المير أرغون
الكاملي، واكتمل بناؤها بعد وفاته سنة سبعمائة وتسع وخمسين للهجرة.
ومن المدارس المشهورة :
المدرسة الطشتمرية :
عند ملتقى طريق باب السلسلة وطريق حارة الشرف، تقوم المدرسة الطشتمرية حيث تطل واجهتها
الشمالية على طريق السلسلة أنشأها المير طشتمر الدودار، الذي نزل القدس سنة سبعمائة وأربع
وثمانيين للهجرة .
وفي واجهة المدرسة حجر من المرمر، نقش عليه اسم المنشئ وتاريخ النشاء، كانت المدرسة تتكون
من عشرين غرفة، لكن معالمها المميزة اندثرت مع الزمن، عندما تحولت دارا للسكن. وقد استولت
قوات الحتلل الصهيوني عليها في نيسان، من عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين.
وبالقرب من مدخل الحرم الغربي المعروف بباب الناظر تقوم المدرسة المنجكية وواقفها هو المير
منجك، نائب الشام، وقفها سنة سبعمائة واثنين وستين وشغلت بناءها لوقت طويل دوائر المجلس
السلمي العلى سابقا. وفي طريق باب السلسلة لجهة الشمال اتجاه المكتبة الخالدية أنشأ سيف الدين
طاز سنة سبعمائة وثلث وستين للهجرة المدرسة الطازية.
وعلى مقربة منها، على الجانب الجنوبي من طريق باب السلسلة، دار القرآن السلمية وقفها سراج
الدين السلمي سنة سبعمائة وإحدى وستين.
وعند سويقة باب حطة، قامت المدرسة الشيخونية في السنة نفسها، وبعدها بسنة واحدة، وعند باب
الغوانمة قامت المدرسة المحدثية. وواقفها هو عز الدين العجمي الردبيلي. في الجهة الشمالية من
الحرم أيضا أوقف مجد الدين السعردي المدرسة السعردية وبالقرب من مقام القرمي لجهة الغرب،
أقيمت المدرسة اللؤلؤية، كما أقام نائب حلب منكلي الحمدي سنة سبعمائة واثنين وثمانين المدرسة
البلدية بالقرب من باب السلم، وهو بحداء باب السلسلة لجهة الشمال، واتخذها مدفنا له أيضا.
نتابع في الحلقة التالية الحديث عن مدراس القدس.
مدارس القدس
) 2 (
في بيت المقدس، لم يكن مستغربا أن يتخذ الواقف من وقفيته، إن كانت مدرسة أو سواها مدفنا له ..
بل لعل هذا كان دأب الكثيرين، إذ هو يوقف في القدس تقربا إلى ال وخدمة لدينه الحنيف، وأن يدفن
في البقاع المقدسة الطاهرة، فإنه يحوز موطئا في الرض التي باركها ال.
لذلك فقد كثرت الترب في الوقفيات، وكانت موجودة في معظم مدارس القدس التي نواصل الحديث عنها
في هذه الحلقة، بادئين بالحديث عن المدرسة الخاتونية، لنجد أنها قد ضمت أيضا في تربتها عددا من
القادة المسلمين والمقدسيين على وجه الخصوص.
المدرسة الخاتونية :
تقع في باب الحديد غربي الحرم الشريف، ويتفق المؤرخون على أن واقفتها هي أوغل خاتون.
وكان وقفها في الخامس من ربيع الثاني سنة سبعمائة وخمس وخمسين للهجرة. وفي سنة سبعمائة
واثنين وثمانين للهجرة، أكملت أصفهان شاه بنت المير قازان شاه عمارة هذه المدرسة ووقفت عليها.
بقيت الخاتونية مكانا للتدريس، فدرس فيها القرآن الكريم حتى القرن العاشر الهجري. وأصبح متقطعا
بعد ذلك، إلى أن توقف مع بداية الحتلل البريطاني في فلسطين، إذ أصبحت دارا للسكن. دفن في
المدرسة الخاتونية الزعيم الهندي المسلم محمد على سنة ألف وتسعمائة وواحد وثلثين للميلد، كما
دفن فيها الزعيم الفلسطيني، موسى كاظم الحسيني سنة ألف وتسعمائة وثلث وثلثين، ونجله شهيد
القسطل عبد القادر الحسيني، ثم ابنه فيصل عبد القادر الحسيني.
وبباب الحديد أيضا أقام "بيدمر" نائب الشام سنة سبعمائة وإحدى وثمانين المدرسة الحنبلية. فيما أقامت
المدرسة البارودية بباب الناظر، الحاجة سفري خاتون ابن شرف الدين محمود المعروف بالبارودي،
وذلك سنة سبعمائة وثمان وستين للهجرة.
ومن مدارس القدس أيضا، المدرسة الجهاركسية بجوار الزاوية اليونسية من جهة الشمال. وفي الجهة
الشمالية من ساحة الحرم، غرب المدرسة السعردية المتخذة اليوم مكانا لمحكمة الستئناف الشرعية
السلمية، تقوم المدرسة الصبيبية، وقريبا منها المدرسة الباسطية. ثم المدرسة الغادرية، ما بين باب
شرف النبياء ومئذنة باب السباط. وغرب المدرسة المنجكية تقوم المدرسة الحسينية وبداخل ساحة
القصى عند الرواق الشمالي تقوم المدرسة الطالونية، ويصعد إليها من السلم الموصل إلى منارة باب
السباط أنشأها شهاب الدين الناصري الطولوني.
وبخط باب حطة لجهة الغرب تقوم المدرسة الكاملية. ومن المدارس التي تحولت دورا سكنية، المدرسة
العثمانية، وتعرف اليوم بدار الفتياني، وهي واقعة على يسار الخارج من الحرم من باب المتوضأ
المعروف بباب الطهارة. والمدرسة الجوهرية، وتعرف اليوم بدار الخطيب، وهي في طريق باب الحديد
من الجهة الشمالية.
وقريبا من الجوهرية تقوم المدرسة المزهرية، وواقفها هو الزينبي أبو بكر النصاري الشافعي سنة
ثمانمائة وخمس وثمانين للهجرة. ولما كان الحديث عن مدارس القدس بعددها الكبير فضل عن وصفها
ولو باختصار، مما ل تستطيعه هذه الوقفات فسنفضل القول في بعض من أشهرها وهي.
المدرسة الفضلية:
من مدارس القدس، عرفت قديما بالقبة، وتقع في حارة المغاربة، وقد وقفها على فقهاء المغاربة
المالكية الملك الفضل نور الدين، سنة خمسمائة وتسع وثمانين للهجرة.
ل تذكر المصادر التاريخية شيئا كثيرا عنها، أما في الستينات من القرن العشرين، فكانت دارا يسكنها
بعض الفقراء المغاربة، وزالت مع قيام جرافات الحتلل الصهيوني، بهدم حارة المغاربة عام ألف
وتسعمئة وسبعة وستين.
ويقول المؤرخ المقدسي عارف العارف: أن هناك مدرسة بهذا السم في حارة النصارى، كانت في
القرون الوسطى مسجدا له منارة ويرجع تاريخه إلى ثمانمائة وسبعين للهجرة، وقد ذكر هذا المسجد،
مجبر الدين الحنبلي في النس الجليل.
المدرسة الشرفية:
من أشهر مدارس مدينة القدس وأضخمها إن لم تكن أشهرها قاطبة. وقد عرفت أيضا بالمدرسة
السلطانية.
تقع بجوار باب السلسلة، وقد بناها في الصل المير حسن الظاهري، باسم الملك الظاهر خوشقدم سنة
ثمانمائة وخمس وسبعين للهجرة، ولكنه لم يتم بناءها، إذ توفي الملك الظاهر، فقدمها المير حسن إلى
الملك الشرف قاتيباي، فنسبت إليه وسماها الشرفية.
سنة ثمانمائة وثمانين للهجرة، زار قاتيباي القدس، ولم يعجبه بناء المدرسة، فأمر بهدمها، وأرسل من
مصر مهندسين وعمال باشروا بإعادة بنائها في سنة ثمانمائة وخمس وثمانين للهجرة، واستغرق العمل
فيها سنتين.
فجاءت آية في التقان والجمال، وفي وصفه لها قال مجير الدين الحنبلي: "إنها الجوهرة الثالثة" في
منطقة الحرم بعد قبة الجامع القصى، وقبة الصخرة الشريفة. ومن ميزات بنائها أن أكثر أحجارها من
الرخام ذي الحجم الكبير، وأنها مكونة من طبقيتي ومئذنة ومصلى، وهي ذات مدخل مصنوع من
الحجار الملونة والمنقوشة.
تعرض هذا البناء العظيم للزلزال الذي أصاب مدينة القدس، سنة تسعمائة واثنين للهجرة، فتهدم أكثره،
ولم يبق منه إل بعض الجدران والمدخل، وعلى أحد الجدران الباقية نص منقوش يشير إلى منشىء
المدرسة وتاريخ إنشائها. بقيت المدرسة وقفا، أقيم في موضعه منزل مدرسة اليتام السلمية في
القدس.
المدرسة الرشيدية :
تأسست عام ألف وتسعمائة وستة في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وسميت بهذا السم
نسبة إلى أحمد رشيد بك متصرف القدس. تطورت هذه المدرسة في الحرب العالمية الولى فأصبحت
مدرسة ثانوية كاملة من اثني عشر صفا، ويعرف هذا النوع من المدارس بالمدارس السلطانية )المكتب
السلطاني(.
خلل عهد النتداب البريطاني، أخذت المدرسة الرشيدية تنمو وتتطور، حتى غدت من أحسن المدارس
الحكومية في فلسطين. كانت المدرسة أولية، وفيها قسم ثانوي. ثم زاد التعليم فيها عن الثانوي بسنتين
أخريين، فصارت تؤهل خريجيها الحاصلين على شهادة الثانوية العامة )المتريكوليشن(، لدراسة الطب
والهندسة بدراسة مواد خاصة تحضيرية.
وكانت السنتان الدراسيتان في المدرسة تعادلن العدادية في كليتي الطب والهندسة.
بلغ عدد طلب المدرسة الرشيدية عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين، ثلثمائة وعشرة طلب منهم
ستة وعشرون طالبا يدرسون في الصفوف العليا التحضيرية للطب والهندسة.
فضل عن كل ما ذكرناه عن مدارس القدس، وصول إلى نهايات العهد العثماني، فقد أثمرت جهود
البحاثة الستاذ كامل العسلي، في مراجعة سجلت ووثائق المحكمة الشرعية السلمية في القدس،
أثمرت كشفا عن عدد كبير جدا من المدارس التي أقيمت في بيت المقدس، كما كشف عن التعديلت التي
أجريت عليها، والترميمات والصلحات التي عرضت لها.
مدارس القدس، هي واحدة من مميزات المدينة العظيمة، التي كان فضل العلم فيها، مثل فضل العبادة
في مسجدها، فالدين السلمي الذي حث على أداء العبادات، حث أيضا على العلم والتعلم، وفي القدس،
كان المسلمون يجدون ما يبحثون عنه، دور العبادة، ودور العلم.
الفتح العربي السلمي
شكلت معركة اليرموك بين الجيوش العربية السلمية والجيوش البيزنطية، نقطة انعطاف حاسمة في
الفتوح العربية السلمية، إذ أن هذه المعركة قد ضمنت انكفاء الروم عن بلد الشام ومغادرة هرقل
أنطاكيا إلى القسطنطينية. وبحسب كتب التاريخ، فإنه بعد اليرموك، كان قد تبقى على العرب المسلمين
فتح بيت المقدس وقيسارية، ولذلك يذكر أن فتح بيت المقدس إنما جاء في المرحلة الثالثة من الفتح
العربي السلمي لبلد الشام، فهل كان هذا التأخير متعمدا؟ وكيف يكون كذلك وفتح بيت المقدس في
خاطر المسلمين، منذ زمن الرسول الكريم، صلى ال عليه وآله وسلم؟
أحد التفسيرات يكمن في أن العرب المسلمين قد اعتمدوا منذ البداية في فتوحهم في المنطقة تجنب
المدن، وركزوا على القرى والسواد، ففي المدن حاميات بيزنطية، وأحيانا من الموالين القوياء
ليبيزنطة، أما في السواد والقرى، فالقرباء من العرب، ما يمكن معه تجنب وقوع صدامات كبيرة،
وضمان دخول أعداد جديدة كبيرة من العرب حظيرة السلم، فيكونون عونا ..وبهذا التكتيك فإن
الفاتحين العرب استقبلوا أكثرا مما خاضوا معارك مع القبائل العربية المقيمة في بلد الشام.
وربما آثروا أل يأخذوا القدس بالسيف، فلو حدث ووجهوا جيوشهم نحوها منذ البداية، لقتضى ذلك
منهم حروبا كثيرة، ووقتا أطول، وأعطى الفرصة للبيزنطيين كي يحشدوا قواهم في المواجهة، أما بعد
أن تكون أغلب الشام في أيدي العرب المسلمين، فإن فتح بيت المقدس يكون أيسر.
مثل هذه الستخلصات من سير الفتوح في بلد الشام، ل يلغي حقيقة أن العرب المسلمين، كانوا
يقصدون مدينتهم المقدسة منذ البداية، ولم تكن لفتوحاتهم أهداف اقتصادية ول هي عمليات غزو، على
ما يذهب بعض المستشرقين. فالقدس مكان مقدس ذكرها ال في كتابه العزيز. ما حولها أرض مباركة
باركها ال.
يعيد كثير من المؤرخين نية الرسول الكريم صلى ال علية وآله وسلم، فتح بيت المقدس، إلى الرسالة
التي بعث بها إلى هرقل أثناء وجوده في القدس، ودعاه فيها إلى السلم، وكذلك إلى السرايا والبعثات
التي وجهها قبل وفاته إلى تخوم الشام.
حسب بعض الروايات أن رسول ال صلى ال عليه واله، قال لواحد من صحابته أعدد ستا بعد وفاتي
وتحرر القدس "وتحققت النبوءة الكريمة. فقد أقرنت من البدء بالعمل، ففي أحاديثه الشريفة أوضح
محمد صلى ال عليه وآله وسلم مكانة بيت المقدس، ومنذ السنة الخامسة للهجرة، بدا رسول ال صلى
ال عليه وآله وسلم، ببعث السرايا على الطريق بين المدينة والشام، ففي تلك السنة كانت غزوة دومة
الجندل، وهي مكان على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترا شمال تيماء.
وفي السنة السادسة بعث الرسول صلى ال عليه وآله وسلم، سرية أخرى إلى دومة الجندل، وفي
السنة السابعة، كانت غزوة خبير، لن يهودها كانوا يهددون الطريق إلى الشام، وفي السنة الثامنة
كانت سرية كعب الغفاري إلى ذات أفلح من ناحية الشام، وهو في منطقة وادي عربة، وفي السنة
نفسها كانت غزوة ذات السلسل، وسرية زيد بن حارثة إلى حدود فلسطين، ثم جاءت غزوة مؤته
وتبوك.
وفي السنة الحادية عشرة للهجرة كانت سرية أسامة بن زيد، وقد أمره رسول ال صلى ال عليه وآله
وسلم، أن يصل إلى دير البلح في جنوب فلسطين، لكن الغزوة توقفت فترة بسيطة بسبب وفاة الرسول.
ويذكر أبي هشام في سيرته أن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم، أقام بالمدينة ما بين ذي الحجة
إلى رجب، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وكان العام عام عسرة وشدة من الحر وجدب في البلد،
وكان صلى ال عليه وآله وسلم قلما يخرج في غزوة إل كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي
يقصده، إل ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان، وكثرة العدو، ليتأهب
الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم، لكنه لم يصطدم معهم في حرب،
وأخضع بعض المناطق وكان يأمر ببناء مسجد في كل منطقة يمر بها.
تعكس كل هذه الحداث توجيها واضحا من الرسول الكريم صلى ال عليه واله وسلم، ولذلك فإن كثيرا
من المؤرخين يشيرون إلى أن حروب الردة هي التي أخرت فتوح الشام، فما أن انتهى المسلمون منها،
حتى تابعوا ما بدأه الرسول الكريم صلى ال عليه واله وسلم قبل وفاته.
بعد معركة اليرموك، وكما سبقت الشارة ،شرع العرب المسلمون في استكمال الفتح ومطاردة الفلول
البيزنطية.
في فلسطين كانت مدينة بيت المقدس، وكذلك قيسارية، اللتين لم يتم فتحهما، فضرب المسلمون عليها
الحصار.
كان أبو عبيدة بن الجراح يقود حصار بيت المقدس، الذي دام طويل على ما تذكر المصادر التاريخية،
وهو أراد منذ البداية دخولها صلحا، ولكن بطريرك المدينة أراد أن يكون متولي الصلح، ليس القائد
الذي يحاصرها، بل الخليفة نفسه، إذ رأى في ذلك ضمانة أوقع أثرا.
كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بالمر، فحضر إلى بيت المقدس عام ستة عشر للهجرة حسب بعض
المصادر، فيما تشير مصادر أخرى إلى سنة خمس عشرة للهجرة، وقد أعطى الخليفة عمر بن
الخطاب، إلى أهل بيت المقدس ما عرف ل حقا بالعهدة العمرية التي تعتبر وثيقة تاريخية هامة.
ففيها أعطى الخليفة أهل إيلياء "أمانا لنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبرئيها وسائر
ملتها، أنه ل تسكن كنائسهم ول تهدم، ول ينتقص منها، ول من خيرها، ول من صلبهم، ول من شيء
من أموالهم، ول يكرهون على دينهم، ول يضار أحد منهم، ول يسكن بايلياء معهم أحد من اليهود".
وتجمع المصادر التاريخية، على أعد الفقرة الخاصة باليهود، إنما جاءت على طلب من البطريك
صفروينوس.
تحدد بقية نص العهدة شروط المصالحة فتقول: "على أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل
المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم، فإنه آمن على نفسه وماله حتى
يبلغوا مآمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل
أيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا
مآمنهم، ومن كان بها من أهل الرض، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية،
ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، ل يوخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى
ما في هذا الكتاب عهد ال، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذين عليهم من
الجزية".
إرهاب العصابات الصهيونية
ارتبط الوجود الستيطاني الصهيوني في القدس بالرهاب وجرائم القتل البشعة، فإلى العتداء الدائم
على المقدسات، ونهب الرض، تسلط الصهاينة على المقدسين في محاولة مستمرة لقتلعهم من
مدينتهم.
وسجل الجرائم الرهابية الصهيونية في القدس كبير.
في عام ألف وتسع مائة وسبعة وثلثين، هاجمت العصابات الصهيونية، سيارة باص تابعة لشركة
الباصات الوطنية الفلسطينية، وقتلوا ثلثة من ركابها الفلسطينيين.
وفي العام التالي، ألقت العصابات الصهيونية قنبلة على باص عربي في المدينة المقدسة ما أسفر عن
استشهاد ثلثة من ركابه، وإصابة آخرين بجروح.
وبعد ثلثة أيام من هذه الجريمة، اقترف الصهاينة جريمة أخرى بإلقاء متفجرات على حشد من
المقدسيين عند باب الخليل، ما أدى إلى استشهاد عشرة منهم.
مع ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتنامي قوة العصابات الصهيونية، طورت هذه من أساليب
إرهابها ووسعتها، فقامت بنسف أحد أجنحة فندق الملك داوود في القدس عام ألف وتسع مائة وستة
وأربعين.
هذا الجناح كانت تشغله السكرتارية العامة البريطانية، وقد أدت عملية النسف إلى مقتل واحد وتسعين
شخصا من العرب والبريطانيين.
وفي العام التالي، هاجمت عصابات الهاغاناه الرهابية منطقة باب العامود في القدس، فقام أحد أفراد
هذه العصابات بإلقاء برميل من المتفجرات من سيارة مسرعة وسط حشد من المقدسين ما أدى إلى
استشهاد ستة منهم وجرح عشرين آخرين.
وبعد عشرة أيام من جريمة عصابات الهاغاناه قام أفراد من عصابة الرغون، بإلقاء قنابل في شارع
مزدحم في القدس، أدى انفجارها إلى استشهاد أحد عشر مواطنا مقدسيا.
بحلول العام ألف وتسع مئة وثمانية وأربعين عام النكبة شهد الرهاب الصهيوني تصعيدا كبيرا، ففي
كانون الثاني من العام المذكور، فجرت عصابات الهاغاناه الصهيونية، فندق سميراميس في القدس.
كانت أعداد كبيرة من مواطني القدس، قد لجأت إلى الفندق في وقت سابق، فجاءت عملية التفجير
الوحشية لتقتل أكبر عدد منهم، وبالفعل فقد أسفر تفجير الفندق عن استشهاد ثمانية عشر رجل وامرأة،
فيما زاد عدد الجرحى عن العشرين.
كان لعصابات الهاغاناه هدف من آخر من هذه الجريمة، يتمثل في اغتيال القائد عبد القادر الحسيني،
الذي كان موجودا في الفندق مع عدد من رجالت الجهاد المقدس ولكنه غادره بالمصادفة، قبل لحظات
من وقوع النفجار.
لم يمض يومان على جريمة تفجير السمراميس حتى دحرج الرهابيون الصهاينة برميل من المتفجرات
بين الجموع المحتشدة في باب الخليل بمدينة القدس.
أدى هذا العمل الرهابي إلى استشهاد عشرين فلسطينيا، وجرح ستة وثلثين آخرين، تبين أن اليهود
استخدموا في هذه العملية الرهابية سيارة مصفحة تابعة للبوليس النكليزي، حيث تعقب المجاهدون
السيارة وتمكنوا من قتل أحد المجرمين بداخلها.
وفي آذار من عام ثمانية وأربعين، هاجم الرهابيون الصهاينة سيارة باص فلسطينية متجهة من رام ال
إلى يافا، وأطلقوا عليها الرصاص وألقوا القنابل اليدوية، لكن الركاب نجو بأعجوبة.
وفي الشهر نفسه، عبرت قافلة يهودية مصفحة منطقة شعفاط في القدس، وفاجأت الهالي بإطلق
النار، ما أدى إلى استشهاد عشرة منهم، وجرح الكثير.
وفي كانون الول من عام ثمانية وأربعين فجر أفراد العصابات الصهيونية سيارة ملغومة في ساحة باب
العامود ما أدى إلى استشهاد وجرح ثلثين مقدسيا.
المملكة الفرنجية الطور الول
استطاع بفدوين الول توسيع مملكة القدس بسرعة مستغل حالة الذهول التي سيطرت على المسلمين
بعد المذبحة الرهيبة في القدس.
سيطر الفرنجة على طبريا والجليل وبيسان ونابلس والخليل وكان لهم منفذ على البحر من يافا، وردت
إليه الساطيل اليطالية التي ساعدت بفدوين الول في الستيلء على قيسارية وعكا وجبيل وطرابلس،
مقابل مصالح تجارية، وبمعونة السطول النرويجي تم الستيلء على صيدا سنة ألف ومائة وستة.
وساند اليطاليون بفدوين الثاني في الستيلء على صور مقابل حصول البندقية على حي في القدس
وحمامات وأفران في عكا، وثلث صور، وإعفاء لتجار البندقية من الضرائب.
بحلول سنة ألف ومائة وأربع وعشرين سيطر الفرنجة على الساحل ما عدا عسقلن، أما الداخل فإن
غاراتهم الولى على الواد التابع لدمشق في حوران والجولن، اصطدمت بنجدات دمشقية. ولكنهم
فرضوا الجزية على الواد.
واستولوا على أيلة على البحر الحمر، وأقاموا حصن الشوبك فصار لهم نفوذهم على الهضاب الشرقية
للردن الذي سوف يتعزز عام ألف ومائة وأربعين بإقامة حصن الكرك.
تحكمت المصالح التجارية بتوسعات مملكة القدس، التي صارت لها اليد العليا على المارات الفرنجية
في المنطقة، فأصبحت هذه تتبع لها آليا، خاصة في قوتها زمن بفدوين الثاني، الذي وقع في أسر
تمرتاش الرتقي سنة ألف ومئة وثلث وعشرين وأطلق مقابله فدية كبيرة.
نمت في عهد بفدوين الثاني مؤسستان دينيتان عسكريتان كبيرتان هما الستبارية والداوية.
وقد بدأ تشكل أولهما سنة ألف وسبعين للميلد، أي قبل حروب الفرنجة بنحو ثلثين سنة حين أنشأ
تجار أمالفي دارا للحجاج المالفيين في القدس، قام على رعايتها أفراد من الرهبنة البندكية في
فلسطين، برئاسة مقدم لهم يعرف ب " جيرار ...
ظل يدير الموقع حتى وفاته سنة ألف ومئة وثماني عشرة، وبعد أن نجح في توسيع هذه الدار التي
أضيف إليها على يد خليفته، إعداد الفرسان للقتال إلى جانب إرشاد الحجاج وإيوائهم. وعرفت باسم
الستبارية، وانخرطت في القتال سنة ألف ومائة وتسع وثلثين.
وأسست سنة ألف ومئة وثماني عشرة فرقة أخرى حملت اسم" فرسان الهيكل" وعرفها المسلمون باسم
الداوية.
حضرت هاتان الفرقتان بقوة في محكمة القدس ثم في مجمل حروب الفرنجة، وكان لهما تأثير كبير
على سير المور كفرقتين رئيسيتين عسكريتين تمتلكان قوة كبيرة وترتبطان بالبابا.
جاء إلى حكم مملكة القدس بعد بفدوين الثاني الملك فولك سنة ألف ومئة وواحد وثلثين الذي تابع بناء
الحصون لحماية المملكة وأطرافها ومع وفاته سنة ألف ومئة وثلث وأربعين بدأ انحدار مملكة القدس.
فقد تبعه في الحكم صبي هو بفدوين الثالث، وفي زمنه سقطت أمارة الرها. وتراجعت أحوال المملكة،
فاستغاثت بالبابا الذي جند حملة فرنجية ثانية، سيطر الخلف على زعمائها واصطدمت بالمقاومة
السلمية التي كانت قد تنامت آنذاك، فجاءت نتائجها مخيبة للمال، ومع تضافر أسباب عديدة لهزيمة
الفرنجة أمام دمشق بدأ التفكير بمهاجمة عسقلن لنقاذ سمعة الحملة، وهو أمر لن يتم سوى سنة ألف
ومائة وثلث وخمسين في ظروف مختلفة.
تحالفت مملكة القدس مع البيزنطيين، وأضحت تحت حمايتهم، وحاولت استغلل السيطرة على عسقلن
في إيجاد دفع معنوي كبير لهيبة المملكة، ولكن الخلفات على عرش المملكة بالذات، بدأت تقدم إسهاما
جديدا في إضعافها، فيما اعتبر دخول نور الدين زنكي إلى دمشق خبرا مزعجا في القدس.
حاول ملك القدس الفرنجي عموري التوجه إلى غزو مصر، مستغل حالة الضعف التي تعانيها وتآمر
بعض الوزراء معه، ولكن مصر كانت لقمة كبيرة على المملكة الفرنجية، في حين كان نور الدين زنكي
ينجح في تشكيل الجبهة من الشام ومصر.
استغاثت المملكة مجددا بأوروبا، فحصلت على نجدات ضعيفة لم تستطيع أن تحدث تغيرا كبيرا في
المواقع، فعادت للتحالف مع البيزنطيين معترفة بسيادة المبراطور على المسيحيين الوطنيين.
بعد وفاة عموري سنة ألف ومئة وأربع وسبعين تولى المملكة صبي مجذوم هو بفدوين الرابع، بوصاية
ريموند كونتا طرابلس، وظهر انقسام جلي في المملكة يمثل طرفه الول حزب البارونات الوطنيين
والستبارية بقيادة ريموند، وهو يريد التفاهم مع المسلمين، أما طرفه الخر فيمثله القادمون حديثا من
أوروبا ومعهم الداوية، بزعامة أرناط المتعصب المتوحش الذي حاول احتلل مكة والمدينة.
احتدمت الخلفات على تولي العرش، فتم إيجاد حلول ملفقة لها، اتسمت بالدسائس والمكائد.
بعد موت بفدوين الرابع، ولي طفل هو بفدوين الخامس، مات بعد سنة، فعين مغامر فرنسي هو غي
لوزينان المتزوج من سيبل ملكا على القدس، جاء هذا التعيين مخالفا لتفاق سابق مع ريموند بأن
يتولى البابا وملكا فرنسا وإنكلترا شأن تعيين الملك بعد بفدوين الخامس.
وفي عهد لوزينان، نجح صلح الدين اليوبي في إنهاء الطور الول من حياة مملكة القدس الفرنجية
سنة ألف ومائة وسبعة وثمانين للميلد.
الستيطان في القدس
إضافة إلى سياسة زرع البؤر الستيطانية في البلدة القديمة من القدس، سعى الصهاينة إلى إغراق
المدينة بالمستوطنين، وضرب ثلثة أطواق استيطانية حولها، الول يطوق منطقة الحرم القدسي
الشريف والبلدة القديمة والثاني يطوق الحياء في القدس، والثالث يطوق القرى العربية المحيطة
بالقدس.
ويتحدث الصهاينة عن أن سياسة التطويق هذه تخدم أهدافا عديدة ومن بينها هدف أمني حيث تقول
المصادر الصهيونية: روعي في استيطان القدس إمكانية تجدد الحرب في المدينة لذا جعلت الحياء
الجديدة في المدينة الغربية، قريبة من الحدود في مواجهة المنطقة العربية، وعلى طول خط الهدنة
وتحولت المباني إلى مراكز عسكرية، بنيت لتكون جدارا عاليا أمام الجانب العربي، تحمي في الوقت
نفسه المباني الموجودة خلفها.
تم إنشاء عدد كبير من الحياء الستيطانية والمستوطنات على رؤوس التلل والودية التي تسهل
الدفاع عنها وعلى أنقاض ما هدم من أحياء وقرى عربية، وما اغتصب من أراضي، ما حصر العرب
المقدسين في ساحات ضيقة ومطوقة.
فأقيم في الجهة الشمالية من القدس، حي أشكلول ملصقا لحي الشيخ جراح، وأقيم على جبل سكوبس،
والتلة الفرنسية حي شابيرا الستيطاني، إضافة إلى تجمع استيطاني كبير على جبل الزيتون، وآخر باسم
راموت على أراضي النبي صموئيل، ومستوطنة باسم عتاروت على اراضي الرام وبيت حنيينا، كما أقيم
حيان على أراضي جبل المكبر، وثالث باسم جيل على أراضي بيت صفافا، ثم عاد الصهاينة لقامة
حيين استيطانيين على أراضي الشيخ جراح، وعلى القسم الوسط من جبل المشارف وهكذا.
هذا فضل عن عدد كبير من مستوطنات الطوق، على أراضي قرى يالو وعمواس، وبيت نوبا، وجبل
المكبر، وصور باهر وشعفاط، وعناتا، والخان الحمر، ومخماس، والرادار.
ل تتوقف حدود هذه المستوطنات عند الشكل الذي أقيمت عليه، بل يجري توسيعها باستمرار وتوجيه
المستوطنين إليها، حتى أن البلدية الصهيونية في القدس، والتي تهدم كل بيت عربي يتم بناؤه بدعوى
البناء بدون ترخيص، تسمح للمستوطنين الصهاينة، بالقيام ببناء عشوائي في أي مكان يستطيعون
الستيلء عليه، ثم تتولى البلدية تنظيم البنية، وتحويلها إلى مستوطنة، وتتولى أيضا الدعوة إلى
الستثمار فيها وتوسيعها.
وفي إطار التضييق على توسيع البناء العربي في القدس، كانت السلطات الصهيونية، قد أعلنت عن
مساحات خضراء داخل وحول الحياء العربية في المدينة، يمنع البناء بها بأي شكل، وعندما لم تعد
تتوفر مساحات واسعة للستيطان، قفزت سلطات الحتلل والمستوطنون نحو المساحات الخضراء، التي
تبين أنها تركت كاحتياط استراتيجي للستيطان، يحقق عدة أهداف، منها الدمج النهائي بين شطري
القدس، وتحويل الحياء العربية إلى غيتوات مغزولة، ثم تفتيتها إلى وحدات سكنية صغيرة جدا، فارغة
في بحر من المستوطنات والمستوطنين، ويسهل اقتلعها لحقا لنجاز تطويق نهائي للقدس وتهوديها.
عام اثنين وتسعين أعلن عن المشروع الستيطاني الجديد الذي يحمل اسم "بوابات شارون" وهو يشمل
بناء 500 وحدة استيطانية أسفل بيت العفيفي، حتى مدرسة المأمونية الجديدة، وبناء 900 وحدة ما
بين شارع وادي الجوز والمنطقة الصناعية والشيخ جراح، وبناء 400 وحدة في وقف السعديات باتجاه
محطة الديسي، وبناء مستوطنة عند تقاطع رامات أشكول، ووادي الجوز– رام ال.
ويتحدث المشروع عن شق شوارع للوصل بين الحياء الستيطانية، ما يفتت التجمعات والحياء العربية
بشكل شبه نهائي.
تم تلزيم مشاريع البناء فورا بعد العلن عن المخطط عام اثنين وتسعين، وتولت الحكومات الصهيونية
المتعاقبة تنفيذه، وكل منها تتحدث عن أنها تكمل التزاما سابقا للحكومة السابقة.
بعد اتفاق أوسلو، جرت مصادرة واسعة لراضي داخل القدس وحولها، منها عشرة آلف دونم لصالح
الستيطان، ونحو ثلثين ألف دونم لغراض عسكرية، ومحميات طبيعية، تشكل احتياطا للستيطان.
ومع حلول العام ألف وتسعمائة وستة وتسعين، كان قد جرى بناء إحدى عشرة آلف وحدة سكنية
للمستوطنين في القدس وحولها، فيما جرى العلن في العام نفسه عن خطة استيطانية جديدة تخترق
هذه المرة الحياء العربية من داخلها. ومن ذلك توسيع رقعة الستيطان في سلوان، المتاخمة لسور
البلدة القديمة، ومنطقة أم حورون داخل حي الشيخ جراح، وفي منطقة رأس العامود، وهو يحقق وصل
بين البؤر الستيطانية في البلدة القديمة والمستوطنات والحياء الستيطانية خارجها.
ومع استكمال هذا المشروع، فإن الصهاينة يستكملون مخطط إحكام السيطرة اليهودية على المدينة
المقدسة من داخلها بعد أن أنهوا تقريبا إحكام السيطرة على الحدود الخارجية للقدس،عن طريق حزام
المستوطنات القائمة الن في الجهات الجنوبية والشرقية والشمالية للمدينة.
إعلن القدس عاصمة للكيان الصهيوني
مر إعلن الصهاينة القدس عاصمة لهم، بأكثر من مرحلة، ففي البداية أعلن الصهاينة، الجزاء المحتلة
من المدينة عام ثمانية وأربعين عاصمة لكيانهم، وذلك في شهر كانون الول من عام تسعة وأربعين،
وفي العام التالي قام الكنيست بتأكيد هذا القرار وعقد جلسة له في القدس المحتلة، قرر خللها نقل
جميع المؤسسات والوزارات الصهيونية إلى المدينة.
وعام ثلثة وخمسين شرعت حكومة الحتلل بنقل مقر وزارة الخارجية الصهيونية إلى القدس، وبدأت
بعد ذلك بسنوات قليلة إشادة مبنى الكنيست الصهيوني بتبرعات الثري اليهودي جيمس دي روتشيلد.
عام ستة وستين، عقد حزب رافي الصهيوني مؤتمره العام في القدس، وطالب بإعلنها عاصمة أبدية
للكيان الصهيوني، ونقل جميع المؤسسات ومقار الحزاب إليها، واعتبارها المركز الرئيسي لمختلف
النشاطات. وفي العام نفسه تم افتتاح مقر الكنيست الصهيوني الجديد في حفل حضره عدد من أعضاء
الكونغرس المريكي.
بعد أيام قليلة من استكمال احتلل القدس عام سبعة وستين، أعلن الصهاينة عن ضم الجزاء الشرقية
من المدينة لهم، وشرعوا في عملية تهويد واسعة النطاق لها.
في نهاية تموز من عام ثمانين، أقر الكنيست الصهيوني، بشكل استثنائي، قانونا جديدا عرف باسم
"قانون أساسي" القدس مشروع هذا القانون تقدمت به الرهابية غيئول كوهين من حركة هيتما، وهو
ينص على التي:"
1. أن القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل.
2. القدس هي مقر الرئيس والكنيست والحكومة والمحكمة العليا.
3. تحمى الماكن المقدسة من أي تدنيس أو مساس بأي شكل أو شيء من شأنه أن يمس بحرية
وصول أبناء كافة الطوائف إلى الماكن المقدسة، أو بنظرتهم إليها.
4. ستحرص الحكومة على تنمية القدس وازدهارها وتوفير الرفاه لسكانها بواسطة تخصيص موارد
ولسيما تقديم منحة سنوية خاصة لبلدية القدس بمصادقة لجنة الكنيست المالية.
5. يفترض في هذا القانون بوصفه أساسيا أن يصبح وفقا للنظم السرائيلية جزءا من دستور إسرائيل
عند وضعه.
مع إقرار الكنيست الصهيوني لهذا القانون بدأ الصهاينة بتكثيف المطالبات للعالم أن يعترف بالقدس
الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني، معتبرين أنه ل ينبغي أن تبقى السفارات خارج القدس التي تشكل
مقرا للمؤسسات الحكومية الصهيونية.
لحقا عمد الصهاينة إلى استصدار سلسلة متتابعة من القرارات، أطلقت عليها غالبا صفة تعزيز القدس،
ومن ذلك القرار التي اتخذه الكنيست الصهيوني عام تسعين وهو ينص على عدم تقسيم القدس، وبقائها
كاملة تحت السيادة الصهيونية، دون أن تتبع لي إدارة مستقلة أخرى.
كما نص على منع ممثلي الكنيست من المشاركة في أي مفاوضات بشأن وحدتها والسيادة الصهيونية
عليها، وعام أربعة وتسعين تبنى الكنيست الصهيوني قرارا جاء فيه:
يعود الكنيست ويقرر أن القدس عاصمة إسرائيل، وستبقى إلى البد مدينة موحدة تحت سيادة إسرائيل،
ويقرر الكنيست أنه يجب منع كل محاولة للمس بمكانة المدينة ووحدتها، القدس وضواحيها ليست
موضوعا سياسيا أو أمنيا، وإنما روح الشعب اليهودي.
وعام ألفين تقدم الليكود بمشروع قانون جديد إلى الكنيست حمل عنوان "قانون أساس القدس عاصمة
إسرائيل" وهو مزيج من القوانين والقرارات السابقة ..حتى ليبدو وكأن اللص حريص على التأكيد دوما
بأنه يريد الحتفاظ بما سرقه، وفي أعماقه شعور بأنه ليس له.
العتداء على المقدسات المسيحية
) 1 (
في بيت المقدس حيث عانى السيد المسيح عليه السلم اضطهاد اليهود له، مازال المسيحيون يتعرضون
للضطهاد الصهيوني ولزالت الكنائس والمقدسات المسيحية عرضة للعتداءات الصهيونية.
وتتراوح هذه العتداءات بين منع الصلة عبر منع المسيحيين الفلسطينيين من دخول القدس، وبين
انتهاك حرمة الكنائس وسرقة محتوياتها. ففي معارك ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، احتل الصهاينة
كنيسة نوتردام دوفرانس، وعززوا وجودهم فيها بالسلحة الثقيلة، لستخدامها قاعدة لهجماتهم غير
مراعين لقدسيتها.
وسنة ألف وتسعمائة وسبع وستين، اضطر بطريرك اللتين إلى إصدار أمر بإغلق ثلث كنائس في
القدس بسبب انتهاكها ووقوع سرقة فيها وقيام الصهيونيات بدخولها بصورة منافية لكل احترام
للكنائس المقدسة.
وكان ثلثة من الصهاينة قد أقدموا على سرقة تاج السيدة العذراء وبعد أن اتضح أمر هذه الجريمة
أعاد الصهاينة التاج بعد سرقة للئ ثمينة منه.
وبعد أيام من عدوان حزيران سنة سبع وستين، حضر جنود صهاينة إلى سطح كنيسة القيامة ودير
الروم الرثوذكس واعتدوا على رجال الدين المسيحي بالقرب من كنيسة القديس قسطنطين وحاولوا
لحقا سرقة صليب وأيقونة من سيارة مطران الروم الرثوذكس في القدس المطران تيودروس.
وسنة ألف وتسعمئة وسبعين تعرض دير القباط لعتداءين حيث ضرب الجنود الصهاينة رهبان الدير
في القدس ليلة عيد الفصح المجيد، وليلة عيد الميلد داهم الجنود الصهاينة الدير وسرقوا أشياء ثمينة
من ممتلكاته واعتدوا بالضرب على المطران فاسيليوس وهو الشخصية الثانية في البطريركية
الرثوذكسية.
وفي السنة التالية أعلن المطران ذيوذروس مطران الروم الرثوذكس أن البطركية اضطرت إلى إغلق
نوافذ العديد من الكنائس بالحجر لكي تمنع المارقين من السلطات المحتلة من العتداء على كرامة بيوت
ال وشمل هذا الجراء كنيسة مار جريس في القدس.
وحيث لم يستطع الصهاينة السرقة لجأوا إلى الحراق والتدمير، فأحرقوا سنة ألف وتسعمائة وثلث
وسبعين المركز الدولي للكتاب المقدس على جبل الزيتون، ثم اتبعوا ذلك في العام التالي بإحراق أربعة
مراكز مسيحية في المدينة.
عام ألف وتسعمائة وثلثة وثمانين شن الصهاينة حملة اعتداءات واسعة النطاق على المقدسات
السلمية والمسيحية، من خلل زرع قنابل موقوتة في دور العبادة، منها كنيسة للروم، وأدى انفجار
القنبلة إلى إصابة راهبة بجراح واضطرت الكنائس إلى إغلق أبوابها مجددا عام ألف وتسعمائة
وتسعين احتجاجا على اعتداءات المستوطنين الصهاينة الذين عاودوا اعتداءاتهم مجددا سنة ألف
وتسعمائة وأربعة وتسعين حيث ضربوا بشكل وحشي الكاهن الرمني رازليك بوغسيان.
كما قامت سلطات الحتلل بتجريف قبور في ساحة كنيسة السيدة مريم في الجثمانية بالقدس وذلك
لتعبيد طريق فوقها وقد تم هذا الجراء دون إعلم ذوي الموتى ليقوموا بنقل رفات موتاهم.
عمليات منع المصلين المسيحيين من دخول المدينة المقدسة هي عمليات متكررة كان آخرها سنة ألفين
وواحد عندما منعت سلطات الحتلل المسيحيين من الدخول إلى بيت المقدس للحتفال بيوم الجمعة
العظيمة.
القمع الذي تعرض له أبناء الشعب الفلسطيني وبضمنهم أبناء الشعب من المسيحيين دفع البطريرك
صباح إلى القول: إذا كانت إسرائيل بحاجة إلى فدية، فسنقدم لهم كنائسنا ليدمروها.
وتوجه البطريرك صباح إلى جماهير الشعب الفلسطيني بالقول: ل تهجروا أرضكم ابقوا هنا في الرض
المقدسة ول تدعوا غيركم يصنع مستقبلكم.
سلطات الحتلل منعت مرارا البطريرك صباح من دخول قرى ومدن الضفة لحياء قداديس في كنائسها.
ولكن هذه ليست كل العتداءات الصهيونية على المقدسات المسيحية في القدس.
العتداء على المقدسات المسيحية
) 2 (
تطبيقا لمقولة هرتزل بتدمير كل ما هو غير مقدس لدى اليهود في القدس، واظب الصهاينة على استهداف
المقدسات المسيحية في المدينة.
وإضافة لما ذكرناه في الحلقة السابقة، فقد بين المطران تيودروس أنه إضافة إلى ما قام به الصهاينة من
نهب الكنائس الثرية، فقد اعتدوا على كنيسة ودير مار إلياس على طريق بيت لحم سنة سبع وستين،
وكسروا مقاعد الكنيسة ونهبوا اليقونات المقدسة الثرية وأثاث الدير والواني المقدسة.
الدير استهدف بالقصف المدفعي، في حرب حزيران ووجدت مقتنياته معروضة للبيع في أسواق مستوطنة
تل أبيب مما اضطر المسؤولين عن الدير إلى شراء معظم المسروقات، فيما بقي قسم منها مفقودا.
ومن الكنائس التي تعرضت لعتداءات وحشية الكنيسة الرمنية للقديس المنقذ، تعتبر هذه الكيسة كنيسة
تاريخية بنيت في القرن الخامس عشر الميلدي، وتخص البطركية الرمنية في القدس.
وقعت الكنيسة تحت الحتلل عام ثمانية وأربعين، ولم يتمكن رجال الدين المسيحي من زيارتها.
وفي عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين استخدمها الصهاينة كحصن للرشاشات، ودمروا في ساحاتها قبور
أربعة عشر من بطاركة الرمن.
وقد مزقت الصور الزيتية على الجدران، ونزع من الحيطان البلط المحضر من قبل زوار الكنيسة في القرن
التاسع عشر، لم يكتف الصهاينة بذلك، بل أنهم قاموا بتحويل جزء من ساحة الكنيسة إلى ملهى ليلي،
وعلقوا لفتة باللغتين النكليزية والعبرية، كتب عليها "ملهى ليلي" وتمكن يهودي من التسلل إلى كنيسة
القيامة ليحطم قناديل الزيت والشموع الموضوعة فوق القبر المقدس.
وحاول عدد من الصهاينة سرقة أكاليل مرصعة بالماس، قائمة قرب صليب الجلجلة داخل كنيسة القيامة،
وذلك بعد أن اعتدوا على راهب فرنسيكاني، حاول منعهم من تنفيذ السرقة، في حين أن السلطات
الصهيونية لم تتورع عن هدم كنيسة للروم الرثوذكس على جبل الزيتون سنة اثنين وتسعين بدعوى البناء
دون ترخيص.
وفي عين كارم، حطم الصهاينة أبواب ونوافذ كنيسة القديس يوحنا القديمة، وسرقوا محتوياتها، وكتبوا
على جدرانها عبارات نابية، كما عمدوا إلى تغيرات في لوحة كان رسمها الرسام اليطالي المعروف روفائيل
للسيدة العذراء والطفل يسوع.
وجاءت هذه التغيرات مخجلة وتنتهك قداسة السيدة العذراء والسيد المسيح. ويمثل التشويش على أداء
الصلوات، وحضور القداديس، جانبين من العدوان ألهوني على المقدسات المسيحية.
وسنة تسع وثمانين، وقع رؤساء كنائس الروم الكاثوليك والرثوذكس والكنائس النغليكانية والرمنية في
القدس بيانا احتجوا فيه على عمليات إطلق النار التي يقوم بها الجنود الصهاينة من الماكن المقدسة.
وطالب البطاركة والمطارنة الذين وقعوا على البيان، بأن يحترم الصهاينة حق المؤمنين في التمتع بدخولهم
الحر إلى جميع أماكن العبادة في اليام المقدسة لدى جميع الديان.
غالبا ما يرفع الصهاينة وتيرة مضايقاتهم في المناسبات والعياد المسيحية، ومن ذلك قيام الحاخامية
اليهودية بالضغط على أصحاب الفنادق للغاء الحتفالت بحلول العام الميلدي الجديد، ألف وتسعمائة
وتسعة وتسعين لنه صادف يوم السبت واليهودي.
الكنيسة الكاثوليكية اعتبرت ما قامت به الحاخامية انتهاكا لحقوق المسيحيين في القدس، ما ينبغي أن يكون
واضحا لدى الحديث عن العتداءات الصهيونية على المقدسات المسيحية في القدس هو النظرة العدائية من
قبل اليهود الصهاينة إلى هذه المقدسات، وإلى المسيحيين ما أدى إلى تناقص أعدادهم في القدس على نحو
مطرد، وهذا أحد الهداف الساسية للصهيونية، ولذلك تتكرر دعوة البطريرك صباح: "ل تهجروا أرضكم
..أبقوا هنا في الرض المقدسة".
الحملت البابلية
اندمج الفلسطينيون بالكنعانيين، وظلت الحضارة الكنعانية مسيطرة في فلسطين، ورغم أن الفلسطينيين
أخضعوا أنحاء كثيرة من البلد لسيطرتهم، فقد بقيت القدس بيد الكنعانيين، إلى أن دخلها داوود – عليه
السلم -حوالي اللف قبل الميلد، دون أن يتمكن من انتزاع أهلها اليبوسيين منها.
ولما كانت هذه الفترة شديدة التشوش وتنذر المكتشفات الثرية حولها، وتخضع لضغوط التوراة
المحرفة، فإن ما يمكن استنتاجه أساسا أن الحروب والصراعات قد ظلت دائرة في المنطقة وأن داوود
دخل إلى مدينة معمورة ومسكونة بعيدا عن ادعاءات الصهاينة وتحريفاتهم.
لم تعن هذه السيطرة إشاعة الستقرار في المنطقة، ومن المتصور أن الكنعانيين قد استنجدوا بأقربائهم
من خلف العموريين، الذين كانوا قد أقاموا دول قوية في بلد الرافدين.
ارتبط وجود مملكة داوود بصراعات داخلية وبصراعات مع المحيط الكنعاني، قاد إلى انقسام المملكة
نفسها إلى مملكتين.
أمام هذا الضطراب، قاد شيلمنصر الخامس الملك الشوري حملة على المملكة الشمالية، ولكن الذي أتم
تفويضها كان سرجون الشوري سنة سبعمائة وإحدى وعشرين قبل الميلد وفرض الجزية على
المملكة الجنوبية التي تضم القدس. ما بين عامي سبعمائة وخمسة، وستمائة وواحد وثمانيين قبل
الميلد، قام سرجون وخلفه سنحاريب بسلسلة من الحملت والعمليات الحربية ضد المدن الكنعانية
والفلسطينية وبلغت ذروتها عام سبعمائة وواحد قبل الميلد بحصار القدس.
وتذكر المصادر التاريخية أن ربشاقي القائد الشوري جاء في جيش كبير، ودك أسوار المدينة، وكان
رجاله مزودين بالسيوف والنبال والتروس والقواس والرماح، ولهم مركبات خفيفة يجر الواحد منها
حصانان، وكانتا لهم وسائل نقل منظمة.
لم تسقط القدس في هذه الحملة، ولكن الشوريين عادوا لمهاجمتها، واحتللها وأسروا ملكها في حينه
"منسا بن حزقيا"، ما بين عامي ستمائة وثمانية وسبعين، وستمائة وأربعة وأربعين قبل الميلد ثم
أطلقوا سراحه تمكن البابليون، وهم من العمورييون، من تحطيم المبراطورية الشورية، مستفيدين من
توغل المصريين في عمق المبراطورية، فاحتل البابليون نينيوى عام ستمائة واثنا عشر قبل الميلد.
دانت أرض كنعان، ومنها مملكة يهوذا الصغيرة للحكم البابلي الجديد، وكانت تدفع له الجزية وجرى
تصد للفرعون ينخحو الثاني أثناء تقدمه باتجاه بابل، إل أنه سحق المقاومة وتجاوز أرض كنعان ليلتقي
بالبابليين عند الفرات، وليتعرض لهزيمة قاسية على يد نبوخذ نصر.
ساعد المصريون يهوياقيم على تولي مملكة يهوذا بعد موت أبيه يوشيا، ولكن ياقيم لم يستطع الصمود
أمام تقدم قوات نبوخذ نصر، فاحتل القدس سنة خمسمائة وست وتسعين قبل الميلد، وأسر سبعة آلف
مسلح وألف عامل، وساقهم ومعهم يهودياقيم إلى بابل، وهذا ما يطلق عليه السبي البابلي الول.
وقام نبوخذ نصر، بتعيين "صدقيا" ملكا على يهوذا إل أن هذا حاول التحالف مع المصريين ضد
البابليين، رافضا دفع الجزية على غرار ما فعلت ممالك مدن كنعانية أخرى. أعد الزعيم البابلي حملة
كبيرة أدت إلى حصار القدس سنة خمسمائة وسبع وثمانيين قبل الميلد وبدعم الحامية المصرية
الموجودة داخل المدينة، صمدت القدس نحو عام كامل إلى أن اجتاحتها القوات البابلية سنة خمسمئة
وست وثمانين قبل الميلد، وقامت بتدميرها، فيما هرب صدقيا وبعض أفراد حاشيته، ولكن رجال نبوخذ
نصر لحقوه واستطاعوا القبض عليه في شمال أريحا، فحمل إلى الملك البابلي الذي أمر بقتله، وساق
نحو أربعين ألفا من السرى إلى بابل، وهو ما يعرف بالسبي البابلي الثاني، وفي هذه الحملة أخضع
نبوخذ نصر مدنا كنعانية أخرى قبل أن يعود إلى بلده، وتكتمل ملمح إمبراطورية الواسعة.
حظيت الحملة البابلية على أرض كنعان وبلد الشام، بحيز واسع من اهتمام الرواة والخباريين، نظرا
لنها أسفرت عن تدمير القدس كما أنها وضعت حدا للصراعات التي شهدتها المنطقة، والتي استمرت
منذ انتهاء السيطرة المصرية، فيما كانت الفترة الشورية حافلة بالضطرابات أيضا.
لكن هذا الهتمام الواسع يخضع في جانب كبير منه لمرويات التوراة المحرفة، ولدس السرائيليات،
وبذلك فإن الحملت البابلية، لم تعامل كما سواها، كالمصرية والشورية مثل، فيما بدا الصراع بين
العموريين والكنعانيين وحتى بين الفلسطينيين والكنعانيين في مرحلة معينة أشبه بما يسمى اليوم
"الصراعات الداخلية" .
سوف نستثني من هؤلء الخباريين والرواة ما قدمه اليعقوبي، الذي تشوب أخباره تخليطات كثيرة،
وتأثير "إسرائيلي واضح، حتى في معالجته لحداث معروفة وموثقة ولكن سنجد مع ذلك أن الخباريين
الخرين، لم يتخلصوا تماما من تأثير التوراة المحرفة.
في النس الجليل يتحدث مجير الدين الحنبلي عن حادثتي السبي البابلي ويقول عن الحادثة الثانية: لما
عصى صدقيا نبوخذ نصر، قصد بخت نصر بيت المقدس بالجيوش، وكان معه ستمائة راية، ودخل بيت
المقدس بجنوده ووطىء الشام. وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخربت بيت المقدس وأمر جنوده أن
يمل كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملوه.
وتصل مبالغات الخباريين والرواة حدا كبيرا عند وصف الجواهر والذهب الذي حمله نبوخذ نصر من
القدس إذ يصل الوصف حدودا أسطورية ل يمكن تخيلها، وكذلك المر فيما يتصل بكرسي سليمان.
يتحدث المؤيد، مثل، عن أن نبوخذ نصر، احتمل من القدس ثمانين عجلة ويقصد عربة من الذهب
والفضة.
ويروي برهان الدين الفراري، وصفا لما يسميه كرسي سليمان بأنه مصنوع من أنياب الفيله، ومفصصا
بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر.
وأكثر من ذلك فهو ينسب مقتل نبوخذ نصر إلى الحيلة السحرية الموجودة في الكرسي إذ لما حاول
نبوخذ نصر الجلوس عليه، وهو ل يعرف الكيفية الخاصة لهذا الجلوس، انطلقت أداة من داخل الكرسي،
وضربته ضربة شديدة مات في إثرها.
وفي هذا ما يتنافى تماما مع سجل الخبار البابلي الذي دون كثيرا من وقائع تلك الفترة ويجدر أن يكون
مصدرا لدراستها.
مهما يكن من أمر، فإن كثيرا من المؤرخين يعيدون إلى السبي البابلي، انتشار اليهودية في أنحاء
متفرقة من العالم القديم، على أن هناك من يقدم روايات مخالفة لكل هذه الوقائع مقترحا إمكانية حدوثها
جغرافية مختلفة.
الحملت الرومانية وحكم هيرودس الدومي
بدأت رومة التدخل في شؤون فلسطين ارتباطا بضعف الدولة السلوقية، ولكن الحملت العسكرية
الرومانية بدأت سنة خمس وستين قبل الميلد، بالحملة الولى على سورية والتي قادها بومبي، وهو
نفسه الذي احتل بيت المقدس سنة ثلث وستين للميلد وخرب معظم أنحائها.
وقد سبق هذا الحتلل، صلت ومكائد دبرها المكابيون، واشترك فيها الدميون العرب، الذين فرضت
عليهم اليهودية بالسيف في وقت ما ولكنهم ظلوا عنصرا غريبا، بالنسبة لمن فرضوا عليهم هذا الدين
بالقوة.
بدأت القصة عندما مد المكابيون صلت مع رومة الصاعدة، أثناء خلفهم مع السلوقبين والحرب التي
جرت الدمار على فلسطين، وعندما شرع الرومان في حملتهم العسكرية اتصل بهم حلفاؤهم، فالتقى
سكاورس، وكيل بومبي في سورية، الخوين المتنافسين على زعامة الجماعة الدينية في بيت المقدس،
وهما هركانوس وأرستوبولس، في محاولة للتوفيق بينهما.
وكان ارستوبولس طرد هركانوس من القدس، فتلقى هذا المير دعما من ملك النباط، وأيضا من
أنتيباتر الدومي، وبذلك تغلب على أرستوبولس.
حاول الثنان شراء الدعم من القائد الروماني بالمال وانتهى المر بأن سكاوروس أرستوبولس في
منصب الكاهن العظم، عند ما جاء بومبي إلى سورية، استقبل مندوبا عن ارستوبولس، يحمل وعدا
بمبلغ كبير من المال، وأخر هو انتيباتر الدومي وكيل عن هركانوس تم حضر الثنان بالذات إلى
بومبي، حضر وفد ثالث بمثل فتات من الجماعة الدينية في بيت المقدس، مطالبا بإزاحة كليهما.
طلب بومبي تأجيل المر سنة، فرفض أرستوبولس وحاول النتقام والقدس، ولما أورى أنه خاسر ل
محاولة سلم نفسه للقائد الروماني بومبي الذي اعتبره أسيرا لديه، وسار إلى بيت المقدس، فدخلها بعد
قتال شديد، وتذكر المصادر التاريخية أنه قتل الكثير من سكانها، ثم ثبت هركانوس في منصب كاهن
أعظم، ووضع بومبي المدينة تحت سلطته المباشرة.
استطاع أحد أبناء ارتوبولس الفرار من السر وأخذ يعد عدة للثورة، ولعبت الخلفات في البلط
الروماني دورا في عودة الفوضى والضطراب إلى فلسطين فيما اشتدت خلفات هركانوس مع أقربائه،
فقد أطلق سراح ارستوبولس من السر، ولكنه سحل في الطريق، وكذلك قتل ابنه.
وقف انتيباتر الدومي وهركانوس إلى جانب بومبي في الصراعات التي اندلعت في رومة، كما ناصرا
خلفه يوليوس قيصر، الذي قدم له انتيباتر الدومي خدمات كبيرة عسكرية وتميونية، انعكست علقة
انتيبابر القوية مع القيصر على حلفية هركانوس، فجرت تثبيته ككاهن أعظم في القدس، مع صلحيات
أوسع كما منح أنتبياير، حق الرعوية الرومانية، فعين أول حاكم لبيت المقدس، ووسعت سلطته ليضم
إليه يافا وعدد من قرى مرج ابن عامر.
قدم انتبياير الدومي ابنيه فصايل وهيرودس إلى المسرح، فأعطى إدارة بيت المقدس وبيريا لفصايل،
وعهد إلى هيروس بإداترة الجليل، وسمى كل منهما ستراتفوس.
أثار هذا حنق الكهنة والجماعة الرستقراطية في بيت المقدس، وأرادوا الكيد لهيردوس الدومي العربي
بتقديمه إلى محاكمة أمام المجلس "السنهدريم" فما كان من هيروس إل أن قاد فرقة عسكرية وأراد
اقتحام المدينة ففتحه أبوه من ذلك مقابل صمت المجلس.
كان انتيبابر الدومي يسير مع اتجاه الريح في روما، فبعد اغتيال يوليوس قيصر، وقف إلى جانب
كاسيوس، فازدادت نقمة الجماعة الدينية في بتت القدس عليه، ثم مات مسموما، إل أن ابنيه كان قد
ثبتا مكانهما.
نجا هيرودس من مكيدة رومانية، تسببت في موت أخيه انتحارا، ثم اختار السير على خطى أبيه، بتأييد
القوى في روما، فأخذ باحتلل المدن الفلسطينية مؤيدا من انطونيوس واكتافيوس، وأتم احتلل بيت
المقدس سنة ست وثلثين قبل الميلد، وأصبح ملكا على فلسطين.
تعلم هيرودس كيف يسير مع اتجاه الريح الرومانية وفرض الستقرار في فلسطين، بعد أن قضى على
العصابات اليهودية في الجليل، وشرع في عمليات بناء واسعة وأدخل العناصر الحديثة إلى المدن التي
بناها وهي: جمنازيوم ومسرح وميدان سباق على ما كان سائدا من أدوات الثقافة آنذاك، وكان في
بلطه فئة من أهل المعرفة يقصدهم نقول الدمشقي المؤرخ والديب الذي كتب شبه يوميات عن
هيروس، وأرخ للفترة، وكان يحيط نفسه لمجلس استشاري يدعوه للمشاورة.
من الدرجة الولى، فبنى في فلسطين أول ميناء بحري كبير هو s يوصف هيرودوس بأنه كان بناء
أخرى وأشاد قلعة في أريحا، وبنى مدينة سبسطية. وجدد بناء بيت المقدس. كلفته هذه t قيصرية ومدنا
كثيرة، ففرض ضرائب كثيرة، ولم يكن يسمح بأي تساهل، حتى أنه قتل ابنين من أبنائه، t العمال أموال
وإحدى زوجاته.
كان هيرودوس أدومي الصل، والدوميون عرب، وقد فرضت عليهم اليهودية بحد السيف، لكن ذلك لم
يغير من عنصرهم العربي، واليهود في منطقة القدس كانوا يعتبرونه غريبا ..وقبل به الجميع مرغمين
خلل فترة حكمه التي دامت من سنة سبع وثلثين قبل الميلد إلى السنة الرابعة قبل الميلد.
قسم الحكم بين أبناء ثلثة له قبل موته لكن هؤلء كانوا ضعفا، وبالتدريج عادت فلسطين ولية
رومانية.
سنة ست وستين للميلد نشبت في فلسطين حركة عصابة عنيفة ضد الحكم الروماني بسبب الضرائب
المرتفعة والهمال وكانت بذور التمرد بدأت سنة أربع وخمسين في عهد نيرون، الذي عهد إلى القائد
الروماني فسبسيان للقضاء عليها، لكن هذا اختير إمبراطورا فأسند المر إلى تيطس، الذي دمر بيت
المقدس سنة سبعين للميلد، وخربها وخرب المعبد فيها.
تحولت بيت المقدس بعد هذه الحرب إلى معسكر للفرقة العاشرة الرومانية التي وضعت هناك وفشلت
محاولة إقامة مدينة هيللينة محل بيت المقدس القديمة، وأدت المحاولة إلى عصيان استمر ما بين عامي
مائة واثنين وثلثين إلى مائة وخمسة وثلثين للميلد .قضى عليه الرومان بقسوة، ومعه كسروا شوكة
الجماعة الدعية اليهودية.
بعد انتهاء هذا العصيان تم الشروع في بناء المدينة التي ستعرف مذاك باسم إيلياء كابيتولينا.
كان هدريان بناء قناعا، وأراد أن يقيم مدينة جديدة مكان القدس القديمة التي لم تعد في حينه عن
كونها معسكرا ومخزنا للجنود.اختط هدريان للمدينة الجديدة سنة مئة وثلثين للميلد، وتشمل هيكل
رومانيا وجميع المؤسسات الرومانية العمرانية والثقافية، وقد أتم بناءها بعد الحداث التي ذكرت، ومنع
اليهود من دخولها نهائيا.
مع إتمام بناء إيلياء، انتهى عهد "السلم الروماني" ودخلت المبراطورية في الغوص والصراع
والحروب الطاحنة، ونالت فلسطين حظها من هذه الحروب، وإذا كان صحيحا أن إيلياء التي أصبحت
بيزنطية منذ القرن الرابع الميلدي، سوف تعيش قرنين آخرين قبل أن تدمر من جديد، في الحروب
الساسانية –الرومانية، إل أن السنوات التي سبقت الدمار، كانت حافلة بأحداث كثيرة.
فقد شهدت بيت المقدس ظهور المسيح عليه السلم، وانتشار دعوته واضطهاده أيضا وفي إيلياء شهد
الدين الجديد قفزات كبيرة.
الحملت الفارسية
من الروايات المتداولة على نطاق واسع أن الملك كورش، ملك الفرس، هو الذي أعاد اليهود إلى
القدس، بعد انتصاره على البابليين، وعليه تصور الحملت الفارسية على فلسطين بأن سببها الوحيد هو
إعادة اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل.
والحقيقة أن سياسة المبراطورية الفارسية في المنطقة كانت مرتبطة أساسا بمنع المصريين من القفز
عبر كنعان وبلد الشام لتهديدهم، بل أرادوا أن تكون المنطقتان معبرهم، هم إلى مصر.
سنة خمسمائة وتسع وثلثين قبل الميلد تمكن كورش من إخضاع بابل، منهيا المبراطورية البابلية،
وقد عرف عن كورش أنه احترم التقاليد والعادات الدينية، لما أصبحت تعرف بمقاطعات المبراطورية
الفارسية، وينقل المؤرخون، أنه وعد المسبين في بابل بإعادتهم إلى فلسطين.
ورغم وجود أشكال من التدوين في تلك المرحلة التاريخية إل أن معظم المؤرخين يتفقون على أن فترة
الحملة الفارسية الولى على فلسطين مشوشة إلى حد كبير، وتختلط فيها المعطيات المدونة القليلة مع
نصوص التوراة المحرفة.
يقال إن قائد الجيش الفارسي "غوبر ياس" اتجه نحو بيت المقدس، واحتلها سنة خمسمئة وثمانية
وثلثين، وأنه أخذ معه من أراد الرجوع من المسببين اليهود إلى فلسطين، وسمح لهم ببناء المعبد في
القدس، مدفوعا برغبة إيجاد جماعة موالية للمبراطورية الفارسية إلى جانب الجماعات الموالية
للنفوذ المصري، وبسبب هذا فإن اليهود نعتوا كورش بالمخلص اللهي أو المسيح المنتظر.
تذكر الروايات اليهودية أن عدد من عادوا من اليهود مع غوبر ياس، بلغ أكثر من اثنين وأربعين ألفا،
وهو رقم مبالغ فيه، حيث أن كثيرين من اليهود قد رفضوا الذهاب إلى فلسطين وشكلوا تجمعا خاص
بهم، مكنهم من تأدية دور بارز في التجارة وجمع الموال ومن الوقائع الثابتة أن السامريين لم يرحبوا
بالقادمين مع القائد الفارسي.
تتحدث المرويات اليهودية أيضا عن أن زعيم اليهود الذين جاؤوا مع غوبر ياس، كان اسمه زرو بابل،
وأنه من سللة الملك يهو ياقيم، وأعاد معه الكنوز التي كان قد أخذها نبوخذ نصر معه من القدس،
ولكن هذا المر ل يتناسب مع تتمة الرواية اليهودية نفسها بأن زرو بابل لم يتمكن من بناء المعبد
،لسوء الوضع القتصادي ولكثرة المشاحنات بين اليهود، مشيرة إلى أن بناء المعبد تم في وقت لحق.
وأن نحييميا قام ببناء أسوار القدس، بعد أن أتم زرو بابل بناء المعبد. وهذا أمر ل يوجد أي دليل عليه،
فالحفريات التي تمت في القدس، تناقض حدوث مثل هذه الواقعة تماما، كما أنه باستثناء المرويات
اليهودية، ل يوجد أبدا ما يؤكد تلك الوقائع المدعاة.
والفارق بين مجيء زرو بابل، ومجيء نحميا إلى المدينة، فارق زمني طويل، فالخير، كان يعمل حامل
للكؤوس في بلط المبراطور الفارسي "ارتحشتشتا الول" الذي حكم في الفترة ما بين أربعمئة وخمس
وستين، وأربعمائة وأربع وعشرين قبل الميلد، وهو هذا حذو كورش، بالسماح لمن يريد من اليهود
العودة إلى فلسطين.
ومرة أخرى يتضح أن السياسة الفارسية كانت تريد موالين لها في مواجهة المصريين.
وحسب المرويات اليهودية، فإن عزرا الكاهن قد سبق نحميا إلى القدس، وغالبا ما يشار إلى هذا
الكاهن، بأنه أجبر اليهوديات المتزوجات من غير اليهود على الطلق، وأعلن أبناءهن غير شرعيين.
أقام اليهود سلطة دينية، تحت سيطرة السلطة الفارسية، وكانوا يستخدمون العبرية في معاملتهم، بينما
كانت العبرية لغة دينية.
وقد انتهت الحملة الفارسية الولى بوصول قوات السكندر المقدوني إلى فلسطين، وهي أساسا كانت
حملة للمراقبة، ومنع حكام دويلت المنطقة من التحالف مع المصريين، وهذا ما يفسر ندرة الثار
الفارسية في فلسطين في تلك العقبة.
عاد الفرس إلى فلسطين مجددا، ولكن سنة ستمئة وأربع عشر للميلد، وكانت آنذاك تحت حكم
الرومان، وتقدم المصادر التاريخية وصفا مفضل لتلك الحملة. وفيما يخص القدس، تذكر الموسوعة
الفلسطينية أن الذي احتل القدس من الرومان هو القائد شهرباراز، في عهد كسرى الفرس الثاني.
وذكر مؤرخون عرب أن كسرى ملك الفرس أرسل قائده باراز ،على رأس جيش كبير إلى القدس
فافتتحها في العشرين من أيار، سنة ستمئة وأربع عشرة للميلد، وذلك بعد حصار دام عشرين يوما،
استعمل الجيش الفارسي أثناءه جميع الوسائط اللزمة للستيلء على المدينة، فأقاموا البراج حولها،
ووضعوا المنجنيقات عليها.
وفي اليوم العشرين، قاموا بهجوم قوي، ما أدى بالجنود الرومان إلى الهرب، فيما استتر بعضهم في
البار والخنادق، وتذكر المصادر التاريخية، أن هذه الحملة اتسمت بالقسوة الشديدة، وشهدت تقتيل
كثيرا في القدس، وأن اليهود الذين انضموا إلى جيش باراز شاركوا في عمليات القتل.
كانت الحملة على القدس هذه في إطار حرب أوسع، هي تلك التي كانت تدور بين الرومان والدولة
الساسانية الفارسية، ولم يستمر مكوث الفرس طويل في القدس، ففي عام ستمائة وثمانية وعشرين
تمكن المبراطور الروماني هرقل من فرض صلح قاس على الساسانيين بعد أن حاصر عاصمتهم
المدائن، واحتفل بنصره في القدس.
وهكذا فإن الحملة الثانية على القدس، كانت في إطار العمليات الحربية ،ولم تكن القدس فيها إل أحد
الهداف، ولكن المتميزة جدا أيضا، ولذلك فإن باراز عمد إلى نقل "صليب الصلبوت" إلى المدائن، كما
ترك لجنده أن يخربوا المدينة.
وتجدر الشارة إلى أن الحملت الفارسية على فلسطين عموما ،كانت تندرج في إطار حروب أوسع
مدى، وأكثر امتدادا، ولم تكن فلسطين أو بيت المقدس هدفا مباشرا، إل حسب ما أوضحناه في الحملة
الثانية.
وربما في هذا ما يفسر أنهم لم يقوموا بترك آثار ذات قيمة في المنطقة. أما المصادر الفارسية، فتذكر
أن الملك داريوس الول الذي حكم في الفترة ما بين خمسمائة وواحد وعشرين، وأربعمائة وستة
وثمانين قبل الميلد قد بنى اسطول بحريا كبيرا بمساعدة الفينيقيين، وبنى طرقا برية بمساعدة سكان
فلسطين لتمكين القوات الفارسية من الوصول إلى مصر وضمها إلى المبراطورية.
وتتحدث المكتشفات الثرية عن العمران المرتبط بالوجود الفارسي في تلك الفترة في مناطق فلسطين،
ومنها القدس، كان قليل، وربما أميل إلى أن يكون ذا طبيعية حربية.
العصر الموي
أصبحت بيت المقدس في العصر الموي، جزءا من ولية الشام التي كانت تمتد من البحر المتوسط في
الغرب إلى البادية والفرات في الشرق، وآخر حدودها ما يلي مصر، رفح، وما يلي الروم الثغور. وتبعت
جند فلسطين، الذي انتقل مركزه من اللد إلى الرملة، التي بنيت حديثا.
وفي هذا العصر ظلت بيت المقدس وجهة للفقهاء والمتعبدين، وأصبحت مركزا للنشاط الفكري في ظل
الحرية الدينية، التي أتاحها الحكم السلمي. ومع أن الطابع العسكري قد طغى زمنا طويل على جند
فلسطين وولية الشام عموما بسبب قر بها من الثغور، فقد هيمن الهدوء والطمئنان اللذين انطلقت في
ظلهما الحركة العمرانية الواسعة في جند فلسطين عموما، وبيت المقدس على وجه الخصوص، حيث تم
بناء قبة الصخرة والمسجد القصى المبارك، فضل عن إعادة تخطيط المدينة وعمرانها.
هناك مبادئ أساسية التزم بها مخططو المدن السلمية، وظهرت في مدينة القدس، في طليعتها العلقة
الوثيقة بين متطلبات الدين ومتطلبات العمران، مع مراعاة المبادئ الفنية الجتماعية والبيئية عند
التخطيط.
من أهم المبادئ التي روعيت أن المسجد يجب أن يكون في القلب من الوحدة التخطيطية، ويتفرع منه
نسيج المدينة المعماري، ولهذا كان المسجد القصى هو البؤرة الساسية في تخطيط هذه المدينة يضاف
إلى ذلك التجانس مع البيئة ضمن روحية واحدة.
وقد حرص المخطط على عدم إغفال عادات السكان العرب وتقاليدهم وثقافتهم، وانعكس هذا في إقامة
الحياء السكنية، وما يتصل بها من خدمات رئيسية كالمساجد والسواق والمدارس والملعب والخدمات
الصحية التي كانت كلها مرتبطة مع الحياء السكنية، كما حافظ على تراثها الثقافي والبيئي والمعماري
لضمان عدم إدخال عناصر غريبة عليه، و/أو إزالة أي جزء منه مع الهتمام بالترميم المستمر.
إذن، فقد كان المسجد البؤرة الرئيسية للمدينة، وهو يشكل مع قبة الصخرة إنجازا معماريا فريدا من
نوعه، وتعد قبة الصخرة التي لم يقلد المسلمون بناءها في المساجد من أولى القباب التي بنيت
بالسلم، كما تعد من العناصر المعمارية النادرة من حيث المادة والتصميم، وهي تشكل مع المسجد
القصى نمطا جديدا في العمارة العربية السلمية، استمد أصوله من العقيدة السلمية، وبعض الطرز
المعمارية العربية السابقة للسلم، فضل عن بعض المؤثرات المحلية.
ورا مطورا ومبتكرا لما يؤدي الوظيفة الدينية، ول يتعارض مع ] لكن البناء لم يكن مقتبسا، وإنما مح
تعاليم السلم من جهة، ولما توصل إليه الفن المعماري السلمي من جهة أخرى، فكانت المحصلة
بروز طراز معماري جديد هو الطراز العربي السلمي.
لم تقتصر عمارة العصر الموي في بيت المقدس على بناء المسجد القصى وقبة الصخرة، فقد تم بناء
قبة السلسلة الواقعة شرقي قبة الصخرة، وهي ملصقة لها، وتصغرها حجما.
ومما بناه المويون في بيت المقدس دار المارة، في الزاوية الجنوبية الغربية من الحرم الشريف، وهي
ثلثة قصور تتطابق من حيث الهندسة المعمارية مع القصور الموية التي اكتشف في أنحاء متفرقة من
الردن وفلسطين.
وكانت دار المارة مقرا للوالي وللموظفين، كما تم أيضا بناء الباب الذهبي، وأبنية إدارية أخرى، وفي
عهد سليمان بن عبد الملك شيد حمام في الجهة الغربية من الحرم، كان خاصا بخدام المسجد القصى
ومسجد قبة الصخرة.
وتذكر العديد من المصادر التاريخية أنه في الفترة التي بنى فيها مسجدا قبة الصخرة والقصى، بني
أيضا مهد عيسى عليه السلم ومسجده، وقد وصفه بعض الرحالة والجغرافيين، وصفا يقرب مما هو
عليه الن.
يقع هذا الثر في الزاوية الجنوبية الشرقية لسور المدينة، وينزل إليه بخمس وثلثين درجة، وفيه قبة
صغيرة تقوم على أربعة أعمدة، وتحتها حوض حجري يقال إنه مهد عيسى عليه السلم، وأمام المهد
محراب حجري بسيط التجويف، يقال أنه المكان الذي كانت تتعبد فيه السيدة مريم، وفي ركنه موضع
يقال أنه موضع سيدنا جبريل، ويوجد باب حديدي في الجدار الجنوبي.
يتكون هذا الثر من ساحة مربعة الشكل، وأرضيته مفروشة بالبلط الحجري، وجدرانه مبنية حجارة
كبيرة جدا، ويشكل جداره الشرقي الزاوية الشرقية لسور القدس وسور الحرم الشريف. وعامة تؤشر
النشاطات الفكرية والمعمارية في بيت المقدس، إلى أن المدينة قد ازدهرت في ذلك العصر ازدهارا كبيرا
بحيث كانت المنارة الحضارية الساسية فيه.
العصر العباسي الول
في أواخر العهد الموي تعرضت بيت المقدس لزلزال قوي هدم المسجد القصى، وذلك سنة مائة
وثلثين للهجرة، في حين بقي مسجد قبة الصخرة على حاله.
وبعد أن قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بزيارة بيت المقدس، وهو عائد من أداء فريضة الحج
سنة مائة وأربعين للهجرة، أمر بإعادة بناء المسجد، الذي تم سنة مئة وأربع وخمسين للهجرة، وجاء
المنصور في السنة التالية لزيارته.
ولكن زلزال آخر هدم المسجد بعد أربع سنوات فأعاد الخليفة المهدي بناءه بعد زيارة القدس سنة مائة
وستين للهجرة.
تمت إعادة البناء في ثلث سنوات، عاد بعدها المهدي إلى زيارة بيت المقدس والمسجد القصى الذي
استحدث فيه توسيعا في البلطة الوسطى، بعد الستغناء عن صف من الدعامات، كان يتوسط بيت
الصلة، وغطاها بسقف جملوني ضخم، يعلوه منور لدخال الضوء، وبنى قبة خشبية مزدوجة مغلفة
بصفائح الرصاص من الخارج ومزينة بالجبس من الداخل.
جاءت التعديلت التي استحدثها الخليفة المهدي في بناء المسجد القصى متأثرة بالمزايا المعمارية لقبة
الصخرة، أدت زلزلة ثالثة إلى تهدم المسجد القصى جزئيا فأمر الخليفة المأمون بإعادة بنائه، موزعا
تكاليف البناء على أمراء الطراف وسائر القادة، تولى البناء قائد جند المأمون عبد ال بن طاهر،
وشرع في البناء بعد عام مائين وعشر للهجرة، وعام مائتين وخمسة عشر للهجرة جاء المأمون لزيارة
بيت المقدس، وأمر بترميم قبة الصخرة فجرى إدخال تزيينات بالخط العربي على زخرفة القبة، نفذت
بواسطة الفصوص المذهبة على أرضية زرقاء من زخارف الفسيفساء ،تتضمن آيات قرآنية، وإشارة
إلى اسم الخليفة الذي أمر بالترميمات على أنه الباني.
تعكس أعمال الترميم والبناء هذه اهتمام الخلفاء العباسيين ببيت المقدس، فهم وإن صرفوا جهدا كبيرا
في تقوية المدن الساحلية والحصون وإقامة الرباطات لمراقبة الساطيل المعادية، فقد قاموا أيضا بالبناء
في بيت المقدس، وفضل عما تقدم ذكره، فقد قاموا ببناء عدد من البوائك منها البائكة الجنوبية،
والبائكة الشرقية، والبائكة الغربية.
تتألف هذه البوائك من دعامات حجرية بينها أعمدة رخامية تعلوها أقواس حجرية مدببة الشكل.
دام العصر العباسي أكثر من خمسة قرون شهدت الكثير من التقلبات في قوة مركز الخلفة ببغداد.
وعادة ما يميز الباحثون بين عصرين عباسيين الول والثاني، وكان طبيعيا أن تتأثر فلسطين، وبيت
المقدس بهذه التقلبات، قضى التنظيم الداري الجديد بتغير الجناد إلى وليات، وصارت الرملة مركز
ولية فلسطين، وبيت المقدس كورة من اثنتي عشرة كورة تضمها الولية.
وقد حرص الخلفاء العباسيون على تولية أمير عباسي، أو مقرب مخلص ولية فلسطين، التي كثيرا ما
جمع حكمها إلى دمشق أو مصر، ومن ولتها: عبد ال بن علي، وأخيه صالح بن علي، ثم عبد الوهاب
بن إبراهيم المام، والعباس بن محمد بن علي زمن المنصور. وإبراهيم بن صالح بن علي، ومحمد بن
إبراهيم المام زمن المهدي، ثم موسى بن عيسى العباسي وصالح بن سليمان العباسي، وإبراهيم بن
المهدي زمن الرشيد، وعبد الملك بن صالح العباسي زمن المين، والمعتصم زمن المأمون.
سنة مائتين وأربع وستين، سيطر على فلسطين الطولونيون، فأصبحت داخلة في حكم السرة الطولونية
المتمركزة في مصر.
وقد أبدى الطولونيون اهتماما كبيرا ببيت المقدس، وكانت أكثر إقامة زعيمهم خمارويه في فلسطين.
بعد الصلح بين مركز الخلفة وآل طولون تم تثبيت هؤلء في فلسطين حتى عام مائتين واثنين وتسعين،
عندما عمد مركز الخلفة إلى استرداد فلسطين ومصر من بين أيديهم، وعادت فلسطين لتنبع مركز
الخلفة مباشرة، ويتم تعين الولة من قبلها.
وقد استمر هذا الوضع حتى سنة ثلثمائة وثلث وعشرين للهجرة، وهي السنة التي شهدت تأسيس
السرة الخشيدية التي حكمت مصر وجنوب الشام كله.
استمر حكم الخشيديين خمسا وثلثين سنة شاع الستقرار في بداياتها، ثم عم الضطراب حتى انه
جرى تشكيل وحدات للدفاع الذاتي في المدن ومنها القدس، وقد عرفت هذه الوحدات باسم "الحداث"
وكان لها رؤساؤها وتنظيماتها وضرائبها وتدخلها السياسي.
طوال هذه الفترات من التقلب، ظلت مكانة القدس حاضرة، وحرص كل أصحاب العهود على العناية
والهتمام بها، وفيها بنى الخشيديون تربة لمرائهم، ودفن فيها "أبو بكر بن طغج الخشيدي سنة
ثلثمئة وأربع وثلثين، وأبو القاسم أنوجور بن محمد سنة ثلثمئة وتسع وأربعين، وأبو الحسن على
بن حمد سنة ثلثمئة وخمس وخمسين.
ويكتب من وصفوا بيت المقدس في تلك الفترة العباسية الولى أنه كان عليها حصن له ثمانية أبواب
من الحديد، بنيانها حجر، ول أتقن من بنائها ول أنظف من أسواقها، ول أكثر من مساجدها، ومع نهاية
حكم الخشيد انتهت الفترة العباسية الولى في حكم بيت المقدس وفلسطين اللتين انتقلتا إلى حوزة
الفاطميين.
العهد العثماني
فتحت معركة مرج دابق سنة ألف وتسعمائة وست عشرة الطريق أمام العثمانيين للسيطرة على بلد
الشام ومصر بعد هزيمة المماليك.
وفي كانون الثاني من السنة المذكورة وصل السلطان العثماني سليم الول إلى أسوار القدس، دون أية
مقاومة، وخرج العلماء لمقابلته وأهدوه مفاتيح المدينة، فيما صلى ركعتين أمام أسوارها، وظلت المدينة
قائمة بعمائرها ولم تشهد أي قتال.
كانت تلك بداية العهد العثماني الذي سيستمر أربعة قرون راوحت فيها الدولة بين القوة والضعف
وشهدت ازدياد النفوذ الوربي في المنطقة العربية التي شكلت جزءا من المبراطورية العثمانية تبعت
فلسطين إداريا ولية "شام شريف" وضمت خمسة صناجق من بينها صنجق القدس الذي أوله
العثمانيون اهتماما خاصا، وبالذات في عهد السلطان سليمان القانوني الذي تولى الحكم سنة ألف
وخمسمائة وعشرين للميلد.
قام القانوني بعمارة أسوار القدس التي استغرق العمل فيها خمسة أعوام كاملة، وجدد أبوابها كما أنشأ
تكية خاصكي سلطان، ومساجد وأسبلة، وإليه ينسب تجديد كوة قبة الصخرة بالقاشاني بدل الفسيفساء
المخربة.
وعموما فقد حظيت القدس في بدايات العهد العثماني باهتمام كبير، سواء لجهة الشادة والبناء أو لجهة
موقعها العلمي والثقافي، فمع المدارس التي أنشأها العثمانيون أو جددوها بلغ عدد المدارس في القدس
تسعا وستين مدرسة، فضل عن أربعين زاوية تشهد حلقات الدرس والعلم. واستمر المسجد القصى في
تأدية دور مدرسة علمية كبيرة ومتميزة، كما اهتم العثمانيون بإقامة التكايا والزوايا ومؤسسات
الصوفية.
انعكس التدهور الذي أصاب الدولة العثمانية بدءا من القرن الثامن عشر الميلدي الثاني عشر الهجري
على القدس، وأصاب على نحو خاص المؤسسات العلمية فيها مع تراجع واردات الوقاف المخصصة
لها وعجز الدولة عن تلبية نفقاتها.
ولكن الفترة نفسها شهدت نمو مدينة القدس وامتدادها خارج السوار، كما أقيمت في وقت لحق سكة
الحديد الواصلة بين القدس ويافا.
يتفق المؤرخون على أن العهد العثماني الذي بدا قويا،اتسم عموما بالضطراب، الذي كان على أشده
في فلسطين، إذ بعد أن انتهى الطور الول من هذا العهد، والذي شهد اهتماما نوعيا بالقدس، كانت
مقاومة الثورات التي شهدتها فلسطين ضد العثمانيين الشاغل الساسي لهم خصوصا مع ما رافقها من
تدخل الدول الوربية الكبرى في فلسطين وأراضي السلطنة عموما بدعوى حماية الطوائف المسيحية.
كما شهدت فلسطين حملة فرنسية بقيادة نابليون بونابرت، وحملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا،
التي خضعت القدس خللها للحكم المصري ما بين عامي ألف وثمانية وواحد وثلثين، وألف وثمانمائة
وأربعين للميلد.
لقد كانت القدس محور الكثير من التحركات الوروبية، التي بدأت منذ مطلع القرن الثامن عشر
الميلدي، تبحث في تقاسم التركة العثمانية وتحت جناح التدخل الوربي المتزايد، وباستغلل ضعف
السلطنة، بدأ الصهاينة بالتسلل إلى فلسطين وبيت المقدس.
يسجل كثير من المؤرخين، وبشيء من العجاب موقف السلطان عبد الحميد العثماني، الذي رفض وفي
أقصى حالت ضعف الدولة المغريات الصهيونية بالتخلي عن فلسطين، وبيت المقدس وبالذات، لكن
الحكم حقيقة لم يكن في يد السلطان، بل في يد حكومة التحاد والترقي وهو حزب وصفه سفير بريطانيا
في الستانة، في رسالة إلى حكومته بأنه: "اللجنة اليهودية للتحاد والتقدم".
وفي فترة سيطرة من عرفوا بالتحاديين كان التسلل الصهيوني إلى فلسطين قد قطع شوطا ليس بالقليل
منذ أن أعطى مرسوم عثماني موافقة لليهود على إنشاء حي في القدس.
شهد العام ألف وتسعمائة وسبعة عشر نهاية الحكم العثماني على فلسطين، واحتل البريطانيون بيت
المقدس، ولكن قبل هذا العام بسنوات كانت المؤامرة الدولية على فلسطين قد اكتملت وأعطت نهاية
الحكم العثماني إشارة بتسارع خطواتها على النحو المعروف.
العهد اليوبي
بتحرير بيت المقدس من أيدي الفرنجة، بدأت المرحلة الثانية من العهد اليوبي. عاد الزدهار إلى بيت
المقدس، وقصدها الزوار من مختلف البلد.
وغدا المسجد القصى مرة أخرى مقصد العلماء والفقهاء والمحدثين ورجال الدين من المعلمين
والمتعلمين. وتولى المسلمون حراسة الحجيج المسيحي إلى كنيسة القيامة.
بدأ العهد اليوبي قويا بوجود صلح الدين، وانتهى إلى الضعف والتمزق بعد وفاته، وصول إلى قيام
الكامل بإعادة بيت المقدس إلى الفرنجة سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين.
قام العهد اليوبي على نظام القطاع، الذي يرى في البلد إرثا يتم تقاسمه بين أفراد السرة ومن
يواليهم. فبعد فتح القدس، أعطاها صلح الدين إلى حسام الدين صاروجا. وحين أعطى مملكته لبنائه،
أقطع جنوب الشام للملك الفضل ومقره دمشق. فجعل هذا عز الدين جرويك النوري نائبه في القدس.
وهكذا كان حاكم القدس يسمى نائبا ويعينه الملك أو الحاكم اليوبي من مقربيه.
كان النائب يتولى الدارة كاملة. يجمع الضرائب وينفق ويقدم للدارة المركزية، وعليه أيضا أن يحشد
الجند، وتتمدد قوته وفقا لما يستطيع حشده منهم.
وكان لدى كل نائب ديوان للرسائل وديوان للجلوس أي الوقاف، ويشرف على أعماله ناظر من
اليوبيين يسمى "المشد".
وكان قاضي دمشق هو الذي يعين قاضي القدس، أو يقوم بهذا التعيين الخليفة في بغداد، وأول من
تولى قضاء القدس بعد تحريرها بهاء الدين بن شداد، قاضي صلح الدين.
على أن قاضي بيت المقدس، كان يسمى قاضي القضاة، مما يبرز أهمية المدينة التي يقضي فيها،
وتبعية قضاء فلسطين له.
مهما يكن من شأن ما انتهى إليه العهد اليوبي بالنسبة إلى بيت المقدس، فإن الهتمام بالمدينة كان
كبيرا جدا وبعد تحريرها مباشرة جرى العمل حثيثا على تجديد معالمها السلمية، وإضافة الكثير إليها
من المساجد والمدارس والبيمارستانات والخانقاه.
كانت البداية بتجديد سور المقدس وتقويته، ثم إقامة البيمارستان الصلحي وتزويده بالطباء والعقاقير،
ثم بناء خانقاه للمتصوفة لعبت دورا كبيرا في الحياة العسكرية في القدس لحقا.
وتم بناء الزاوية الختنية، وقبة يوسف في فناء الحرم القدسي، وتوسعة جامع الطور، وإعادة مدرسة
الشافعية التي حولها الفرنجة إلى كنيسة، ولعبت هذه المدرسة أيضا دورا لفتا في الحياة الدينية
والفكرية في القدس.
وهي التي أعطاها العثمانيون للفرنسيين فجعلوها مدرسة وكنيسة في القرن التاسع عشر، ثم استرجعها
العثمانيون وأعادوها مدرسة كما كانت، إلى أن استولى عليها النكليز ومنحوها للباء البيض.
وأقام الفضل ابن صلح الدين المدرسة الفضلية التي عرفت بالقبة في حارة المغاربة. وأعاد بناء
الجامع العمري جنوبي ساحة كنيسة القيامة.
هذا كله فضل عن عمارة المسجد القصى وترميمه وإحضار منبره من حلب وهو الذي أحرقه الصهاينة
سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين.
لقد تابع المراء اليوبيون تعمير القدس بالزوايا والربطة والمساجد، وكانوا يطلبون أن يدفنوا في بيت
المقدس تبركا بقدسية المكان. وفي هذا ما يفسر غنى مقبرة الساهرة بقبور كبار العهد اليوبي.
ومن البنية اليوبية الشهيرة المدرسة الميمونية، والزاوية الجراحية، وتجديد أبواب الحرم، والقبة
النحوية التي أنشأها الملك المعظم وخصصها للشتغال بعلوم اللغة العربية والنحو. والمدرسة البدرية،
والمدرسة المعظمية التي أنشئت سنة ستمائة وأربع عشرة، وصارت من كبريات المدارس في القدس،
وتولى مشيختها عدد من كبار العلماء. وتجديد القسام المبنية حول الصخرة.
انصب اهتمام اليوبيين بشكل أساسي على القدس والخليل. لقد صارت بيت المقدس مركزا للتصوف
والمتصوفة. وبعد تحريرها وفد إليها الكثيرون من جميع أقطار السلم للتعبد والزيارة، وانتشرت الكتب
التي تحكي عن فضائل بيت المقدس، حتى أصبحت تشغل حيزا هاما في المكتبة السلمية.
وحظي الحج المسيحي إلى بيت المقدس برعاية خاصة ويمكن القول إن القدس شهدت في العهد اليوبي
مرحلة زاهرة، لول قيام الكامل بتسليمها وتخريب حصونها قبل ذلك.
تنقل كتب التاريخ أن العزيز عثمان وعز الدين أيبك رفضا فكرة التدمير، واقترحا الصمود والقتال، ولكن
الشرف شقيق الكامل أصر على التدمير فهدم سور المدينة وأبراجها في آذار سنة ألف ومائتين وتسع
عشرة.
وكتب مؤرخو تلك الفترة عن هذه الواقعة قائلين: اضطرب الناس، وكانت القدس على أتم الحوال من
العمارة وكثرة السكان .. فوقع في البلد ضجة مثل يوم القيامة وخرج النساء والمخدرات والبنات
والشيوخ والعجائز والشبان والصبيان إلى الصخرة والقصى وقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم.
كان من شروط التسليم أل يبني الفرنجة حصونا أو أسوارا حول القدس، ولكنهم خرقوا الشرط . فشن
الملك الناصر سنة ألف ومائتين وأربعين هجوما على المدينة، وخرب التحصينات فعادت المدينة خرابا.
وبدا تخريب المدينة، وكأنه تخريب لكل منجزات اليوبيين فيها.
الفاطميون والسلجقة
حاول الروم استغلل ضعف الدولة العباسية، باحتلل الشام ومصر، هذه المحاولة الرومانية كانت الدافع
الساس في تحرك المعز الفاطمي، بإنقاذ حملة بقيادة جوهر الصقلي من قاعدته في تونس سنة ثلثمائة
وثمان وخمسين، سيطرت خللها على مصر ثم على فلسطين. في العام التالي، تعمد القائد الفاطمي
الصقلي، الشارة إلى الخطر الروماني في منشوره الذي وزعه على أهالي مصر باسم المعز، فقال أن
هدف الحملة: الدفاع عن البلد ضد الروم الذين استطالوا، وأطمعتهم أنفسهم بالقتدار عليها واستنقاذها
من "المذلة والخزي" وإقامة الحج الذي تعطل وتأمين الطرق، وحسم الظلم.
استقرت سيطرة الفاطميين في مصر، ولكنها ظلت قلقة في الشام، التي حاول الرومان احتللها وهاجمها
القرامطة مرارا.
تصدى الفاطميون لثلث حملت رومانية على القل، فيما ظلت جيوشهم تتناوب السيطرة على أجزاء من
الشام مع القرامطة، لعدة عقود نجحوا بعدها في تحقيق استقرار نسبي، فأجبروا الروم على هدنة،
وصلت معها إلى الخليفة المستنصر في القاهرة هدية قيمتها ثلثون قنطارا من الذهب، سنة أربعمائة
وسبع وثلثين، وكان من بنود هذه الهدنة، أن يقوم الروم بتعمير كنيسة القيامة، ويطلقوا خمسة آلف
أسير مسلم لديهم، وإلى فترات الستقرار تعود النشطة العمرانية التي قام بها الفاطميون في القدس،
ومنها عمارة القصى الفاطمي، التي يتردد أنها جاءت بعد زلزال دمر المسجد فقام الخليفة الظاهر
بتعميره، فيما تتحدث مصادر أخرى عن أن الزلزال هدم بعض أجزائه فقام الظاهر بأعمال ترميم واسعة
شملت التعديلت التي أدخلت على بنيان المسجد وأوجدت ما اصطلح على تسميته بالقصى الفاطمي،
الذي يتكون من سبع بلطات بماثل عرضها عرض المسجد الحالي، وفي كل منها إحدى عشرة قنطرة،
كما كان الحال في القصى العباسي باستثناء قناطر البلطة الوسطى، لكونها تحمل القبة المجددة على
قناطر واسعة تعدل ثلث قناطر في الروقة الجانبية، وأضيف إليه أيضا صفان من القناطر، تتعامد مع
البلطات السبع وتوازي جدار القبلة، وذلك على امتداد القنطريتن الكبيرتين الحاملتين للقبة.
ويذكر الهروي الذي زار بيت المقدس سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة، نص كتابة تفيد قيام الظاهر
بتجديد القبة وتذهيبها سنة أربعمائة وست وعشرين للهجرة، أي بعد عامين من وقوع الزلزال.
ولم يقدم الرحالة الخرون وصفا دقيقا للمسجد وعدد بلطاته، لكن حديثهم عن أعمدته يفيد في أن
القصى ظل كبيرا، وبذا ل يمكن الحسم بشأن الزمن الذي تقلصت فيه مساحة المسجد في العهد الفاطمي
على نحو ما تقدم.
قام الفاطميون أيضا بتجديد قبة الصخرة، وجرى الكشف عن فسيفساء فريدة استخدموها في أعمال
الزخرفة والتزيين. كما جددوا عددا من البوائك التي كانت قد أقيمت في العهد العباسي ، وفي فترات
الستقرار شهدت القدس ازدهارا كبيرا.
سنة أربعمائة وخمس وستين، حاصرها اتسز بن أوق الخوارزمي، وهو زعيم جماعة من المرتزقة
كانت تتبع السلجقة، وتسمى "الناوكية".
تلك كانت سنة قحط وشدة، من سنوات متوالية على هذا النحو، فاستسلمت القدس ودخلها اتسز
وجماعته، ليقيم فيها إمارة تدعو للسلجقة مركزها القدس، وتمتد ما بين حمص إلى سيناء ووادي
الغور، ولكنها ل تملك الساحل من طرابلس إلى أقصى عسقلن لعجزها البحري، ثم سرعان ما توسع
بالسيطرة على دمشق، وطمع في احتلل مصر لكنه تلقى هزيمة ساحقة على يد الفاطميين عند بلبيس،
وانهزم راجعا إلى الشام، ليواجه ثورة في القدس، قمعها بقتل ثلثة آلف من سكانها ولم يسلم إل من
احتموا بالمسجدين: القصى وقبة الصخرة، ثم طاف ينفذ مذابح رهيبة في غزة، ويافا وصور، لم يكن
من شأنها إل أن تعجل في نهايته ففي تلك الفترة كان قد بدأ تحرك سلجوقي كبير باتجاه الشام بقيادة
"تتش" الذي تقدم في الراضي الفلسطينية بحذر شديد، إلى أن حاصر القدس سنة أربعمائة واثنين
وسبعين، وبها أصحاب اتسز.
استمر حصار المدينة ثلث سنوات، حتى دخلها أحد أعوان تتش ويدعى ارتق بك، الذي استمر يتردد
إليها حتى وفاته سنة أربعمائة وأربع وثمانين وحكمها ابناه: سقمان وايليفازي لمدة سبع سنوات
اتسمت بالشدة والظلم اللذين هددا التسامح القائم في المدينة.
تحرك الفضل بن بدر الجمالي الفاطمي وحاصر القدس سنة أربعمائة وإحدى وتسعين، ولم يشأ أخذها
عنوة حتى ل يضطر إلى تهديمها، ولكن من فيها رفض التسليم، حتى أحدث ثلمة في المور بواسطة
المجانيق، فوافق سقمان على تسليمها مقابل المان لينتهي حكم السلجقة فيها، ومعه فترة سيطرتهم
على أجزاء من جنوب الشام دامت ثلثين سنة.
في ذلك الوقت كان الفرنجة قد بدءوا تحركهم ويبدو أن الفضل قد تحرك باتجاه القدس بعد أن أيقن أنها
وجهة الفرنجة.
العهد المملوكي
مرت عاصفة المغول دون أن تصيب بيت المقدس بشيء. وبعد دحر المغول أنهى المماليك بقايا الوجود
الفرنجي في فلسطين ومناطق الشام الخرى.
حظيت بيت المقدس بعناية خاصة في العهد المملوكي، وبعد أن كانت تتبع نيابة دمشق، تحولت إلى
نيابة مستقلة تتبع لها وليات الخليل ونابلس والرملة.
شاركت نيابة القدس مع النيابات الخرى الشامية في حروب المماليك ودفع الخطار عن الشام. رغم أن
العهد المملوكي الذي بدأ قويا في فلسطين مع هزيمة التتار في معركة عين جالوت سنة ألف ومائتين
وستين للميلد، انشغل لثلثين سنة أخرى في حروب الفرنجة، ودرء الخطار المغولية المتجددة وشهد
كسابقه اليوبي خصومات ونزاعات على السلطة. إل أن بيت المقدس ظلت لها الحظوة وشهدت نهضة
كبيرة.
كان نظام النيابات الذي أقامه المماليك أشبه بالممالك المؤسسة على القطاع العسكري، وزاد في نيابة
القدس مكانتها الدينية، ولذلك كان نائب القدس غالبا ما يتولى أيضا نظارة الحرمين الشريفين في
القدس والخليل.
قبل أن تصبح نيابة القدس مستقلة، كان نواب القدس يقيمون في قلعة المدينة الواقعة قرب باب الخليل،
وعندما استقلت النيابة نزل النواب زاوية الدركاء ثم المدرسة الجادلية بعد بنائها، وقد تحولت إلى دار
للنيابة.
استقرت في القدس حامية قوية لحفظ أمنها وللمشاركة في حروب السلطة متى استدعى المر ذلك.
تتضح مكانة القدس خلل العهد المملوكي، ليس من حجم البناء الذي قام به أمراء المماليك وحسب،
ولكن من طبيعة الوظائف الهامة فيها، والتي مزجت بين أمور الدين والدنيا.
وأهم هذه الوظائف:- النظارة، كانت وظيفة ناظر الحرمين الشريفين من أقدم الوظائف في القدس
وأهمها، وهي وجدت زمن اليوبيين، لكن قواعدها ترسخت في عهد المماليك، كان على الناظر الشراف
على حرمي القدس والخليل والعناية بهما من جميع الجوانب ل سيما ما ارتبط بترميم البنية وإصلحها،
معتمدا على الوقاف الكثيرة ومواردها المخصصة لهذا الغرض.
وفي وقت ما، كان ناظر الحرمين في القدس يشرف على الحرمين في مكة والمدينة، وعندما لم تكن
النظارة تسند إلى نائب القدس، يتولها واحد من العلماء الجلء يعين بمرسوم من السلطان.
مشيخة الصلحية: وتأتي في المرتبة الثانية بعد النظارة، والمقصود مشيخة المدرسة الصلحية وكان
شيخ المدرسة يعين بمرسوم سلطاني، ويعتبر أحد أهم ثلث شخصيات في المدينة مع النائب والناظر،
وكان شيخ الصلحية يشغل أحيانا منصب قاضي القضاة أيضا.
القضاة: وكان يتم تعيينهم من قبل قاضي القضاة في دمشق، ثم بعد أن صارت القدس نيابة
مستقلة، كانوا يعينون بمرسوم سلطاني.
الخطابة في المسجد القصى، وقبة الصخرة والمسجد البراهيمي في الخليل: كان الخطباء يعينون
في نيابة القدس بمرسوم سلطاني، ويجمع بعضهم إلى الخطابة مشيخة المدرسة الصلحية، وأحيانا
منصب قاضي القضاة.
وظائف التدريس: تمتعت القدس في العصر المملوكي بنهضة ثقافية عظيمة، وكان من مزايا ذلك
العصر التوسع المستمر في بناء المنشآت من مساجد وتكايا ومدارس. وبلغ عدد المدارس في القدس
أربعين مدرسة، وتدفق العلماء من بغداد بعد أن دمرها المغول إلى القدس ليساهموا في نهضتها
العلمية.
وكانت المدارس المقدسية أشبه بجامعات لها نظمها وقوانينها الخاصة، ولم يحظ بوظيفة التدريس إل
عالم مقتدر، لذلك كانت مكانة المدرسين عالية. وتأتي بعد ذلك وظيفة المحتسب وناظر البيمارستان،
وهي أشبه بوزارتي المالية والصحة على التوالي.
شاع جو من التسامح داخل القدس، لكن السلطات المملوكية متأثرة بفصول الحملت الفرنجية تشددت
في مراقبة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة القدس. وفرضت عليهم ضرائب.
أما أهل بيت المقدس من المسيحيين، فكانوا يبنون كنائس جديدة، ويرممون ما يحتاج منها إلى ترميم
ويحظون بدعم نائب القدس ورعايته، وتشير كتب التاريخ إلى أن الكثر حظوة كانوا من القباط
واليعاقبة العرب...
أسهم الحج المسيحي، وتوجه العرب من المسلمين والمسيحيين إلى سكنى المدينة، في سرعة ازدهارها
وعرفت من بين النيابات الثرية في السلطة المملوكية على اختلف أطوارها، كما شهدت جور بعض
النواب في جباية الضرائب المرتفعة، في العهود المملوكية المتأخرة، ما أثار غضب المقادسة على
أولئك النواب وعلى السلطة التي حاولت جرهم إلى معارك لم يكونوا ليروا مصلحة لهم فيها، مع اقتراب
الخطر العثماني على الدولة المملوكية.
حملت الفرنجة
)1(
بيت المقدس كانت الهدف المعلن لحملت الفرنجة على الشرق. وهو هدف كان يخفي وراءه الكثير بقدر
ما كانت متهافتة تلك الذرائع والدعاوى التي ساقها من أطلقوا صرخة الحرب الدينية المقدسة.
بين تلك الذرائع: اضطهاد المسيحيين في الشرق وهو حجة ل سند لها في الواقع، فقد كان معظم
مسيحي الشرق من أبناء الكنائس الشرقية التي تعتبرها البابوية هرطقة كافرة، ول يأبه لها أحد في
الغرب.
وكان المسيحيون الشرقيون يتعايشون مع المسلمين عدة قرون بحرية كاملة، ويتولون المناصب في
الدولة السلمية، ولهم كنائسهم وأعيادهم. أما فترات الشدة عليهم، وهي محدودة ول تكاد تذكر، فإنما
كانت لسبب سياسي يتعلق ببيزنطة بالذات، ثم يزول السبب مع زوال المسبب.
ولم يبعث مسيحيو الشرق أي استغاثة إلى الغرب ليرد عليهم ويحارب من أجلهم، بل ثمة ما يؤكد
بالعكس رعايتهم وعدم المساس بهم، حتى في فترات تبادل السيطرة على القدس. بل وتذكر مصادر
تاريخية أن كلمة المسيحيين كانت العليا في القدس، قبل قرن من الحملت الفرنجية. أما ما كان من
شأن ابني ارتق السلجوقي، فكانت له دوافع أساسية أدت إلى إخراج البطريك سمعان من القدس.
الذريعة الخرى المعلنة لهذه الحرب، هي اضطهاد الحجاج الذاهبين إلى زيارة القبر المقدس من الغرب.
الواقع يكشف عكس ذلك. كان العدوان الغربي قائما بالفعل في أسبانيا وفي صقلية قبل ذلك بقرن كامل
ومعاركه سجال، فيما الروم يشنون الحملت على شمال الشام، وتجري تصفية ملوك الطوائف في
الندلس. أما الحج المسيحي إلى الماكن المقدسة، فلم يكن من المسيحية في شيء، ولكنه مجرد طقس
من طقوس التقى والتبرك ازداد ظهوره حوالي نهاية القرن الثامن حين جرت محاولة تنظيمه ومعونته
برعاية شارلمان.
ثم ازداد مع قوة الساطيل اليطالية خاصة، ومع إقامة جماعة دير كلوني مجموعة من المنازل في
الطريق إلى بيت المقدس ومن الديرة فيها وحولها.
كان الحجاج من الفرنسيين واللمان والسكندفايين والنورمانديين، وقد يكرر بعضهم الحج مرات والكثير
منهم يأتي عن طريق البر. وندر أن تعرض الحجاج لي مضايقة، إل بمثل ما يتعرض له أي عابر من
المضايقات سواء أكان تاجرا أم عابرا، مسلما أم غير مسلم.
وباستثناء فترة قصيرة جدا، فإن الخبار متواترة عن الحركة السلمية الهادئة للحجاج التي وصلت حد
التجمع في قوافل كبيرة، فقافلة الساقفة اللمان سنة ألف وأربع وستين بلغت عشرة آلف من الرجال
والنساء والطفال. وكان لكبار السادة حاشية مسلحة ل يعارضها أحد. وكانت العراقيل والصعاب تقوم
في بيزنطة ضدهم أكثر بكثير مما تقوم في الشام ومنها فلسطين.
ربما زادت متاعب الحجاج بعد التوسع السلجوقي في الناضول، لكن ليس إلى الحد الذي يوجب الحرب
وعلى الشكل الذي قامت به، ففي كل الحوال لم ينقطع ورود الحجاج إلى فلسطين.
وهكذا فقد كان الحديث عن تأمين الحجيج مثل الحديث عن حماية مسيحي الشرق مجرد ذرائع. وتكمن
الدوافع الحقيقية في مكان آخر.
تواصلت هذه الحملت زمنا طويل، وربما كان لكل منها سبب خاص بها. وأن كان البعض يذكر كثيرا
من السباب الجامعة.
يقال في تفسير الحملة الولى دينيا إنها ذروة حركة الحياء الدينية التي كان يقودها دير كلوني، وأنها
حج جماعي مسلح، وأنها كانت وسيلة خلص وغفران في أوروبا، وتعبير عن السياسة الخارجية
للبابوية، أو أنها قامت لحماية أوروبا من السلم، ورفع شأن البابوية وفرض سيطرتها على الملوك،
ولتوحيد الكنيسة كلها وراء البابا. وخلق كنيسة عالمية، أو أنها جواب لستنجاد بيزنطة ضد اليقظة
السلمية السلجوقية، فسنة ألف وإحدى وسبعين للميلد ومعركة ملذكرد، هي التي جاءت بسنة ألف
وتسع وتسعين وسقوط القدس.
وأن الكنيسة هي التي حولت الستنجاد إلى حرب مقدسة، وهدفت إلى فتح الطريق إلى القدس بالقوة.
وأنها تحقيق لطماع الكنيسة الغربية في الشرق.
ربما كانت الحروب هي كل ذلك، مضافا إليها السباب القتصادية. هذه الحملت والحروب كانت بداية
ونهاية فرنجية غربية ل علقة للصليب بها.
ولعل من الدلئل على ذلك أن خمسا من الحملت الثمان، لم تتجه إلى القبر المقدس، وإنما سلكت
وجهات أخرى، وحتى الحملة الولى عندما وصلت إلى مشارف القدس عند الرملة اختلف قادتها،
فبعضهم يريد المسير إلى مصر وآخرون إلى القدس، وكان التوجه إلى القدس تحت ضغط حماسة
الجموع التي ضمتها الحملة. والتي جمعت المحرضين أمثال "بطرس الناسك" والسقف أديمار ممثل
البابوية. والنبلء أمثال : ريموند ضجيل، وكونت فلندر، والقتله أمثال: والتر المفلس وغوتشيك.
والنبلء الفرسان الصغار أمثال غودفري دي بويون، وأخيه بلدوين إلى الحلقين والتجار والباعة، فضل
عن جموع شتى من السر والطفال، وكان بين المحاربين من ترك جبهات القتال ضد المسلمين في
أسبانيا وصقلية ليحارب في الشرق. ويغرق القدس بالدماء.
القبر المقدس هو الهدف المعلن، لكن المراء يريدون الحرب لكسب الرض والقطاعيات، والكنيسة
لسيطرة البابوية عالميا، وأساطيل المدن اليطالية تريدها للوصول إلى تجارات الشرق وموانئه،
والفقراء يريدونها للثروات التي يحلمون بها.
حملت الفرنجة
)2(
ضمت الحملة الفرنجية الولى حشدا من مائتي ألف شخص نصفهم من المحاربين، وهو ليس بالعدو
ليس بالعدو القليل. وفي هذه الحملة كانت أوروبا موحدة، بينما كان الشرق السلمي ممزقا، وهذا ما
يفسر التقدم السريع للحملة، في الجزء الكثر اضطرابا وتمزقا آنذاك أي الناضول والشام.
احتل الفرنجة نيقية في التاسع عشر من حزيران سنة ألف وسبع وتسعين، وهزمت سلجقة الروم في
معارك سريعة لتعسكر بعد أشهر قليلة أمام أنطاكية، فيما اتجه بلدوين إلى الرها ليحتلها وينشأ أول
أمارة صليبية في المشرق.
حاول السلجقة التصدي، لكن سقوط انطاكية أحبط محاولتهم، فيما اختلف الفرنجة أنفسهم بسب
استئثار بوهميند النورماندي بالمدينة، وبعد تسوية الخلفات التي دامت عدة أشهر، عاودوا التحرك
جنوبا ليقضوا في الطريق إلى بيت المقدس تسعة أشهر مروا بمعرة النعمان، فقاموا بمذبحة مزلزلة
حتى اختلط الزيت المخزون في البار فيها مع الدماء والجثث وانعطقوا في ممر حمص طرابلس نحو
الساحل، فحاصروا عرقة طويل دون طائل. فما بدا الفاطميون التنبه لحقيقة الغزو، فعرضوا تسهيلت
لحجيج مقابل إيقاف مشروع الغزو، فرفض الفرنجة، فيما كان الفضل يسارع بالسيطرة على القدس
وصور ويحاول تحصينها.
مضت الحملة في طريقها إلى بني عمار في طرابلس وحاولت إقامة أمارة هناك، إل أن ابن عمار
فاوضهم وهاودهم من أجل المشروع، فتابعت الحملة مسيرها إلى بيروت فصيدا ثم صور، حين أطلوا
على فلسطين، ولكنهم اتبعوا الخط الساحلي معتمدين على دعم السطول في البحر، فتابعوا السير أمام
عكا، وحيفا التي كانت قرية صغيرة، ثم قيسارية فأرسوف، وكانوا ينهبون كل ما في طريقهم ولم يخرج
أحد للتصدي لهم.
كان النطباع السائد أنها حملة من حملت الروم سرعان ما تنقشع، وانطلقت الصرخات لحماية بيت
المقدس من حملة الروم الذين لم يكونوا يخفون طمعهم به. ولن يجري التنبه لحقيقة ما يجري تماما إل
بعد سقوط بيت المقدس.
عند أرسوف توجه الجيش الفرنجي إلى الرملة الحاضرة الدارية لقليم فلسطين قبل الغزو السلجوقي.
وكانت الزلزل دمرتها سنة أربعمائة وستين للهجرة.
لم يجد الفرنحة بها أحدا. هرب سكانها لنهم دون أي دفاع ول تصلهم المعونة من البحر، وسر الفرنجة
حين أعلنوا الرملة أبرشية يتولها أسقف لضيوفه من النورماند وسموه: أسقف ال!.
مساء الثلثاء، السابع من حزيران سنة ألف وتسع وتسعين للميلد، عسكر الجيش الفرنجي بمجموعه
أمام بيت المقدس، في حين توجه تانكريد إلى بيت لحم وسيطر عليها.
كان افتخار الدولة هو والي الفضل على القدس وقد بذل كل جهد ممكن في الدفاع المدينة المحاصرة.
استمر الحصار أربعين يوما دون أن تصله أية نجدات، في حين رست في يافا ست سفن وانكليزية
زودت الفرنجة بالمؤن والسلح وحاجات الحصار فاستطاعوا دخول المدينة في الخامس عشر من تموز
سنة ألف وتسع وتسعين، واقترفوا فيها مذبحة، صارت حديث التاريخ، إذ قدر عداد ضحاياها بسبعين
ألفا.
خاض الفرنجة بالدماء حتى كعوبهم وحتى الركب في المسجد القصى، وخاضت بها الخيل، وظلت
الجثث أكواما في الطرقات حتى جافت المدينة.
ويذكر المؤرخ الفرنسي فوشيه دي شارتر الذي كان مرافقا للحملة وأرخ لها يوما بيوم أنه "كانت القدم
تغوص حتى الكامل في دماء المسلمين" أما المؤرخ اللتيني وليم الصوري فيقول: "لم يكن بالمكان
التطلع إلى هذا العدد الهائل من القتلى دون أن تصاب بفزع شديد. فكل الرض كانت ملطخة بدماء
القتلى".
ومن المؤرخين المسلمين يذكر ابن الثير أن الفرنجة قتلوا في المسجد القصى سبعين ألفا من بينهم
عشرة آلف عالم وفقيه.
بهذه المذبحة الرهيبة، بدأ الفرنجة إقامة ما سيعرف لحقا بمملكة القدس، ففي البداية تولى غودفري
دي بويون المملكة وأطلق على نفسه لقب: حامي القبر المقدس، وبعد وفاة فودفري تولى السلطة في
القدس أخوه بفدوين الول، الذي تم تتويجه ملكا على مملكة القدس في كانون الول من عام ألف ومئة
للميلد، ليشرع في توسعتها، ولتسقط في يده مدن كثيرة، مع أن المؤرخين يجمعون على حقيقة أنه لو
حدث توحد فعلي بين أمراء المسلمين آنذاك لمكن تقويض تلك المملكة في لحظاتها الولى واستعادة
بيت المقدس، المر الذي سيتأخر كثيرا، بسبب الفرقة والتناحر.
حملة هرقل
لم تكن بيت المقدس ساحة الصراع الرئيسية بين البيزنطيين والساسانيين، ذلك أن الحروب بين
الدولتين غطت مساحات واسعة من العالم القديم. لكن مثلما كان المر في الحروب بين البطالمة،
والسلوقيين، كانت فلسطين وبيت المقدس هذه المرة أيضا معبرا للجيوش المتقاتلة، تتبادل السيطرة
عليها، كما تتناوب عمليات التدمير، وما بين الحروب بين البيزنطيين والساسانيين كانت تعقد معاهدات
واتفاقات صلح ل تلبث أن تلغى ثم تندلع الحروب مجددا بين الطرفين.
في القرن السادس الميلدي، وقعت حرب استمرت ما بين عامي خمسمائة وأربعة وعشرين وستمائة
وثلثة وثلثين للميلد، حين قام المبراطور البيزنطي حسبتنان بعقد الصلح مع الساسانيين كي ينصرف
إلى حروبه في الغرب، محققا نجاحات كبيرة، المر الذي أزعج كسرى أنوشروان، فقد توقع أن ينكفئ
جسبتنان بكل قواه ضد المبراطورية الساسانية بعد انتهاء حملته في الغرب، فأطلق حملة وصل فيها
إلى إنطاكية، ونهب شمال سورية ثم عاد أدراجه، وعقد صلحا بين الدولتين.
تجددت الحرب عام ستمائة واثنين عندما وصل فوكاس إلى سدة المبراطورية، وأراد أن ينتقم من
الساسانيين، وعندما هاجم أبرونير سورية وآسيا الصغرى، ووصل إلى قرب القسطنطينية، ما دفع هرقل
إلى التحرك من شمال أفريقيا فاحتل مصر برا، والقسطنطينية بحرا، وتولى قيادة المبراطورية
البيزنطية سنة ستمائة وعشرة ليبقى حاكما حتى سنة ستمائة وإحدى وأربعين.
بدت إمبراطورية هرقل وكأنها في طور النهيار. فعلى مدى اثني عشر عاما ما بين عامي ستمائة
وعشرة، وستمائة واثنين وعشرين، كان الفرس يقومون بهجماتهم على الروم وانتصروا في حملتهم،
فنهبوا إنطاكية ودمشق وبيت المقدس واستولى ابرويز على الصليب المقدس، لتصبح بيت المقدس
حاضرة بقوة في السجال الحربي بين الطرفين منذ ذلك التاريخ، فقد تابع ابرويز حملته فاحتل مصر، ثم
خلقدونيه مقابل القسطنطينية التي باتت نفسها مهددة.
كان هرقل بحاجة إلى المال لتنظيم جيشه وأسطوله، وصار الصليب المقدس المستولى عليه من بيت
المقدس عنوانا لحملة جمع المال هذه، فتقدم بطريك القسطنطينية بجميع الواني الذهبية الموجودة في
الكنائس لتذاب وتسك نقودا، وإذ امتلك هرقل مال وفيرا نتيجة هذه العملية، فقد بدأ عملية تنظيم واسعة
لجيشه، وبدأ بمهاجمة الساسانين حتى أنه وصل إلى المدائن، عاصمتهم، وحاصرها. وخلع ابرويز عن
سدة المبراطورية، ليقوم خلفه بعقد صلح مع هرقل، سنة ستمائة وثمان وعشرين.
كان أحد الشروط الساسية لهذا الصلح إعادة الصليب المقدس، الذي حمله هرقل بنفسه إلى بيت
المقدس في أيلول من عام ستمائة وتسعة وعشرين، وتحولت هذه العودة للصليب إلى احتفال مسيحي ل
يزال قائما الن ويعرف بعيد الصليب.
كان دخول هرقل إلى القدس مع الصليب المقدس، خاتمة الحروب التي سبقت الفتح العربي السلمي
لبيت المقدس، والذي لن يتأخرا كثيرا بعد الن.
وتذكر كتب التاريخ أن رسالة الرسول الكريم محمد صلى ال عليه وآله وسلم، إلى هرقل قد وصلت إلى
هذا الخير وهو في القدس، وفيها يدعوه للسلم.
كما هو معروف لم يقبل هرقل الدعوة، وسوف تقوض إمبراطورية بعد وقت قصير على يد الفاتحين
العرب المسلمين.
وهنا يذكر المؤرخون أيضا أن الحروب المستمرة بين المبراطوريتين البيزنطية، والفارسية قد أنهكت
قواهما، فلم تستطيعا الوقوف أمام العرب الذين قضوا على الدولة الساسانية ثم انتزعوا بلد الشام
ومصر من البيزنطيين بعد المعركة الفاصلة في اليرموك سنة ستمائة وست وثلثين، والتي لقي فيها
هرقل هزيمة قاسية. بالطبع فإن منطق الشياء يقود إلى هذا الستنتاج، إذا وضعنا أن الفاتحين العرب
المسلمين، كانوا حملة رسالة، وقوة صاعدة حيوية ،لكن هناك سببا أخر أيضا.
ربما كانت عودة هرقل للصليب المقدس إلى بيت المقدس مسألة ذات بعد هام بالنسبة لمسيحيي المدينة
والعالم، ولكن عدا عن كثافتها الرمزية، فإن الوضاع العامة في فلسطين وبيت المقدس آنذاك كانت
صعبة وعسيرة على أهليهما.
مع ضعفها وافتقادها إلى الموارد اعتمدت الدولة البيزنطية على الزعامات المحلية الموالية في المدن،
حيث كان التقسيم الداري يقوم على أساس مدينة لها حيازات من الراضي، وفي المدن تولى
ستراتغوس الدارة مع مجلس، وكان عليه تنظيم كل الشؤون المحلية والدفاعية، ما يعني تحويل
ميليشيات محلية، مع ما يعنيه ذلك من نفقات وفوضى في الن عنيه.
ومنذ أيام جسيتنيان أهملت صيانة خط الحدود، ولم يعد هناك دور ملحوظ للدولة المركزية، ومعلوم أن
الغساسنة من حلفاء البيزنطيين عهد إليهم الحفاظ على المنطقة بعد استقرارهم فيها في القرنين الرابع
والخامس الميلديين.
لكنه منذ ثلثينات القرن السابع كانت القسام الشرقية من بلد الشام كلها خاضعة لنفوذ زعماء محليين
كان نفوذهم في الغالب يمتد إلى مناطق صغيرة، وحتى المدن التي احتفظت ببقية من مجالس وموظفين
كانت في الواقع تدار على هذا الساس، أن لدى الغساسنة، وأجزاء من سورية ومصر، كان فيه نفخة
من الوطنية والمقاومة للدولة البيزنطية التي اعتبرها أهل البلد، كما اعتبروا الدولة الرومانية قبلها
الملوك الهلينسيتن قبل ذلك، دولة غريبة متسلطة فكانت الروح الوطنية تبدو في هذا الخلف الكبير مع
السلطة، حول قضايا دينية.
حملة إبراهيم باشا
شعر محمد علي باشا والي مصر، أن الظروف صارت مواتية كي يضم الشام إلى حكمه فأوروبا منشغلة
والسلطان ضعيف. ومصر قوية وبحاجة إلى أخشاب الشام وثرواتها.
كان محمد على يشعر بأنه أسدى خدمات إلى السلطنة في نجد والسودان واليونان، يستحق عليها
المكافأة، ليس أقل من ضم الشام إلى حكمه وحين تحركت قواته بقيادة ابنه إبراهيم إلى الشام كان
متوقعا بأن يفوز بعكا على القل، ولكن ضعف الجيش العثماني أغراه بإقامة مملكة واسعة للناطقين
بالعربية تعادل ما تبقى من مساحة السلطنة. ووجد تأييدا فرنسيا لتحركه لحقا.
كان في الشام تمرد وغضب على السلطان محمود الثاني، فتقدمت قوات إبراهيم باشا بسرعة سنة ألف
وثمانمائة وإحدى وثلثين، فاحتل عددا من مدن الساحل الفلسطيني، وحاصر عكا برا وبحرا واتخذ حيفا
قاعدة لعملياته، ثم احتل المدن الداخلية ومن بينها بيت المقدس، التي أعلن فيها عن رفع العوائد
والضرائب المفروضة على غير المسلمين.
تابع إبراهيم باشا حملته التي حسبها السلطان واحدة من تلك الحروب التي تدور عادة بين الولة، وكان
معتمدا على صمود عكا.
ولكن سقوط المدينة بعد أشهر من الحصار، وهزيمة جيوش السلطان في معركتين كبيرتين، أدى إلى
موافقة السلطان على صلح كوتاهية سنة ألف وثمانمائة وثمان وثلثين، الذي أعطى لمحمد علي ولية
الشام كله مع أضنه مدى الحياة إضافة إلى ما كان بيده من نجد والحجاز ومصر والسودان وكريت.
نشأ الصلح عن تدخل دولي، سوف يتزايد باطراد ثم اندلعت الثورات في الشام ضد حكم إبراهيم باشا
الذي كان حاول إرضاء الزعامات المحلية، ولكن الثورات اندلعت بسبب محاولة جمع السلح من السكان
وفرض التجنيد الجباري عليهم. سنة ألف وثمانمائة وأربع وثلثين، حيث طلب ثلثة آلف مجند من كل
من أقضية القدس ونابلس والخليل وذلك أثناء اجتماع له في بيت المقدس مع زعماء المدينة والخليل
ونابلس.
ما كاد الجتماع ينفض حتى اندلعت ثورة في الخليل والكرك ونابلس، وحاصر الثوار القدس التي أعلن
زعماؤها الثورة في نيسان من العام نفسه، وتمكنوا من السيطرة على المدينة، ومحاصرة حاميتها في
القلعة.
جمع إبراهيم باشا نجدات كثيرة وهاجم القدس، ليدخلها بعد ثلثة اصطدامات عنيفة في حزيران، وليصد
ثلث هجمات قام بها الثوار النابلسيون عند لفتا، ودير مار الياس وسلوان.
حاول إبراهيم باشا مراضاة الثوار، فألغى الضرائب الفردية، وأوقف التجنيد، فهدأت الحوال قليل في
حين وصلت نجدات قوية من مصر، قاد بعضها محمد على بنفسه.
واعتقل عددا من زعماء القدس ونفاهم إلى مصر فارضا عليهم القامة الجبرية.
وبعد أن أنهى ثورة يافا، وثورة نابلس عاد إبراهيم باشا إلى القدس في تموز، ليدخلها في ثلثين ألف
جندي، منعوا أهلها من أي تحرك. واستطاع أن يفرض التجنيد الجباري.
حفرت هذه الحداث شرخا عميقا بين أهل فلسطين والشام من جهة، وحكم إبراهيم باشا من جهة
أخرى، حتى إذا ما ازداد الضغط الدولي لم يجد منهم نصيرا.
نشأت عن تمدد محمد علي في فلسطين والشام أزمة دولية أتاحت للدول الوروبية زيادة تدخلها في
شؤون السلطنة العثمانية والمنطقة.
عدلت فرنسا عن التأييد المطلق لمحمد علي وافتتحت بريطانية أول قنصلية أجنبية في القدس سنة ألف
وثمانمئة وثمان وثلثين وتولى القنصل البريطاني رعاية المصالح البريطانية والمريكية واليهودية.
عمل القنصل يونغ مع ضباط التجسس البريطانيين ضد مشروع محمد علي، وكذلك على زيادة التسلل
اليهودي الصهيوني إلى فلسطين في آن معا، حيث بدأت تحركات الضابط البريطاني "جولر" مع المتمول
اليهودي مونتفيوري، ليجاد قاعدة استيطانية للصهاينة في القدس.
وكان وكيل طائفة من "السكناج" قد طلب من مجلس المشورة المحلي في القدس، الموافقة على شراء
الملك والراضي، فرفض المجلس ذلك وصدق محمد علي على الرفض.
سوف تؤدي هذه التحركات لحقا إلى بدء نوبات الستيطان الصهيوني في بيت المقدس.
ازداد التدخل الوروبي لتقويض مشروع محمد علي، وظهر في الدب السياسي مصطلح "المسألة
السورية" التي أرادت الدول الوروبية حلها بما يخدم مصالحها. بإبعاد محمد على القوي، والتعامل مع
السلطان الضعيف.
وجه الوروبيون سنة ألف وثمانمائة وأربعين إنذارا إلى محمد علي كي يقبل صفقة تعيده إلى مصر
وتجعل وجوده في الشام مؤقتا. فرفض النذار. لكن الثورات اندلعت ضده في الشام، فيما احتلت
الساطيل العثمانية والنكليزية والنمسوية مدنا عديدة على الساحل، واحتلت وحدة إنكليزية القدس.
فأصبحت مقاومة المصريين دون جدوى ليبدءوا انسحابا تحت وطأة الضطرابات التي كلفتهم ضحايا
كثيرة، وأسدلت الستار على مشروع كبير.
الحملة الفرنسية
تذكر بعض المصادر التاريخية أن نابليون بونابرت زار بيت المقدس سنة ألف وسبعمائة وثمان وتسعين
أي قبل وقت قصير من مغامرته الفاشلة في فلسطين، والتي هدف من خللها إلى تامين حملته في مصر،
وذلك بمبادرة ذاتية منه، إذ يؤكد مؤرخو الحملة الفرنسية أن فلسطين لم تكن من بين أهدافها، وأن
وجود الفرنسيين في مصر كان كفيل بتحقيق أحد أهم أهداف الحملة، وهو مواجهة النفوذ البريطاني
المتزايد، والتشويش على طرق التجارة البريطانية.
نشأت فكرة مهاجمة فلسطين كنوع من الحل لمصير الحملة الفرنسية البائسة، فقد اقترحت الحكومة
الفرنسية ثلثة حلول على نابليون، إما البقاء في مصر والدفاع عنها في مواجهة التحالف العثماني،
النكليزي، الذي انضمت إليه روسيا، وإما التوجه لمهاجمة الهند، وإما الزحف إلى القسطنطينية. وهي
حلول لم تكن تلئم القوة الفرنسية الضعيفة والتي ل تستطيع تحقيق أي من هذه الهداف وأيسرها البقاء
في مصر.
وصلت هذه الحلول إلى بونابرت أثناء حصاره عكا، ما يعني أنه بادر ذاتيا بالهجوم، في شباط من عام
ألف وسبعمائة وتسعة وتسعين بواسطة ثلثة عشر ألف جندي، فاحتل العريش، ثم خانيونس فغزة.
وتوجه لحتلل اللد والرملة.
في بيت المقدس، بدأت الستعدادات لمواجهة الفرنسيين. إذ أن سقوط الرملة يعتبر عادة إيذانا بالهجوم
على القدس. ولكن نابليون، وبدل التوجه إلى بيت المقدس والتورط في الجبال المحيطة بها، اختار
الهجوم على يافا، لتبدأ نهاية حملته عمليا.
صحيح أن الحملة الفرنسية تحطمت أمام أسوار عكا. لكن نهايتها ارتسمت بمجزرة يافا.
في آذار من العام نفسه احتل نابليون يافا بعد قتال استمر ثلثة أيام، وبعد القتل والنهب والهتك، وجد
جنوده ثلثة آلف أسير في أبراج المدينة، فأمر بقتل ألفين وخمسمائة منهم في مجزرة وحشية، سوف
تنقلب آثارها عليه، فتفسخ جثث السرى مع جثث ألفين استشهدوا أثناء الدفاع عن المدينة، أدى إلى
انتشار الطاعون الذي أصاب الفرنسيين، وشكل عامل إضافيا لهزيمتهم إلى جانب صمود عكا.
بعد مجزرة يافا، تزايدت الستعدادات في القدس لتنظيم الدفاع عنها. ولكن بدل أن يرسل نابليون جنوده
إلى المدينة، أرسل كتابا طويل، يشبه الكتب التي وجهها إلى المدن الخرى. وفيها كثير من التملق، وكثير
من التهديد أيضا. فقد اختتم كتابه إلى أهل القدس مطالبا بتسليم المدينة. وتلقى ردا دبلوماسيا ذكيا. كان
المقادسة على ما يبدو واثقين من صلبة عكا، كما أنهم أرادوا كسب مزيد من الوقت، فكتبوا إلى نابليون،
أنهم ل يرغبون في الحرب لن بلدهم مقدسة، وبها أماكن مقدسة إسلمية ومسيحية ول يريدون للحرب
أن تدمر هذه الماكن.
وغير ذلك فهم تابعون لولية عكا. ومن يستطيع السيطرة عليها، يكون بإمكانه إصدار الوامر إلى
القدس.
راهن نابليون على سقوط بيت المقدس بعد سقوط عكا، ولذلك وجه قواته إلى حيفا فاحتلها ثم احتل
الناصرة، وبدأ يضرب الحصار على عكا برا لن السطول النكليزي المتحالف مع العثمانيين منع حصارها
البحري، وأبدى واليها عبد ال الجزار صلبة في الدفاع عنها مع جنود الحامية وأهل عكا، ما أدى إلى
فشل نابليون في احتللها وبالتالي فشل حملته كليا إذ اضطر إلى مغادرة فلسطين، وترك لحد نوابه:
كليبر، تدبر أمر انسحاب الجنود إلى مصر.
ل يكتمل الحديث عن الحملة الفرنسية على فلسطين دون الشارة إلى علقة نابليون بالصهاينة وسبله إلى
إيجاد موطن قدم لهم في فلسطين إبان حملته تلك.
فقبل تحرك الحملة من فرنسا إلى مصر، تلقى بول باراباس ، عضو حكومة الدارة في باريس من صديقه
توماس كوريت، الرأسمالي اليهودي اليرلندي، رسالة ينصحه فيها بالستفادة من اليهود الذين وصفهم
بأنهم: يقدمون لكم عنصرا يمكن العتماد عليه في الشرق.
وضع القتراح أمام نابليون الذي التقى شخصيات يهودية، ما لبثت أن أصدرت بعد اللقاء بيانا تدعو فيه
إلى إقامة مجلس ينتخبه اليهود في خمسة عشر بلدا، ليقرر ما يجب عمله. وإبلغ ذلك إلى الحكومة
الفرنسية. كما دعت إلى إقامة وطن يهودي بالتفاق في فرنسا، في إقليم الوجه البحري من مصر، مع
حفظ منطقة واسعة المدى ليمتد خطها من مدينة عكا إلى البحر الميت ومنه إلى البحر الحمر.
وفي نيسان من عام ألف وسبعمائة وتسعة وتسعين وأثناء حصار عكا، نشرت الجريدة الرسمية الفرنسية
بيانا من نابليون يدعو فيه اليهود إلى مؤازرة فرنسا، وانتهاز فرصة وجوده في فلسطين لتحقيق آمالهم
في التوضع ما بين عكا والسكندرية.
كان نابليون يريد دعم الرأسمالية اليهودية، وعندما فشلت حملته، كانت بريطانيا التقطت المسألة وبدأت
العمل من أجلها.
الحرب العالمية الولى
عينت الحكومة البريطانية سنة ألف وثمانمائة وثمان وثلثين أول قنصل لها في بيت المقدس، وهو
اللورد آشلي الذي كشف في يومياته عن مشاعر متعاطفة تجاه حلم لليهود باستعمار فلسطين تحت
حماية إنكليزية عليا.
عمل آشلي في القدس ممثل لليهود، وللدوائر الصهيونية في بريطانيا.. ومنذ ذلك الوقت، كانت الحكومة
البريطانية تعمل كل ما من شأنه إقامة محمية بريطانية لليهود في فلسطين، ولذلك ما إن اندلعت الحرب
العالمية الولى حتى سارعت إلى ترتيب الخطط الملئمة لدخول الجيوش البريطانية إلى فلسطين وبيت
المقدس، تحت شعار مساعدة العرب في التخلص من الحتلل التركي، بيد أن هدفها الحقيقي كان إنفاذ
وعد بلفور.
وقد كشفت وثائق الحكومة البريطانية عن أن هربرت صموئيل عضو الحكومة الليبرالية، اقترح أثناء
مناقشة مستقبل فلسطين سنة ألف وتسعمائة وخمس عشرة، إقامة محمية بريطانية على فلسطين يمكن
لليهود من جميع أنحاء العالم الستقرار فيها، وصموئيل هذا هو الذي عين أول مندوب سام بريطاني
في فلسطين، كما أن خبيرا بريطانيا كتب إلى حكومته سنة ألف وتسعمائة وسبع عشرة أن تخليص
القدس من التراك سيحظى بتأييد كل مسيحي ويهودي وعربي، وسيكون له أثر أخلقي وسياسي
عالمي.
إذا، فالهدف البريطاني، كان المسارعة إلى احتلل فلسطين وبيت المقدس، لقامة الوطن القومي
اليهودي فيها.
وفي ظروف الخديعة البريطانية للعرب، وضعف الدولة العثمانية، لم يجر الدفاع عن القدس كما ينبغي،
رغم أن التراك بدءوا الحرب من القدس بحماسة كبيرة.
ففي نهاية عام ألف وتسعمائة و أربعة عشر، وصلت الراية النبوية إلى القدس، وتم استقبالها في حفل
كبير في الساحة المحيطة بقبة الصخرة، وتم وضعها في المسجد القصى لخراجها في اليوم الذي
تنطلق فيه حملة جمال باشا على مصر.
انتهت الحملة المذكورة إلى الفشل، وتأخر التراك كثيرا في إقامة الدفاعات اللزمة حول القدس، ففي
تشرين ثان من عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، وقبل فرض الحصار على القدس بثلثة أيام أصدر
مقر القيادة العامة للجيوش العثمانية أوامره بإعداد الدفاعات عن القدس، ولذلك لم تكن جاهزة عند
مهاجمتها من القوات البريطانية، وكانت أكثر خطوط خنادق النار محفورة في أرض كلسية طباشيرية،
يكشف بها التراب المستخرج حديثا ببياض لونه خط التحصينات. ولم يكن يكفي لغراض الدفاع الطويل
من أرزاق وعتاد ومدخرات، ولم تجهز الخنادق بمدافع الحصار الثقيلة، ولم تتخذ أي إجراءات فيما
يتعلق بموضوع السكان المدنيين وإخلئهم أو تدبر معيشة حياة الباقين في المدينة في ظروف المعركة
الدفاعية.
ومن المور اللفتة، أن الوحدات اللمانية المتحالفة مع العثمانيين وأعضاء الديوان العرفي ودائرة
الرديف والمستشفيات غادروا جميعا القدس قبل إصدار الوامر بإعداد الدفاعات عنها بخمسة أيام.
وفي العشرين من تشرين الثاني، أعلن المتصرف العثماني في القدس، أن الطريق بين نابلس والقدس
قد أقفلت لن الجيش البريطاني وصل إلى قرية النبي صموئيل.
وكان المستشار اللماني " فوق فالنكهاين" قد نظم لقائد الفيلق العشرين العثماني على فؤاد باشا خط
مواصلت آمن يمتد شرقا نحو أريحا والردن وسكة حديد الحجاز.
كان علي فؤاد باشا، من أفضل قادة الفيالق التركية، لكنه لم يكن مؤمنا بإمكانية الدفاع عن القدس،
ويرى أن فيلقه منهك، وبالفعل لم يصمد أكثر من أربع وعشرين ساعة أمام الجيوش البريطانية.
وعشية دخول هذه الجيوش إلى القدس استدعى متصرفها العثماني عزت بك، المفتي كامل الحسيني،
ورئيس البلدية حسين سليم إلى داره، وخاطبهما قائل: قد أحاطت الجنود النكليزية بالقدس، ولبد أن
تسقط في أيديهم وأنا سأترك المدينة بعد نصف ساعة.. سألقي هذا الحمل الدبي العظيم بين أيديكم..
أي تسليم المدينة.
وفي التاسع من كانون الول عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، دخل البريطانيون إلى القدس بقيادة
الجنرال اللنبي، ووقف أحد ضباطهم ليقول: ان المير الهاشمي فيصل ابن الشريف حسين سوف يرسل
نائبا عنه لستلم القدس من القوات البريطانية.
وكانت هذه كذبة بريطانية أخرى من حبل الكاذيب الطويل، فالواقع أن بريطانيا كانت تتحضر لتسليم
فلسطين إلى الصهاينة.
ومن بيت المقدس، انطلقت الجيوش البريطانية مطلع عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر لتستكمل احتلل
الجزاء الشمالية من فلسطين.
التدخل الروسي وحرب القرم
مثلما تذرعت فرنسا بحماية اللتين، وجدت روسيا في حماية الرثوذكسية غطاء لمطامعها في السيطرة
على مضيقي الدردنيل والبوسفور وتقاسم الدولة العثمانية.
في عهد بطرس الكبر، اعتبرت روسيا نفسها الوريثة الشرعية للكنيسة الرثوذكسية الكبرى في
القسطنطينية، وأخذت تمد نفوذها إلى القدس والراضي المقدسة، وأكثرت من العطايا للبطركية
الرثوذكسية للروم في القدس، وشجعت بطاركة اليونان الرثوذكس على النفصال عن كنيسة
القسطنطينية وتأسيس بطركية مستقلة.
ومع نجاح فرنسا في فرض حمايتها للتين، تقدم القيصر ألكسندر الول بمذكرة إلى الباب العالي، يطلب
فيها إقرار حقوق روسيا في حماية الرثوذكس ومصالحهم في الدولة العثمانية.
توجست فرنسا وبريطانيا ريبة من الطلب الروسي فحرضتا السلطان على رفضه، فظهرت مشكلة
الماكن المقدسة إلى العلن بوصفها مشكلة ل تحل في الستانة وبفرمانات الباب العالي، بل بوصفها
مشكلة دولية، وجزءا مما سيعرف بالمسألة الشرقية.
انشغلت أوروبا الكاثوليكية بقيام الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، والثورات والحروب القومية،
والخلف مع الفاتيكان حول سياسة فصل الدين عن الدولة، فاستغلت روسيا هذه الوضاع، وأصبحت
صاحبة اليد الطولى في شؤون الدولة العثمانية، وسيطر الروم الرثوذكس على الماكن المقدسة
مدعمين بقرار من الباب العالي سنة ألف وسبعمائة وسبع وخمسين، ومع أن فرنسا واصلت حمايتها
لللتين، وبقيت لهم حقوقهم في كنيسة القيامة إل أن السيطرة الفعلية كانت للروم الرثوذكس، رافضين
التخلي عنها بتحريض روسيا القيصرية، التي أصبحت وفي أعقاب صلح كينارجي، الذي آذن بتفكيك
الدولة العثمانية وتصفية ممتلكاتها في أوروبا، أصبحت تعتبر نفسها حامية لمصالح الكنيسة
الرثوذكسية وحقوقها في الماكن المقدسة.
بذل القيصر نيقول الول كل جهده لمنع أي تدخل غير روسي في شؤون الدولة العثمانية، ورفض
المؤتمرات الوروبية الخاصة بالنظر في مسائل خاصة بالمسألة الشرقية.. ومع ذلك دعم تحركات
محلية ضد السلطنة ما أدى إلى اندلع حرب القرم أواسط القرن التاسع عشر.
كان السبب الظاهر للحرب، هو النزاع بين رهبان من الروم ورهبان من اللتين حول حمل مفاتيح
كنيسة بيت لحم، وحقهم في نجم فضي وضع حيث ولد السيد المسيح.
عملت روسيا على تأجيج هذا النزاع البسيط، بسبب رغبتها في شن الحرب ضد تركيا، وحاول القيصر
نيقول الول استمالة بريطانيا إلى جانبه، على أن تتقاسم الدولتان التركة العثمانية، لكن بريطانيا رفضت
الوضع الروسي.
اشتبك رهبان الطائفتين في كنيستي القيامة وبيت لحم. طلبت فرنسا تثبيت حقوق اللتين فلبت السلطنة،
واحتجت روسيا التي عرضت على الباب العالي بنود معاهدة تتيح لروسيا أن تكون حامية للرعايا
الرثوذكس وضامنة لحقوقهم، وأن يوقع السلطان مستندا يجعل من روسيا صاحبة اليد الطولى في
الدولة العثمانية.
رفض السلطان فاندلعت حرب القرم التي شنتها روسيا، وانتهت بهزيمتها بعد أن حظيت تركيا بدعم
إنجلترا وفرنسا وسردينيا.
أصدر السلطان خط هاميون سنة ألف وثمانمائة وست وخمسين، مع انتهاء الحرب، يضمن حقوق
الطوائف المسيحية داخل الدولة العثمانية، والمساواة التامة بين الديان والجنسيات المختلفة.
لكن الدول التي دعمت تركيا في حربها ضد روسيا ووقعت معهما على صلح باريس، أوضحت أهدافها
الحقيقية.
فهمت الدولة العثمانية بداية أن المور قد استتبت، ووقعت سنة ألف وثمانمائة واثنتين وستين معاهدة
مشتركة مع فرنسا وروسيا للحفاظ على قبر المسيح المقدس، ومنع اليهود من القتراب منه.
لكن الدول الوروبية كانت في الواقع تفكر في أمر آخر، إذ اكتملت لديها فكرة تقاسم الدولة العثمانية،
حيث وقع المشاركون في مؤتمر برلين سنة ألف وثمانمائة وثمان وسبعين على معاهدة أشارت وللمرة
الولى إلى "الوضع الراهن في الماكن المقدسة" ولم تقصر المعاهدة حق الحماية في الماكن المقدسة
على دولة بعينها، وإنما أعطت لكل دولة من الدول الموقعة الحق في أن تجد لنفسها صالحا في ممارسة
هذا الحق في الماكن المقدسة أن تمارسه.
و تضمنت المعاهدة نصا يقول: يعترف للممثلين الدبلوماسيين والقنصليين لدى الدولة العثمانية بحق
الحماية الرسمي للشخاص المنوه عنهم وهم الحجاج والرهبان ورجال الدين، ولمؤسساتهم الدينية في
الماكن المقدسة بمدينة القدس وغيرها من المواضع".
بعد مؤتمر برلين ظهر النزاع بصورته الحقيقية كنزاع علماني لديني في جوهره، سياسي استعماري
في مبناه وحقيقته.
المستوطنات اللمانية
أثارت حملة نابليون الفاشلة، شهية المستعمرين الوروبيين لستيطان فلسطين بدعاوى دينية، ففي عام
ألف وثمانمائة وواحد وأربعين، اقترح ضابط ألماني عمل مع القوات العثمانية، ويدعى هلموت فون
مولتكه، إنشاء ما سماه: مملكة القدس، لتجعل من فلسطين مركزا متقدما للحضارة الوروبية، وأنموذجا
للتطور القتصادي في الشرق، ودولة واقية بين مصر وسورية في حال قيام مملكة وراثية في مصر
تحول دون أي اعتداء على الدولة العثمانية.
وقال مولكه: إن قيام هذه المملكة سيكون بعثا للتقاليد والقيم الصليبية، ونصرا معنويا عظيما تحققه
المسيحية في العالم، على أن يكون على رأس المملكة أمير ألماني.
تحمس ملك بروسيا للمشروع وعرضه على ملوك أوروبا فلم يقبلوا به لكن الفكرة وجدت طريقا إلى
الحياة، من خلل " جمعية الهيكل " اللمانية والتي تعود في أصولها إلى حركة التقياء التي ظهرت في
ألمانيا في القرن السابع عشر كحركة إصلحية في الكنيسة النجيلية، لتتخذ عند اندلع حرب القرم سنة
ألف وثمانمائة وثلث وخمسين اتجاها جديدا. إذ ساد شعور في أوروبا أن نهاية الدولة العثمانية صارت
وشيكة. فدعا زعيم الحركة كريستوف هوفمان إلى سلخ فلسطين عن الدولة العثمانية وجعلها موطنا لما
سماه: شعب ال.
ورغم التأثيرات التوراتية الواضحة في دعوته، والمسوغات التي ساقها لها، فإنه لم يقصد بتلك التسمية
اليهود، بل ما سماه: الشعب المسيحي النجيلي.
في آب من عام ألف وثمانمائة وأربعة وخمسين عقد أتباع هوفمان اجتماعا للجنة سموها: لجنة أصدقاء
القدس، وذلك للبحث في تنفيذ مشروعه، وسعوا إلى أن يتبنى البوندستاغ اللماني المشروع وأطلقوا
جمعية سمت نفسها: جمعية تجميع شعب ال في القدس. لبناء مملكة الرب.
حصلت الجمعية على تبرعات مالية، وشهدت خلفات أدت إلى انشقاق الجزء الفاعل منها باسم "جمعية
الهيكل " أو "الهيكل الروحي". وأخذت تضغط من أجل الحصول على أرض في القدس، بموافقة السلطات
العثمانية، التي كانت أصدرت سنة ألف وثمانمائة وسبع وستين قرارا يتيح للجانب التملك في فلسطين،
إذا حصلوا على الجنسية العثمانية.
ووافقت في العام التالي على طلب أعضاء الجمعية بتملك الرض بعد تحديد مساحتها وموقعها.
طلب هوفمان وأعضاء جمعيته شراء ثلثة أميال مربعة عند جبل الكرمل في حيفا، دون الحصول على
الجنسية العثمانية، وعندما رفضت السلطات طلبهم حصلوا على الرض عن طريق التحايل، وتدخل
القنصل البروسي لصالحهم، ليبدأ الستيطان اللماني على ارض فلسطين ولهداف دينية حسب ما قالت
الجمعية.
بنى اللمان مستعمرة في حيفا، وأخرى في يافا، وسنة ألف وثمانمائة واثنتين وسبعين استطاعوا
الحصول على قطعة أرض شمال غربي محطة سكة حديد القدس خارج حدود البلدية، بنوا عليها
مستعمرة توسعت خلل ست سنوات لتصبح المقر العام لدارة جمعية الهيكل بمساحة خمسة وعشرين
هكتارا. وجرى إنشاء مستعمرات أخرى في أنحاء متفرقة من فلسطين. ابتداء من عام ألف وتسعمائة
وخمسة وسبعين كانت الهداف الدينية الخاصة بتجميع شعب ال وبناء مملكة الرب قد تلشت، وصار
هم المستعمرين اللمان تحسين وضع استيطانهم خاصة وقد دبت الخلفات الدينية بين زعمائهم، وبدأ
التباع يعودون إلى الكنيسة النجيلية بتأثيرات قساوسة الكنيسة في القدس.
وقد شهد العام نفسه، قيام السطول اللماني باستعراض قوته أمام الساحل الفلسطيني، لحماية
المستوطنين اللمان في فلسطين، خشية رد فعل على المذابح التي تعرض لها المسلمون في البوسنة،
ذلك العام.
لم تلعب المستعمرات اللمانية دورا بارزا في العلقات العثمانية اللمانية التي قويت كثيرا في العقدين
الخيرين من القرن التاسع عشر، وكانت الحكومة اللمانية ترى في هذه المستوطنات عبئا عليها.
رغم ما مثلته زيارة غليوم الثاني إلى بيت المقدس من دفع حماسي للمستوطنين اللمان، ولجمعيات
الستيطان اللماني في فلسطين.
اتسمت علقة المستعمرات اللمانية مع عرب فلسطين بالريبة والشك والحذر. فقد نظر العرب
الفلسطينيون إليهم كمستعمرين، في حين تصرف هؤلء بفوقية واستعلء على أنهم "شعب ال" وعندما
سعى شاب عربي مسيحي من فلسطين، للزواج بفتاة ألمانية من المستعمرات، جرى رفض هذا المر
بإصرار، ووصف العرب بأنهم "رعاع" ل يليق بألمانية أن تتزوج أحدهم.
اتخذت جمعية الهيكل موقفا عدائيا من اليهود قبل استيطان أفرادها أرض فلسطين. ولكن الهيكليين
تعاونوا لحقا مع نوبات الستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين، وعندما بدأ المستوطنون الصهاينة
يهددون مصالح المستعمرات اللمانية، عاد المستعمرون اللمان إلى الموقف القديم. وقال هوفمان
مؤسس جمعية الهيكل: أن الرض المقدسة ينبغي أن تكون ملكا لشعب ال. واليهود لم يعودوا شعبا
مقدسا. الهيكليون وحدهم من أوجد الشعب المقدس الجديد.
كان الطرفان يستخدمان خطابا متشابها، لذلك استحكم العداء بينهما، وعندما وجهت الحكومة اللمانية
المستوطنين اللمان إلى التعاون مع المستوطنين اليهود، أيد اللمان موقف حكومتهم، وشهدت العلقة
بين الطرفين تحسنا مؤقتا، إذ بدأت تلك المستعمرات اللمانية بالتلشي منذ عام ألف وتسعمائة وثمانية
عشر.
بدايات الستيطان اليهودي/المونتفيوري
بدأت التعبيرات العملية لمؤامرة الستيطان الصهيوني في فلسطين بالظهور أثناء فترة الحكم المصري
للبلد، إذ شرعت بريطانيا في ربط مصالحها مع اليهود، وفي العمل على بدء الستيطان الصهيوني،
وإضافة إلى افتتاحها قنصلية في القدس، ترعى المصالح البريطانية والمريكية واليهودية، أرسلت
بريطانيا عددا من عملئها من كبار ضباط التجسس لقامة الركائز للمشروع الستعماري.
وكان من أهم هؤلء العملء فيما يتعلق بفلسطين الكولونيل جولر الذي تخصص بالعمل مع رؤساء
الجماعة اليهودية في بريطانيا، وفي بلد الشام، لكسب تأييدها لمشروع هجرة اليهود إلى فلسطين .
تعاون جولر مع يهودي بريطاني من الثرياء البارزين في تلك الفترة كان يحمل الفكرة نفسه، وهو موشيه
مونتفيوري، رئيس المجلس اليهودي البريطاني الذي زار فلسطين سبع مرات منذ عام خمسة وثلثين
دارسا أوضاعها وثرواتها وافتتح أول مدرسة لليهود فيها.
قام مونتفيوري وبتشجيع بريطاني، بحث اليهود في القدس على طلب السماح بشراء الراضي الزراعية،
فتقدم وكيل طائفة السكناج في تلك الفترة إلى مجلس الشؤون المحلي في القدس، طالبا الترخيص بشراء
الراضي ولكن الطلب رفض، وثبت محمد علي الرفض، لم يثن هذا الرفض مونتغيوري عن متابعة مساعيه
لدى إبراهيم باشا، فعرض عليه استئجار مائة أو مائتي قرية في فلسطين لمدة خمسين سنة، مقابل مبالغ
مغرية، لكن إبراهيم ومحمد علي باشا رفضا المشروع والعرض.
وسرعان ما اتضح أن ما يقوم به مونتغيوري ليس مشروعا يهوديا فقط بل هو مشروع بريطاني أيضا إذ
قدمت مذكرة به إلى مؤتمر لندن سنة ألف وثمانمائة وأربعين ،كما كتب به المرتسمون وزير الخارجية
البريطاني إلى السفير البريطاني في القسطنطينية.
وبعد تسع سنوات من ذلك أي في عام ألف وثمانمائة وتسعة وأربعين، نجح مونتفيوري، وبمساعدة
بريطانية، في الحصول على فرمان من السلطان العثماني، يسمح بموجبه لليهود بشراء الراضي في مدينة
القدس، لم ينفذ الفرمان على الفور، ومع ازدياد ضعف الدولة العثمانية كان يقترب من التنفيذ فنجح
مونتفيوري وبتدخل بريطاني أيضا في شراء قطعة أرض من باشا القدس العثماني، أحمد آغا الدزدار، أقام
عليها حيا استيطانيا يهوديا، سمي بحي مونتفيوري سنة ألف وثمانمائة وستين.
سعى مونتفيوري والبريطانيون، وكذلك ممولون يهود آخرون إلى استعمال خطواتهم في استيطان القدس
لكن هذه المساعي تعثرت مرارا ونجحت في التحايل بعض الحيان، وفي عام ألف وثمانمائة وواحد
وتسعين، رفع أعيان القدس عريضة احتجاج إلى السلطان العثماني في الستانة، ناشدوه فيها منع دخول
اليهود إلى فلسطين أو بيع الراضي لهم، ويبدو أن هذه العريضة قد قوبلت باستجابة عثمانية، لن القنصل
البريطاني في القدس، كتب في السنة التالية لرفع العريضة تقريرا إلى حكومته جاء فيه، إن التعليمات
الصادرة عن حكومة الباب العالي تفيد عدم السماح لليهود الجدد بالستقرار في القدس، لكن الفوضى التي
كانت تعيشها السلطة في آخر أيامها، حيث تمت سيطرة جماعة التحاد والترقي على مقاليد المور في
تركيا، هما عاملن ساهما في قيام المتطرفين العثمانيين بتسريب الراضي إلى اليهود في القدس وغيرها.
تحرك الفلسطينيون لمواجهة هذه المؤامرة، فقاموا بتوقيع وثيقة، سنة ألف وتسعمائة وثلث عشرة
موجهة إلى السلطان العثماني والصدر العظم وناظر الداخلية، تحذر من عزم السلطات إعطاء ثمانمائة
دونم من الراضي إلى اليهود في القدس وقالت الوثيقة: "إن منح الصهيونية داخل هذه البلد طول
وعرضا، وتمكنهم من الستيلء على القدس والماكن المقدسة، مما يؤدي إلى مخاطر ل تقل نتيجتها في
المستقبل عن حرب البلقان".
كانت تلك صرفة مبكرة تحس في الخطر، لكن الظروف التي تلت رفعا مكنت البريطانيين في فلسطين وأحلل
هؤلء الدفاع المروع الستيطاني الصهيوني الذي بدءوا التخطيط والعداد له من قبل عقود عديدة.
بناء الهيكل في الدبيات الصهيونية
مثلما عملت الحركة الصهيونية على اعتبار حائط البراق، المرتكز لعلقة الجماعية اليهودية بالقدس،
بادعاء أن هذا الحائط هو الجزء المتبقي من هيكل سليمان، فقد جعلت من العمل على إعادة بناء الهيكل
محركا أساسيا لها في السيطرة على القدس ومواصلة العدوان على الحرم القدسي الشريف والمسجد
القصى.
بدأ الحديث عن إعادة بناء الهيكل مع إدخاله في الدبيات اليهودية الصهيونية في القرن السادس
عشر الميلدي، وأخذ شكل الدعوة الحثيثة مع تسرب الصهاينة إلى فلسطين تحت الغطاء البريطاني، في
العقود الخيرة من العهد العثماني، وبعد سيطرة البريطانيين على فلسطين تحولت الدعوة إلى محاولت
عمل في التجاه الذي يخدم التطلعات الصهيونية على هذا الصعيد.
تتحدث دائرة المعارف اليهودية "جويش انسيكلوبيديا" عن "أن اليهود يبغون أن يجمعوا أمرهم وأن
يقدموا إلى القدس، ويتغلبوا على قوة العداء، وأن يعيدوا العبادة إلى الهيكل ويقيموا ملكهم هناك".
بعد الحتلل البريطاني لفلسطين، أخذت التحرشات اليهودية بالحرم القدسي وحائط البراق طابعا أكثر
جرأة واتخذت شكل العدوان المباشر بتشجيع بريطاني، حيث حرصت الحكومة البريطانية على أن ترسل
لدارة احتللها في فلسطين، متحمسين للفكرة الصهيونية.
كان من هؤلء اليهودي نورمان بنتويش، الذي شغل منصب السكرتير القضائي لحكومة النتداب في
فلسطين، وقد قال في كتاب أصدره عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر تحت عنوان: فلسطين اليهودية:
"إن اليهود يرغبون في تشييد بناء عظيم من جديد تشييدا كامل في مكان هيكل سليمان".
عشية ثورة البراق، أعلن الزعيم اليهودي الصهيوني "كلوزنر" في مقالة نشرتها صحيفة "بالستاين
ويكلي" اليهودية: "إن المسجد القصى القائم على قدس القداس في الهيكل إنما هو يهودي واعتبر
"السير ألفرد موند" الزعيم اليهودي والوزير البريطاني السابق "أن اليوم الذي سيعاد فيه بناء الهيكل
أصبح قريبا جدا" وأعلن أنه سيكرس ما بقي من أيام حياته "لبناء هيكل سليمان مكان المسجد القصى".
ترافقت هذه الدعاءات والتوعدات، بمطالبات أيضا، جاء بعضها في قالب غريب، فقد كتب إبراهيم
روزنباخ، حاخام اليهود في رومانيا إلى الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، يلح عليه بضرورة إباحة
المسجد القصى لليهود ليقيموا فيه الشعائر الدينية اليهودية على اعتبار أنه مقام فوق الهيكل، حسب ما
كتب روزنباخ.
بعد قيام دولة العصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة، قال دافيد بن غوروين: "ل معنى لفلسطين
دون القدس، ول معنى للقدس دون الهيكل". كذلك صرح رئيس الحاخامية في الكيان الصهيوني بأن
"عاصمة الدولة اليهودية لن تكون تل أبيب، وإنما ستكون القدس لن فيها هيكل سليمان، ولن
الصهيونية حركة سياسية ودينية معا".
وعندما احتل الصهاينة الجزاء المتبقية من القدس في عدوان حزيران من عام سبعة وستين، أخذوا
يتصرفون كما لو أن قيامهم بإعادة بناء هيكلهم المزعوم، مسألة وقت فقط، حتى أن أحدهم، وهو
المؤرخ" إسرائيل الداد" سئل عن مصير المسجد القصى في حال قيام الصهاينة ببناء الهيكل فقال :"إنه
موضوع بحث، ولكن من يدري فلربما حدثت هزة أرضية".
وفي الوقت نفسه، أقام محام يهودي صهيوني، دعوى قضائية ضد حكومة كيانه، أمام ما تسمى محكمة
العدل العليا، يطالب فيها بإعادة الراضي التي يقوم عليها المسجد القصى ومسجد قبة الصخرة بدعوى
أنها الرض التي كان يقوم عليها هيكل سليمان، وذلك من أجل إعادة بنائه.
وعام تسعة وستين دعت صحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية، حكومة الكيان إلى إقامة الهيكل من
جديد، معتبرة أن بناءه هو الذي يلغي ما وصفته بألفي سنة من التشرد.
في تلك الثناء كانت قد برزت إلى الوجود الجماعة المسماة" أمناء جبل الهيكل" التي شكلت رأس الحربة
الصهيونية في الهجوم على المسجد القصى، والدعوة إلى إقامة الهيكل المزعوم مكانه، في حين كانت
أوساط صهيونية أخرى، توالي عمليات الحفر حول الحرم القدسي، وتحت أساسات المسجد بغية
تقويضه، وتسهيل مهمة الهيكليين ودعواهم.
يذكر هنا أن البروفيسور اليهودي" يشعياهو ليبوفتش" قد أكد أنه ل يوجد أساس ديني لمطالبة الجماعة
المسماة أمناء جبل الهيكل بإعادة بناء ما يسمونه جبل الهيكل، وقال:
هذا الهيكل غير قائم منذ ألف وتسعمائة وعشرين عاما، فيما المسجد القصى قائم منذ أكثر من ألف
وثلثمائة عام.
وأشار ليبوفيش إلى أن جبل الهيكل اصطلح تاريخي متعارف عليه في الديانة اليهودية واستعمال هذا
المصطلح ل يدل على أي شيء.
تصورات التسوية في برامج الحزاب الصهيونية
الكيان الصهيوني الذي قام على العدوان واستمر به، ول يزال دوما يتحدث عن أنه يريد السلم.
وفي تعاطيه مع اللفظ أو في القتراحات التي قدمها، وأطلق عليها تعبير مبادرات التسوية واظب على
اعتبار القدس خارج أي بحث.
بعد عدوان حزيران، وصدور قرار مجلس المن رقم مائتين واثنين وأربعين، أعيد الحديث عن التسوية
مجددا، فاعتبر ديفيد بن غوريون عام اثنين وسبعين، أن هناك احتمال نظريا لتوقيع معاهدة سلم بين
كيانه والدول العربية، وأن كيانه يمكن أن يعيد للعرب الراضي التي احتلها عدا القدس والجولن
والمناطق التي أنشئت فيها مستوطنات، وفي الوقت نفسه اعتبر موشيه دايان أنه بالمكان الوصول إلى
تسوية حول مدينة القدس، تمنح معها الماكن المقدسة وضعا خاصا، على أن تظل المدينة موحدة من
الناحيتين السياسية والقانونية، وعاصمة لكيانه.
في السنة التالية أقر حزب العمل الصهيوني، ما عرف بوثيقة غاليلي حول مستقبل الراضي المحتلة
عام سبعة وستين، وقد دعت الوثيقة إلى استمرار السكان والتنمية الصناعية في القدس وضواحيها
لتثبيت القدام فيما وراء مجالها، وفي عام ستة وسبعين طرح المبام الصهيوني خطوطا للتسوية من
وجهة نظره جاء فيها حول القدس: "إن القدس الموحدة ،هي عاصمة دولة إسرائيل ،وستضمن في
اتفاقات السلم الحقوق الخاصة للماكن المقدسة للسلم والمسيحية، وفي إطار المدينة الموحدة
ستضمن للسكان العرب في القدس ترتيبات إدارية ذاتية على الصعيد البلدي".
طرحت بعد ذلك تصورات صهيونية متعددة تدور في الجمال حول فكرة أن تبقى القدس موحدة عاصمة
للكيان الصهيوني، ويجري السماح بما دأب الصهاينة على وصفه بحرية الوصول إلى الماكن المقدسة
وضمان حرية العبادة، في حين طرح أكاديميون صهاينة تصورات اختيارية لنوع من التقاسم في البلدة
القديمة من القدس، جرى الرد عليها من المسؤولين الصهاينة، بمعاودة تأكيد مواقفهم المعلنة مع
اندلع النتفاضة الشعبية الفلسطينية سنة سبع وثمانين، تجدد طرح أفكار ومبادرات للتسوية فأعلن
شمعون بيريز سنة ثمان وثمانين، أن القدس ستبقى موحدة وعاصمة أبدية لكيانه ،وطرح بيريز في
العام التالي، خطة تسوية عرفت باسمه تضمنت الشارة إلى القدس على النحو التي: "تبقى المدينة
موحدة وعاصمة إسرائيل، بينما سيسمح بحرية الحركة والعبادة لكل الديانات السماوية".
في السنة نفسها، أعلن اسحق شامير عن مبادرة موازية لمبادرة وزير خارجيته قال فيها:"إن القدس
ليست جزءا من المبادرة، القدس عاصمة شعبنا البدية، وعاصمة دولتنا إلى البد، ول حق لعرب
القدس في التصويت في انتخابات الدارة الذاتية وتابع شامير، سنواصل صون القدس، وفق الخطوط
الساسية للحكومة، والتي تنص على أن القدس الكاملة عاصمة دولة إسرائيل البدية، ول تقبل
التجزئة، وستكون دائما لجميع أبناء الديانات ووصولهم الحر والمضمون إلى أماكنهم المقدسة".
وبدا مجددا أن الحزبين الرئيسين في الكيان الصهيوني متفقان تماما بشأن موضوع القدس، فبعد
انتخابه رئيسا للوزراء في الكيان الصهيوني، تبنى اسحق رابين ذات المواقف التي كان يعلن عنها
اسحق شامير، وفي خطاب له أمام الكنيست الصهيوني عشية التوقيع على اتفاقات أوسلو، قال رابين:
"إن هذه الحكومة مثل كل الحكومات التي سبقتها تؤمن بأنه ليس هناك أي خلف في المجلس فيما
يتعلق بالقدس باعتبارها عاصمة إسرائيل البدية، القدس الموحدة لن تطرح للمفاوضات، لقد كانت
وستظل دوما عاصمة الشعب اليهودي تحت سيادة إسرائيل".
قال رابين هذا الكلم، في مطلع أيلول من عام ثلثة وتسعين، بينما كان اتفاق أوسلو يطبخ سرا على
نار حامية، وليجيء محمل بالتصورات الصهيونية حول القدس.
عصابة مائير كهانا
ألقى الحاخام الرهابي مائير كهانا محاضرة في أتباعه سنة ألف وتسعمائة وثمانين، قال فيها: إن عدم
إزالة المسجد القصى من قبل الجيش السرائيلي عند احتلله عام سبعة وستين كان خطيئة العمر. وقد
كرس الرهابي كهانا كل جهده ونوازعه الجرامية، لصلح ما يصفه بالخطيئة.
أسس كهانا المولود في نيويورك عصابته الرهابية عام اثنين وسبعين، باسم عصبة الدفاع اليهودي،
التي حددت هدفا لها بطرد الفلسطينيين من فلسطين، وهدم المسجد القصى.
نفذ كهانا وعصابته الكثير من العمال الجرامية في أنحاء مختلفة من فلسطين المحتلة، ولكنه ركز
أنشطته الرهابية في مدينة القدس.
وبعد أن حوكم في الكيان الصهيوني عام أربعة وسبعين، بسبب نشاطاته الجرامية السابقة في الوليات
المتحدة، كوفىء عام أربعة وثمانين على جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، بنيل عضوية الكنيست
الصهيوني.
لم تقتصر أنشطة كهانا وعصابته على إطلق أكثر التصريحات عنصرية وعدائية للعرب والفلسطينيين،
بل أخذت طابعا عمليا بتهديد جدي للمسجد القصى، بدأ عام تسعة وسبعين، بإعلن الحاخام الرهابي،
عزمه أداء "صلة" في الحرم القدسي، فاحتشد نحو ألفين من أبناء القدس على أبواب الحرم لحمايته.
ويبدو أن الرهابي كهانا شرع منذ ذلك الوقت في التخطيط لنسف المسجد القصى، إذا اكتشفت كمية
كبيرة من المتفجرات في مخزن يتبع عصابة كهانا بالقرب من الحرم القدسي، وتبين بالتحقيق أن هذه
المتفجرات قد تسربت إلى أيدي العصابة من مخازن قوات الحتلل.
صعدت عصابة كهانا من أنشطتها الجرامية عام اثنين وثمانين فحاولت اقتحام المسجد القصى وعثر
على قنبلة وهمية عند أحد أبواب الحرم وهي تشتمل على جهاز توقيت وراديو ترانزستور، مع رسالة
تحذير بتوقيع كهانا نفسه، لمسؤولي الوقاف السلمية بنسف المسجد.
نفذ أحد أتباع كهانا عملية إطلق نار في الحرم في العام نفسه، وأدين آخر بالتخطيط لنسف قبة
الصخرة، وقد وكل كهانا محامين تولوا الدفاع عن أتباعه.
وعام ثلثة وثمانين، نظمت العصابة عملية تسلل إلى داخل الحرم عبر أحد الممرات الرضية، وجرى
اكتشاف المر في اللحظات الخيرة والتصدي لتلك المحاولة، وكشف النقاب عن أن المخطط كان يشمل
قيام أربعين من المتسللين، بزرع متفجرات في الممرات الرضية لنسف المسجد.
اعترف الذين تم اعتقالهم، وبضمنهم الحاخام يسرائيل أرئيل بالمخطط، وبأنه تم بإشراف كهانا، وفي
العام التالي، كان الخير عضوا في الكنيست الصهيوني، ويقوم بالتصريح، انه مقتنع بضرورة تدمير
المسجد القصى، وإقامة الهيكل مكانه.
أثناء عضويته في الكنيست الصهيوني، قام كهانا بقيادة عدد كبير من أتباعه، في حملة على المحال
العربية في البلدة القديمة من القدس، حيث تم تحطيم العديد منها، والعتداء على أصحابها بالضرب
المبرح.
ثم قاد تظاهرة أخرى بهدم رفع العلم الصهيوني فوق الحرم الشريف. وعندما تصدى له المواطنون
الفلسطينيون قمعتهم شرطة الحتلل، وعاد كهانا في السبوع التالي، لقيادة تظاهرة أكثر صخبا، هتف
المشاركون فيها: اذبحوا العرب.
وعام أربعة وثمانين، أشرف كهانا على ترتيب عملية لقصف المسجد القصى من الجو، بواسطة طائرة
حربية.
تم تدريب الطيار يعقوب هانيمان، على عملية القصف، لكنه أوضح في اللحظة الل خيرة، أنه ل يستطيع
تدمير المسجد، دون تدمير الحائط الغربي، أي حائط البراق، فجرى العدول عن الفكرة والبحث في خيار
آخر.
رغم كل هذه الممارسات الجرامية، فإن السلطات الصهيونية منحت كهانا موافقة على عقد مؤتمر
لحركة كاخ التي يتزعمها في القدس، سنة ست وثمانين، وغضت الطرف باستمرار عن أنشطته
الجرامية، ولم تعلن حظر حركته إل بعد مقتله في نيويورك على يد شاب مصري.
أسس بنيامين كهانا، ابن الحاخام القتيل، حركة عرفت باسم " كهانا حي" تبنت ذات المواقف التي كانت
تتبناها كاخ بزعامة كهانا الب، فيما ظلت حركة تحمل السم نفسه، ناشطة رغم حظرها رسميا، إلى
جانب حركة كهانا حي، المحظورة أيضا في العلن والناشطة عمليا.
مطلع العام ألفين وواحد، نفذ المقاومون الفلسطينيون عملية، أودت بحياة الرهابي بنيامين كهانا، فقام
أتباعه بالعتداء على المحال التجارية للمواطنين العرب في القدس، ول تزال حركة كهانا حي قائمة،
ويتلقى أفرادها، كما كان المر دوما، تدريبات في الوليات المتحدة المريكية، في معسكر يتبع الحركة،
التي مازالت تعتبر أن هدفها الساسي هو: هدم المسجد القصى.
أمناء جبل الهيكل
على رغم أن المطالبات اليهودية بإعادة بناء الهيكل المزعوم قديمة، إل أنها محط اختلف بين
الجماعات اليهودية، إذ يربطها البعض بعودة "المسيا" المخلص، فيما يرى آخرون ضرورة الشروع
بخطوات عملية لبناء الهيكل تبدأ بهدم المسجد القصى.
بعد احتلل القدس عام سبعة وستين، ظهرت هذه الخلفات جلية، واكتسبت طابعا عمليا بعد أن كانت
محصورة في إطار "جدل ديني" امتد الن، ليجد حل للسؤال: هل من المسموح دخول اليهود إلى منطقة
الحرم، بوصفها قدس القداس قبل عودة المسيا أم ل؟ جاءت الجابات مختلفة، وبعد ثلثة أيام من
احتلل شرق القدس أقام الحاخام شلومو غوريون شعائر صلة يهودية بالقرب من حائط البراق.
حاول شلومو غوريون بوصفه حاخاما أكبر، آنذاك، المسارعة لرساء وقائع جديدة، فقام في منتصف
حزيران من عام سبعة وستين، مع بعض أتباعه، بأداء طقوس صلة يهودية داخل ساحة الحرم
القدسي، وأعلن أن " بعض أقسام منطقة الحرم، ليست من أقسام جبل الهيكل، ولذلك فإن تحريم
الشريعة اليهودية ل يشمل تلك المناطق، وادعى أنه توصل إلى تحديد هذه القسام بعد القيام بقياسات
وشهادات تستند إلى علم الحفريات.
في هذه الجواء ولدت منظمات صهيونية أعلنت أن لها هدفا محددا، وهو العمل على إعادة بناء الهيكل،
بعد هدم المسجد القصى، وبرز من هذه المنظمات، جماعة أطلقت على نفسها اسم" أمناء جبل الهيكل"
ويتزعمها حاخام إرهابي يدعى غرشون سلمون، والذي يعتبر أن من الضروري القيام بتفكيك حجارة
المسجد القصى وقبة الصخرة، ونقلها إلى مكة، ثم بناء الهيكل مكانهما.
تعتبر جماعة " شلمون" أن ميدان عملها الساسي هو السعي لعادة بناء الهيكل، وتعمل من أجل ذلك
في أكثر من اتجاه، فهي تقوم بالتظاهرات وتنفذ اعتداءات على الحرم، وتسعى لستصدار قرارات
قضائية بالشروع في عمليتي الهدم والبناء، أو أقله استصدار قرار بتقاسم الحرم القدسي مع المسلمين.
كما تعمل الجماعة بقيادة شلمون على تزييف دراسات وأبحاث، تقول إنها قامت بها لتحديد المكان
الصلي للهيكل المزعوم.
في عام ستة وثمانين وتسعمائة وألف، دعا سلمون إلى اجتماع حضره أربعون حاخاما وترأسه الحاخام
شلومو غوريون، بالقرب من الحائط الغربي للحرم الشريف.
قدم سلمون بحثا إلى الجتماع، قال فيه إنه يسمح لليهود بالدخول إلى الحرم الشريف من باب المغاربة
باتجاه الشمال بعمق ثلثة وخمسين مترا باتجاه الغرب، وبعمق اثنين وخمسين مترا باتجاه الجنوب.
نجحت هذه الجماعة في إقامة تجمعات عند باب المغاربة، وسعت غير مرة إلى اقتحام الحرم القدسي أو
وضع حجر الساس للهيكل المزعوم، وهو ما أدى إلى مواجهات عنيفة سنة تسع وثمانين، وإلى
مجزرة سنة تسعين في الحرم القدسي.
عام ثلثة وتسعين وتسعمائة و ألف أصدرت ما تسمى محكمة العدل العليا في الكيان الصهيوني قرارا
باعتبار الحرم القدسي جزءا من مساحة دولة "إسرائيل" تسري عليه الحكام والتشريعات "السرائيلية"،
كما اعتبرته المحكمة مكانا مقدسا للشعب اليهودي حسب قولها.
شجع هذا القرار جماعة أمناء جبل الهيكل على تجديد مطالباتهم المستمرة، ولكن مستندين إلى هذا
القرار الجديد، وإلى تصريحات لحقة للرهابي نتنياهو قال فيها: يجب ترتيب صلة اليهود في جبل
المعبد، خصوصا أننا نسمح بحرية العبادة لكل الديان في القدس". وكذلك إلى دعوة أحد القضاة
الصهاينة: مناحيم آلون، إلى تقسيم الحرم القدسي.
ومن نفس المحكمة العليا حصلت جماعة سلمون على موافقة بوضع حجر الساس لبناء الهيكل الثالث
في القدس المحتلة على أن ل يكون البناء في الحرم القدسي الشريف.
كان القرار هو الول من نوعه من هذه المحكمة الصهيونية، وهو فجر ردود فعل غاضبة لحظة صدوره
أواخر تموز من عام ألفين وواحد، على أن ينفذ في نهاية الشهر نفسه.
تداعى الفلسطينيون للدفاع عن القدس في الموعد المحدد لوضع حجر الساس للهيكل المزعوم، ورغم
تدخل أعداد ضخمة من الجنود الصهاينة، فقد أفشل الشعب الفلسطيني المخطط الجديد، واضطروا
الجماعة الرهابية إلى أن تعيد حجرها إلى المكان الذي جاءت به منه، بعد مواجهات عنيفة بين
المصلين في الحرم القدسي والمحتشدين حوله، وبين جنود الحتلل.
بعد أشهر من ذلك، سمحت المحكمة الصهيوني لجماعة سلمون، بإقامة احتفال رمزي لوضع حجر
الساس وقامت شرطة العدو بإغلق القدس على أهلها لتيسير أمر هذا الحتفال، دون وضع الحجر
بشكل فعلي.
ول تزال تلك الجماعة مع ذلك، تواصل العلن عن نيتها، هدم المسجد وإقامة الهيكل.
القدس في كتابات زعماء الحركة الصهيونية الوائل
الطماع الصهيونية في بيت المقدس، هي جزء من المخطط الصهيوني الشامل، وإن كان الصهاينة
يمزجون هنا بين المقدس والسياسي.
فالحاخام حاييم لنداو يقول: "إن روح الشعب اليهودي ل تستطع التعبير عن نفسها إل إذا عادت الحياة
القومية إلى أرض اليهود من جديد. معتبرا أن القبس اللهي ل يؤثر في الشعب اليهودي إل وهو في
أرضه.
يظهر المزج المشار إليه في مثل هذا القول، وأيضا في أقوال كثيرة أخرى، فالصهاينة الذين يتحدثون
عن المكانة الدينية للقدس، يرونها أساسا في تحقيق ما يسمونه الوطن القومي، فتبرز أهميتها
العسكرية والجغرافية والقتصادية.
لقد نما في أوساط الجماعات اليهودية، حلم ديني فردي بالذهاب إلى القدس والرض المقدسة، وعملت
الصهيونية على تحويل هذا الحلم الفردي إلى مشروع سياسي استعماري، وثيق الرتباط بالمشروع
الستعماري الوروبي في الوطن العربي.
ويستقطب الجماعات اليهودية بالقول إن الهدف الصهيوني هو احتلل القدس، وجعلها عاصمة للدولة
اليهودية.
عام ألف وثمانمائة وأربعة وثلثين أصدر الحاخام يهودا القلعي كتابه "اسمعي يا إسرائيل" ودعا فيه إلى
الهجرة إلى فلسطين، التي اسماها أرض الميعاد، دون انتظار المسيح المخلص، حسب ما تقول
المعتقدات الدينية لليهود، وأنشأ القلعي عام ألف وثمانمئة وواحد وسبعين جمعية للستعمار في القدس،
داعيا أغنياء اليهود إلى دعمها.
ودار كتاب " تسفي هيرش كاليشر" الصادر عام اثنين وستين وثمانمئة وألف، حول الفكرة ذاتها، أي
البدء بالهجرة الى "أرض الميعاد" دون انتظار مجيء المسيح المخلص، ودعا الى تشكيل جماعات
مسلحة لطرد العرب من القدس وفلسطين.
ومن اللفت للنتباه أن زعماء صهيونيين، كانوا أعضاء في الحركات الشتراكية الوروبية، بدوا أكثر
حماسا لستيطان القدس، من كثير من الحاخامات، ومن هؤلء، موسى هس، صاحب كتاب "روما
والقدس" الذي أصدره عام ألف وثمانمائة واثنين وستين، ودعا فيه إلى قومية يهودية لستعمار القدس،
مطلقا على هذا الستعمار اسم: التحرير.
وكذلك فعل ليوينسكر، وسمولينسكين الذي دعا فقراء اليهود في أوروبا إلى رفض الندماج لنه خيانة،
والتوجه لستيطان القدس، حيث سينتقل الحكم إلى أيديهم تدريجيا. كما تكررت الدعوة إلى الفقراء
والمزارعين بالهجرة إلى فلسطين والقدس في كتابات موشيه ليلينعبلوم. أما اليعازر بن يهودا، الذي
سبق الكثير من المفكرين اليهود الروس، إلى تبني ما يسمى الحل القومي للمسألة اليهودية، فدعا إلى
إنشاء جمعية استيطانية لشراء الرض في فلسطين وانتقل إلى القدس لحقا ليكرس جهوده أواخر القرن
التاسع عشر لحياء اللغة العبرية، وكذلك فعل شاعر الصهيونية حاييم بياليك.
عام ستة وتسعين وثمانمائة وألف، كتب الصهيوني ثيودور هرتزل في مذاكراته: إذا حصلنا يوما على
القدس وكنت ل أزال حيا وقادرا على القيام بأي شيء، فإن أول ما سوف أبدأ به هو تنظيفها كامل.
وسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود، وأحرق الثار التي مرت عليها قرون.
أريد أن أنظفها دون أن أوذيها، وفقط خارج أسوارها سوف تقوم المدينة الجديدة، القدس الجديدة
تسيطر عليها، وتحميها السوار القديمة.
في مطلع القرن العشرين، وصف هرتزل القدس بكلمات قاسية، قائل: إن المدينة غارقة في أعماق
سحيقة، وعاد بعد ذلك ليتحدث عن مستقبلها، قائل: إنها يجب أن تكون ذات عبير متجدد من النشاط
والزراعة.
في مطلع القرن العشرين، تركزت كتابات الزعماء الصهاينة على زيادة سريعة في استيطان القدس فقد
نشر مناحيم يوشخين الصهيوني الروسي البارز، كتيبا دعا فيه إلى أن تحاط القدس بحلقة من
المستوطنات اليهودية ليس الزراعية فقط، ولكن الصناعية أيضا.
كما أطلق ديفيد بن غوريون دعوة مشابهة، اعتبر فيها أن القدس يجب أن تصبح المركز العلمي
والتعليمي والثقافي لليهود، الذين يجب أن يزدادوا فيها وحولها وأن يتقووا اقتصاديا.
وعلى الرغم من أن بن غوروين، ظل يجاهر بازدرائه للدين اليهودي والحاخامات، فإنه ظل يكرر: ل
معنى لل سرائيل بدون القدس، ول معنى للقدس بدون الهيكل.
القدس اليهودية العظمى
ثمة حقيقة معروفة بأن الهجوم الستيطاني الصهيوني، يتضاعف كلما دار الحديث عن تسوية سياسية،
أو جرى توقيع اتفاق تسوية فالهجمة الستيطانية الكبرى في الضفة والقطاع، وقعت بعد زيارة السادات
إلى القدس، وبعد توقيع معاهدة كامب ديفيد.
وتكرر المر نفسه، بعد توقيع اتفاق أوسلو عام ثلثة وتسعين، فعقب توقيع التفاق مباشرة صادر
الصهاينة مائتين وخمسة وسبعين دونما من أراضي قرية عناتا، مستكملين بذلك عمليات مصادرة
شملت ثلثي مساحة حيازة القرية البالغة أكثر من ثلثين ألف دونم، تمتد من الخان الحمر في الشرق،
إلى شعفاط في الغرب، ومن قرى حزما ودير دبوان في الشمال إلى العيساوية في الجنوب.
وفي تشرين الول من عام ثلثة وتسعين، صادر الصهاينة ثلثة آلف وخمسمائة دونم، من أراضي
أربع قرى شمال غرب القدس، باتجاه الرام، وهي قرى بير نبال، الجيب، بيت حنينا، النبي صموئيل،
وأعلن أن المصادرة تمت بهدف إقامة مناطق خضراء، ولكن سرعان ما بدء بتنفيذ مخططات استيطانية
نشطة فوق الراضي المصادرة كما جرى التمدد باتجاه الجنوب بمصادرة مساحات واسعة من الراضي
الواقعة بين القدس، وبيت لحم وبيت ساحور.
أعلنت حكومة رابين عن تجميد للستيطان، جاء شكليا من الناحية العملية، ولم يشمل المناطق الواقعة
داخل حدود القدس الدارية المعلنة صهيونيا، والتي تعتبر منطقة تطوير)أ( في المخططات الصهيونية،
ما عنى استمرار الستيطان فيها.
وضاعف الصهاينة من أسلوب المصادرة لقامة محميات طبيعية سرعان ما تحولت إلى مستوطنات،
وبعد اتفاق أوسلو، قام عمل مكثف في منطقة القدس الكبرى لتمويل مساحات واسعة إلى محميات
طبيعية لحرمان الفلسطينيين من البناء عليها أو التوسع فيها، وتمثلت أبرز المصادرات، في مصادرة
شملت منطقة النبي صموئيل، وأخرى في النبي يانون، ومحمية وادي تقوع، ومحمية غاب القوق،
ومحمية رانح، ومحمية الشيخ أبو لمون، وغيرها.
في أواسط كانون الثاني من عام خمسة وتسعين، صادق حزب العمل الصهيوني على تقرير ورد فيه
للمرة الولى تعبير "القدس العظمى" وهو يشمل مخططا ينص على توسيع "حدود بلدية القدس لتشمل
عددا من المستوطنات في الضفة".
واستنادا إلى التقرير الذي وضعه عشرات من الباحثين الصهاينة، فإن حدود القدس يجب أن تمتد جنوبا
إلى المستوطنات في قطاع "غوش عتسيون" بين بيت لحم والخليل، وشرقا حتى "معاليه أدوميم" في
الخان الحمر وشمال حتى حدود بلدتي رام ال والبيرة، وغربا حتى مستوطنة "بيت شيمش".
وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت خريطة جديدة للقدس العظمى، تتسع بموجبها حدود
المدينة، لتشمل دائرة قطرها ثلثة وعشرون كيلوا مترا، أي ما يعادل نحو خمسة عشر في المائة من
مساحة الضفة الفلسطينية كاملة، وقد جرى تثبيت عمل اللجنة المكلفة بداية بإقامة ثلثين ألف شقة
للمستوطنين في القدس وحولها، وأعلن عن الشروع في إقامة نحو ألفين وثلثمائة وحدة استيطانية في
"معاليه أدوميم" وألف وثلثمائة في "غفعات زائيف"، وألف وخمسمائة في "بيتار"، أربعمائة في "كريات
سيفر".
ما بين توقيع اتفاق أوسلو، ونشر خريطة القدس العظمى صادر الصهاينة نحو خمسة وثلثين ألف دونم
من الراضي المحيطة بالقدس، وقد حققت هذه المصادرات وحسب المصادر الصهيونية، سيطرة
الصهاينة على تسعة وسبعين في المائة من مساحة القدس العظمى الممتدة ما بين الخليل ورام ال
وبيت لحم.
وعندما جاءت حكومة نتياهو في الكيان الصهيوني شرعت في إنفاذ المخططات السابقة، مستهدفة
الوصول إلى مليون مستوطن في القدس، وإتمام مشروع القدس اليهودية العظمى، الذي عاد شارون
وتحدث عنه تحت عنوان جديد هو: تغليف القدس.
فالمناطق العازلة التي أعلن عنها الرهابي شارون سوف تكون مساحات جديدة تضاف إلى ما استولى
عليه الصهاينة في القدس وحولها، لتمام مشروعهم القديم الجديد، بتهويد القدس كاملة وتحويلها إلى
كتلة استيطانية هائلة تشطر الضفة إلى شطرين.
القرارات الصهيونية لضم القدس
استخدم الصهاينة القانون المسمى قانون أملك الغائبين للسيطرة على ممتلكات العرب الفلسطينيين في
الجزء المحتل عام ثمانية وأربعين من مدينة القدس، تماما كما فعلوا مع ممتلكات العرب في مناطق
أخرى من فلسطين، منذ عام خمسين.
وبعد عدوان حزيران سبعة وستين، أصدرت سلطات الحتلل سلسلة متلحقة من القوانين والوامر
الدارية لضم القدس إلى الكيان الصهيوني، فيوم السابع والعشرين من حزيران لعام سبعة وستين، قرر
الكنيست ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية، بإضافة فقرة إلى قانون صهيوني، اسمه "قانون
الدارة والنظام لعام ثمانية وأربعين".
الفقرة التي جرت إضافتها تقول: "تخول الحكومة تطبيق القانون على أية مساحة من الرض ترى
حكومة )إسرائيل( ضمها إلى أرض )إسرائيل(" وتتالى صدور القرارات، ففي اليوم التالي أصدر المسمى
سكرتير الحكومة، أمرا أطلق عليه اسم: أمر القانون والنظام رقم واحد، ليقضي بأن تضم إلى قضاء
وإدارة الدولة )السرائيلية( منطقة تنظيم أمانة القدس، ويقصد منطقة البلدية تحت الحكم الردني من
المنطار وقلنديا شمال، وبيت حنينا غربا، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوبا، وقرى الطور والعيزرية
وعناتا والرام شرقا.
وخلل اليومين التاليين أصدرت سلطات الحتلل بمؤسساتها المختلفة أربعة قرارات استهدفت بالتتابع
تهويد السيادة والدارة والبلدية في القدس.
كان التهويد وإلغاء الطابع العربي للمدينة هو المستهدف من وراء هذه القرارات والجراءات جميعا،
ففي آب من عام ثمانية وستين، أصدرت سلطات الحتلل، قانونا أسمته قانون "التنظيمات القانونية
والدارية" بغية إضفاء الطابع اليهودي على مختلف أوجه النشاط في المدينة.
في حيثيات القانون المذكور أنه يفرض على أصحاب المهن والحرف والطباء والمهندسين والمحامين
ومدققي الحسابات وأصحاب المتيازات والجمعيات التعاونية وغيرهم، القيام بإعادة التسجيل لدى
السلطات الصهيونية، والحصول على رخص جديدة، خلل فترة تنتهي مطلع عام تسعة وستين.
وقد أعتبر روحي الخطيب أمين القدس، أن هذا القانون المؤلف من اثنتين وعشرين مادة يهدد عرب
القدس بالتهويد التدريجي لهم، أو بالرحيل عن هذا البلد.
اعتمد الصهاينة سياسة إصدار القرارات المتلحقة والمتسارعة بهدف تحقيق غاياتهم في القدس، حيث
قرروا إلغاء البرامج التعليمية الردنية المطبقة في مدارس القدس، واستبدالها بالبرامج المعتمدة في
المدارس العربية بفلسطين المحتلة عام ثمانية وأربعين.
ولتنفيذ هذا القرار، وضعت السلطات الصهيونية يدها على جميع المدارس الحكومية، ومكاتب مدير
التربية والتعليم الردني، وطلبت منه ومن موظفي مكتبه، وجميع العاملين في الجهاز التعليمي اللتحاق
بأجهزة التعليم التابعة للسلطات الصهيونية إلى جانب ذلك بالطبع كانت تتسارع عمليات الهدم والمس
بالمقدسات السلمية والمسيحية، وإبعاد كل مؤسسة ذات طابع عربي عن المدينة المقدسة، وتعويض
المؤسسات التي لم يستطع الصهاينة إبعادها.
وكما هو معلوم فإن الصهاينة قد اتخذوا عام ألف وتسعمائة وثمانين قرارا باعتبار القدس موحدة
وعاصمة لهم، ورغم الستنكار العالمي لهذا القرار إل أن الصهاينة أصروا عليه وأسندوه بسلسلة
متلحقة من القرارات والقوانين الداعمة له.
المشاريع اليهودية لتقسيم القدس
ينطلق الخطاب الصهيوني حول القدس من شبه إجماع على رفض الحديث عن تسوية سياسية تنتقص
من "وحدة القدس وكونها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني" الذي صاغ هذه المقولت في ما سماه
القانون الساسي للقدس عام ثمانين، وهو جاء محصلة للخطاب الصهيوني حول المدينة منذ بدء الغزو
الصهيوني لفلسطين.
مع ذلك تظهر بين الفينة والخرى مشروعات صهيونية تطرح تصورات تتعلق بتقاسم المدينة في إطار
تسوية للصراع العربي الصهيوني.
عمليا فقد سبق الصهاينة إلى طرح هذه التصورات الوليات المتحدة المريكية، حيث اقترح رئيسها
نيكسون عام ثمانية وستين، عودة القدس الشرقية إلى الردن، مع وضع الماكن المقدسة كلها تحت
سلطة دينية دولية مشتركة، تتكون من ممثلين عن الديان صاحبة العلقة بالقدس.
وكررت الوليات المتحدة هذا القتراح عام تسعة وستين. دارت اقتراحات التسوية الصهيونية بعد ذلك
على بقاء القدس موحدة، مع ضمان حرية العبادة في الماكن المقدسة، كما طرحت اقتراحات تتحدث
عن ضمان أوضاع بلدية خاصة بالمواطنين العرب في القدس، فيما تحدثت اقتراحات أخرى عن بلديات
فرعية في المدينة يضمن للفلسطينيين في نطاقها استقلل ذاتي اجتماعي وثقافي وتربوي.
عام ثمانية وثمانين كشفت صحيفة هآرتس الصهيونية النقاب عن وجود مشروع صهيوني منذ العام
ثلثة وثمانين، يتضمن تقسيم مدينة القدس إلى أحياء تتمتع بالحكم الذاتي، لكل منها بلديته، ويمكن أن
تستخدم كأساس للمفاوضات حول وضع المدينة، التي تبقى بكل الحوال تحت السيادة الصهيونية.
وغالبا ما جرى إطلق بعض التصورات على ألسنة أكاديميين صهاينة، المر الذي يجعلها اختبارية
وغير ملزمة. ومن ذلك ما اقترحه أفيشاي مارجاليت الستاذ الجامعي في الجامعة العبرية، من أن تكون
القدس عاصمة مشتركة وعليها سيادة مشتركة بقوانين خاصة.
قدم مارجاليت اقتراحه سنة إحدى وتسعين، وعام أربعة و تسعين، قال يهوشفاط هركابي الذي قاد جهاز
الستخبارات الصهيونية في الخمسينات "إن )إسرائيل( لن تتمكن من السيطرة إلى البد على القسم
أن أتصور أن العرب وليس الفلسطينيين وحدهم، يمكن أن يقبلوا أل i الشرقي من القدس"." ويصعب علي
يكون لهم شيء في القدس".
صحيفة يديعوت أحرنوت، وجدت الحل عام ستة وتسعين، حين نشرت مقال قالت فيه:" إن )إسرائيل(
تفكر بأن تقترح على الفلسطينيين بناء "قدس ثانية" كعاصمة لكيانهم السياسي المستقل".
ينص القتراح على أن تبقى القدس بتقسيمها الغربي والشرقي عاصمة موحدة للكيان الصهيوني باسم
أورشليم، على أن تبقى خارج هذه الدائرة وخارج السيادة الصهيونية مدينة القدس التي ستعلن عاصمة
للفلسطينيين.
الصحيفة نفسها عادت وذكرت عام ألفين، أن فكرة تقاسم مدينة القدس بحثت خلل زيارة الملك عبد ال
الثاني ملك الردن إلى الكيان الصهيوني وإن البحث جرى حول إمكان وضع ثلثة أرباع المدينة القديمة
التي تضم الماكن المقدسة السلمية والمسيحية، وخصوصا المسجد القصى وكنيسة القيامة تحت
السيادة الفلسطينية، على أن يحتفظ الكيان الصهيوني بالسيطرة على الحياء اليهودية والرمنية وحائط
البراق.
مطلع شباط من عام ألفين وواحد عقدت اجتماعات في طابا بين وفدين فلسطيني وصهيوني، وذكر أنه
جرى التفاق على خطة تقضي بتأجيل بحث موضوع السيادة على الحرم القدسي الشريف لمدة خمس
سنوات يخضع خللها لل دارة مشتركة، تتم فيها المحافظة على الوضع القائم، ويدير الصهاينة حائط
البراق ويدير الفلسطينيون المساجد.
أعقبت ذلك دعوة أطلقها الرهابي موشيه كتساب المسمى رئيسا، للكيان الصهيوني بتقسيم الصلة في
الحرم القدسي على غرار ما حدث في الحرم البراهيمي في الخليل. وهو ما أعلن الفلسطينيون عن
رفضه تماما.
اقتراح كتساب أعلن بالتزامن مع الكشف عن مخطط صهيوني جديد لتهويد مناطق أخرى في القدس.
ومن ذلك: إقامة وحدات استيطانية جديدة على غرار أراضي سلوان، والسيطرة على قسم جديد من
الحي السلمي داخل السوار، وتحويل سطح أسوار القدس إلى متنزه للزوار والسياح.
المنظمات الستيطانية في القدس
تشكل مجموعة من المنظمات الدينية الصهيونية النواة الصلبة للستيطان الصهيوني في المدينة
المقدسة، ومع أن استيطان القدس المحتلة عام سبعة وستين محل إجماع صهيوني، وبدء العمل فيه بعد
عدوان حزيران من عام سبعة وستين مباشرة ،إل أن هذه المنظمات شكلت رأس الحربة في هذا
الستيطان وركزت جهودها على البلدة القديمة وأحياء المدينة التاريخية.
وأشهر هذه المنظمات
-عطارة ليوشنا: وهي المجموعة الدينية الهم التي برز وجودها على أرض الواقع عقب حرب سبعة
وستين مباشرة، ونشطت بشكل ملحوظ في الستيلء على منازل كثيرة داخل الحي السلمي من
المدينة، ضمن خطة تهدف إلى ربط الحي اليهودي الحالي بالتجمعات الستيطانية في باب السلسلة،
وعقبة الخالدية، وعقبة السرايا، وشارع الواد، وهو ما يفسر تركيز النشاط الستيطاني في هذه
المناطق، وإن وجدت نقاط استيطانية صغيرة في مناطق أخرى من الحي السلمي، خاصة في حارة
السعدية.
وكانت هذه المجموعة قد حددت أهدافها بالستيلء على العقارات العربية في القدس، وإسكانها
بمؤسسات توارتية، وبمستوطنين يهود.
-عطيرات كوهانيم: وهي مجموعة انشقت عن عطارة ليوشنا، ولها ذات الهداف، حيث وجهت
المجموعتان جهودهما إلى عقارات، تدعيان أنها كانت مسكونة من قبل يهود قبل عام ثمانية وأربعين،
وخاصة في عقبة الخالدية وعقبة السرايا.
وقد أصبحت هذه الملك بعد عدوان سبعة وستين تحت مسؤولية ما تسمى دائرة القيم العام
)السرائيلية( التابعة لما تسمى وزارة العدل، ودأبت الدائرة المذكورة على تسليم هذه العقارات إلى
الجماعتين المذكورتين إذا تم إخلؤهما، وفي نطاق ذلك تم الستيلء على مساكن إحدى عشرة عائلة
من عقبة الخالدية، من قبل عطارة ليوشنا.
-شوفو بنيم: "عودوا أيها البناء" وهي مجموعة تتألف ممن يوصفون بالتائبين، وهم شبان يهود
ينضوون في إطار ما يعرف بحركة التوبة، استولى العشرات من هؤلء عام اثنين وثمانين، على أملك
عربية في عقبة الخالدية، وأقاموا فيها مدرسة حملت اسم: شوفوبنيم وأعلن هؤلء أن هدفهم هو
ترحيل العائلت العربية التي بقيت في المنطقة.
يلجأ المستوطنون من أفراد هذه المنظمات إلى أساليب العنف والمضايقات للمواطنين الفلسطينيين، في
محيط تجمعاتهم الستيطانية، كأن يقوموا بأداء صلواتهم وطقوسهم الخاصة بعباداتهم بصوت عال مع
قفزات في الهواء، وتصفيق في اليدي، وخطابات ابتهالية عتابية، كما يقومون بالضرب على الصفائح
الفارغة.
إضافة لذلك فهم يلقون القمامة والقاذورات على المارة من المواطنين العرب، ويعمدون إلى سد شبكات
المجاري، وجعلها تتدفق إلى البيوت العربية الواقعة أسفل هذه التجمعات الستيطانية.
عام ستة وثمانين، صعدت هذه المجموعات من وتيرة عدوانها الستيطاني، مستغلة قيام شاب عربي
بطعن أحد أفراد مدرسة شوفو بنيم بسكين وقتله، في عقبة الخالدية.
قام أفراد الجماعة بإرغام تسع عائلت فلسطينية على مغادرة بيوتها بعد إضرام النار في قسم منها،
وفي حين هاجم أفراد مجموعتي عطارة ليوشنا وعطيرات كوهانيم العديد من البيوت العربية.
تتلقى هذه المنظمات دعما من المؤسسات اليهودية في الكيان الصهيوني والوليات المتحدة المريكية،
وبعض الدول الوربية، والتي تقدم لها دعما ماليا كبيرا، كما تلقى هذه المنظمات دعما كبيرا من بعض
المجموعات الصولية المسيحية المرتبطة بالصهيونية المسيحية، والتي تؤمن بضرورة نشوء حرب
نووية تؤدي إلى دمار العالم ليأتي بعدها السيد المسيح ويقيم مملكة الرب.
وتلقى هذه المجموعات دعما كبيرا ومباشرا من الرهابي أرئيل شارون، الذي استولى على منزل عربي
في شارع الواد، وهو قام بتحويل أراضي إلى هذه المجموعات كي تقيم مشاريع استيطانية فيها.
تعتمد هذه المجموعات والمنظمات الستيطانية، على أساليب الترغيب والترهيب، وفي الحالتين تلقى
دعما من المؤسسات الحكومية الصهيونية، فعام واحد وتسعين، سمحت ما تسمى محكمة البداية في
القدس لمستوطنين من "عطيرات كوهانيم" بالبقاء في منزلين أخلوهما في الحي السلمي، وطالب
أصحابهما بإخلئهم منها مثل هذه الحكاية تتكرر كثيرا ول زالت، حيث أن نشاط هذه المنظمات في
القدس، يوازي نشاط "غوش أيمونيم" في مناطق أخرى، مع وجود وصلت قوية بين المنظمات
المذكورة، وحركة كاخ، وغيرها من العصابات الرهابية الصهيونية.
اليهود واضطهاد السيد المسيح
في بيت لحم، مدينة المهد ولد السيد المسيح عليه السلم، وفي بيت المقدس كان مهد دعوته.
وبحسب المصادر التاريخية، ولد السيد المسيح سنة أربع قبل الميلد، وسبب هذا الذي يبدو خطأ يعود
إلى الذي وضع أسس التاريخ من ميلد المسيح، وهو ديونيسيوس أكسيغوسس، من أهل القرن
السادس الميلدي، وقد كان عالما رياضيا كبيرا ولهوتيا مرموقا، لكن ديونيسيوس، لما حسب تاريخ
ولدة المسيح ربطها بتاريخ إنشاء مدينة روما التقليدي، وهو سبعمائة وثلثة وخمسون قبل الميلد، إل
أنه أخطأ في حسابه بنحو أربع سنوات، ومن هنا جاء الفرق.
ل تلبي المصادر التاريخية على نحو واضح، معرفة كافية بالسنوات الولى للسيد المسيح، ولكن حسب
إنجيل برنابا، الذي ترجمه الدكتور خليل سعادة في القاهرة سنة ألف وتسعمائة وثمان، فإن هيرودس
الدومي، الذي استمر حاكما في فلسطين إلى السنة الرابعة قبل الميلد، وهي السنة التي شهدت ولدة
السيد المسيح، سعى إلى قتله وهو طفل، وأنه لهذه الغاية أمر بقتل جميع الولد الذين في بيت لحم،
تلك السنة.
يحفل النجيل المذكور بكثير من التفاصيل عن حياة السيد المسيح، فيذكر أنه ذهب إلى مصر مع السيدة
مريم العذراء ويوسف، حتى مات هيروس، فعادوا وقد بلغ السيد المسيح سبع سنين إلى القدس، ولكنهم
خافوا البقاء فيها فذهبوا إلى الناصرة، ليعودا مرة أخرى إلى القدس وقد بلغ السيد المسيح من العمر
اثنتي عشر عاما، وتلقى الرسالة على جبل الزيتون، حسب إنجيل برنابا، وكان له من العمر ثلثين
عاما.
ويسرد إنجيل برنابا مؤامرات اليهود على السيد المسيح ومحاولتهم لقتله، وما تعرض له من عسف
واضطهاد على أيديهم، وهو ماكان شأن تلميذه الذين عانوا كثيرا أيضا منذ بداية الدعوة ولقرون ثلثة،
حتى تبنى المبراطور الروماني الديانة المسيحية، ورفع الضطهاد عن المسيحيين.
يقول صابر طعمية في كتابه التاريخ اليهودي العام: "أدركت قوى الستغلل اليهودي أن دعوة السيد
المسيح إلى الحق والعدل تشكل خطرا عليها، فدخلوا مع هذه الدعوة في معركة كانت من أشد المعارك
التي خاضتها الدعوات إلى الحق والعدل".
وإزاء العجز عن مقاومة نهج السيد المسيح الذي كشف عوراتهم وسيئاتهم فقد قرروا قتله، وهو ما
يعبر عنه إنجيل متى بالقول "أن يضعوا للمعلم حدا للتخلص منه".
وفي الحرب التي شنها اليهود على السيد المسيح استخدموا كل أساليب الوقيعة والوشاية وأعمال
التجسس، وأعدوا اتباعا لهم لزموا السيد المسيح وتعرفوا على أخباره عن قرب، ومن هؤلء التباع
"يهوذا السخريوطي" الذي كان قويا للغاية عديم المشاعر، قاسي القلب.
وبتعبير "متى" في الصحاح السادس والعشرين: "ذهب واحد من الثني عشر الذي يدعى يهوذا
السخريوطي إلى رؤساء الكهنة، وقال "ماذا تريدون أن تعطوني، وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلثين
من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".
وبحسب إنجيل برنابا، فإن هذا الخائن دفع ثمنا قاسيا لقاء خيانته.
رغم القسوة التي تعرض لها السيد المسيح عليه السلم، فإنه لم ينثن، وواصل دعوته وتابع تلميذه
من بعده، حتى حققت الدعوة انتشارا واسعا جدا، انطلقا من بيت المقدس المركز الول للجماعة
المسيحية، هذا مع العلم بأن الماكن التي بشر فيها السيد المسيح أكثر أيامه وعمل فيها تلميذه، كانت
في الجليل.
وسوف نعود للحديث عن بدايات المسيحية في فلسطين في حلقة لحقة.
يعرض د.نقول زيادة، للظروف التي جاء فيها السيد المسيح لينشر دعوته، ملحظا أن اليهود كانوا
مصرين على أن ال اختار شعبا خاصا به هو الشعب اليهودي، وهو وحده الذي وجهت إليه الرسالة،
وهو يقبلها وينشرها داخليا بين أفراد هذا الشعب وأبنائه فقط. بحيث إن المر كله كان حكرا، وإذا كانت
السرة الحشمونية، قد فرضت التهود على الدوميين، فقد كانت وراء هذه الحركة دوافع سياسية ل
دينية.
إلى ذلك يعتقد اليهود أن مملكة، أو ملكوت السماوات، ستقوم على الرض، وأنها آتية ل ريب في ذلك،
وأن مجيئها أصبح وشيكا، وهذه المملكة اللهية المنتظرة هي يهودية بطبيعة الحال، وهذه المملكة
سيتحقق وجودها على يد مخلص منقذ"سيا"، كما أن العبادة الصحيحة ل يجب أن تتم خارج الهيكل.
كان الفريقان الساسيان في الجماعة الدينية اليهودية الفريسيين والصدوقيين.
كان الفريسيون يرون أن القيام بالطقوس الدينية بحرفيتها وبدقة يعطي المؤمن ما يشبه الرصيد
المستقبل، أما الصديقيون فقد كانوا أكثر اهتماما بالنفوذ السياسي والسلطة، في هذا الجو جاء السيد
المسيح، جاء برسالته التي تتلخص بأن ملكوت ال هو هبة ال للبشر أجمعين، وأنه يتم بإدارة ال،
والحصول عليه يتم بالتوبة، بالولدة الثانية، والتنازل عن متاع الدنيا.
والوصول إلى هذا الملكوت يصبح أمرا روحيا داخليا في نفس كل مؤمن، ول يكون النضمام إلى مملكة
على هذه الرض.
وحملت دعوة المسيح تحريرا للنسان من القيود والربطة التي لفتها الجماعة الدينية في بيت المقدس
حوله، فقيدت المجتمع أفرادا وجماعات.
ودعا المسيح إلى عبادة إله واحد لكنه بأقانيم ثلثة: الب والدين والروح القدس. بدت دعوة المسيح،
متناقضة مع إدعاء اليهود بالعهد اللهي الذي أعادوه تدريجيا إلى الوراء حتى أصبح يعود إلى عهد
الخليقة، بعد أن كان أول من عهد إبراهيم، ثم من عهد نوح، فالمسيحية اعتبرت الناس جميعا سواء.
فالمسيحية اهتمت بالطهارة القلبية واليمان بالروح أكثر من الهتمام بالطقوس، وقد رأى السيد المسيح
فيهم، بأن حالهم من الداخل من عند طوية النفس وسريتها، ومن خارجها عند مظاهر النفاق، والحس
المتبلد، بأنهم كالقبور المبيضة خارجها بطلء جميل وداخلها عظام نخرة.
كانت اليهودية تهتم بالهيكل، وبأنه المكان الوحيد الصالح للعبادة، بينما دعا السيد المسيح إلى تنقية
القلب وتطهيره، بحيث يصبح مكانا لئقا لن يعبد ال فيه في كل وقت ومكان بتعاليم السماحة والمحبة،
انطلق السيد المسيح من بيت المقدس لينشر دعوته، وإذا كان قد لقى العسف والضطهاد على يد
اليهود، وكان هذا حال تلميذه، فإن مهده في بيت لحم، ومهد دعوته في بيت المقدس، وأهلوهما
مازالوا يلقون جور من وصفهم بكلماته بالحيات أولد الفاعي.
تحرير بيت المقدس
حاول الفرنجة منع قيام الجبهة المصرية الشامية، فاستنجدوا بحملة جديدة وتحالفوا مع بيزنطة لهجوم
مشترك على مصر لقى فشل ذريعا. وحاولوا استغلل وفاة نور الدين لمهاجمة دمشق، ولم ينجحوا
أيضا.
بعد وفاة نور الدين أصبح صلح الدين اليوبي الحاكم الفعلي لمصر والشام فضل عن المواقع الرديفة
في برقة واليمن والجزيرة.
صرف صلح الدين وقتا ليس بالقصير في ترتيب الوضاع، وتحصين مصر والشام خشية من حملة
جديدة. ثم هاجم مملكة بيت المقدس في إغارة خاطفة سنة ألف ومائة وثمان وسبعين تناولت الداروم
وغزة التي حصنها الداوية، فتجاوزها نحو عسقلن، وضرب عليها الحصار بعد أن دخلها بفدوين الرابع
ملك القدس ليتولى الدفاع عنها.
بدت الفرصة سانحة لتحرير بيت المقدس، فقد كان الفرنجة في أسوأ أحوالهم. ووقع صلح الدين في
خطأ قاتل عندما ترك الجيش يتفرق في فلسطين بدل المهاجمة بكتلة واحدة.
احتل المسلمون اللد والرملة وهاجموا أرسوف ونابلس، لكن بفدوين الرابع ما لبث أن خرج من
عسقلن، وفاجأ صلح الدين قرب الرملة، وألحق به هزيمة نجا منها بصعوبة.
عادت الحرب سجال بين صلح الدين وفرنجة مملكة القدس، وكان خللها يسعى إلى تقوية جيشه، لكنه
لم يستطيع النتظار أمام محاولة أرناط الوصول إلى الماكن المقدسة، فحشد جيشا كثيفا للغارة على
فلسطين سنة ألف ومائة وثلث وثمانين.
دخل الجيش السلمي بيسان التي فر سكانها إلى طبريا وحصونها، واحتشد معظم أمراء الفرنجة في
صفورية بقيادة غي لوزينيان، وتوجهوا إلى سهل زرعين.
مد صلح الدين أجنحة جيشه حتى كادت تطوق الفرنجة، ولكن هؤلء اتخذوا موقف الدفاع السلبي، ولم
يشتبكوا مع الجيش السلمي. أعطت هذه المعركة العامة صورة عن قوة صلح الدين، وكان عليه أن
يتخلص من حصني الكرك والشوبك اللذين يسيطر عليهما أرناط، الذي واظب على مهاجمة الحجاج
والقوافل التجارية السلمية، رغم وجود هدنة بين مملكة القدس وصلح الدين.
رد صلح الدين على تحرشات أرناط بالغارة على طبريا والجليل وعكا وبيروت، وحصن الحبيس
وغزة، كما احتل بيسان.
لم تكن محاولة أرناط الوصول إلى الحرم المكي مما يمكن السكوت عنه، ومع أن حملته فشلت فشل
ذريعا ورد عليها صلح الدين بالغارة على فلسطين إل أن محاولته بالستيلء على حصن الكرك
فشلت، لن من فيه لم يخرجوا للقتال، وجاءتهم نجدة من ملك القدس.
وقعت الهدنة مجددا إلى أن خرقها أرناط سنة ألف ومائة وست وثمانين، وهو خرق لم يكن يريده ملك
القدس، ول الوصي ريموند الذي جمعته صلت حسنة مع صلح الدين، في حين شكل فرصة للمسلمين
الذين اكتملت قواهم. فحشدوا خمسة وعشرين ألف مقاتل في مواجهة عدد مماثل من الفرنجة.
نجح صلح الدين في استدراج الفرنجة إلى المكان الذي حدده للمنازلة، في سهل حطين، وهكذا وصلت
الجيوش الفرنجية منهكة من المسير والعطش، فألحق بها المسلمون هزيمة قاسية.
تعرف هذه المعركة الحاسمة باسم موقعة حطين وفيها قتل أرناط وأسر ملك القدس، وهي شكلت ضربة
قاصمة ضد أكبر حركة استعمارية شهدها العالم قبل العصور الحديثة. وهي فتحت الطريق أمام
المسلمين إلى بيت المقدس.
سيطرت جيوش المسلمين بسرعة على المارات الصليبية على الساحل ابتداء بعكا، كما سيطرت على
حصون الداخل، وفي العشرين من أيلول سنة ألف ومائة وسبع وثمانين، ضرب صلح الدين حصارا
على بيت المقدس. وكان توجهه منذ البداية أن يدفعها إلى الستسلم دون أن يضطر إلى مهاجمتها.
ويقول الكتاب المرافقون له آنذاك إن الفرنجة داخل المدينة هددوا بهدم المقدسات السلمية وقتل
السرى، إذا فكر صلح الدين بمهاجمة المدينة. لكنه عندما نقب السور، أذعنت المدينة للستسلم، ولم
تشهد أية مذابح على غرار تلك التي وقعت عند احتللها، بل تقرر أن يدفع الفرنجة فدية عن أنفسهم،
سدد منها صلح الدين وقادته عن الفقراء مبالغ كبيرة، في حين خرج بطريرك القدس من المدينة
بالحمال من ذهب الكنيسة وفضتها وذخائرها، مقابل عشرة دنانير.
وبقي أهل القدس المسيحيين فيها، وكانوا يجاهرون بأنهم يفضلون حكم المسلمين على حكم الفرنجة.
ويوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة خمسمائة وثلث وثمانين للهجرة الثاني من تشرين الول
لسنة ألف ومائة وسبع وثمانين أقيمت صلة الجمعة في القصى لول مرة منذ ثمانية وثمانين عاما.
تابعت الجيوش السلمية إسقاط الحاميات الفرنجية فاحتلت حصن الكرك بعد حصار طويل، ثم استسلم
حصن الشوبك، وقلعة صفد وقلعة كوكب الهوا التابعة للسبتارية، واحتل المسلمون جبلة اللذقية وقلعة
صهيون، ولم يبق لمارتي طرابلس وأنطاكية سوى الحاضرتين وقلعة الوطوس بيد الداوية، وقلعتي
مرقب وحصن الكراد بيد السبتارية.
ولكن الحروب الفرنجية لم تنته بعد، وسوف تحتاج نهايتها إلى مائة سنة أخرى.
تقديس الحج
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
بسم ال الرحمن الرحيم
. "ول على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيل" آل عمران/ 97
صدق ال العظيم
ويقول عز من قائل:
بسم ال الرحمن الرحيم
"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجال، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم
ويذكروا اسم ال في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة النعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير".
صدق ال العظيم
الحج ركن من أركان السلم، وفريضة من الفرائض التي فرضها ال على عباده المؤمنين، والحج هو
إلى البيت الحرام بمكة، ومناسكه ومشاهده إنما تتم هناك، فما هي الصلة بين الحج إلىالبيت الحرام
بمكة، وبين بيت المقدس؟
لقد أكد سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، الصلة التي ل تنفصم عراها، بين المكانين المقدسين، بين
المسجد الحرام والمسجد القصى في الرض المباركة.
وهذا الرابط اللهي المحكم، إنما جاء ليؤكد مكانة بيت المقدس، إلى جانب مكانة البيت الحرام، وليضفي
عليه طابع القدسية اللهية.
أما الصلة المباشرة بين الحج إلى البيت الحرام وبين بيت المقدس، فيوضحها الحديث النبوي الشريف.
قال رسول ال، صلى ال عليه وآله وسلم:" من أهل بحجة أو عمرة من المسجد القصى إلى المسجد
الحرام غفر ال ما تقدم من ذنبه"
وفي رواية أخرى: "وجبت له الجنة"
رواه أبو داوود.
إن الرسول الكريم، صلى ال عليه وآله وسلم، يؤكد في هذا الحديث مكانة بيت المقدس، من خلل
إعطائه موضعا خاصا بربطه بالحج إلى البيت الحرام بمكة المكرمة.
فالحرام للحج، يتم من مواضع معروفة، محددة ببعدها المكاني عن البيت الحرام، وللمر جوازات
وموجبات معروفة لدى المسلمين، ولكننا هنا أمام شيء مختلف، يجعل الحرام من المسجد القصى
مثابا عظيم الثواب، غفرانا للذنوب أو جزاءا بالجنة.
لم يكن الحديث الذي ذكرناه هو الوحيد الذي أكد فيه الرسول الكريم صلى ال عليه وآله وسلم، على
مكانة بيت المقدس، ولكن أهميته تكمن في ربطه بهذا الركن من أركان السلم، أي الحج وهو يكون
إلى البيت الحرام" أول بيت وضع للناس" وأن يكون للحرام من المسجد القصى، ذلك الثواب فهو من
باب تأكيد التلزم بين المكانين المقدسين.
من هذين الربط والتأكيد، جاء تعبير "حجة مقدسية" حيث دأب كثير من المسلمين على التوجه إلى بيت
المقدس، وعقد نية الحج، والقيام بالحرام من تلك الرقعة المباركة، فيما رأى آخرون، إتمام مناسك
الحج المعروفة بزيارة بيت المقدس، وهو ما عرف " بالتقديس" حيث كان المسلمون، وعند فراغهم من
أداء مناسك الحج في البيت الحرام، والمدينة المنورة يشدون الرحال إلى بيت المقدس، يمكثون فيه
بعض الوقت، مصلين في ربوع المسجد القصى المبارك.
وكان بعضهم يؤخذ بجلل المكان وقدسيته فيعقد العزم على البقاء فيه، ومن هنا نشأت زوايا وأحياء
المجاورين الذين قدموا إلى القدس وسكنوا المدينة، مواظبين على العبادة، أو طالبين للعلم، أو مجاورين
لتلك البقعة الطاهرة، وكثرت الوقفيات المخصصة لخدمتهم، وقاموا على عمارة القدس، وعمارة
مساجدها، ما يعطي دليل آخر على أهمية التوجيه النبوي الهادف إلى حث المسلمين على سكنى القدس
وعمارة مساجدها وأرضها المباركة، وخاصة المسجد القصى، مسرى الرسول الكريم صلى ال عليه
وآله وسلم، ومعراجه إلى السماء.
مما لشك فيه أن مكانة بيت المقدس الدينية قد تجلت في كثير من الحداث والمواقع والروايات وبات
غير مجد فصلها عن الحرم المكي الشريف، أو المسجد الحرام، والمسجد النبوي في المدينة المنورة،
وهي قبلة المسلمين الولى، أرض طاهرة مقدسة من ال عز وجل.
ولم تذكر المصادر التاريخية أن النبي صلى ال عليه و آله وسلم، أعطى أحدا من أهله أو من الصحابة
أرضا، إل ما أعطاه وقطعه "لتميم الداري" في أرض خليل الرحمن من أرض فلسطين الطاهرة، التي
يعتبر الحرم البراهيمي فيها من أقدس المساجد السلمية.
لقد أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك، أن يؤكد على قدسية أرض فلسطين، وعلى أنها البقعة
الطاهرة المقدسة التي ينبغي على المسلمين أن يتمسكوا بها أشد التمسك وإعطاء تميم الداري أرضا في
الخليل، إنما هو مصداق ذلك، وتبيان أيضا لمكانة الحرم البراهيمي الشريف.
لقد حل للبعض، إشاعة وهم بأنه يمكن الستعاضة عن الحج إلى البيت الحرام، بزيارة القدس، وهذا
ليس صحيحا، فمناسك الحج معروفة، وهو ل يكون إل إلى البيت الحرام، ولكن زيارة القدس، تنطوي
على المعاني التي ذكرنا، والحديث النبوي الشريف واضح، ول يترك أي مجال للبس في هذا المر،
فالمقصود من الحديث هو التوجه من المسجد القصى إلى البيت الحرام، ولو أراد رسول ال صلى ال
عليه وآله وسلم غير ذلك، لكان أوضحه وحث عليه بكلم صريح، ل يترك مجال للتأويلت.
المسلم هنا ليس مخيرا في الحج إلى البيت الحرام، أو زيارة المسجد القصى، بل الحج إلى البيت
الحرام، وإنما يثاب ثوابا عظيما على جعل وجهته إلى البيت الحرام، انطلقا من المسجد القصى
المبارك.
أما من أدوا في بيت المقدس مناسك مشابهة لمناسك الحج، فربما أرادوا زلفى إلى ال عز وجل،
وتعظيما لمكانة المسجد القصى الذي ذكره ال في كتابه العزيز، وحث رسوله الكريم صلى ال عليه
وسلم، على زيارته وعمارته. ولم يكونوا، ول هم يستطيعون، جعل المسجد القصى مكان البيت الحرام.
فالمكانان مقدسان، وفيهما بيتان ل عز وجل، ولكن التوزع فيما بينهما يضرب الوحدة السلمية،
ويقوض واحدة من أهم غايات الحج، وهي اجتماع المسلمين على صعيد واحد في وقت محدد.
لقد ظل جو العبادة والتقديس، يلزم بيت المقدس، ووصفها الشعراء المسلمون، وأجادوا القول فيها
متبعين نهج الربط بين البيت الحرام والمسجد القصى، فهذا المعري يقول:
وبعين سلوان التي في قدسها
طعم يوهم أنه من زمزم
ولو لم تكن عين سلوان التي يشرب منها أهل بيت المقدس، ترتبط بذهن المسلمين بعين زمزم، التي
يشرب منها أهل مكة وحجيجها، لما انعكس ذلك في شعر المسلمين الذين دأبوا على زيارة بيت
المقدس، وتأكيد فضله وقداسته.
وقال الشاهر المعلى بن طريف، مولى الخليفة المهدي:
يا صاح إني قد حججت وزرت بيت المقدس
لدا عامدا في غير مأوى سرخس ` وأتيت
وتذكر المصادر التاريخية، أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، قد زار بيت المقدس، بعد أدائه
فريضة الحج إلى مكة المكرمة، سنة مائة وأربعين للهجرة.
كما زارها الخليفة المهدي بعد أدائه فريضة الحج، سنة مائة وستين للهجرة، وعاد إلى زيارتها ثانية،
سنة مائة وثلث وستين للهجرة.
بيت المقدس أسير اليوم، وتحريره واجب على المسلمين، إنقاذا لبيت ال المقدس، وحبا في ثواب
الحرام للحج والعمرة، من البقعة الطاهرة.
ثورة 1920
شكل تحرك القدس ذروة أحداث أول ثورة فلسطينية ضد النتداب البريطاني والصهاينة سنة ألف
وتسعمائة وعشرين. في ذلك الوقت تكاملت عوامل تفجر الثورة، فحكومة النتداب كانت تعمل لنفاذ
وعد بلفور واللجنة الصهيونية التي اعترف بها الحلفاء تطلق تصريحات استفزازية وتكشف عن
مطامعها في فلسطين، بينما يمنع البريطانيون أي تحرك فلسطيني وبالقوة.
فمنعوا عقد المؤتمر الفلسطيني لدورته الثانية في القدس بينما أشرعوا أبواب فلسطين لهجرة اليهود
... وكان ل بد من المقاومة. انفجرت التظاهرات في معظم أنحاء فلسطين فما كان من حكومة النتداب
إل أن أصدرت أمرا بمنع كل التظاهرات، ومهما كان هدفها وشكلها.
عمد المقاومون إلى مهاجمة المستوطنات الصهيونية في الحولة وغور الردن، وكذلك الحاميات
البريطانية في سمخ وبيسان. واجهت سلطات النتداب المقاومين بالطائرات.
ومع حلول شهر نيسان من ذلك العام. جاء موسم النبي موسى. والموسم مناسبة اجتماعية دينية
ظهرت أثناء الحتلل الفرنجي وكان الهدف منها، التحريض على مقاومة الفرنجة.
ويتم الحتفال بالمناسبة عادة في موقع يبعد ثلثين كيلو مترا عن القدس باتجاه أريحا، ولكن الحتفال
يبدأ عمليا بالتجمع في ساحات الحرم القدسي، حيث يفد أبناء فلسطين من مدنها وقراها شاهرين
سيوفهم ورماحهم رافعين راياتهم، ومنشدين الناشيد الدينية والوطنية وبعد أن يكتمل التجمع يتجه
الحشد إلى مكان الحتفال.
يوم الرابع من نيسان منعت قوات الحتلل البريطاني أهل الخليل من دخول القدس للمشاركة في
الحتفال، وكان أهل القدس وأهل نابلس قد خرجوا لستقبالهم وشارك في الستقبال أبناء الطوائف
المسيحية كالعادة. هتف الجميع ضد الحتلل البريطاني والصهيونية وطالبوا بالوحدة العربية
والستقلل.
وتمكن أهل الخليل من دخول القدس عنوة، واتجهت الجموع إلى الساحة أمام باب الخليل، حيث خطب
فيها موسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس ورئيس الجمعية السلمية – المسيحية، وخليل بيدس،
وعارف العارف والحاج أمين الحسيني وغيرهم .. وكانت الكلمات حماسية أثارت الشعور القومي.
اندس بين الجموع المحتشدة صهيوني يدعى كريمر بن مندل محاول خطف العلم العربي وتمزيقه،
فانقض عليه الرجال وقتلوه، ثم جاء صهيوني آخر مع عدد من الجنود البريطانيين لنزال العلم فقتله
الرجال، واندلعت معركة بين الفلسطينيين وبين الجنود البريطانيين وأفراد العصابات اليهودية
الصهيونية.
استشهد فيها أربعة من الفلسطينيين وخمسة من اليهود، وسقط مائة واثنان وعشرون جريحا من
الطرفين. كانت هذه المعركة ضربة البداية لثورة استمرت خمسة أيام في القدس، قتل فيها تسعة من
اليهود وجرح مائتان وخمسون من الطرفين.
وقد فرضت القوات البريطانية حصارا كامل على بيت المقدس وفرضت الحكام العرفية لخماد الثورة.
وعزلت موسى كاظم باشا الحسيني عن رئاسة بلدية القدس، وشنت حملة اعتقالت واسعة، وفرضت
أحكاما بالسجن على ثلث وعشرين من الشخصيات المقدسة بالبارزة من بينها الحاج أمين الحسيني،
وعارف العارف، غير أنهما توجها إلى شرقي الردن.
لم تدم المواجهة طويل، ولكنها أشرت إلى جملة من الشياء المهمة. فهي نقلت الكفاح الفلسطيني ضد
الستعمار والصهيونية من مرحلة البدء بالوعي وإدراك المخاطر إلى مرحلة المقاومة الشعبية، وأسست
للثورات اللحقة التي استفادت من تجربتها القصيرة زمنيا، ولكن العميقة الدللة.
كما أنها كشفت أكثر فأكثر ألعيب بريطانيا ومدى تحالفها مع الحركة الصهيونية. فقد أميط اللثام عن
قيام الزعيم الصهيوني جابوتنسكي الذي كان يحارب في صفوف الجيش البريطاني خلل الحرب العالمية
الولى بتشكيل وحدات عسكرية صهيونية كانت تتدرب علنا وراء مدرسة ليمل وفوق قمة جبل الزيتون
في القدس.
ومع أن بريطانيا ظلت تزعم عدم موافقتها على تشكيل هذه الوحدات فقد زجت بها مع الصهاينة في
مواجهة الثوار الفلسطينيين في القدس.
ورغم أن تقرير لجنة بالين التي عينتها الحكومة البريطانية فضح اللعيب التي تقوم بها حكومة
النتداب، إل أن هذه لم تغير سياستها، بل اتبعت سياسات أكثر قمعية تجاه المواطنين الفلسطينيين،
وسهلت تدفق المهاجرين اليهود على فلسطين، ما كان سببا في اندلع ثورات فلسطينية متلحقة ..
ومن القدس أيضا.
ثورة البراق
مع تزايد تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين برعاية بريطانية، تصاعدت العتداءات الصهيونية على
حائط البراق الذي شكل بؤرة الستهداف اليهودي كما أوضحته في حلقات سابقة.
يعود تسلسل الحداث إلى عام خمسة وعشرين، عندما وقع أول صدام بين العرب واليهود، بسبب
تعديات هؤلء على حائط البراق، بعد عامين من ذلك حاول البريطانيون التحايل لتثبيت حقوق مزعومة
لليهود في الحائط، فقام حاكم مقاطعة القدس النجليزي، بإعلم رئيس المجلس السلمي العلى، أنه لن
يسمح بالذهاب إلى حائط البراق حفاظا على المن العام، وتحديدا في ساعات معينة، لن اليهود اعتادوا
أن يجتمعوا في تلك الوقات لجل الصلة.
رفض رئيس المجلس التحرك، في كتاب مفصل اعترض فيه على الذرائع التي ساقها الحاكم النجليزي
مبينا أن منع المسلمين من دخول الحرم والتوجه إلى حائط البراق يمنح اليهود حقوقا ليست لهم في
المكان، فضل عن أنه يثير عواطف المسلمين، وتم إحباط المسعى البريطاني.
لكن اليهود واصلوا الستفزازات والتجمع أمام الحائط، ووقعت صدامات محدودة جديدة سنة ثمان
وعشرين اضطرت بعدها الحكومة البريطانية إلى إصدار كتاب أبيض يدعو للحفاظ على الحالة الراهنة
لحائط البراق والعتراف للمسلمين بحقهم في ملكيته.
مع مطلع العام تسعة وعشرين، تصاعدت التحركات البريطانية لتنفيذ وعد بلفور بتسهيلت واسعة
لتدفق المهاجرين اليهود الصهاينة إلى فلسطين، وبمصادرة الراضي لصالح الستيطان اليهودي.
استشعر الصهاينة أنهم يملكون القوة والدعم البريطاني، فأطلقوا في آب أغسطس من العام المذكور
مظاهرة ضخمة في تل أبيب، خرج المشاركون فيها "الحائط حائطنا" ودعوا إلى التوجه نحو القدس في
اليوم التالي، وبالفعل انطلقت في الموعد المحدد مظاهرة كبيرة لليهود في بيت المقدس، وتوجهت نحو
حائط البراق، مع تكرار الهتاف: الحائط حائطنا، وقاموا بتركيز أدوات خاصة بهم قرب الحائط.
صادف اليوم التالي عيد المولد النبوي،الذي اعتاد المسلمون الحتفال به في الحرم القدسي الشريف،
وقد جاءت جموع كبيرة منهم للحتفال بالمناسبة.
بعد أداء صلة الظهر انطلق المصلون إلى حائط البراق، وهناك استمعوا إلى خطبة من الشيخ حسن أبو
السعود، تبين فيها الخطار التي تتهدد المقدسات السلمية، فقام المتظاهرون بتحطيم منضدة لليهود
أمام حائط البراق، وأخرجوا من فجواته الوراق التي وضعها اليهود فيها.
تجددت الصدامات الدامية في اليوم التالي، فسارعت قوات الحتلل البريطاني إلى التدخل لصالح
الصهاينة واعتقلت عددا من الشباب العرب، واستمرت الصدامات متفرقة، فيما تواترت النباء عن نية
الصهاينة الستيلء على حائط البراق، فاندفعت أعداد كبيرة من أهالي مدن وقرى فلسطينية إلى بيت
المقدس يوم الجمعة، الثالث والعشرين من الشهر الثامن لعام تسعة وعشرين، لداء الصلة في الحرم
القدسي، وحماية البراق.
تسلح الفلسطينيون بالعصي والهراوات، ولدى خروجهم من صلة الجمعة وجدوا تجمعا من الصهاينة
يتحداهم فاندلعت مواجهات عنيفة، تدخلت فيها القوات البريطانية مطلقة النار على العرب، ودفعت
بالمصفحات إلى المدينة، فيما حلقت الطائرات في الجو لرهاب المقدسيين، الذين تمترسوا في المدينة
والحرم للدفاع عنهما.
ومع وصول أبناء القدس، إلى بقية أنحاء فلسطين، اندلعت ثورة البراق، حيث هاجم الشبان
الفلسطينيون، المستعمرات الصهيونية ومراكز البوليس البريطاني، وتمكنوا من تدمير ست مستعمرات
تدميرا كامل.
مما صعد أوار الثورة مهاجمة اليهود لمسجد عكاشة القديم في القدس، وتدنيسه، وكذلك التدخل السافر
للقوات البريطانية ضد العرب، شملت أحداث الثورة معظم مدن فلسطين، وتركزت أعنف المواجهات في
الخليل ونابلس وبيسان وحيفا وصفد واستمرت فعاليات الثورة فيها نحو عام كامل.
قتل في أحداث ثورة البراق مئة وثلثة وثلثون صهيونيا، واستشهد مئة وستة عشر مواطنا فلسطينيا
واعتقلت سلطات النتداب تسعمائة مواطن فلسطيني، أصدرت أحكاما بالعدام على سبعة وعشرين
منهم، ونفذته في ثلثة منهم هم الشهداء: "محمد جمجوم، فؤاد حجازي، عطا الزير".
وطبقت السلطات البريطانية عقوبات جماعية على المدن والقرى الفلسطينية ما أظهر أن العرب في
فلسطين يواجهون عدوين متلحمين هما "النتداب البريطاني والعدو الصهيوني".
أكدت ثورة البراق أن الشعب الفلسطيني مستعد للدفاع عن أرضه، وبتأثير الثورة، جاءت لجنة )شو(
إلى فلسطين، وأوصت بعد مائة يوم من عملها بتخفيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأكدت أن البراق
ملكية إسلمية، ل حق لليهود فيه.
حائط البراق
يرتبط حائط البراق بمعجزة السراء والمعراج الخالدة في العقيدة السلمية والتاريخ السلمي كونه
يشكل مربطا للبراق الذي أقل الرسول الكريم صلى ال عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد
القصى، والذي امتطاه الرسول الكريم أثناء عودته بعد معراجه إلى السماء.
والبراق دابة كان يركبها النبياء عليهم السلم وجاء في الطبقات الكبرى لبن سعد: أن الرسول حمل
على البراق حتى انتهى إلى بيت المقدس، فانتهى البراق إلى موقفه الذي كان يقف في مربطه.
والمعروف عند أهل القدس بالتواتر والتوارث أنه يوجد محل يسمى البراق، وهو عند باب المسجد
القصى المسمى باب المغاربة، ويوجد مسجد يسمى "مسجد البراق" أيضا يلصق الجدار الغربي للمسجد
القصى، وقد هدمه الصهاينة حين احتللهم للقدس عام سبعة وستين، فيما هدموه من مساجد وآثار
وأبنية، وأغلب الظن أنه المكان الذي ربط فيه البراق.
يبلغ الطول الصلي للحائط، ثمانية وخمسين مترا، ويبلغ ارتفاعه عشرين مترا، ويضم خمسة وعشرين
مدماكا من الحجارة السفلية منها هي القدم.
ويبلغ عمق الحائط المدفون تحت سطح الرض نحو ثلث الحائط الظاهر فوقه، أما الرصيف الموجود
أمام الحائط حاليا فيرتفع عن مستوى سطح البحر نحو سبعمائة وثمانية أمتار، وهذا أخفض مكان من
أرض مدينة القدس القديمة حاليا.
بعد الحتلل الصهيوني لمدينة القدس عام سبعة وستين، تم إجراء حفريات في المنطقة المواجهة
للحائط، بهدف إظهار الجزء المخفي منه، وكشف طبقات الحجارة المطمورة.
أتضح أن الحائط القديم يتكون من سبع طبقات حجرية يعود تشكيلها إلى فترة حكم هيردوس الدومي ما
بين عامي سبعة وثلثين وأربعة قبل الميلد.
وهناك أربع طبقات حجرية يعود تشكيلها إلى العصر الروماني الول، في القرن الميلدي الثاني أما
الحجارة في القسم العلوي من الحائط، فقد أقيمت في العهد البيزنطي، فيما أقيمت أقسام أخرى بعد الفتح
العربي السلمي لبيت المقدس، استمرت الحفريات التي قام بها الصهاينة قرابة عامين، وتسببت في
هدم العشرات من العقارات والبنية الوقفية، بحجة كشف الساحة أمام الحائط، الذي أصبح طوله عند
الصهاينة نحو ثلثمائة وستين مترا، ويرون أن طوله الكلي يقع على امتداد الجدار الغربي للحرم
القدسي، والبالغ طوله نحو أربعمائة وواحد وتسعين مترا.
ويطلق الصهاينة على هذا الحائط اسم المبكى علما أن الحائط الذي كانت تطلق عليه هذه التسمية هو
جزء صغير من الجدار الغربي، اعتاد الصهاينة القدوم إلى زيارته وتأدية طقوس خاصة بالقرب منه،
بزعم أنه جزء من جدار هيكلهم القديم المزعوم.
فالموسوعة اليهودية تدعي أن حائط البراق هو جزء من جدار جبل الهيكل الذي ظل معطل منذ تدميره
الثاني في العام سبعين للميلد، وأنه أضحى من أكثر الماكن قدسية في العادات والشعائر اليهودية،
وتعترف الموسوعة اليهودية أن جميع بقايا المعبد قد محيت تماما عبر الزمن، فيما لم تكن واضحة
بالنسبة لليهود جهة العبادة، واستنادا إلى تفسيرات يهودية مختلفة يعتبر الجزء المجاور للبوابة الغربية
هو الجزء الكثر قداسة كونه لم يتعرض للهدم كباقي أجزاء الحائط الخرى.
وعموما تقدم الموسوعات التي يضعها اليهود والصهيونيين نصوصا متميزة تمتلئ بالدعاوى المغرضة
والتضليلية دون أن مبالة بوقائع التاريخ وحقائقه ومعطياته الثرية.
فالموسوعات والقواميس والكتب التي تعنى بالشؤون اليهودية تنفق على أن هيرودس باني المعبد
القصر في القدس لم يكن يهوديا، بل هو عربي أدومي، والدميون من ألد أعداء اليهود، الذين كانوا
يكرهون هيرودس الكبير كثيرا، وهو الذي قتل أفراد السرة الحشمونية الذين اعتبرهم خطرا على ملكه.
لقد أراد هيرودس بناء هيكل في القدس ليكسب رضا رعاياه، ويدهش العالم الروماني بفخامة بناءه
الذي تم في العام تسعة قبل الميلد، واستمر قائما حتى العام سبعين ميلدي، حيث دمره الرومان، وهو
الهيكل الذي زاره السيد المسيح.
هكذا يبدو جليا أن المزاعم اليهودية حول حائط البراق هي مزاعم تفتقر إلى أي منطق أو دليل، إذ ل
علقة لليهود ببناء هيرودس، وليس مؤكدا أنه أطلق عليه اسم الهيكل أصل.
معركة القسطل
القسطل قرية عربية تقع على مبعدة عشرة كيلومترات إلى الغرب من مدينة القدس، وتشرف على
طريق القدس يافا الرئيسية المعبدة من الجهة الجنوبية الغربية كانت الوظيفة العسكرية أهم وظائف
القرية لتميز موضعها بسهولة الحماية والدفاع، ومن هنا فقد سعى الصهاينة لحتللها في إطار خطتهم
لفتح الطريق إلى القدس، وهي الخطة المعروفة باسم خطة )نحشون(.
حتى آذار من عام ثمانية وأربعين كان الموقف العسكري في فلسطين يميل لصالح العرب، الذين حققوا
انتصارا ساحقا على الصهاينة في معركتين كبيرتين في منطقة القدس، خلل آذار، الولى معركة شعفاط
والثانية معركة الدهيشة.
حيث أدت المعركتان إلى تشديد الحصار على الصهاينة في القدس، وانقطع اتصالهم تماما مع تل أبيب،
بسيطرة المجاهدين على كافة طرق القدس.
انصبت كل جهود الصهاينة على فتح طريق إلى القدس قبل أن ينتهي البريطانيون انتدابهم في فلسطين،
لتحقيق مكاسب على الرض من ناحية، والفادة من الدعم البريطاني من ناحية ثانية ولمنع استسلم
المحاصرين في مستوطنات القدس من ناحية ثالثة.
خصص الصهاينة خمسة آلف من أفراد الهاغاناه والبالماخ والرغون وشتيرن لتنفيذ الخطة، وسلح
هؤلء بأسلحة حديثة وصلت للصهاينة من تشيكوسلوفاكيا.
حدد الصهاينة الموعد الول للهجوم في مطالع أيار، ثم وصلت معلومات إلى قيادة قوات الجهاد المقدس
بأنه قد جرى تقديم الموعد إلى نيسان، لذلك عقد كامل عريقات اجتماعا طارئا مع الشيخ حسن سلمة،
قائد الجهاد المقدس في يافا، ووضعا خطة لمجابهة الهجوم الصهيوني، ثم عقد عريقات اجتماعا مع
قادة جبهة القدس، وهم إبراهيم أبو دية، رشيد عريقات، عبد الحليم الجيلني، بهجت أبو غربية، خليل
منون، وفوزي القطب وغيرهم.
قرر المجتمعون بغياب عبد القادر الحسيني، حشد كل قوات الجهاد في المنطقة، وتعزيزها بشباب القرى
المسلحين، ووزعوهم بسرعة فائقة ليلة الول من نيسان على مراكز باب الواد دير محيسن، وساريس
والقسطل.
كما حشدوا قوات أخرى لصد أي هجوم يهودي باللتفاف على القدس عن طريق بيت لحم، بدأ الصهاينة
هجومهم يوم الثاني من نيسان، بعد أن قسموا قواتهم إلى قسمين، قسم اتجه نحو منطقة دير محيسن،
وقسم إلى ممر باب الواد لقتحامه والستيلء على القسطل.
تمكن الشيخ حسن سلمة من استيعاب الهجوم الصهيوني في دير محيسن، ورد الصهاينة على أعقابهم
وبينما كان يستعد للتوجه إلى القسطل لسناد المجاهدين هناك، تجدد الهجوم على منطقته واستمرت
المعركة حتى منتصف الليل وانتصر فيها المجاهدون.
استطاع القسم الثاني من المهاجمين الصهاينة وهو الكبر اقتحام ممر باب الواد في معركة عنيفة مع
المجاهدين ودخل الصهاينة القرية في منتصف الليل بعد أن تغلبوا على حاميتها المكونة من خمسين
مجاهدا نفذت ذخيرتهم.
كانت قيادة الجهاد المقدس تعرف أهمية القسطل فانطلقت عشرات النجدات من القدس والخليل لطرد
الصهاينة من القرية، وفجر الرابع من نيسان تمكن المجاهدون بقيادة كامل عريقات من احتلل مشارف
القرية، ثم محاصرتها، ومع وصول نجدات جديدة يوم الخامس من نيسان، شدد المجاهدون هجومهم،
وأطبقوا الحصار على الصهاينة، لكنهم افتقدوا الذخيرة الكافية لدحر المحتلين أو القضاء عليهم.
تدخلت مدفعية الصهاينة في محاولة لرد المجاهدين، لكنهم مع ذلك استطاعوا التغلغل في القرية،
وأصبحوا على بعد مائتي متر من وسطها، لكن إصابة كامل عريقات وذهاب إبراهيم أبو دية إلى إسعافه
خلخل صفوف المجاهدين، ووصلت نجدات للصهاينة، كما وصلت نجدات للمجاهدين من القدس، تمكنوا
معها من الحتفاظ بمشارف القرية من الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية، رغم تدخل الطائرات
والمدفعية الصهيونية بعنف شديد، بل وقام إبراهيم أبو دية بقيادة المجاهدين في عمليات اقتحام داخل
القرية حيث فجر عددا من مواقع المحتلين.
صباح السابع من نيسان وصل عبد القادر الحسيني من دمشق، وبعد ظهر اليوم نفسه توجه إلى قيادة
معركة القسطل التي أخذت طابعا أخر مع وصوله.
معركة القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني
ارتبطت معركة القسطل باسم شهيدها البرز المجاهد عبد القادر الحسيني.
ولد عبد القادر الحسيني في الثامن من نيسان عام ألف وتسعمائة وثمانية، واستشهد في اليوم نفسه
من عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.
قائد قوات الجهاد المقدس، مقدام وذكي ومصمم وشهيد القسطل.
كان عبد القادر الحسيني قد غادر القدس متوجها إلى دمشق نهاية آذار من عام ثمانية وأربعين، وذلك
بهدف الجتماع بقيادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية، والحصول على السلح
اللزم لتنفيذ القدس والمحافظة على التفوق الذي حققه المجاهدون في معاركها.
ومع وصول أخبار معركة القسطل إلى المجاهد الحسيني، فقد غادر دمشق على وجه السرعة متوجها
إلى القدس، وبدل نيل متطلباته الكثيرة والمتنوعة التي قدمها إلى اللجنة العربية العسكرية عاد بنصف
كيس من الرصاص فقط.
من القدس توجه الحسيني إلى القسطل بسرعة فوصلها ظهيرة السابع من نيسان، وعمد على الفور إلى
إعادة تنظيم صفوف المجاهدين، وعين على الميمنة في الجهة الشرقية، المجاهد حافظ بركات، وعلى
الميسرة من الجهة الغربية، الشيخ هارون بن جازي، وفي القلب فصيلتان بقيادة إبراهيم أبو دية، وفي
موقع القيادة كان الحسيني، وعبد ال العمري، وعلي الموسوس إضافة إلى فيصلي استناد في الجهة
المقابلة، وبدأ الهجوم وفق هذا الترتيب، لتتمكن قوات القلب والمسيرة من اكتساح مواقع العدو
واستحكاماته المامية، ولكن التقدم كان صعبا بسبب قلة الذخيرة، وأصيب إبراهيم أبو دية مع ستة
عشر من رجاله بجراح، هنا اندفع عبد القادر الحسيني لتنفيذ الموقف، فاقتحم القرية مع عدد من
المجاهدين تحت وابل من نيران الصهاينة ومع طلوع فجر الثامن من نيسان، وقع عبد القادر ومن معه
في طوق الصهاينة، فاندفعت نجدات كبيرة إلى القسطل، كان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف،
لكن هذه النجدات على كثرتها لم تكن منظمة.
عند الظهر، تمكن رشيد عريقات من المساك بزمام القيادة، فأمر بتوجيه نيران السلحة المتبقية
جميعها على القرية لقتحامها، وبالفعل تمكن المجاهدون بعد ثلث ساعات من الهجوم المركز من
اقتحام القرية وطرد الصهاينة منها حيث فر من تبقى منهم، بسيارات مصفحة باتجاه طريق يافا.
حاول قادة المجاهدين استثمار النصر، بمطاردة فلول الصهاينة، ولكن العثور على جثمان الشهيد عبد
القادر الحسيني، ترك في نفوس المجاهدين وقعا أليما، وساد صفوفهم الرتباك، وفقد القادة سيطرتهم
على الفراد، الذين شرعوا في مغادرة القسطل لتشييع عبد القادر الحسيني وعند المساء لم يعد داخل
القرية سوى رشيد عريقات وعبد الحليم الجيلني، مع عدد قليل من المجاهدين.
حاول القائدان استدعاء نجدات إلى القرية ولكن استشهاد الحسيني كان له وقع الزلزال فلم يستجب أحد،
وفي التاسع من نيسان، شيعت القدس في موكب مهيب جثمان شهيد القسطل، الذي روي الثرى في
الحرم القدسي.
وفي وقت متأخر من ليل اليوم نفسه، انسحب عبد الحليم الجيلني من القسطل، مع من بقي معه، فعاد
الصهاينة لحتللها في اليوم التالي ..
وبينما انشغل المجاهدون في وداع قائدهم الكبير، استغل الصهاينة الفرصة ليقترفوا المجزرة البشعة في
دير ياسين.
كانت معركة القسطل رغم الظروف غير المتكافئة مثل رائعا من أمثلة التضحية والحماسة والندفاع
ولكنها كانت أيضا انتصارا ضائعا نتيجة ضعف التسليح، والفتقار إلى التنظيم، وقلة الذخائر وسوء
الخدمات الطبية الميدانية، ووسائل التصال.
التدخلت الوروبية
مثلما استخدم الفرنجة شعارا دينيا لتسويغ عدوانهم على بيت المقدس، رأت الدول الوروبية في ما
أسمته حماية الطوائف المسيحية والماكن المقدسة وسيلة مناسبة لمد نفوذها إلى القدس وفلسطين،
حتى لو اقتضى ذلك أن تعمل على تأجيج الخلفات بين الطوائف المسيحية، وبث بذور الفرقة فيما
بينها.
سعت فرنسا بداية إلى أن تضمن البقاء على المكتسبات التي حققتها الكنيسة الكاثوليكية أثناء الحكم
الفرنجي.
وجرى عقد معاهدات في هذا الطار بين الفرنسيين وحكام ايطاليا من جهة وبين سلطين المماليك من
جهة أخرى، وهي شملت السماح لرسالية الفرنسيسكان بالقامة في المدينة المقدسة.
كانت حرية العبادة كاملة، عمل بقوله تعالى: "فليحكم أهل النجيل بما أنزل ال فيه". غير أن الوروبيين
سعوا إلى نقل الخلفات إلى بيت المقدس خدمة لهدافهم وغاياتهم البعيدة عن موضوع الدين والعبادة
فظهرت الخلفات بين الطوائف المسيحية في المدينة، وقام سلطين المماليك ثم العثمانيون بفضها، قبل
ظهورها أمام المؤتمرات الدولية.
وأصبحت هذه الختلفات من الشدة إلى درجة أن أصحابها من رؤساء الطوائف المسيحية أخذوا
يحتكمون فيها إلى السلطين وولة القدس المسلمين، وعندما لم تجد الطوائف المسيحية من تتوافق
عليه من بينها لحراسة كنيسة القيامة، ارتضت قيام المسلمين بحراستها وفتحها حتى تنتهي طقوس
العبادة ثم إغلقها وحمل مفاتيحها.
لعبت التدخلت الوروبية دورا في عدد من القرارات والحكام التي أصدرها السلطين المماليك، في
القضايا المرفوعة أمامهم من رؤساء الطوائف المسيحية ومن ذلك الفرمان الذي أصدره الظاهر برقوق
سلطان مصر، نهاية القرن الرابع عشر ، بصدد الخلف بين اللتين والروم، إذ أيد فيه حق اللتين
الكاثوليك في المساكن المتنازع عليها في القدس، كما منع الروم الرثوذكس من التعرض لهم.
وفي عهد السلطان الشرف قاتيباي اختصم الكرج واللتين على كنيسة الجلجلة فقام بتقسيمها بينهم.
استمر الحال على هذا المنوال، في عهد العثمانيين، وظهرت على مسرح النزاع طوائف أخرى، وفي كل
مرة، كان الفريق المغلوب يلجأ إلى الحاكم الذي بيده السلطة.
ويسعى إلى استثمار نفوذ دولة أوروبية تؤيده لدى الحاكم. ففي عام ألف وخمسمائة وواحد وأربعين،
اشتد الخلف بين المسيحيين الرثوذكس من أبناء البلد الصليين، وبين رئيس البطريركية اليوناني
جرمانوس، فرأى اللتين الفرصة مناسبة للستفادة من المتيازات التي قد منحها سليمان القانوني
لفرنسوا الول، وحصلوا بالفعل على أمر بأن يخلى الروم والرمن القباب الثلث في كنيسة القيامة وأن
يسلموا المفاتيح والشمعدانات والقناديل إلى الفرنسيسكان.
وصار لفرنسا وحدها حق حماية الكاثوليكية اللتينية ومصالحها في البلد المقدسة.
ولكن انشغال الدول الوروبية الكاثوليكية بالحروب الداخلية في أوروبا شجع الرثوذكس على المطالبة
بحقوقهم في كنيسة القيامة وحصلوا بالفعل على فرمانات من السلطان مراد الرابع في أواسط القرن
السابع عشر، ما أثار حفيظة اللتين وملك فرنسا، والبابا اوربانوس الثامن، فصدر فرمان جديد يؤيد
حقوق اللتين.
وبسبب هذه المواقف المتقلبة، بدت الفرصة سانحة لتدخل أوروبي أكبر أثرا، فسعت فرنسا بحكم
علقاتها الوثيقة مع الدولة العثمانية إلى الحصول على اعتراف الباب العالي بأن تكون فرنسة حامية
للمسيحية في بلد الدولة العثمانية، وأن تشمل الحماية الفرنسية أبناء الدولة العثمانية من المسيحيين
الكاثوليك والتخطيط لحقوق اللتين والروم والرثوذكس ولكن الدولة العثمانية رفضت.
استغلت فرنسة، ظروف الحرب التي شنتها روسيا والنمسا وبولندا والبندقية ضد السلطنة، لتجبرها على
تلبية المطالب الفرنسية، وسيطر الرهبان اللتين الكاثوليك على الماكن المقدسة في القدس، وتم تثبيت
هذه السيطرة في فرمان سلطاني، صدر سنة ألف وستمائة وتسعين.. وفي عام ألف وسبعمائة وأربعين،
عقدت فرنسا مع الدولة العثمانية أول معاهدة بالمعنى الصحيح للمتيازات الجنبية، اعترفت فيها الدولة
العثمانية بحماية فرنسا لجميع من يدينون بدينها في بلد الدولة العثمانية، أي جميع اللتين من الجانب
ورعايا الدولة.
وأكدت المعاهدة حقوق اللتين التي حصلوا عليها بموجب الفرمانات السابقة.
لم يكن هذا حل للمشكلة بل تأسيسا جديدا لتفاقمها، فسوف يعود الرثوذكس إلى الحصول على فرمانات
لصالحهم. وتتطور المور إلى حروب دموية.
فمع إطللة القرن الثامن عشر، أصبح التدخل الوروبي بدعوى حماية الطوائف المسيحية والماكن
المقدسة، إحدى قواعد العلقات الدولية السائدة، لكن في القرن التاسع عشر سوف تندلع حرب القرم،
ومعها بداية التقاسم الفعلي لراضي السلطنة العثمانية، وفيها القدس التي وقعت في أيدي البريطانيين
تمهيدا لتسليمها إلى الصهاينة.
الحسينيون في القدس
يرتبط اسم عائلة الحسيني ارتباطا وثيقا بالقدس، حتى لتبدو العائلة والمدينة وقد جمعت بينهما وشائج
ل تنفصم عراها.
يعود اسم عائلة الحسيني المقدسية إلى الحسين عليه السلم، سبط )رسول ال صلى ال عليه وآله
وسلم(، وقد كانت هذه الصلة ذات أهمية قصوى في الدور الديني والسياسي الذي لعبه الحسينيون في
بيت المقدس، والقضية الفلسطينية.
جد الحسينيين المقدسين هو السيد محمد بدر الدين الحسيني، الذي جاء إلى فلسطين قادما من الحجاز
في القرن الثاني عشر الميلدي، واستقر في وادي النسور جنوب غرب القدس.
ثم انتقلت العائلة إلى بيت المقدس سنة ألف وثلثمائة وثمانين، وباشرت دورا مؤثرا فيها مستندة إلى
ثقلها الديني العريق، وانتقل بعض فروع العائلة إلى غزة واللد.
لعبت العائلة دورا مؤثرا في بيت المقدس منذ أيام محمد بن بدر الدين، ثم برز هذا الدور بشكل أكبر مع
تولي عبد القادر بن كريم الدين الوفائي الحسيني منصب دار الفتاء في القدس، كان منصب نقيب
الشراف والمفتي من أهم المناصب المحلية في ظل الدارة العثمانية، وغالبا ما تولى بعض أفراد العائلة
الحسينية هذين المركزين منذ بداية القرن السابع عشر حتى بداية القرن العشرين.
ففي القرن السابع عشر، عين السيد عبد اللطيف الحسيني شيخا للحرم القدسي ونقيبا للشراف في
القدس، وبعد وفاته تولى ابنه عبد ال منصب نقيب الشراف، حتى وفاته سنة ألف وسبعمائة وإحدى
عشرة، تله عبد اللطيف الثاني، الذي يعتبر من أبرز الشخصيات الحسينية، فقد كان نقيبا للشراف
وشيخا للحرم القدسي، منذ سنة ألف وسبعمائة وخمس وأربعين، حتى سنة ألف وسبعمائة وأربع
وسبعين، وكان معروفا في القدس وخارجها، وفي زيارة له إلى دمشق عمت شهرته في جميع البلد
حتى أنها فاقت شهرة والي دمشق نفسه، وبسبب غيرة الوالي صدر حكم على الحسيني بالبقاء في
القدس، ونقل مناصبه إلى ابنه عبد ال.
تولى حسينيون منصب نقابة الشراف في يافا واللد إضافة إلى القدس، واحتفظت العائلة بمنصب الفتاء
من سنة ألف وسبعمائة وإحدى وتسعين حتى سنة ألف وتسعمائة وسبع وثلثين ما خل فترات قصيرة.
ومن أبرز المفتين من آل الحسيني حسن الحسيني، وطاهر الحسيني ،الذي نفي مع نقيب الشراف عمر
بن عبد السلم الحسيني إلى القاهرة إبان حكم إبراهيم باشا بسبب الثورة عليه، ولم يعودا إل بعد
خروجه من فلسطين، شهدت الفترة لحقا انحسارا جزئيا للنفوذ الحسيني في القدس، ولكنهم استعادوا
الفتاء سنة ألف وثمانمائة وست وخمسين، وتولى المنصب السيد مصطفى الحسيني ثم ابنه طاهر، ثم
الشيخ كامل وأخيرا الحاج أمين الحسيني، الذي أبعده البريطانيون خارج فلسطين، وخلل حكم السلطان
عبد الحميد تولى الحسينيون مناصب إدارية ودينية في استانبول كما في القدس وفي سنة ألف
وثمانمائة وخمسين كان موسى الحسيني زعيما للعائلة ومسئول لمحكمة الجنايات في القدس، وأخوه
سليم نقيبا للشراف وابنه إسماعيل مديرا للمعارف.
وتولى سليم الحسيني رئاسة البلدية وكذلك تبعه أبناؤه حسين وموسى وكاظم الذي أصبح من مقدمي
شخصيات العرب، وبرز في فن الدارة في الدولة العثمانية، وأصبح رئيسا لبلدية القدس منذ سنة ألف
وتسعمائة وعشرين حتى عزلته السلطات البريطانية بسبب مواقفه الوطنية.
هذه الشخصيات فضل عن شخصيات أخرى لعبت دورا في مجلس المبعوثان، وفي حكومة فيصل
العربية في دمشق.
عرف الحسينيون بمواقفهم الوطنية في مواجهة الغزوة الصهيونية والنتداب البريطاني فقد تولى موسى
كاظم باشا الحسيني رئاسة اللجنة التنفيذية العربية وأصيب أثناء مظاهرة ضد البريطانيين، وأدت
الصابة إلى استشهاده سنة ألف وتسعمائة وأربع وثلثين، وكان الحاج أمين الحسيني، زعيما للنضال
الفلسطيني ضد البريطانيين والصهاينة وتولى رئاسة الهيئة العربية في فلسطين، وكان عبد القادر قائدا
لجيش الجهاد المقدس، وبطل الدفاع عن القدس ومعركة القسطل حتى استشهاده، ولعب ابنه فيصل
الحسيني دورا لفتا في الدفاع عن عروبة القدس وأسلميتها وفي قيادة النتفاضة الولى، حتى وفاته
سنة ألفين وواحد، وقد تعرض للعتقال مرارا وأصيب في التظاهرات.
الكنائس العربية المشرقية
لم يكن الخلف بين كنيسة القدس وكنيسة روما طارئا في وقت من الوقات، بل لعله حكم دوما العلقة
بين الكنيستين.
وفي العصر الحديث، سعت الكنائس العربية دوما إلى إظهار تمايزها عن مواقف الكنائس الغربية،
وظهر هذا المر بوضوح كامل في قضية القدس، فبينما تبنى الفاتيكان فكرة التدويل، وضمان حرية
العبادة، سعت غالبية الكنائس العربية إن لم تكن كلها إلى تأكيد عروبة القدس.
لقد تحفظت الكنائس العربية على قرار تبرئة اليهود من دوم المسيح، وفي مطلع السبعينات، دعا
مطارنة الطوائف المسيحية في الردن، البابا بولس السادس، إلى التدخل للحفاظ على عروبة المدينة
المقدسة. كما وجهوا نداء إلى المسيحيين في العالم، بالضغط على الكيان الصهيوني لتنفيذ قرارات المم
المتحدة، ووقف إجراءات التهويد التي يقوم بها في مدينة القدس.
وفي الوقت نفسه تقريبا، دعا مجلس البطاركة والمطارنة الكاثوليك في لبنان إلى صيانة الطابع الذي
يميز القدس، ويكفل لها كيانا متحررا من أي تدبير تفرضه القوة. واعتبروا أن مصير القدس والماكن
المقدسة، رهن العتراف بالحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني، التي ل يجوز التصرف بها.
وفي مطلع الثمانينات، ومع تزايد العتداءات على المقدسات السلمية في المدينة، قال رؤساء الطوائف
المسيحية في الردن: سنكون ضمن المسيحيين العرب دوما مشاركين أوفياء، وبكل قوانا للدفاع عن
قدسنا ومقدساتنا السلمية والمسيحية فيها.
الكنائس المشرقية العربية، تحفظت أيضا على العلقات بين الفاتيكان والكيان الصهيوني، واعتبرت
الكنيسة الرثوذكسية في الردن أن "الفاتيكان وحده انخرط في حوارات مع )إسرائيل( مشيرة إلى طابع
القدس الخاص المتعلق بالعروبة التي كانت الدرع القوي لها منذ العهدة العمرية".
وقد شددت الكنيسة الرثوذكسية دوما على عروبة القدس، وقال الرشمندريت عطا ال حنا: إن القدس
هي قلب الصراع، ول يجوز فصل القدس عن قضية الشعب الفلسطيني، فهي مدينة عربية فلسطينية بكل
مقدساتها السلمية والمسيحية، ويجب أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية.
الب عطا ال حنا، أكد أن الشعب الفلسطيني، واحد بمسلميه ومسيحييه في مواجهة العدو الصهيوني،
وكما انتصر الجنوب وتحرر بفعل المقاومة فإن فلسطين ستنتصر وتتحرر وعاصمتها ستكون القدس
بفضل المقاومة الفلسطينية.
فيما يؤكد بطريرك الروم الرثوذكس في لبنان اغناطيوس الرابع هزيم، على أن القدس قلب كنيسة
العرب فالسيد المسيح ولد وعاش في القدس وفلسطين، وقدس القصى وكنيسة القيامة للعرب مسلمين
ومسيحيين.. ول يجوز أن تكون القدس يهودية بأي صورة من الصور.
وثابر البطريرك هزيم على القول إن القدس عاصمتنا في الدرجة الولى، وأننا مع كل من يصر على أن
القدس يجب أن تحافظ على كرامتها، وأن تكون بالفعل لنا ولخوتنا المسلمين، ونحن نشجع الذين
يقومون بالنتفاضة.
مع انطلق انتفاضة القصى، لم تعد هذه المواقف مقتصرة على الكنيسة الرثوذكسية، فمجلس البطاركة
الكاثوليك في لبنان، أيد في بياناته التي أصدرها في العام ألفين قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس،
منددا بالظلم الذي يحل بالشعب الفلسطيني.
وأكد البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك الروم الكاثوليك على أن القدس هي قلب العالم
العربي، وقلب العالم كله، هي أم الكنائس وهي تملكنا، ونحن كلنا أبناؤها.. والقدس هي عاصمة الدولة
الفلسطينية.
وفي نهاية العام نفسه، اعتبر البطريرك الماروني مار نصر ال بطرس صفير، ومطران القدس السابق
ايلريون كبوجي، أن ادعاء اليهود بأن عاصمتهم هي القدس، هو ضرب من الخيال.
في أيلول من عام ألفين وواحد، اختتم مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك أعمال مؤتمره الحادي عشر،
وأصدر بيانا أكد فيه أنه "لن يكون في منطقتنا سلم ول استقرار ول أمن من دون منح الشعب
الفلسطيني حقوقه الثابتة والمشروعة في دولته المستقلة وعاصمتها القدس، أما البطريرك
غريغوريوس الثالث لحام، فدعا إلى دعم النتفاضة، لوصول الشعب الفلسطيني إلى حقوقه المشروعة
في دولته، خصوصا أن تكون القدس هي العاصمة الروحية ليماننا كله، والعاصمة أيضا لفلسطين.
في أحاديث الرسول "ص"
منح ال سبحانه تعالى رسوله الكريم محمدا صلى ال عليه وآله وسلم، نبوة متكاملة، فكان خاتم الرسل
والنبياء وإمامهم.
ولما كانت صلة النبي الكريم بربه صلة خاصة خالصة، فإنه عليه الصلةو السلم، أدرك القرآن إدراكا
نبويا خاصا، فسورة السراء التي افتتحها ال سبحانه وتعالى بالربط بين المسجد الحرام والمسجد
القصى، جعلت النبي عليه الصلة والسلم، يوضح للمسلمين مكانة المسجد الحرام والمسجد القصى،
في أحاديث شريفة كثيرة، تحدث بعضها عن قدم المسجد القصى وأصل بنائه، وبعضها عن فضائل بيت
المقدس ومكانته، وبعضها الثالث تحدث عن نهاية أمره وصراع المسلمين مع اليهود من أجله. وعدا
عن الحاديث النبوية الشريفة، فإن في سيرته صلى ال عليه وآله وسلم ،الكثير من القضايا المرتبطة
ببيت المقدس، مثل رسالته إلى قيصر الروم هرقل، ومثل الحديث عن السرايا المجاهدة التي أرادها
رسول ال، أن تتجه صوب الرض المباركة فلسطين والمسجد القصى.
في الحديث الشريف:
روى المام علي بن أبي طالب عليه السلم، أن رسول ال "ص" قال: "سيد البقاع بيت المقدس، وسيد
الصخور صخرة بيت المقدس"
وعن ميمونة مولة النبي صلى ال عليه وآله وسلم، قالت يا نبي ال، أفتنا في بيت المقدس، فقال
أرض المنشر والمحشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلة فيه كألف صلة فيما سواه. قالت أرأيت من لم
يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإن من أهدى له، كان كمن صلى فيه "
رواه أحمد وابن ماجه
وجاء في الحديث:
"من أهل بحجة أو عمرة من المسجد القصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو
وجبت له الجنة "
رواه أبو داوود
وفي سنن ابن ماجه:
من أهل بعمرة من بيت المقدس، كانت كفارة لما قبلها من الذنوب
وعن جابر أن رجل قال: يا رسول ال أي الخلق أول دخول إلى الجنة؟ قال: النبياء، قال ثم من؟ قال
الشهداء. قال ثم من؟ قال: مؤذنو المسجد الحرام. قال ثم من؟ قال: مؤذنو بيت المقدس. قال ثم من؟
قال: مؤذنو مسجدي هذا. قال ثم من؟ قال سائر المؤذنين على قدر أعمالهم."
وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه الصلة في المسجد الحرام بمائة ألف صلة،
والصلة في مسجدي بألف صلة والصلة في المسجد القصى بخمسمائة صلة " قال البزار: إسناده
حسن.
وقال صلى ال عليه وآله وسلم: "ل تشد الرحال إل إلى ثلثة مساجد مسجد الحرام، ومسجد القصى،
ومسجدي."
والحديث من الحاديث المسندة الصحيحة بسندها ومتنها. وقد رواه ستة من أصحاب الرسول صلى ال
عليه وعلى آله وسلم ورواه عنهم اثنا عشر تابعيا.
والحديث يدل على مكانة المسجد القصى في نفوس المسلمين. بل مكانة المسجد القصى في الشرع
السلمي. وبالتالي يدل على منزلة المكان الذي بنى فيه المسجد القصى، ومكانه ما حول من الصقاع،
لن ال سبحانه وتعالى بارك فيها بنص القرآن الكريم.
وهو ثالث ثلثة مساجد يضاعف فيها ثواب المسلم، والقدس التي تضم المسجد القصى ثالثة ثلث مدن
هي أركان أمة السلم.
وفي حديث رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم عن السراء من الرشاد ما يكفينا من قول حول مكانة
القصى.
وهي أحاديث كثيرة،وزاخرة بالمعاني وأول ما يعنيها وأبرزها:
أن رسول ال عليه الصلة والسلم، أسري به إلى مكان مقدس، قدسه ال قبل خلق البشر.
كذلك، فإن بيت المقدس، الذي صلى فيه رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم إماما للنبياء، هو مكان
رباني، يريد ال أن تتم فيه النبوات وتختتم بمحمد صلى ال عليه وآله وسلم، وهذا هو التحدي الرباني
لكل من بعث ال لهم أنبياء، وجحدوهم وقتلوا بعضهم، وانحرفوا عن عقيدتهم. فبصلته عليه أفضل
الصلوات والتسليم إماما للنبياء، ما يعني أن ديانة التوحيد سيقودها هذا النبي، وأن المسجد القصى
الذي هو مقدس رباني أولى بمحمد صلى ال علية وآله وسلم، وبمن آمن معه من المسلمين
الموحدين، الذين أناط ال بهم مسؤولية حماية بيته المقدس.
قال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم:
"ل تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر
والشجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد ال .هذا يهودي خلفي تعال واقتله، إل الغرقد، فإنه
من شجر اليهود"
صحيح بخاري
ولرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم، عدا عن هذه البشرى أحاديث كثيرة، تتحدث عن القدس
بوصفها أرض الرباط والجهاد. ما يبين مكانها وتحديدا مكانة مسجدها القصى في عقيدة السلم وهي
مكانة ل تقل أهمية عن مكانة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، دون أن ننسى للحظة أن
القدس، هو أول قبلة للمسلمين.
على أن الحديث عن كون القدس أرض الرباط، إنما يؤكد أيضا على حث الرسول صلى ال عليه وآله
وسلم المسلمين الدفاع عن المكان المقدس، والمستهدف من أعداء السلم
قال الرسول الكريم:
"ل تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، ل يضرهم من خالفهم، ول ما أصابهم من
البلء حتى يأتيهم أمر ال وهم كذلك. قالوا يا رسول ال وأين هم؟ قال في بيت المقدس، وأكناف بيت
المقدس"
مسند أحمد بن حنبل
لقد كتب الكثير عن فضائل بيت المقدس،حتى بلغ عدد المصنفات الموضوعة في هذه الفضائل نحو
ستين مصنفا، وربما وجدت في هذه المصنفات أحاديث موضوعة إلى جانب الصحيح من الحديث
الشريف، لكن وجود الحاديث الموضوعة، ل ينتقص من المكانة البينة التي أولها رسول ال صلى ال
علية وآله وسلم لبيت المقدس، وبشراه الولى بفتحها بعد سنوات قليلة من وفاته، وبشراه الثانية
بفتحها بعد أن تؤخذ من أيدي المسلمين.
روي عن أبي هريرة. قال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم:
"تقبل رايات سود من خراسان، فل يردها شيء حتى تنصب بإيلياء"
بولس السادس
في كانون الثاني من عام أربعة وستين وتسعمائة وألف، قام بولس السادس بزيارة تاريخية إلى
فلسطين.
اكتسبت الزيارة صفة التاريخية، لكونها الولى لبابا من روما إلى الراضي المقدسة، حيث شملت أماكن
مقدسة في مختلف أرجاء فلسطين.
لكن هذه ليست صفتها الوحيدة، ففوق قمة جبل الزيتون في مدينة القدس، التقى رأس الكنيسة
الكاثوليكية بولس السادس، مع بطريرك الرثوذكس، بطريرك القسطنطينية أثينا غوارس وتناول اللقاء
بين الزعمين الكنسيين العديد من المور الكنيسية والدينية، وأيضا الجتماعية والسياسية.
جاءت زيارة البابا بولس السادس إلى فلسطين قبل نحو عام من صدور وثيقة نوسترا ايتاني عن
المجمع المسكوني الثاني، وهي الوثيقة التي برأت اليهود من دم المسيح، وفتحت الباب أمام تطور
العلقات بين الفاتيكان والكيان الصهيوني.غير أن البابا تعمد في زيارته تلك نزع أي صفة سياسية
عنها، وقال أن ما يقوم به هو حج إلى الراضي المقدسة. وهو ركز طوال الوقت على دعوة المسيحيين
في فلسطين إلى التمسك بأرضهم وعدم الرحيل عنها.
ويشار إلى أن تلك الزيارة لعبت دورا كبيرا في زيادة دعم الفاتيكان لمؤسسات فلسطينية تساعد على
تثبيت الفلسطينيين في أرضهم، وعلى ولدة مؤسسات جديدة منها جامعة بيت لحم التي افتتحت أبوابها
عام ثلثة وسبعين وتسعمائة وألف، بدعم من الفاتيكان.
أغضب صدور وثيقة نوسترا ايتاني الكنائس العربية التي سجلت تحفظا واضحا عليها، غير أنه من
المتيسر لحظ الموقف العادل من الكفاح الفلسطيني الذي وقفه بولس السادس، ففي رسالته إلى رئيس
البعثة البابوية سنة اثنين وسبعين وتسعمائة وألف شدد البابا على أن شعب الراضي المقدسة يتمتع
بالحقوق نفسها في تقرير المصير لي سكان محليين. وقال: "أن الفلسطينيين شعب يحبه البابا، لنهم
كانوا ومازالوا يختبرون بشكل مأساوي، وهم يرمزون إلى نظريته حول تعزيز السلم بواسطة العدالة."
ثابر البابا على تبني الموقف المعلن من قضية القدس المتعلق بالتدويل، وابتداء من عام سبعة وستين
وتسعمائة وألف، تخلى البابا عن الدعوة إلى التدويل، واستبدالها بالدعوة إلى نظام خاص يتمتع بحماية
دولية، كما أنه انتقد الستيطان الصهيوني في القدس، والمحاولت المستمرة لحداث تغيرات على
الرض فيها، ففي عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، نشر البابا مقال في الصحيفة الرسمية الناطقة
باسم الفاتيكان "الوبسر فاتوري رومانو" قال فيها: هناك وضع خطير يجري إيجاده ضد الشرعية،
وعلى أساس منطق المر الواقع، إن الجراءات المصادرة تكفي لعطاء فكرة عن الشكل الجذري الذي
يفرض فيه على القدس وجه ل يلئم طبيعتها التاريخية والدينية ورسالتها العالمية.
إن من المستحيل تجنب الشعور بالخوف العظيم من هذه التغيرات الخطيرة التي تتسبب بها عمليات
الستيطان.
وانتقد البابا بوضوح رغبة الكيان الصهيوني في بسط سيطرته على المدينة، دون التفات لحقوق
الخرين فيها.
عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف عاد بولس السادس إلى التأكيد على أهمية بقاء المسيحيين في
القدس، والصمود في وجه محاولت الصهاينة السيطرة على المدينة وإنهاء هذا الوجود المسيحي فيها،
وقال البابا في عظة موجهة إلى الساقفة ورجال الدين والمؤمنين: "لو قيض للوجود المسيحي في
القدس أن ينتهي فإن المقامات المقدسة ستخلو من حرارة الشاهد الحي، وستصبح الماكن المقدسة
المسيحية والرض المقدسة كالمتاحف.
عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين توفي البابا بولس السادس، وخلفه لوقت قصير يوحنا بولس الول،
ثم توفي في ظروف غامضة، وجاء بعده يوحنا بولس الثاني، الذي شهد عهده إقامة علقات دبلوماسية
بين الكيان الصهيوني والفاتيكان.
بيت المقدس في القرآن الكريم
بسم ال الرحمن الرحيم
"سبحان الذي أسرى بعبده ليل من المسجد الحرام إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا
إنه هو السميع البصير"
صدق ال العظيم
مما ل شك فيه أن القدس، وهي المدينة المعروفة من أرض فلسطين، والتي يقع على أرضها المسجد
القصى وقبة الصخرة، هي من أهم المواطن العبادية المقدسة عند المسلمين. وقد ذكرها القرآن الكريم
في عدد من آياته، وهي قبلة المسلمين الولى، ومهبط الوحي وموطن النبياء والصالحين، ومنها عرج
نبي الرحمة محمد بن عبد ال إلى السماء، وهي ثالث الحرمين الشريفين.. وأيضا هي من أهم المواطن
الثرية في العالم. وارتباط المسلمين بها أعمق وأبعد من مجرد علقة بأرض. فهي ترتبط بعقيدتهم
السلمية، وتمثل عنوان عزتهم وكرامتهم. والتفريط بها تفريط بالمقدسات.
فإن كان السلم يحض الناس على بذل المهج من أجل حفظ الموال والعراض والوطان، فكيف
بالمقدسات التي تتأكد فيها مشروعية البذل والعطاء والتضحية من أجلها بالنفس والموال.
وليست فاتحة سورة السراء المكان الوحيد الذي جاء فيه ذكر المسجد القصى والقدس التي هي
الرض المباركة.
يقول تعالى في سورة النبياء
بسم ال الرحمن الرحيم
"ونجيناه ولوطا إلى الرض التي باركنا فيها للعالمين"
صدق ال العظيم
ويقول جل من قائل:
بسم ال الرحمن الرحيم
"ولسليمان الريح تجري عاصفة بأمره إلى الرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين"
صدق ال العظيم
والرض المباركة هي فلسطين، أي ما حول المسجد القصى بدءا بالقدس، وذلك باتفاق الراء
ويقول تعالى في سورة سبأ:
بسم ال الرحمن الرحيم
"وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير،سيروا فيها ليالي وأياما آمنين".
صدق ال العظيم
وهو ما كان بين مساكن سبأ في اليمن، وبين قرى الشام من العمارة القديمة، فباركنا فيها أي الشام،
ومنها القدس مركز البركة.
وقال تعالى في سورة التين:
بسم ال الرحمن الرحيم
"والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد المين "
صدق ال العظيم
ويقول ابن عباس: التين بلد الشام، والزيتون بلد فلسطين، وطور سنين: الجبل الذي كلم ال موسى
عليه السلم، والبلد المين مكة.
وقال تعالى :
بسم ال الرحمن الرحيم
"وجعلنا ابن مريم وأمه آيه، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين"
صدق ال العظيم
يقول ابن عباس :هي بيت المقدس.
وهناك آيات أخرى فسرها المفسرون على أنها تدل على بلد الشام بعامة، التي منها بيت المقدس.
ومن ذلك جاء في سورة النبياء:
بسم ال الرحمن الرحيم
" ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادي الصالحون "
صدق ال العظيم
وما جاء في سورة النور :
بسم ال الرحمن الرحيم
"في بيوت أذن ال أن ترفع ويذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والصال"
صدق ال العظيم
وما جاء في سورة الحديد :
بسم ال الرحمن الرحيم
"يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قلبه العذاب "
صدق ال العظيم
في اليات الكريمة التي عرضنا لها، تتضح المكانة الخاصة للمسجد القصى والرض المباركة حوله،
وهي مكانه تأتي من القداسة التي منحها ال للقصى والقدس.
لقد ربط القرآن الكريم بين المسجد الحرام والمسجد القصى، وهما مكانان خاصان ل عز وجل.
والمسجد هو ل وحده بحيث أن كل عمل يقوم به المسلم تقربا من ال سبحانه في هذا المسجد هو عمل
خاص بالعلقة بين المسلم وربه.
ولو خضنا في معرفة المعاني التي طرحتها واقعة السراء، وقفنا طويل متأملين لماذا اختار ال تعالى،
بيت المقدس ليكون المكان الذي يسري برسول ال إليه؟
لقد أراد سبحانه أن يكرم القصى والقدس بمجيء الرسول "ص" إليهما، ويؤكد قدسيتهما، ويشرفهما
بخاتم النبياء.
وقد اتفق العلماء أن من حكمة السراء تثبيت الديانة التوحيدية السماوية في القدس الشريف، أو إيحاء
بأن القدس ستبقى معقل التوحيد، ل تشوب فيها دين ال شائبة. والدين عند ال: السلم. وتبين سورة
السراء، التي جاء فيها الربط بين المسجد القصى والمسجد الحرام، أن الحرب بين السلم والكفر،
بين الحق وبين الباطل ستدور بعض فصولها المهمة على أرض فلسطين والقدس، وستكون الغلبة في
هذه الحرب للحق وللمسلمين في النهاية.
في كتابات رحالة غربيين
حظيت القدس بما لم تحظ به مدينة أخرى من كتابات الرحالة الغربيين، وتمل هذه الكتابات مجلدات
عديدة، نختار هنا فقرات صغيرة منها.
في القرن الخامس عشر الميلدي، زار الرحالة فيلكس فابري مدينة بيت المقدس، وكتب في وصف أحد
الكتاتيب فيها:
بينما كنت نازل من جبل صهيون في طريقي إلى الكنيسة للصلة، سمعت أولدا يقرءون بصوت مرتفع،
فاقتربت من باب المدرسة، ونظرت إليهم، فرأيت صبيانا جالسين على الرض في صفوف، وكانوا كلهم
يرددون مجتمعين نفس الكلمات بصوت واحد، ويهزون رؤؤسهم أماما وخلفا.
وقد استطعت أن أحفظ الكلمات التي رددوها مع موسيقاها، وهي أول ما يعلمون صبيانهم لنها أصول
عقيدتهم.
وفي القرن السادس عشر، زار عالم النبات الفرنسي بيربيلون مدينة القدس، وقال في وصفها: أصبح
لها منذ فترة قريبة أسوار عالية جديدة ولكنها ضعيفة البنية، والبيوت فيها مغطاة بشرفات على
السطح، والمخازن في السواق الرئيسية مقببة كالسكندرية، مع فارق أن قبب القدس، مبنية من
حجارة منحوتة، كما أن السواق فيها مقببة.
وفي الفترة نفسها تقريبا، زار القدس جان شزنو الفرنسي، وكتب يقول:
إن القدس محاطة بسور بناه التراك، ولكن ل يوجد لها خندق. والمدينة متوسطة الحجم، وليست
مكتظة بالسكان، وشوارعها ضيقة يصعب السير فيها بسبب مرتفعاتها.
لوران دارفيو، زار القدس في القرن السابع عشر، وكتب هذا الرحالة الفرنسي واصفا موقع القدس
الجبلي:" إن المرء يصعد باستمرار للوصول إليها، ثم ينحدر فيها بشدة حين مغادرتها، وأطرافها جرداء
باستثناء الجبهة المؤدية إلى بيت لحم حيث الرض خصبة.
والقدس أكثر طول من الشرق إلى الغرب، منها من الجنوب إلى الشمال، وتحيط بها أسوار قوية ذات
أبراج مربعة بناها السلطان العثماني سليمان القانوني. ويبلغ سمك السوار حوالي مترين، ومحيطها
أربعة آلف وخمسمائة خطوة، وحولها خندق دون مياه، يمتد من باب دمشق إلى باب بيت لحم حيث
القلعة.
وفي البراج، ثلثون مدفعا، وحامية من ثلثين انكشاريا بقيادة آغا، ويعيش هؤلء مع أسرهم في
القلعة.
ويذكر دارفيو أن معظم الدور في القدس تضم طابقا واحدا، يعلو الطابق الرضي، وهي معقودة بالحجر
المنحوت والمسوى، ولها شرفات وخزانات لحفظ مياه المطار الضرورية، لنه ل توجد في المدينة آبار
أو ينابيع..
وفي القرن الثامن عشر، زار الرحالة النكليزي ريشارد بوكوك بيت المقدس، ووصفها بأنها تقوم على
أربع تلل، ويبلغ محيطها ستة كليو مترات. وقال إنه سار في واد كثير الكروم وسط بساتين وأشجار
الزيتون والتين والمشمش واللوز لمسافة ثلثة كيلومترات، معتبرا أن هذا هو أجمل ما شاهده في
القدس.
وفي نهايات القرن الثامن عشر زار بين المقدس الرحالة المشهور المعروف بلقب كونت دوفولني. وقد
كتب فولني عن القدس آنذاك فأشار إلى تهدم أجزاء من أسوارها وامتلء خندقها بالنقاض حتى أن
المرء يكاد ل يعرف هذه المدينة ذات المجاد التي ناضلت ضد إمبراطوريات قوية.
يقدر فولني عدد سكان القدس آنذاك، بأربعة عشر ألف نسمة، ويذكر أن صناعة الدوات التذكارية
الدينية في المدينة تشكل الصناعة الهم، وهي تصدر إلى الخارج، ويعتاش منها معظم المسيحيين
والمسلمين على حد سواء، ومصدر الدخل الخر، هو ما ينفقه الحجاج في القدس.
عشية الحملة الفرنسية، زار الرحالة النكليزي بروان مدينة بيت المقدس، فلحظ على عكس فولني أن
أسوار القدس في حالة جيدة وهي مبنية من حجارة تميل إلى الحمرة. ودهش من إهمال كنيسة القيامة،
وسقوط الثلج داخلها بسبب انهيار بعض الجسور الخشبية المصنوعة من خشب الرز وتهدم السقف في
حين أن دير الرمن كان في أحسن بناء ويتسع للف حاج على ما يقول براون الذي قدر عدد سكان
القدس بنحو عشرين ألفا يتكلمون اللغة العربية، وأكد مثل سابقه على أن صناعة الدوات التذكارية
كانت ناشطة.
في كتب رحالة مسلمين
بيت المقدس، قبلة النظار، ومهوى الفئدة، كان مقصدا للرحالة المسلمين، في زيارات واجبة، لما
للمكان من قداسة، وإنفاذا لوصايا الرسول الكريم صلى ال عليه وآله وسلم، بزيارة بيت المقدس،
وأيضا لما للمكان من أبهة وجمال، يستهويان الناظر، ويأخذان بلبه.
وقد كتب الرحالة المسلمون عما شاهدوه في بيت المقدس واضعين، ومسجلين انطباعات عما لمسوه
في المدينة، من موقع جميل، وبناء حسن، وسكان كرام، ليجيء كل ذلك مشفوعا بما تضفيه قداسة
المدينة من إحساس عميق بالهيبة على زائريها.
وكدأبهم، فإن الرحالة المسلمين يقدمون وصفا عاما للمكان، ولكنهم في الن عينه، يتوخون الدقة في
الوصف، فل يهملون تفصيل ول واقعة، مهما كبرت أو صغرت.
ناصر خسرو من الرحالة الذين زاروا القدس سنة أربعمائة وثمانية وثلثين للهجرة، وكتب عن زيارته
هذه، واصفا المعالم الجغرافية للمدينة، فقال: "وقد ذهبنا صاعدين، وكنا نحسب أنا بعد صعود الجبل
سنهبط إلى المدينة في الطرف الخر، ولكنا وجدنا أمامنا بعد أن صعدنا قليل سهل واسعا بعضه
صخري، وبعضه كثير التراب، وهو رأس جبل تقع فيه مدينة القدس".
ويصف خسرو المدينة بالقول:" هي مدينة مشيدة على قمة جبل والمدينة محاطة بسور حصين، من
الحجر والجص، وليس بقربها أشجار قط، فإنها على رأس صخر، وهي مدينة أرضها مبلطة بالحجارة،
والجامع شرقي المدينة، وسوره هو سورها الشرقي، وبعد الجامع سهل كبير مستو يسمى الساهرة،
يقال إنه سيكون ساحة القيامة والحشر".
وفي وصفه لموقع القدس، كتب ياقوت الحموي المتوفى سنة ستمائة وستة وعشرين للهجرة، في معجم
البلدان: "إن أرضها وضياعها وقراها كلها جبال شامخة، وليس حولها، ول بالقرب منها أرض وطيئة،
وزرعها في الجبال، وأما نفس المدينة "أي القدس" فهي على فضاء في وسط تلك الجبال وأرضها كلها
من حجر من الجبال التي هي عليها".
ابن بطوطة، الرحالة الشهير، المتوفى سنة سبعمائة وتسع وسبعين للهجرة كتب بعد زيارته إلى القدس:
"والبلدة كبيرة مبنية بالصخر المنحوت، ومنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم، في شرقي البلد
على تل مرتفع هنا بنيه يقال أنها مصعد عيسى عليه السلم إلى السماء".
هذا الوصف الذي يكثر فيه ذكر الجبال والصخور، ربما يشي بمدينة متجهمة قاسية الملمح، ولكن
الحال غير هذا، فالمناخ معتدل والماء قريب، والمنظر فريد من نوعه، حتى أن الرحالة كان يطيب لهم
المقام، في واحدة من أقدس بقاع الرض، مجاورين للمسجد القصى المبارك.
وأسهب الرحالة في وصف اعتدال مناخ بيت المقدس وطيب القامة فيه، الشريف المقدسي المتوفى
سنة ثلثمائة وثمانين للهجرة، يقول في وصف مناخ بيت المقدس: "ل شديدة البرد، وليس بها حر،
وقلما يقع بها ثلج، سألني القاضي أبو القاسم، ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها فقلت سجسج ل حر
ول برد، فقال هذه صفة الجنة."
وقد سئل المقدسي يوما: أي بلد أطيب؟ فقال: بلدنا أي بيت المقدس فإنه لسم لبردها، ول أذى لحرها.
وقال المقدسي عن مياه المدينة: "قل دار ليس بها صهاريج وأكثر، ولها ثلث برك عظيمة بنى إحداها
عياض بن غنم الصحابي، وتسمى بركة عياض، عليها حماماتهم، لها دواع من الزقة "وفي المسجد
عشرون جبا متبحرة، وقل حارة إل وفيها جب".
وفي معجمه يتحدث ياقوت الحموي عن مياه القدس فقال: "ويشرب أهل المدينة من ماء المطر، وليس
فيها دار إل وفيها صهريج، وبها ثلث برك عظام، وعين سلوان في ظاهر المدينة في وادي جهنم
ملحية الماء".
وبيت المقدس بلد الخيرات ويقول ناصر خسرو: "وسواد بيت المقدس جبلية كلها، والزراعة وأشجار
الزيتون والتين، تنبت كلها بغير ماء أي ل تروى بفعل النسان والخيرات بها كثيرة ورخيصة، وفيها
أرباب عائلت يملك الواحد منهم خمسين ألفا من زيت الزيتون، يحفظونها في البار والحواض
ويصدرونها إلى أطراف العالم، ويقال أنه ل يحدث قحط في بلد الشام".
أما المقدسي، فيشمل فضائل المدينة وخيراتها في قوله: "فإن سأل سائل أي البلدان أطيب؟ نظر: فإن
كان ممن يطلب الدارين قيل له: بيت المقدس، إن قال أريد بلدا يجمع الدنيا والخرة والخيرات والرخص
والصلح، وطيب الهواء والفواكه المتضادة مثل الرطب والجوز والعنب الكبير والموز والماء البارد
والمعاش الواسع، قيل له:عليك ببيت المقدس".
وفي كتابه وصف مجير الدين الحنبلي القدس في نهاية القرن التاسع الهجري فقال: "وبظاهر مدينة
القدس الشريف من كل جهة كروم بها من أنواع الفواكه من العنب والتين والتفاح وغيره" وإلى جمال
الموقع، وكثرة الخيرات، جاء بنيان القدس رائعا، ول سيما المسجد القصى المبارك وقبة الصخرة
المشرفة، حيث أسهب الرحالة المسلمون وأجادوا في وصفها.
وكذلك في وصف سور المدينة وأبوابها وأسواقها وتكاياها وزواياها وأربطتها. ويقول مجير الدين
الحنبلي: "وأما مدينة القدس الشريف في عصرنا: فهي مدينة عظيمة محكمة البناء بين جبال وأودية،
وبعض بناء المدينة مرتفع على علو وبعضه منخفض في واد، وغالب البنية التي هي في الماكن
العالية المشرفة على ما دونها من الماكن المنخفضة، ومن وصف المكان والحديث عنه إلى وصف
ساكنيه، الذين قال عنهم المقدسي: ول أعز من أهل المقدس، لنك ل ترى بها بخسا ول تطفيفا، ول
شربا ظاهرا ول سكران، ول بها دور فسق سرا ول إعلنا مع تعبد وإخلص".
أما الرحالة المسلم التركي أوليا شبلي فيقول: "أنه وجد ثمانمائة إمام وواعظ يعملون في الحرم القدسي
الشريف، والمدارس المجاورة، كان هناك أيضا خمسون مؤذنا، وعدد كبير من مرتلي القرآن الكريم.
وقد وجد أن الزائرين المسلمين مازالوا يسيرون مواكبهم حول الحرم، ويؤدون الصلة في المواقع
المختلفة".
وقال هذا الرحالة: "أن الحرم مركز روحانية مكثفة فقد ازدحمت أروقته بالدراويش من الهند وفارس
وآسيا الصغرى، حيث كانوا يرتلون القرآن طوال الليل، ويعقدون حلقات الذكر ويتغنون بأسماء ال على
ضوء مصابيح الزيت الوامضة المتواجدة بطول الممرات ذات العمدة".
لقد أجمعت كتب الرحالة المسلمين، وحتى غير المسلمين على أن مدينة القدس الشريف عربية
إسلمية، بمبانيها المعمارية ومدارسها الدينية، وسكانها أيضا، فلم يذكر في معظم كتب الرحالة، ما
ينفي عن القدس عروبتها وإسلميتها، فالمدينة تضم المقدسات السلمية والمسيحية ول شيء غير
ذلك، وتحل القداسة في كل جنباتها وزواياها.
دخول الجنرال اللبني
مع دخول السير ادموند اللنبي قائد جيش الحلفاء إلى بيت المقدس، يوم الحادي عشر من كانون الول
عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، دخلت المدينة تحت الحكم البريطاني.
اللنبي وقف على درج القلعة في باب الخليل وأمامه راهب فرنسيسكاني، وأذاع على سكان القدس بيانا
قال فيه: "إن مدينتكم محترمة في نظر أتباع الديانات الثلث الكبرى وترابها مقدس في نظر الحجاج
والمتعبدين الكثيرين من أبناء الطوائف الثلث المذكورة منذ قرون وأجيال مضت، كما أود أن أحيطكم
علما بأن جميع المعابد والماكن المقدسة سوف تصان وفقا للطقوس المرعية وتقاليد الطوائف صاحبة
الحق فيها..
كان اللنبي الذي دخل إلى القدس سيرا على القدام يواصل سياسة الخداع البريطانية، ومع أن الرقابة
العسكرية البريطانية منعت نشر أي شيء يتعلق بوعد بلفور، فإن اللنبي تصرف، وكأن اليهود أصحاب
حق في فلسطين، وكانت بياناته في بيت المقدس تذاع بلغات ثلث هي العربية والنكليزية والعبرية، كما
أن الضابط البريطاني الذي عين حاكما عاما للقدس تصرف باعتبار اليهود الصهاينة، ورغم قلة عددهم،
أصحاب حق يجب أخذ مشورتهم، فضل عن العتراف باللجنة الصهيونية برئاسة حاييم وايزمن، والتي
كانت تطالب بتنفيذ فوري لوعد بلفور.
كان الضابط الذي اختير لمنصب الحاكم العام للقدس، هو العقيد رونالد ستورز، وهو صاحب خبرة تمتد
إلى عشر سنوات في الدارة البريطانية في مصر وعضو في مجلس الحرب في لندن، تسلم ستورز
منصبه في نهايات كانون الول من عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، وعقب وصوله إلى القدس، اجتمع
إلى المفتي كامل الحسيني نحو ساعة، واستمع منه إلى ما يأمله العرب الذين كانوا يتوقعون منحهم
استقلل ناجزا في إطار دولة عربية.
لكن في اليوم التالي لجتماعه مع المفتي كان ستورز يحضر اجتماعا للحاخامات من يهود الشكيناز
الذين كانوا قد اختلفوا سابقا مع زعماء الحركة الصهيونية، لدى محاولة هؤلء استباق وصول ستورز
بتشكيل ما أسموه مجلس مدينة ليهود القدس.
كان كل من الطرفين يحاول استمالة الحاكم البريطاني، لكنه تصرف وفق تعليمات حكومته بالتعاون مع
الصهيونيين، فعمد الحاخامات إلى تشكيل ما أسموه "مجلس مجموعة الشكيناز في مقابل تشكيل
الصهيونيين لما سموه مجلس المدينة.
عكست هذه الجراءات جميعا، مخالفة صريحة من الحكومة البريطانية، التي كان مطلوبا منها الحفاظ
على الوضاع الراهنة في القدس وفلسطين حتى تنظر عصبة المم في مستقبل الحكم فيها، وقد اعترف
ستورز نفسه بأن الدارة العسكرية أخلت على نحو واضح بالوضع الراهن فيما يتعلق بالصهيونية..
وبعد أن أشار إلى صدور بيانات اللنبي بالعبرية إلى جانب العربية والنكليزية، قال: طبعت اليصالت
الرسمية والبلدية بهذه اللغات أيضا، وكان في جهاز موظفينا عدد من الموظفين والكتبة والمترجمين
اليهود العاملين في مكاتبنا.
لم يكن كل هذا كافيا بنظر اللجنة الصهيونية التي طالبت بنشر تصريح بلفور والعمل بمقتضاه وتعامل
ستورز مع حاييم وايزمن بذات الحفاوة التي كان هذا قد لقيها من اللنبي، الذي استقبل وايزمن في مقر
قيادته في القدس عقب دخوله إليها. وقام بمنح أعضاء اللجنة الصهيونية امتيازات خاصة تتيح لهم
حرية التنقل والقامة والتقصي والتدخل الصريح في شؤون الدارة العامة، وتهيئة سبل الهجرة
اليهودية واستيطان الراضي، وإدخال العبرية كلغة رسمية، وإنشاء قضاء يهودي، في حين حظرت
على العرب التجول والتنقل بحرية، ومنعتهم من إبداء رأيهم في إدارة بلدهم وحالت دون وصول
أصواتهم خارج فلسطين لعزلهم سياسيا.
واصل ضابط اللنبي سياسته، التي كانت السياسة المعتمدة للحكومة البريطانية، وضاعت الصوات
المطالبة بسياسة متوازنة، ومن هؤلء أدوين مونتاجو، وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند الذي كتب
إلى حكومته: إن أي بريطاني يهودي المذهب ينظر إلى جبل الزيتون ويقصد القدس، على أنه موطنه
يجب أل يعامل كمواطن انجليزي.
مونتاجو نفى أن تكون لليهود علقة بفلسطين معتبرا أن إقامة دولة على أساس ديني نوع من التحيز
ضيق الفق، ويعني إعطاء مركز لليهود ليس لهم حق شرعي فيه.
ولكن السياسة التي كان يطبقها البريطانيون كانت تتجه رأسا نحو إنقاذ وعد بلفور وتسليم القدس
وفلسطين للصهاينة.
زيارة غليوم الثاني
خلفت زيارة القيصر اللماني غليوم الثاني إلى بيت المقدس، سنة ألف وثمانمائة وثمان وتسعين أثرا
على أسوار المدينة، فبرفضه الدخول من أحد البواب المعروفة، تم نقب السور، وفتح باب خاص له،
أصبح يعرف بالباب الجديد.
لكن الكرم العثماني مع القيصر اللماني لم يتوقف هنا فقد أهداه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني
قطعة أرض تبلغ مساحتها نحو دونمين، بنى عليها اللمان لحقا كنيسة سموها: كنيسة قيامة العذراء.
أعلن عن الهداء توفيق بك سفير الدولة العثمانية في برلين، وقدم متصرف القدس إلى غليوم الثاني
أوراقه الرسمية الواردة من الستانة الخاصة بالهداء.
وكان السلطان عبد العزيز أهدى فريدريك ويلهلم، ولي عهد بروسيا جزء من بيمارستان صلح الدين،
أنشأ عليه اللمان كنيسة المخلص. جاءت زيارة غليوم الثاني إلى فلسطين في سياق التحسن المتواصل
في العلقات اللمانية/العثمانية. وحصول اللمان على امتيازات كثيرة في السلطة.
ولكنه أعلن أن زيارته إلى بيت المقدس هي حج إلى الماكن المقدسة. ولم تكن المستعمرات اللمانية
في فلسطين بعيدة عن أهداف الزيارة. حتى وإن كانت ألمانيا حريصة على عدم إثارة مخاوف
العثمانيين.
كما أنها لم تر في فلسطين إقليما مهما من الناحية القتصادية، فل هي غنية بالمواد الولية .. ول هي
تشكل سوقا واسعة للمنتجات اللمانية.
وصل القيصر إلى حيفا بمظاهرة حربية، إذ نقلته هو وحاشيته ثلث بوارج ضخمة، وتجمع كافة أفراد
المستعمرة اللمانية في باحة القنصلية لستقباله وشكره على الدعم الذي يلقاه الهيكليون في مجال
التعليم فيما أعرب القيصر عن سعادته برؤية مستعمرة ألمانية في قلب الرض المقدسة، ومن حيفا
توجه إلى يافا، وزار المستعمرات اللمانية ثم توجه إلى بيت المقدس، ليدخل إليها على النحو الذي
أشرنا إليه من الباب الجديد.
حرص القيصر اللماني على إضفاء الطابع الديني على زيارته وفي التقرير الذي وزعته وزارة
الخارجية عن البعثات الدبلوماسية اللمانية مستندا إلى رسالة السفير اللماني في اسطنبول، ورد أن
القيصر إنما أراد الحج إلى الماكن المقدسة، ولم يأت التقرير المذكور على ذكر المستعمرات اللمانية
في فلسطين، فيما يجمع مؤرخو الفترة على أن الزيارة لم تنعكس على المستعمرات بشكل مباشر، لكنها
أثارت حمى استيطانية في ألمانيا، ففي أثناء الزيارة أصبحت فلسطين والمستوطنون اللمان الذين
يريدون إعادة بناء مملكة القدس فيها موضوع الساعة. وبتأثير من الجواء التي رافقت الزيارة تأسست
في شتوتغارت سنة ألف وثمانمائة وتسع وتسعين جمعية تطوير الستيطان اللماني في فلسطين تحت
رعاية البارون فون ايلريكس هاوزن، من أجل تزويد الجمعية بالتبرعات المالية لتوسيع نشاطها وشراء
المزيد من الراضي وتولى إدارة الجمعية المير " فون اوراخ " وتمكنت من جمع مبلغ ثلثمائة ألف
مارك حولت إلى جمعية الهيكل، فاشترت قطعة من الرض مساحتها ثمانية كيلومترات مربعة بالقرب
من اللد غير بعيد عن سكة حديد يافا/القدس، وأنشأت عليها مستعمرة ألمانية عرفت باسم فيلهلما.
وقد جرى منحها هذا السم، طمعا في مساهمات مالية من القيصر، لكنه لم يلق بال إلى الموضوع ثم
بدأ الحماس الشعبي نفسه يخفت ما دفع " جمعية الهيكل " إلى طلب قرض مقداره مائة ألف مارك من
الحكومة اللمانية، لتطوير المستعمرات، ولكن الطلب جوبه بالرفض، في حين أنفقت الحكومة مبلغا
يساوي عشرين ضعف هذا المبلغ على مؤسسة الملكة اوغستا فكتوريا، في القدس، والتي أقيمت تذكارا
لزيارة زوجة القيصر إلى المدينة المقدسة، وعلى الرض الممنوحة من السلطان العثماني.
تكشف هذه الوقائع عن أن المستعمرين الوروبيين عادوا إلى استخدام العامل الديني لتغطية أطماعهم
الستعمارية، كما تكشف عن أن ضعف السلطنة العثمانية قد أفسح في المجال واسعا أمام التدخلت
الوروبية التي لم تعد تأخذ بنظر العتبار مفهوم السيادة العثمانية.
فبعد وقت قصير من زيارة غليوم الثاني إلى بيت المقدس، والحفاوة التي لقيها من العثمانيين، كان
مسئولو دائرة المستعمرات في الخارجية اللمانية يعدون مشروعا بوضع فلسطين من الحدود المصرية
إلى رأس الناقورة شمال، وحتى سفوح جبل الشيخ شرقا، تحت حكم أمير أوروبي، وقال واضعو
القتراح أنه ل يتعارض والمصالح البريطانية والروسية في المنطقة، دون أن يأتي على ذكر مصالح
العرب أهل البلد، ول حتى العثمانيين الذين تشكل جزءا من سلطنتهم في حينه.
ضرائب الرنونا
أيام احتللهم لفلسطين وبيت المقدس، فرض الرومان على السكان ضريبة تسمى أنونا، يقول المؤرخون
أنها خلفت عبئا كبيرا على المواطنين، فهي كانت تطلب من السكان بشكل أمر يصدر لهم بأن يقدموا
بعض المواد الغذائية للجنود في طريقهم عبر الولية، ولم يكن لها وقت محدد، ول قيمة محددة، أي
أنها كانت تعسفية.
وضرائب الرنونا التي يفرضها الصهاينة في القدس لها وقت محدد لكن قيمتها متحركة، وهي تعسفية
إلى حد بعيد.
والرنونا هي ضريبة تجبيها البلدية الصهيونية في القدس، وتفرض على مواطني المدينة والمستوطنين
فيها، مقابل الخدمات، لكن بتقديرات مختلفة، إذ بينما يجري تحديد مبالغ بسيطة على المستوطنين، مع
تسهيلت كبيرة في الدفع وتقديم الكثير من الخدمات، فإن المبالغ التي تفرض على المواطنين
الفلسطينيين مرتفعة جدا، ول تقابلها خدمات تذكر، وباعتراف الصهاينة أنفسهم فإن الفارق بين
الخدمات التي تقدم للمستوطنين والحياء الستيطانية في القدس، وبين تلك التي يتلقاها المواطنون
العرب في الجزاء الشرقية من المدينة، هو فارق كبير جدا، ورغم الحديث عن عدد من المشاريع
لمساواة الخدمات، فإن الواقع قد بقي على حاله.
تفرض ضرائب عديدة على الفلسطينيين في بيت المقدس وبمعدلت عالية، فالحد الدنى لضريبة الدخل
هو خمسة وثلثين في المائة، وقد يصل إلى خمسة وستين في المائة، وتضاف إلى هذه النسبة غرامات
قد تصل إلى ستين في المائة من قيمة الضرائب.
أما الحد المتوسط لضريبة الرنونا المفروضة على المواطنين الفلسطينيين، فقد وصل عام تسعين على
سبيل المثال إلى عشرين ألف دولر، وهو مبلغ مرتفع جدا أيا كان نوع ومستوى العقار الذي يملكه
المكلف بهذه الضريبة، وذلك لقاء خدمات شبه معدومة، وتعطيل متعمد ومضجر لتقديم مثل هذه
الخدمات، إذ أن تركيب عدادات مياه لسكان مخيم سعفاط اقتضى مفاوضات ومعارك بين الونروا
والكيان الصهيوني، فقد جرى إيصال المياه إلى مستوطنة "بسغات زئيف" في وقت قصير جدا.
عمليا يدفع المواطن الفلسطيني في القدس ضرائب تفوق أربع مرات ما يدفعه المستوطن الصهيوني،
والهدف من ذلك هو توجيه المزيد من الضغوط والتضييقات على المقدسيين لدفعهم إلى هجرة المدينة،
أو إغلق مصالحهم التجارية فيها.
فالسلطات الصهيونية التي تفرض على أصحاب المحال التجارية ضرائب تفوق قيمة الدخل العام لهذه
المحال، تدفع أصحابها إلى إغلقها، ثم تقوم بمصادرتها ومحتوياتها، لحساب تسديد الضرائب وعن هذه
الطريق تسربت محال كثيرة للمستوطنين الصهاينة في البلدة.
وكثيرا ما وقع أصحاب البيوت في فخ ضريبة الرنونا، فالكثيرون ل يملكون قدرة على تسديدها، وتلجأ
السلطات الصهيونية إلى التسويف في جبايتها مع غراماتها التراكمية، حتى تصل إلى مبلغ يعادل ثمن
العقار تقريبا، وإذ ذاك تطالب بها، وتوقع حجزا على العقار، بهدف دفع صاحبه إلى بيعه، وقد تولت
لجان في القدس حماية بعض البيوت، بمبالغ وصلت إلى أرقام كبيرة، وتفوق قيمتها الفعلية لتسديد
الضريبة، والحيلولة دون تسرب العقار إلى الصهاينة، فيما كانت بعض المبالغ المترتبة على عقارات
أخرى فوق طاقة هذه اللجان، حيث بلغت قيمة الضرائب المفروضة على أصحاب المحلت التجارية في
القدس، والتي ل يستطيعون تسديدها سنة سبع وتسعين، نحو أربعمائة مليون دولر، وهدد الصهاينة
ببيعها في مزاد علني.
وفي نيسان من عام ألفين وواحد، كانت السلطات الصهيونية ل تزال تشن حملة واسعة تقتحم بموجبها
المحال التجارية، وتوقع حجوزات على محتوياتها بدعوى الضريبة.
بذل الفلسطينيون محاولت عدة للمتناع عن تسديد الضرائب، ففي عام ثمانية وستين، دعت اللجنة
العليا للتوجيه في القدس المواطنين إلى المتناع عن دفع الضرائب.
وعام ثمانية وثمانين، دعت القيادة الموحدة التجار إلى المتناع عن دفع الضرائب فعمد الصهاينة إلى
إغلق المحال التجارية واعتقال التجار، وهو ما تكرر عام واحد وتسعين.
ضريبة الرنونا، هي وسيلة أخرى من وسائل الحرب التي يعتمدها الصهاينة ضد المقدسيين المتشبثين
بأرضهم وقدسهم.
مقاومة حملت الفرنجة 1
لم يكن نجاح صلح الدين اليوبي في ضرب مملكة القدس الفرنجية، وتحرير بيت المقدس، وليد لحظته
بل محصلة عقود طويلة من المقاومة.
ل ريب في أن التمزق الذي كان يعانيه المسلمون قد لعب دورا أساسيا في نجاح الحملة الفرنجية، ول
يزال كثير من المؤرخين يناقشون موقف الوزير الفضل بن بدر الجمالي، صاحب القوة الكبر آنذاك.
فهل كان هذا الموقف ناتجا عن سوء فهم وتقدير، أم أنه كان متواطئا؟ إن الكثير من الوقائع تدل على
سوء التقدير، وعدم فهم أهداف الحملة التي عوملت كغارة سوف تنكفيء سريعا ثم يعود كل شيء إلى
حاله.
وساهمت في هذا الفهم ظروف التمزق السائدة آنذاك. ما يدفع إلى مثل هذا الستنتاج هو نشاط المقاومة
اللحق، بعد سقوط القدس.
لقد نشأت حالت استرضاء ناتجة عن الضعف في مواجهة حملة دموية شرسة، ولكن كان هناك
التصدي، الذي بدأ بأفراد يقتلون أفرادا، وبجهد إمارات صغيرة، ثم نجح في تحقيق أهدافه بتوحد
المسلمين، بعد أن كانت تقاتل جبهتان، جبهة مصرية وجبهة شامية.
يذكر المؤرخون أنه بعد سنة على الحملة الفرنجية الولى لم يبق في فلسطين سوى ثلثمائة فارس
وألفين من المشاة، لكن الرهبة والخوف اللذين شاعا بعد مذبحة القدس، وتفرق أمر المسلمين حال
دون استغلل الفرصة وتقويض تلك الحملة نهائيا.
بدأت المقاومة المصرية في ثلث هجمات متصلة اعتمد فيها الوزير الفضل على الساحل الفاطمي،
فسير حملة في أيلول عام ألف ومائة وواحد بقيادة سعد الدولة القواسي. متجهة إلى الرملة، لكنها
أضاعت وقتا طويل في عسقلن سمح للفرنجة بالتحضر لمواجهتها، وردها.
وعام ألف ومائة واثنين، كانت حملة أخرى بقيادة ابن الفضل شرف المعالي، الذي التقى الفرنجة عند
يا زور، وألحق بهم هزيمة قاسية، واحتل الرملة.
وصلت نجدة بحرية إلى بفدومين، في حين اختلف قادة الحملة بين محبذ لمهاجمة القدس ومحبذ
لمهاجمة يافا، مع أنهم كانوا يستطيعون القيام بالمرين معا نظرا لضعف الحاميات الفرنجية آنذاك،
وعندما استقر المر على مهاجمة يافا نجحت القوة الفرنجية القادمة بحرا في إلحاق هزيمة بالحملة.
عاد الفضل لعداد حملة مزدوجة بحرية وبرية، وصلت البرية إلى عسقلن لكن السطول تأخر كثيرا،
فانكفأت.
قلل استيلء الفرنجة على عكا من فعالية الحملت المصرية الفاطمية، فاستخدم الفضل عسقلن قاعدة
له، ومنها أطلق حملة جديدة بالتعاون مع دمشق، ولكنها فشلت أيضا، فاكتفى بشن غارات محدودة من
عسقلن جاءت نتائجها أفضل من الحملت الكبيرة.
فسنة ألف ومائة وستة نجحت غارة في ضرب قافلة فرنجية واحتلت الرملة، وهزمت الحامية الفرنجية
في يافا وأشرفت على القدس، وهدمت قلعة كانت تبنى بالقرب منها.
وتكررت الغارات على الحاميات الفرنجية، ونجحت إحداها في الوصول إلى القدس مجددا سنة ألف
ومائة وعشرة. وألحقت هزيمة بأسطول الفرنجة أمام صيدا لكن السطول المصري لم ينجح في رد
الهجوم عن بيروت، فنفذ الفرنجة فيها مذبحة مروعة.
حاول والي عسقلن مهادنة الفرنجة وإنزال حامية منهم في المدينة، فثار عليه أهلها وقتلوه مع
الحامية، ليتابع الوالي الجديد إغارته على القدس، فوصل إلى أسوارها سنة ألف ومائة وخمس عشرة.
تكررت الحملت المصرية الفاطمية الكبيرة في عهد الوزير المأمون سنة ألف ومائة وثلث وعشرين،
لكنها لم تلق نجاحا بسبب فشل الحلف مع أتابك دمشق، وحاول الطرفان مرة أخرى إنقاذ صور، فهاجم
الفاطميون أطراف القدس وبلغوا ضواحيها القريبة، في حين بعث أتابك دمشق بالمواد إلى صور لكن
المدينة سقطت ما أغرى الفرنجة بدمشق، ولكنهم هزموا، وشن الفاطميون غارة بحرية كبيرة موفقة
على يافا وعكا وصيدا وبيروت وطرابلس.
سنة ألف وثلث وخمسين سقطت عسقلن بدسية من عسكر البدل القادم إليها ولكن الغارات لم تتوقف
حتى أن مؤرخي تلك الفترة يتحدثون عن أعوام صعبة عاشتها مملكة القدس ما بين عامي ألف ومائة
وسبعة وخمسين وألف ومائة وتسعة وخمسين، نتيجة الغارات التي نظمها الوزير الفاطمي طلئع ابن
زريك، وطوفت مملكة القدس ما دفعها إلى طلب الهدنة التي كانت مقدمة للتدخل الفرنجي في مصر
باستثمار خلف الوزير شاور مع الحاجب ضرغام.
أنقدت حملت شامية مصر الفرنجية وفتحت الباب بذلك لتوحيد الجبهة التي ستلحق الهزيمة بالفرنجة
لحقا.
الحملت التي ذكرت ورغم أنها لم تؤد إلى نتيجة حاسمة بإنهاء وجود الفرنجة إل أنها جعلت منه
وجودا قلقا مستقرا وهي كانت تتم بالتوازي مع مقاومة الجبهة الشامية .
مقاومة الفرنجة 2
بموازاة المقاومة المصرية، نشأت مقاومة في الشام للحملت الفرنجية، كان مركزها دمشق، يعد أنها
اتسمت بالتقلب ما بين المقاومة والمهادنة تبعا لهواء أمراءها.
استندت دمشق إلى الشمال السلمي تارة، وإلى مصر الفاطمية تارة أخرى في مقاومتها للحتلل
الصليبي، لكنها حين تشعر بالخطر من المراء المسلمين في الشمال ل تتردد في مهادنة الفرنجة وحتى
محالفتهم. ما يؤكد صورة التمزق السائدة آنذاك في العالم السلمي.
وبرأي كثير من المؤرخين فإن حكام دمشق من الترك السلجقة كانوا محكومين لمصالحهم التجارية
وأنانيتهم الحذرة على أملكهم.
عند قيام الحملة الفرنجية الولى كان يحكم دمشق دقاق بن تتش ابن عم السلطان السلجوقي بركياروق،
وهو الذي قاد الحملة الولى ضد الفرنجة عند حصارهم إنطاكية سنة ألف وسبع وتسعين. ولكنه لم
يحارب وانكفأ سريعا ليحافظ على إمارته في دمشق. ودعم أميره على الواد ليتصدى لول الهجمات
الفرنجية.
استطاع دقاق ضمان الدفاع عن دمشق، كما حاول التصدي للفرنجة شمال بيروت. وبعد موته سنة ألف
ومائة وأربع، تولى السلطة مملوكه السابق وأتابكه طفتكين الذي أسس النظام التابكي، وبدأ سللة
حكمت دمشق ستين سنة.
شارك طفتكين مع الفضل الجمالي في مجابهة الفرنجة، وقد حشد لها عشرة آلف فارس، إل أنها
انتهت إلى الفشل، ثم هاجم حاميات الفرنجة في الجليل بعد أن ازدادت غاراتهم على الواد، وكان هجومه
سنة ألف ومائة وخمس موفقا، وأثناء تطويق الفاطميين للقدس سنة ألف ومائة وسبع، أوعز طفتكين
إلى والي صور بمهاجمة حصن تبنين وتخريبه.
بدأ من عام ألف وتسعمائة وثمانية، سوف تراوح علقة طفتكين مع الفرنجة بين المهادنة والغارات
العنيفة، التي كان أشهرها حملة مودود. وهو قائد سلجوقي أرسله السلطان بعد استغاثات طفتكين الذي
كان مستميتا في الدفاع عن صور، وهو البناء الوحيد لدمشق آنذاك.
بدت الحملة التي رتبها مودود وطفتكين، وكأنها مهيأة لتقويض مملكة القدس بجيش إنطاكية وطرابلس.
التقى الجيشان جنوب غرب طبريا في تشرين الثاني سنة ألف ومائة وثلث عشرة، وهزم الفرنجة
هزيمة ساحقة، حتى امتنع الناس أياما عن الشرب من مياه طبريا لكثرة الدماء.
وصل الجيش السلمي إلى أرض القدس ويافا ومكث شهرا حول بيت المقدس لكنه لم يدخلها. لسبب
غير معروف، فيما تميل بعض تفسيرات المؤرخين إلى توهم المسلمين بوجود حامية قوية فيها، فقرروا
العودة إلى دمشق، ومعاودة الهجوم في الربيع، المر الذي لم يحدث. فقد قتل مودود في دمشق، واتهم
طفتكين بقتله ما أثار عليه غضب السلطان السلجوقي وأيضا غضب الهالي. فعهد إلى توقيع هدنة مع
الفرنج.
وعندما كانت المقاومة العربية السلمية تحقق تقدما كبيرا وسط سورية، أصبح موقف طفتكين حرجا،
فقد احتار إلى أي جانب ينبغي أن يميل، ثم اختار استمرار العلقة مع الفرنجة.
وعندما ضمن عدم تقدم المسلمين باتجاهه، عاد لمقاتلة الفرنجة في معركة البقاع سنة ألف ومائة وست
عشرة وكانت حملة موفقة، ولكنه مرة أخرى لم يتقدم باتجاه مملكة القدس. فيما شارك الفاطميين في
حملة كبيرة عند عسقلن استمرت ثلثة أشهر دون قتال.
ثم ظلت الغارات متبادلة مع مملكة القدس والمارات الفرنجية، في حين انشغل الجانبان بالتطورات في
الشمال حين نجح المير الرتقي في قتل حاكم إنطاكية. ثم أسر المسلمين لحقا بغدوين الثاني.
تولى الحكم بعد طفتكين ابنه بهري، وتصدى لحملة فرنجية كان تريد دمشق، وتطورت المور بسرعة
بعد سيطرة عماد الدين زنكي صاحب الموصل على حلب، وشروعه في مقاومة منتظمة للفرنجة، تابعها
ابنه نور الدين.
لم يدم عهد بوري طويل، وورث السلطة من بعده ابنه إسماعيل الذي كان شديد الحيوية، وشن غارات
موجعة على الفرنجة منتزعا منهم بانياس، ثم أغار على عكا والناصرة وطبريا، ودفع الفرنجة إلى طلب
الهدنة. فيما كان زنكي يعرض عليه تسليم دمشق.
أراد زنكي المسارعة إلى تلبية هذا المطلب، لكن إسماعيل قتل، وتولى مملوك يدعى "أنر" التابكية،
ليعاود سياسة طفتكين، ولكن في الجانب المؤيد لمهادنة الفرنجة، دون سيطرة الزنكيين على دمشق.
المر الذي أغضب الطبقات الشعبية في المدينة، والتي كانت ترى في زنكي مخلصا. خاصة بعد نجاحه
في الشمال ضد الفرنجة وإيجاد نوعا من التوازن معهم. حتى أن كثيرا من المؤرخين يعتقدون أنه لو
تسلم زنكي دمشق في حينه لسقطت مملكة القدس الفرنجية في زمن سابق لما سقطت فيه فعل.
وهو إلى )عقبة أنر( في دمشق كان يواجه تدخل بيزنطيا لصالح الفرنجة في الشمال.
ذهب )أنر( بعيدا في تحالفه مع الفرنجة، ولكن هؤلء وبعد سقوط الرهابيد عماد الدين زنكي، جربوا
احتلل دمشق، فقاتلهم )أنر( حول بصرى، بعد أن استنجد بنور الدين زنكي الذي حل محل أبيه.
وعادوا مجددا مستغلين الحملة الصليبية الثانية لمهاجمة دمشق. طلب )أنر( مساعدة نور الدين، ودب
الخلف بعد حصار دام خمسة أيام فقط، فانفض الحصار، ولم تسقط دمشق، وربح نورالدين زنكي
صورة المنقذ مرة أخرى، ومع توالي انتصاراته في الشمال، بات دخوله إلى دمشق مسألة وقت، وهو
ما حدث في نفس العام الذي سقطت فيه عسقلن.
عقد نور الدين بداية هدنة مع الفرنجة لعامين حتى يتخلص من المشكلت مع السلجقة التراك في
الشمال. خرق الفرنجة الهدنة وهاجموا حوران وغنموا منها معظم خيراتها، ثم هددوا دمشق سنة ألف
ومائة وثمان وخمسين، عندما كان قائده شيركوا يهاجم صيدا.
تجددت الهدنة بعد هذه الغارة، وكان هم نور الدين إقامة الجبهة السلمية من الشام ومصر، لتطويق
مملكة القدس الفرنجية، فأرسل جيشه إلى مصر ثلث مرات، الولى بدعوة من القدير شاور، والثانية
والثالثة بدعوة الخليفة الفاطمي.
حقق وجود جيش نور الدين في مصر التوازن مع الفرنجة، وسرعان ما سينتقل المسلمون إلى مرحلة
الهجوم مع صلح الدين.
الفاتيكان والقدس 1
عام ألف خمسمائة وواحد وثمانين أصدر البابا غريغوري الثالث عشر حكما بإدانة اليهود نص على أن
خطيئة الشعب الذي رفض المسيح وعذبه، تزداد جيل بعد جيل، وتحكم على كل فرد من أفراده
بالعبودية الدائمة.
وقد التزم الباباوات الذين تعاقبوا بعد هذا الموقف، وفي الول من أيار عام ألف وثمانمائة وسبعة
وتسعين، عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني الول، صدر عن الفاتيكان بيان جاء فيه "لقد مرت ألف
وثمانمائة وسبع وعشرون سنة على تحقيق نبوءة المسيح بأن القدس سوف تدمر. أما فيما يتعلق
بإعادة بناء القدس، بحيث تصبح مركزا لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها فيتحتم علينا أن نضيف أن ذلك
يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه، عام ألف وتسعمائة وأربعة، توجه )هرتزل( برسالة إلى الفاتيكان
طالبا دعمه، فرد عليه البابا بيوس العاشر بالقول: "ل نستطيع أبدا أن نتعاطف مع هذه الحركة ويقصد
الصهيونية، فنحن ل نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس، ول يمكن أبدا أن نقره.
أنني بصفتي قيما على الكنيسة ل أستطع أن أجيبك في شكل آخر، لم يعترف اليهود بسيدنا، ولذلك ل
نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي، وتاليا فإذا جئتم إلى فلسطين، وأقام شعبكم هناك، فإننا سنكون
مستعدين كنائس ورهبانا لتعميدكم جميعا".
لحقا استقبل البابا بيوس العاشر تيودور )هرتزل( في حاضرة الفاتيكان، وقال له: "لن أقبل بأن تقع
القدس وفلسطين في أيدي اليهود وأنني أفضل أن أرى القدس تحت حكم المسلمين، على أن أراها تحت
حكم اليهود، لن اليهود لم يعترفوا بيسوع ابن مريم".
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر صاغ البابا بنديكتوس الخامس عشر شعار ل لسيادة اليهود على
الرض المقدسة، وأعلن الفاتيكان معارضته لوعد بلفور منذ صدوره واستقبل البابا البعثة العربية
الفلسطينية التي زارت الفاتيكان عام واحد وعشرين،وتبنى رفض منح اليهود، أي وضع مميز في
فلسطين.
وتميز موقف الفاتيكان خلل هذه الفترة، بدعم المسيحيين العرب، وتشجيعهم على المشاركة في النضال
الوطني العربي، ضد الحركة الصهيونية وانعكس هذا التشجيع بإعطاء زخم قوي للمؤتمرات السلمية
المسيحية.
وفي عام ستة وأربعين أرسل الفاتيكان مبعوثا إلى واشنطن ليبلغ الوليات المتحدة أن الكاثوليك في
العالم، ل يمكن إل أن يجرحوا في كرامتهم الدينية إذا سلمت فلسطين لليهود،أو وضعت عمليا تحت
السيطرة اليهودية.
تعرض الفاتيكان لضغوط قوية يعد الحرب العالمية الثانية واتهامه بمحاباة النازية وازدادت هذه الضغوط
بعد اتخاذ الجمعية العامة للمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين وتدويل القدس.
رفض الفاتيكان بداية قرار التقسيم، ولكن في عام ثمانية وأربعين، أيد الفاتيكان التدويل دون ذكره
صراحة، حيث دعا البابا بيوس الثاني عشر في رقيم له، إلى ضمانات دولية، لضمان حرية الوصول إلى
الماكن المقدسة المنتشرة في كل فلسطين وليس في القدس فقط وإلى حرية العبادة واحترام التقاليد
والعادات الدينية.
وجدد البابا موقفه في العام التالي، وبالتوازي مع ذلك، سعى الفاتيكان إلى تثبت العرب والمسيحيين
الفلسطينيين في أرضهم، فأسس البعثة البابوية لمساعدة اللجئين الفلسطينيين، مستبقا خطوة المم
المتحدة على هذا الصعيد، وثابر الفاتيكان في الوقت نفسه على رفض العتراف بقيام الكيان الصهيوني
وأبقى موافقته على تقسيم فلسطين، وتدويل القدس مواربة.
لكن الضغوط التي مورست على الفاتيكان سوف تؤدي إلى تغير هذا الموقف.
كنيسة القيامة
كنيسة القيامة من أعرق كنائس بيت المقدس، استغرق العمل في بنائها أحد عشر عاما إذ بدأ عام
ثلثمائة وخمسة وعشرين وانتهى عام ثلثمائة وستة وثلثين للميلد.
أشرفت على بنائها الملكة هيلنه والدة المبراطور قسطنطين.. ويتردد أن هيلنة عثرت أثناء زيارتها
إلى بيت المقدس على ما اعتقدت أنه خشبة الصليب الذي علق عليه السيد المسيح، وأرادت بناء كنيسة
في المكان.
لبى المبراطور رغبة والدته، ولم يوفر مال ول حرفيين أو خبراء في سبيل بناء كنيسة لئقة، وأشرف
على البناء بشكل مباشر مهندس سوري اسمه"زينو بيوس، ورجل دين من شيوخ الكنيسة اسمه
يوستاثيوس.
تم تكريس كنيسة القيامة سنة ثلثمائة وست وثلثين، وتوجه الساقفة الذين كانوا يحضرون مجمعا
محليا في صور إلى بيت المقدس للمشاركة في حفل التكريس الذي أعلنت فيه قدسية كنسية القيامة أو
الضريح المقدس.
يمكن تميز الكنيسة بوضوح في خارطة مأدبا الفسيفسائية، حيث كان يدخلها الناس من باب ثلثي ل
تزال أقسام منه قائمة حتى اليوم.
وبني فوق الضريح المقدس بناء مدور، وبنيت ما بين الباب والمبنى الدور باسيليكا كبيرة، وخمسة
أروقة بين العمدة مع جناح مدور بارز في ساحة متسعة، فبقي موضع الصليب منعزل على حدة
باعتباره مزارا قائما بذاته.
تميز البناء بجلل التصميم ووفرة الزينة، وأدخلت عليه تحسينات باستمرار منها التزينات التي قامت
بها المبراطورة يودقيا في منتصف القرن الخامس للميلد.
تمتعت كنيسة القيامة ول تزال بأهمية استثنائية وقد وصفها الرحالة المسلمون الذين زاروا بيت
المقدس ومنهم ناصر خسروا الذي يقول: "للنصارى في بيت المقدس كنيسة لها عندهم مكانة عظيمة
ويحج إليها كل سنة كثير من بلد الروم.
وهذه الكنيسة فسيحة، وهي عظيمة الزخزف من الرخام الملون والنقوش والصور. في كنيسة القيامة
دير للرهبان الفرنسيين الذين يخدمون في الكنيسة، وهم ينتسبون إلى القديس فرنسيس السيزي الذي
جاء إلى القدس سنة ألف ومائتين وتسع عشرة، ووافق البابا اكلمنطس السادس ببراءة بابوية سنة
ألف وثلثمائة واثنين وأربعين على وجود الفرنسيين في الكنيسة على أن يكونوا حراس الراضي
المقدسة باسم العالم الكاثوليكي وقد قاموا بترميم الكنيسة مرتين أخراهما سنة ألف وسبعمائة وتسع
عشرة، وأقاموا فيها بناء جديدا سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين.
وللرهبان الفرنسيسيين حصة وافرة في كنيسة القيامة، في كل يوم يقيمون الصلة إلى جانب طواف
يومي في مختلف ربوعها.
إلى جانب هذا الدير الكاثوليكي، هناك الديار الرثوذكسية وأولها دير الروم الرثوذكس، أسس بطريك
القدس اليوناني جرمانوس أخوية القبر المقدس، بعد الحتلل العثماني لفلسطين ويعد أعضاء هذه
الخوية حراس الراضي المقدسة باسم العالم الرثوذكسي.
للرهبان الذين يخدمون في الكنيسة مساكن في القيامة عينها وعند ساحة القيامة شرقا يقوم دير القديس
إبراهيم الذي اشتروه سنة ألف وستمائة وستين من الحباش.
منذ أيام البطريك جرمانوس، عمل الروم الرثوذكس اليونان على التوسيع في كنيسة القيامة وبعد
احتراقها سنة ألف وثمانمائة وثمان، توصلوا إلى النفراد بترميم أكبر قسم منها بموجب مخططاتهم،
ولهم اليوم أكبر حصة فيها، ومنها محور الكنيسة المعروف بنصف الدنيا، وفي كل يوم يقيمون الصلة
هناك.
وللرمن الرثوذكس بعض المساكن في كنيسة القيامة، ولهم الحصة الثالثة فيها ومنها قسم الرواق
الذي يشرف على القبر المقدس وكنيسة القديسة هيلنة، وهم بدأوا التوسع في الكنيسة منذ القرن
السابع عشر الميلدي، وفي كل يوم يقميون الصلة هناك.
أما القباط الرثوذكس، فلهم مكانة ثانوية في الكنيسة، يؤدون صلواتهم في معبد صغير بنوه ملصقا
للقبر المقدس، سنة ألف وخمسمائة وأربعين، ثم جدد بعد حريق سنة ألف وثمانمائة وثمان.
وأخيرا يقيم السريان الرثوذكس الصلة كل أحد في معبد للرمن يقوم حنيه القبر المقدس الغربية.
ول شك في أن أعظم احتفالت كنيسة القيامة عند جميع الطوائف المسيحية هي احتفالت السبوع
المقدس والفصح، التي تتم في أقدس مكان مسيحي في القدس.
الفاتيكان والقدس 2
بعد التأييد الموارب لقرار التقسيم وتدويل القدس أعلن الفاتيكان تأييده الصريح لتدويل المدينة.
ويبدو أن الفاتيكان وصل إلى هذا الموقف بعد الضغوط الهائلة التي تعرض لها وساهم فيها اليهود
مساهمة كبيرة بدعوى قيام البابا بيوس الثاني عشر بتأييد النازية.
تحت وطأة الضغوط، أعلن البابا يوحنا الثالث والعشرين عن الدعوة إلى عقد المجمع المسكوني الثاني
والذي قال أنه يريده دليل وعلى إرادة التقرب والتفاهم مع جميع الديان والطوائف الخرى.
وألغى البابا مقطعا من الصلة الكاثوليكية يتحدث عن اليهود الملعونين، فيما طالب اليهود بإعلن من
الفاتيكان يبرئ اليهود من دم المسيح.
صدرت عن المجمع وثيقة "نوسترا ايتاتي" وأعلن فيها "أن موت السيد المسيح ل يمكن أن يعزى
عشوائيا إلى جميع الذين عاشوا في عهده أو إلى يهود اليوم"، كما نصت الوثيقة على أن ل ينظر إلى
اليهود كمنبوذين من الرب وملعونين.
جاء صدور هذه الوثيقة عام خمسة وستين رغم اعتراض المسيحيين العرب على الكثير من فقراتها،
وسعى الصهاينة إلى استثمار سريع لها، ولكن قيامهم بعدوان حزيران عام سبعة وستين أوجد متغيرا
جديدا على الرض، انطلق الموقف الفاتيكاني فيه، من تجاوز الرفض المبدئي المبني على عقيدة دينية،
إلى التعامل مع الواقع المبني على معطيات سياسية.
بعد عدوان حزيران، ركز البابا على ضرورة تدويل القدس، وأظهر تعاطفا مع الكفاح الفلسطيني.
وضع البابا بولس السادس القدس ضمن اهتماماته واعتبر أن وضعها هو الساس في العلقة بين
الفاتيكان والكيان الصهيوني، وحدد في خطاب له عام سبعة وستين ثلث نقاط أساسية:
1. حماية الماكن المقدسة والطابع التاريخي والديني لمدينة القدس.
2. الطبيعة الدولية للقانون الذي يجب أن يطبق على الماكن المقدسة والقدس.
3. ضمانات خاصة بالحقوق المدنية والدينية للطوائف في فلسطين.
في هذه النقاط تخلى البابا عن دعوة تدويل القدس، وتحدث عن نظام خاص يتمتع بضمانة دولية،
وتمسك بموقفه الرافض للعتراف بالوضع القائم في المدينة المقدسة، أو للعتراف بالكيان الصهيوني،
رغم الضغوط المريكية الهائلة.
بدأ موقف الفاتيكان بالتغير مع مطلع الثمانيات، وفي منتصفها صدرت وثيقة فاتيكانية تتحدث للمرة
الولى عن )إسرائيل( ككيان معتبرة أن اليهود يتميزوا بأمرين:
تمسكهم بعبادة ال "يهوه" وبحب أرض الجداد )إسرائيل(، تضمنت الوثيقة تغيرا شامل في النظرة
الكاثوليكية إلى اليهود وانعكس هذا الموقف من القدس، ومن العتراف بالكيان الصهيوني، بل وتوقيع
اتفاقات معه تثبت الوضع القائم عامي ثلثة وتسعين، وأربعة وتسعين، وتقيم علقات دبلوماسية بين
الجانبين.
بدأ البابا يصف القدس بأنها ميراث مقدس تشترك فيه ديانات التوحيد الثلث، وأن يكفل هذا بضمان
قانوني مناسب ل يكون قاصرا على ما يريده طرف واحد من الطراف المعنية.
ثابر البابا على إعلن هذا الموقف، مؤكدا على خصوصية القدس، وضرورة أن تتمتع الطوائف الثلث
فيها بحرية فكرية ودينية حقيقية.
ودعا البابا إلى الحوار بغية الوصول إلى تحديد وضع خاص لمدينة القدس، مشيرا إلى أنه ل يمكن أن
يدعي أحد الملكية الحصرية للمدينة المقدسة، فالقدس أرث روحي للبشرية برمتها وينبغي أن يتمتع
الجميع بحرية زيارة الماكن المقدسة.
واقع الحال أن اتفاق إقامة العلقات الدبلوماسية بين الفاتيكان والكيان الصهيوني، قد عنى نوعا من
العتراف بالوضع القائم، الذي يسيطر فيه طرف على القدس، ويمنع حتى حرية العبادة فيها، خلفا
للدعوات التي يطلقها الكرسي الرسولي.
مملكة القدس الفرنجية الطور الثاني
اتسمت فتوحات المسلمين وتحريرهم بيت المقدس بالرحمة والتسامح وروح الفروسية، إل أن صلح
الدين أخطأ خطأ كبيرا بعدم فتحه مدينة صور. تركها. قويت وشكلت رأس جسر للحملة الفرنجية الثالثة.
التي انطلقت بعد حملة تهويل ودعاية ضخمة وشارك فيها أربعة ملوك: المبراطور اللماني، وملك
إنكلترا، وملك فرنسا، وملك صفلية. والمئات من كبار البارونات.
ومرة أخرى كان هدفها المعلن القدس، والقبر المقدس. كانت الحملة من الضخامة بحيث أثارت الرعب،
ولكن إمبراطور بيزنطة المتحالف مع صلح الدين، والراغب في تثبيت الكنيسة الرثوذكسية في القدس،
لم يكن يؤيدها تماما، وإن وافق على مرور كتلتها الضاربة اللمانية، والتي بلغت مئة ألف مقاتل،
تفرقوا بعد غرق ملكهم، ولم يصل منهم إلى الشام سوى ألف، تناوشهم المسلمون على الطرقات.
وسيطرت الخلفات على علقة ملكي فرنسا وبريطانيا اللذين غلبتهما الحماسة الدينية بداية، وواصلوا
الحملة، ولكن لمصالح تجارية، وكحرب استعمارية. فيما شارك بها كثيرون تهربا من الضرائب التي
فرضت في أوروبا وعرفت باسم "عشر صلح الدين" على كل من لم يساهم فيها.
كان ملك القدس غي دي لوزينان، قد منع من دخول صور فاتخذ قاعدة له حول عكا، جمع إليها فلول
الحملت الولى ورافقته الساطيل الجنوبية والبيزنطية. وضرب الحصار حول المدينة لمدة سنتين. كان
صلح الدين خللها قد أقام معسكرا في مواجهة الفرنجة، واستنجد بالزنكية والمغاربة، حتى تحولت
قصة الحصار إلى أسطورة، تصاعدت فصولها مع وصول الفرنسيين وريتشارد قلب السد البريطاني.
طالب الفرنجة بإعادة مملكة القدس ثمنا لعكا، وعقدت حامية المدينة المسلمة اتفاقا تخرج به من
المدينة لكن الفرنجة نقضوا التفاق وأسروا وقتلوا ألوف المسلمين. وسقطت المدينة في أيديهم، لتشكل
مع صور قاعدتين للفرنجة.
أيد ريتشارد قلب السد غي لوزينيان في طرحه مع مونتفرات على تاج مملكة القدس، واندفع في
حملت على مدن الساحل، يسانده أسطول من البحر، فاحتل حيفا وقيسارية، لكنه جرح في المعارك،
فطلب مفاوضة صلح الدين مطالبا بإعادة مملكة القدس.
رفض طلبه هذا، ووقعت معركة أرسوف سنة ألف ومائة وإحدى وتسعين، وكادت حطين تتكرر إلى أن
المعركة انتهت بكفتين متوازيتين.
بعد هذه المعركة ضرب صلح الدين أسوار عسقلن، ثم اتجه إلى القدس للدفاع عنها. أشار مونتفرات
على ريتشارد بالهجوم على القدس أثناء انشغال المسلمين بأرسوف، لكنه لم يكن يملك القوة الكافية
لذلك، فاكتفى بإعادة بناء يافا كمرفأ تجاري ثالث، ووجد الرملة واللد مخربتين.
وعند وصوله مشارف القدس كان منهكا وخشي الهزيمة. كانت المفاوضات تدور سرا آنذاك وجدد
ريتشارد مطالبته بالقدس، وجدد صلح الدين الرفض إلى أن توصل الطرفان إلى صلح الرملة سنة ألف
ومائة واثنين وتسعين، وقضى أن تكون للفرنجة المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها حيفا
وقيسارية وأرسوف وتكون عسقلن للمسلمين، أما الماكن المقدسة في القدس فقد نص التفاق على
منح الفرنجة حرية الحج إلى القبر المقدس دون مطالبتهم بأي ضريبة مقابل ذلك، على أن يكونوا في
جماعات محدودة، ومدة الصلح ثلث سنوات وثلثة أشهر تنتهي آخر سنة ألف ومائة وخمس وتسعين.
أطلق الفرنجة على الشريط الذي حازوه من الساحل الفلسطيني اسم مملكة القدس. وعين ريتشارد ملكا
عليه ابن أخته هنري دوشامباني.
استقرت الوضاع بعد هذا الصلح، وتوفى صلح الدين بعده بسنتين في دمشق. وتابع حكم السرة
اليوبية، الذي بدأ بخلف شرس على السلطة انتقلت خلله القدس من حكم الفضل بن صلح الدين،
إلى العزيز ملك مصر، ثم عادت إلى الفضل، فإلى العادل.
وسط هذه الخلفات كانت حملت الفرنجة تتواصل واستطاعوا احتلل بيروت، لتتوسع مملكة القدس
على طول الساحل الشامي تقريبا، ووقعوا صلحا مع العادل سنة ألف ومائة وثمان وتسعين.
حاول العادل توحيد المملكة اليوبية على خطى صلح الدين ولكنه فشل، وتقاتل مع أخوته وأبنائهم،
وثبت مع ذلك مساحة واسعة من البلد تحت سلطته التي شملت دمشق والقدس والقاهرة.
وتصدى لمحاولة الفرنجة استثمار الحملة الرابعة في مهاجمة بيت المقدس. لكنه عقد معهم صلحا تنازل
فيه عن المناصفات في صيدا والرملة وأعطى الناصرة ويافا للفرنجة.
وقبل أن تنتهي الهدنة سنة ألف ومائتين وعشرة سعى العادل إلى تجديدها، فيما كانت أوروبا تتهيأ
للحملة الخامسة التي عرفت بالهنغارية. ورغم أن كتلة الحملة توجهت إلى مصر، إل أنها زلزلت جيش
العادل، وقد شاركت مملكة القدس في الحملة على مصر.
حاول الفرنجة استثمار الوضع الناشئ فهاجموا الجليل ليتصدى لهم الدماشقة، ويأخذون أسرى منهم
إلى القدس وحاول المعظم شقيق الملك الكامل الذي خلف العادل مهاجمة فرنجة فلسطين لتخفيف الضغط
عن مصر إل أن حملته كانت محدودة، فلجأ إلى تدمير الحصون حتى ل تقع في يد الفرنجة، ومنها
حصون وأسوار القدس، إذ أظهر الكامل استعدادا لتسليم بيت المقدس مقابل فك الحصار عن دمياط.
أغرق النيل الجيوش الفرنجية، وعقد الكامل صلحا معهم، ولم يعد لتسليم القدس من معنى، لكنه قام
بذلك سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين فيما عرف باتفاقية يافا. إذ سلمها إلى فريدريك الثاني، الذي
كان البابا قد لعنه لنه لم يأخذ البلد بالسيف.
مع تسلمهم القدس، أصبحت مملكة الفرنجة التي تحمل هذا السم واقعا قائما، وظلت عملية التسليم
وصمة للكامل رغم كل ما بذله وأخوه من عمارة القدس والهتمام بها.
ولن تسترد القدس مرة أخرى إل بعد دعوة الصالح أيوب الخوارزمية إلى الشام، فدخلوا المدينة سنة
ألف ومائتين وأربع وأربعين، وطردوا الفرنجة منها. وفشلت محاولتهم اللحقة في إعادة احتللها في
الحملة التاسعة التي حاولت الستفادة من تقدم الخطر المغولي على الشرق السلمي، وظلت مملكة
القدس محصورة في عكا والشريط الساحلي الشامي، حتى نهاية المماليك.
أرفين موسكوفيتش واستيطان القدس
آرفين موسكوفيتش، متمول يهودي أمريكي يعمل بشكل دائم على استكمال تهويد القدس وإغراقها
بالمستوطنين.
يحاول موسكوفيتش التشبه بالمتمول اليهودي البريطاني موشيه مونتفيوري، الذي بدأ البناء الستيطاني
في مدينة القدس، وأقام حيا استيطانيا عرف باسمه.
ضخ موسكوفيتش أموال ضخمة من أجل الستيلء على بيوت عربية في البلدة القديمة وأحياء القدس
الخرى، كما أشرف على ترتيب عمليات احتيال كبيرة منها تلك التي أدت إلى دخول المستوطنين دير
مار يوحنا.
أولى موسكوفيتش اهتماما خاصا، ولوقت طويل للسيطرة على عقارات في البلدة القديمة، متعمدا
تحويلها إلى نواة بؤرة استيطانية ما تلبث أن تتوسع.
ويرتبط المتمول اليهودي المريكي، الذي يجمع تبرعات ضخمة من اليهود في الوليات المتحدة وكندا
لدعم الستيطان الصهيوني بصلة قوية مع الرهابي أرئيل شارون، وقد عمل سويا في دعم نشاط
الجماعات الستيطانية في البلدة القديمة من القدس، وفي الحياء العربية الخرى في المدينة.
وكانت آخر مشروعات موسكوفيتش المعلنة، في البلدة القديمة، خطة توسيع بناء المدرسة الدينية
لجماعة "عطيرات كوهانيم"، المقامة في الحي السلمي قرب باب الساهرة.
يتكون المبنى من طبقة واحدة وقبو، وحسب الخطة المعلنة في تشرين أول من عام ألفين وواحد
ستضاف طبقتان إلى المبنى، تستخدمان لسكان طلبة المدرسة الدينية المذكورة.
وكان موسكوفيتش، رعى إقامة بؤرة استيطانية مطلع العام ألفين وواحد، في الحي السلمي على بعد
مائتي متر من المنزل الذي استولى عليه الرهابي آرئيل شارون.
لم تقتصر نشاطات هذا المتمول الصهيوني المتحمس على البلدة القديمة، فعام سبعة وتسعين، أعلن أحد
أعضاء قيادة حزب موليدت الصهيوني عن أن المليونير اليهودي المريكي لديه مشاريع بناء جديدة في
شرقي القدس، ويعتزم بناء مساكن على أرض تبلغ مساحتها هكتارا بالقرب من المدرسة "التلمودية" في
"بيت أورون" إضافة إلى مشاريع أخرى.
أرجأت حكومة نتياهو في العام نفسه الشروع في تنفيذ مشروع بناء استيطاني، لصالح موسكوفيتش في
رأس العامود، وقال الناطق باسم رئيس الحكومة الصهيونية: علينا أل نغامر ببناء سبعين مسكنا إذا
كان هذا يمنعنا في وقت لحق من تنفيذ مشاريع أهم في قطاعات أخرى من القدس.
كانت الخشية الصهيونية من ردود الفعل على البناء في حي مأهول بالعرب بالقدس، ولكن في مطلع
العام ثمانية وتسعين، صادقت ما تسمى وزارة الداخلية في الكيان الصهيوني، على بناء مئة واثنتين
وثلثين وحدة استيطانية لصالح موسكوفيتش في حي رأس العامود.
آثار القرار والشروع في عمليات البناء ردود فعل حادة في القدس، وانطلقت تظاهرات، وتحركات
سياسية لوقف هذا المشروع.
عام تسعة وتسعين، وبينما كان المستوطنون يواصلون العمل في البناء في حي رأس العامود، تحدث
مسؤولون صهاينة عن أنهم يبحثون إمكانية وقف البناء.
هدد موسكوفيتش باللجوء إلى المحاكم ضد الحكومة معلنا أنه يملك تراخيص بناء، وتمكن بالفعل من
متابعة البناء في هذا الحي الستيطاني.
في هذه الثناء، تابع موسكوفيتش، تحويل عمليات الحتلل للستيلء على المنازل في القدس، وفي
العام من ألفين وواحد، صدر قرار عن مجلس البلدية الصهيونية في القدس، بالمصادفة على بناء حي
استيطاني في قرية "أبو ديس" باسم الحي اليهودي.
كان موسكوفيتش قد عرض هذا المشروع منذ سنوات، وعرض التبرع بكامل تكاليفه، حيث يشمل إقامة
مائتين وعشرين وحدة سكنية استيطانية على مساحة ثلثة وستين دونما تقع قبالة جامعة أبو ديس.
الكنيست الصهيوني وافق على المشروع الذي أصبح موسكوفيتش شريكا فيه، بدل التبرع بإقامته.
الرهاب الصهيوني في القدس
يحتل الرهاب الموجه إلى المواطنين الفلسطينيين مكانة مركزية في النشطة الصهيونية في بيت
المقدس، وهو يندرج في سياق السعي إلى تهويد المدينة، ودفع أهلها إلى الهجرة منها.
يأخذ الرهاب الصهيوني في المدينة أشكال متعددة، ويشترك في تنفيذه الجنود والمستوطنون الذين
شكلوا عصابات متخصصة في إرهاب المواطنين العرب الفلسطينيين.
وتغطي النشطة الرهابية الصهيونية مختلف أنحاء المدينة، سواء المكنة المقدسة أو الحياء السكنية
فيها.
في نيسان من عام اثنين وثمانين، اقتحم جندي صهيوني يدعى هاري غولدمان، ساحة الحرم القدسي
الشريف، وأخذ يطلق النار عشوائيا من بندقية رشاشة تجاه المصلين، ما أسفر عن استشهاد وجرح
العشرات منهم.
أثار العتداء موجة سخط عارمة في القدس، وأعلنت السلطات الصهيونية عن اعتقال غولدمان وادعت
كما هي العادة بأنه مختل.
الحاخام الرهابي مائير كهانا، بارك فعلة غولدمان الشنيعة، وكلف محامين بالدفاع عنه.
بعد عام كامل على هذه الجريمة البشعة، اقتحمت عصابة من اللصوص الصهاينة المتحف السلمي في
القدس، واستولت على مقتنيات تفوق قيمتها الربعة مليين دولر، وسجلت القضية ضد مجهول.
شهد عام أربعة وثمانين موجة أعمال إرهابية نفذها المستوطنون الصهاينة ضد مواطني القدس. فألقى
أفراد العصابات الصهيونية قنبلة على مواطنين فلسطينيين في ساحة البراق. وقاموا بتفجير مقهى
عربي في حي باب السلسلة ما أدى إلى إصابة أربعة مقدسيين بجراح.
وبعد أيام على هذه الجريمة، تم اقتراف جريمة أخرى تمثلت بضرب حافلة تقل مواطنين عرب بصاروخ
على طريق القدس الخليل وعلى بعد مائتي متر من السوار القديمة للمدينة المقدسة.
أسفر انفجار الصاروخ عن استشهاد مواطنين وإصابة آخرين بجراح، البعض منهم كانت جراحه بالغة
وخطيرة.
تجددت موجة العمال الرهابية عام ستة و ثمانين، فألقى المستوطنون قنبلة حارقة على منزل عربي،
ودمروا ثلث سيارات للمواطنين الفلسطينيين.
وهاجم نحو خمسمائة من المستوطنين الصهاينة المواطنين العرب في البلدة القديمة، وهم يهتفون
الموت للعرب.
حطم المستوطنون نوافذ المساجد والمنازل و أحرقوا أبوابا خشبية.
وقد اعترفت شرطة الحتلل في حينه أن تلميذ المدرسة الدينية الستيطانية "شوفوبنيم" يملكون ترسانة
ضخمة من السلحة، تشمل بنادق و قنابل يدوية وقاذفات صواريخ مضادة للدروع.
عام ثمانية وثمانين، وفي ذروة النتفاضة الفلسطينية، ومع تصاعد العتداءات التي يقوم بها
المستوطنون الصهاينة، شكل أهالي القدس لجان حراسة في حي السعدية وأحياء مجاورة لصد
المستوطنين.
وعام تسعين هاجم الجنود الصهاينة حي سلوان وأطلقوا الرصاص بشكل عشوائي مما أسفر عن
استشهاد ثلثة مواطنين، و إصابة العشرات بجراح.
عاود المستوطنون موجة إلقاء القنابل اليدوية عام اثنين وتسعين مستهدفين الحي السلمي في البلدة
القديمة، فألقوا قنبلة على محل تجاري مما أسفر عن استشهاد رجل مسن وجرح عشرة آخرين.
وهاجم المستوطنون الصهاينة بأعداد كبيرة منازل الفلسطينيين ومحالهم في ضاحية البريد، وفي
المنطقة الواقعة بين مستوطنتي "بسغات زئيف" "ونيفي ياكوف".
وصعدوا من اعتداءاتهم على المواطنين في البلدة القديمة حتى أنهم هاجموا بحراسة أفراد الشرطة،
منزل مواطن بقنابل المولوتوف والحجارة، ولم يشفع صراخ الطفال والنسوة في تدخل أفراد الشرطة
الصهاينة لوقف هذا العتداء.
كما ألقى المستوطنون الصهاينة قنبلة باتجاه حشد من المواطنين الفلسطينيين مما أدى إلى إصابة
خمسة منهم بجراح.
حظيت هذه العمليات الرهابية دوما بدعم شرطة الحتلل ومن يسمون بحرس الحدود الذين شاركوا
أيضا في تنفيذ العديد منها.
القدس ومشروع التدويل
في التاسع والعشرين من تشرين الثاني من عام سبعة وأربعين وتسع مئة وألف، اتخذت الجمعية العامة
للمم المتحدة، قرارا جائرا بتقسيم فلسطين بين الفلسطينيين أصحاب الرض، والصهاينة الغزاة،
وتضمن القرار بندا خاصا بتدويل القدس.
لم تكن هذه هي المرة الولى التي يجري فيها الحديث عن نظام خاص للقدس، أو تدويلها، فعقب انفجار
ثورة عام ستة وثلثين في فلسطين، أرسلت الحكومة البريطانية لجنة تحقيق إلى فلسطين عرفت باسم
لجنة )بيل(، أوصت في ختام أعمالها بتقسيم فلسطين وبوضع القدس وبيت لحم والناصرة تحت سلطة
النتداب، للبحث في نظام خاص لها.
جرى اتخاذ قرار التقسيم عام سبعة وأربعين رغما عن إرادة العرب الفلسطينيين والعرب، وفيما يتعلق
بالقدس نص القرار على أن يجعل للقدس وضعا أو كيانا منفصل خاضعا لنظام دولي تتولى المم
المتحدة إدارته.
على أن تشمل المدينة بلديتها القائمة والقرى والبلدات المجاورة، وأن يعين عليها مجلس وصاية يضع
ويقر دستورا منفصل للمدينة، يتضمن جوهره شروطا عدة منها حماية المصالح الروحية والدينية
الفريدة، بحيث يسود النظام والسلم الديني خاصة مدينة القدس.
كما نص القرار على أن يكون حاكم المدينة من غير مواطني الدولتين اللتين أقر قرار التقسيم قيامهما،
وأن تجرد المدينة من السلح، ويعلن حيادها. كما يكون لها مجلس تشريعي منتخب بالقتراع السري
على أساس تمثيل نسبي لسكان المدينة البالغين وبتغير تمييز من حيث الجنسية.
ول يجوز المساس بالحقوق الحالية للماكن المقدسة وضمان حرية الوصول إليها وصيانتها، وعدم
جباية أي ضريبة على مكان مقدس أو مبنى أو موقع ديني مقدس معفى منها.
رفض العرب قرار التقسيم الجائر الذي حمل الرقم مئة وواحد وثمانيين، بكليته لما رأوا فيه من انتقاص
لحقوقهم في فلسطين والقدس، وقام الصهاينة بتطبيقه انتقائيا، فأعلنوا قيام دولتهم على أساسه في
مساحة أكبر بكثير من تلك التي منحها القرار لهم، وواصلوا عدوانهم للسيطرة على القدس.
وفي كانون الول من عام ثمانية وأربعين، أصدرت الجمعية العامة للمم المتحدة قرارا حمل الرقم مئة
وأربعة وتسعين، الذي تضمن بندا يتعلق بتقرير وضع القدس في نظام دولي، وإنشاء لجنة توفيق
دولية.
جاءت معظم الفقرات في البند الخاص بالقدس، تكرارا وتوضيحا لما كان قد تضمنه قرار التقسيم من
مثل اتخاذ التدابير اللزمة لتأمين نزع السلح من المدينة، والطلب إلى لجنة التوفيق، تقديم اقتراحات
مفصلة بشأن نظام دولي دائم لمنطقة القدس، وتقرير منح سكان فلسطين جميعا أقصى الحرية في
الوصول إلى القدس، ووجوب حماية الماكن المقدسة والبنية الدينية في فلسطين.
رفض الصهاينة القرار مئة وأربعة وتسعين الذي تضمن أيضا النص على عودة اللجئين الفلسطينيين
إلى ديارهم، ومازالوا يرفضونه حتى الن، في حين رأى فيه العرب انتقاصا من حقهم في القدس
وفلسطين أيضا، لكونه يكرس قرار التقسيم، وتشريع الغتصاب الصهيوني لفلسطين.
كانت المم المتحدة قد أقرت عام سبعة وأربعين تشكيل مجلس وصاية، لتنفيذ مشروع التقسيم في
فلسطين والتدويل في القدس، وسوف تقع على عاتقه لحقا محاولة وضع المشروع موضع التنفيذ،
وهو أعلن في آذار من عام ثمانية وأربعين، أنه وضع تفاصيل مشروع النظام الدولي لمدينة القدس.
وقد كلف المجلس في مطلع أيار من عام ثمانية وأربعين من قبل الجمعية العامة، أن يدرس مع سلطة
النتداب، والطراف المعنية الجراءات الملئمة لحماية مدينة القدس وسكانها، وأن يرفع إلى الجمعية
العامة اقتراحات بهذا الشأن في أقرب وقت.
افتقر المجلس كما الجمعية العامة إلى أي فعالية على هذا الصعيد، وعاد بعد صدور القرار مئة وأربعة
وتسعين الذي سبقه إعلن الكيان الصهيوني على نحو يخالف قرار التقسيم عاد إلى العمل على استكمال
دستور القدس.
رفض الصهاينة مشروع التدويل، وأعلنوا القدس عاصمة لهم، واكتفى مجلس الوصاية بالحتجاج،
ليواصل طوال العام خمسين وتسع مئة وألف إصدار قرارات متلحقة، عن عزمه المضي فورا في إنهاء
إعداد نظام مدينة القدس وتنفيذه.
انضمت هذه القرارات إلى جانب قرارات لجنة التوفيق، وعندما أعلن المجلس عن توصله إلى إنهاء
النظام، داعيا الكيان الصهيوني والردن إلى تطبيقه كان الصهاينة قد قطعوا شوطا واسعا في فرض
وقائع مستجدة في مدينة القدس.
ولعله من اللفت للنتباه أن الحديث عن مشروع التدويل قد استمر، وتبنته الدول الكبرى، لكن أحدا لم
يتحرك لتنفيذه، حتى ليبدو وكأنه منذ البداية، نوع من التسويف، يتيح للصهاينة استكمال مشروعهم،
وإعلن كيانهم بقرار دولي جائر.
المدرسة التنكزية
المدرسة التنكزية في بيت المقدس، واحدة من أشهر المدارس المقدسية وأحلها، بناها المير تنكز
الناصري، سنة سبعمائة وتسع وعشرين للهجرة.
سيف الدين تنكز الناصري كان نائب الشام. والبناء في بيت المقدس كان مزيجا من الواجب الديني،
والرغبة في احتلل مكان في التاريخ، ولذلك كان هناك تسابق على الشادة والبناء اللذين توجها بشكل
أساسي نحو دور العلم والمدارس، على يمين الداخل إلى الحرم الشريف من باب السلسلة تقع المدرسة
التنكزية التي تحمل اسم بانيها وواقفها.
وهي مدرسة عظيمة متقنة البناء، على ما يصفها مجير الدين الحنبلي قائل "أنها مدرسة عظيمة ليس
في المدارس أتقن من بنائها". لكن الحنبلي يتوقف هنا، ول يسهب في وصف هذه التحفة المعمارية التي
ل تزال قائمة حتى اليوم.
الستاذ كامل العسلي الذي صرف وقتا طويل من حياته "يرحمه ال" باحثا في سجلت المحكمة الشرعية
في القدس، عثر على وصف مفصل دقيق للمدرسة التنكزية في السجل رقم اثنين وتسعين، لسنة ألف
وعشرين للهجرة، من سجلت المحكمة المذكورة، وهو يحتوي على النص الكامل لوقفية المير تنكز
على مدرسته.
وفي الوقفية معلومات كثيرة هامة عن كل النواحي المتصلة بالمدرسة، حيث يتضح أن الصرح الذي
شيده سيف الدين تنكز كان مجمعا مؤلفا من عدة أجنحة ويشتمل على مدرسة ودار حديث، وخانقاه
للصوفية، ورباطا للعجائز من النساء.
المدرسة كانت تشغل الطابق الرضي من المبنى، أما الخانقاه فكانت فوق رواق الحرم. وكان في علو
المدرسة أحد عشر بيتا للصوفية، كما كان فوق سطح المدرسة بيت كبير طوله خمسة وأربعون ذراعا
وعرضه عشرون ذراعا مخصصا لرباط النساء.
تقول الوقفية في وصف المبنى:
"...ويغلق على هذه المدرسة ..باب خاص مكبر بمصراعين من خشب الجوز بصفائح نحاس أصفر
ببوابة معقودة بالحجر النحيت البيض والسود والصفر، وبها طرز مذهب مكتوب فيه اسم الواقف
..وتشتمل هذه المدرسة المذكورة على أربعة اوواين معقودة بالكلس والحجر، في واحد منها شباك
حديد مطل على حارة المغاربة، ولكل واحد من الشبابيك المذكورة والمجلسين المشار إليهما باب
بمصراعين مطعم بالعاج والنبوس، وجميع هذه المدرسة المذكورة مؤزر بالرخام الملون، وأرضها
مفروشة بالرخام الملون أيضا ولها عراقية ..ورفرف مدهون.
وفي وسط هذه المدرسة المذكورة بركة مثمنة يجري بها الماء من قناة العروب، بحق واجب معلوم من
مقسم مشترك ينقسم ماؤه بين جهات الحرم الشريف وبين هذه المدرسة المذكورة من الفرع السابق من
قناة العروب بحق واجب معلوم، وبهذه المدرسة مطبخ برسم المرتبين بهذه المدرسة.. ولهذه المدرسة
طهارة تشمل على خمسة بيوت مبنية بالحجارة النحيت والكلس وأحدها مستحم. وفي كل بيت منها
جرن حجر، يجري إليه الماء من قناة العروب المذكورة، بمقسم خاص بها بحق واجب معلوم.
وجميع أواوين هذه المدرسة المذكورة مبلطة بالبلط البيض، وحائط هذه المدرسة القلبي، مبني على
أقباء رومية، تعرف قديما بإسطبلت الدوابة، وهي من حقوق هذه المدرسة المذكورة، ويتطرق إلى هذه
القباء من حارة المغاربة بباب خاص وتحت الجانب الشرقي من هذه المدرسة المذكورة قبو سليماني
قديم جدده الواقف"
الوقفية، لم تقتصر بالطبع على وصف البناء ومشتملته كما تقدم، بل أنها أيضا تحدثت عن شروط
للعاملين والمدرسين والطلبة الدارسين فيها.
ضمت التنكزية عددا كبيرا من المدرسين والمحدثين والصوفيين، بوصفها مدرسة ودار حديث وخانقاه
وقد حددت وقفيتها مهام العاملين فيها، كما حددت شروط المدرس وشيخ الحديث وشيخ الصوفية،
وكذلك شروط الطلبة.
كان من شروط المدرس أن يكون حافظا لكتاب ال تعالى، عالما بمذهب المام أبي حنفية، وأن يكون
إماما في الصلوات الخمس ومن شروط شيخ الحديث، أن يكون عالي الرواية مقصودا بالسماع عليه
حسن الضبط ..أما الطلب، فاشترطت المدرسة أن يكون طلبها من أهل الخير، وقسمتهم إلى ثلث
طبقات: مبتدئون، متوسطون ومنتهون، وأن يواظبوا على دروسهم.
وكان على قراء الحديث، أن يجتمعوا بعد صلة العصر، ويقرأ كل واحد منهم ما تيسر من كتاب ال،
وأن يختموا القرآن.
ومن شروط الطالب في دار الحديث، وهو أحد أقسام المدرسة، أن يقرأ في الدرس الديني من صحيح
البخاري، ثم من صحيح مسلم وأن يحفظ كل يوم حديثا واحدا، ويعرضه على الشيخ. وأما الصوفية،
فكان عليهم أن يجتمعوا في صبيحة كل يوم قبل طلوع الشمس، ويقرأ كل واحد منهم، ما تيسر له من
القرآن، وكانوا يرددون الدعوات ويقرأون من رسالة المام القشيري.
وحددت الوقفية عدد الطلبة بالمدرسة بخمسة عشر طالبا موزعين إلى مبتدئين ومتوسطين ومنتهين،
وعدد الطلبة في دار الحديث بعشرين طالبا، وعدد الصوفية بخمسة عشر صوفيا.
كانت مدة المدرسة التنكزية، أربع سنوات، وكان من بين موظفي المدرسة معمار خاص بها للشراف
على صيانة مبناها.
ويتقاضى العاملون فيها رواتب شهرية حددتها الوقفية كالتي:
المدرس: ستون درهما فضيا شهريا وثلثا رطل من الخبز يوميا
المعيد: ثلثون درهما فضيا شهريا، وثلثا رطل من الخبز يوميا
الفقهاء: وهم ثلث طبقات يتقاضون بالترتيب عشرين، خمسة عشر، وعشرة دراهم، شهريا مع ثلث
رطل من الخبز يوميا.
شيخ المحدثين: أربعون درهما فضيا شهريا، ورطل من الخبز يوميا.
طلبة الحديث: سبعة دراهم ونصف درهم شهريا وثلث رطل من الخبز يوميا.
شيخ الصوفية: ستون درهما شهريا، وثلث رطل من زيت الزيتون، وثلث رطل من الصابون ورطل من
الخبز يوما.
الصوفي: عشرة دراهم شهريا، وسدس رطل من الزيتون، وسدس رطل من الصابون ونصف رطل من
الخبز يوميا.
الوقفية تشير إلى شروط خاصة للخانقاه، حيث أن المستفيدين منها هم من السادة المشايخ الصوفية.
الشيوخ والكهول والشباب البالغين المتأهلين والمجردين من العرب والعجم "وكان السكن فيها
للمتجردين دون المتزوجين، وكذلك للواردين من الصوفية، من خارج القدس"
وتشترط عليهم الوقفية "أن يجتمع الجماعة المذكورون بأسرهم في كل يوم يقرأون ما تيسر من القرآن
العظيم في ربعات شريفة، وأن يجتمعوا مع شيخهم بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة ويقرأون بحضور
شيخهم ما تيسر من كلم الئمة الصوفية"
التنكزية نموذج للمدارس المقدسية المشابهة، التي كانت تطبق نظما قريبة مما عرضناه، وفيها تخرج
عدد كبير من العلماء في بيت المقدس.
في العهد العثماني، تحولت المدرسة إلى محكمة شرعية، ومن هنا صارت تعرف باسم المحكمة، وبقيت
كذلك حتى أوائل عهد النتداب البريطاني، فاتخذها المجلس السلمي العلى دارا للسكن، ثم عادت بعد
ذلك مدرسة لتعليم الفقه السلمي. في أواسط حزيران من عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين، أصدرت
السلطات الصهيونية، قرارا بمصادرة سبعة عشر عقارا إسلميا في أنحاء مختلفة من القدس، بينها
المدرسة التنكزية على مدخل باب السلسلة.
وقبل نهاية الشهر المذكور، دخلت قوات الحتلل إلى المبنى، وحولته إلى موقع عسكري لفراد حرس
الحدود.
بيت المقدس
موقعها وبناؤها
تقع القدس في جبال فلسطين الداخلية وسط فلسطين، على بعد اثنين وخمسين كيلو مترا من البحر
المتوسط، واثنين وعشرين كيلوا مترا من البحر الميت.عند تقاطع خط الطول 35.13 شرقا، وخط
العرض 31.52 شمال.
وترتفع نحو سبعمائة وخمسين مترا عن سطح البحر البيض المتوسط، ونحو ألف ومائة وخمسين مترا
عن سطح البحر الميت. وقد أقيمت نواة المدينة الولى، فوق هضبة من آكام مستديرة، في قلب
السلسلة الجبلية الوسطى، التي تشكل العمود الفقري للرض الفلسطينية، في موقع جغرافي استراتيجي
هام، يتيح لها ميزة النفتاح والنغلق معا.
ومن موقعها هذا، يمكن تأمين المراقبة على كل فلسطين. فالموقع يسيطر على الطرق الرئيسية في تلك
الفترة، فمن القدس تمكن السيطرة على طريق السهل الساحلي ووادي الردن. كما يتم تأمين التحكم
المباشر بالطريق الساحلي، وطريق الملك، الممتدة من العقبة إلى دمشق عبر الكرك وعمان وهي
محاور التجارة القديمة.
إن ميزة النفتاح، هي التي تتيح للقدس التصال بجميع الجهات شرقا وغربا وشمال وجنوبا.إذ تقع في
قلب المسافة بين دمشق القاهرة وبيروت وعمان، ومصر والعراق والحجاز والشام.
أما ميزة النغلق، فهي التي تؤمن للقدس إمكانية الدفاع عنها، لنها محمية بجبال ووديان عميقة.
تحيط بالقدس القديمة مجموعة من الجبال، وهي: رأس أبو عمار قرب قرية بتير في الجنوب.
وجبل الزيتون أو الطور من جهة الشرق، وجبل سكوبس أو المشارف من الشمال، وجبل المنطار من
الجنوب الشرقي، وجبل صموئيل إلى الشمال الغربي قرب قرية بيت حنينا.
وإذ ل توجد حدود طبيعية حقيقية بين جبال القدس وجبال نابلس، فإن ارتفاعها يزداد كلما اتجهنا
جنوبا، أي نحو الخليل، وتصبح أكثر وعورة، خاصة جهة شرق الخليل.
وإلى الجبال، تحيط بالقدس أودية عميقة، منها: وادي جهنم الذي يمتد على طول المدينة من الجنوب،
ووادي الجوز الذي يبدأ من الشمال الشرقي متجها إلى الجنوب، ووادي القلط في الشمال. والوادي
الكبير الذي يبدأ من شمال اللطرون، متجها إلى الغرب باتجاه اللد.
ووادي النار الذي يبدأ من الجنوب الشرقي، ويتجه نحو البحر الميت.
الجبال المحيطة بالقدس، والواديان الرئيسيان اللذان يلتقيان في طرفهما الجنوبي، ويتركان الجهة
الشمالية مفتوحة، كل هذا جعل القدس منيعة وسهل الدفاع عنها .
ومما يعطي لموقعها ميزة إضافية. وجود نبع ماء دائم في الجهة الشرقية منها، وهذه ميزة نادرة في
فلسطين.
في هذا الموقع المميز، أقيمت مدينة القدس حوالي العام 3200 قبل الميلد، وذلك بحسب مكتشفات
أثرية عثر عليها جنوب الجدران الحالية للمدينة القديمة، وقدر المؤرخون وعلماء الثار أنها تعود للعام
المذكور.
وثمة اتفاق واسع بين معظم المصادر على أن القدس بنيت أول ما بنيت حوالي ثلثة آلف قبل الميلد،
وأن أول من بنى المدينة هم العموريون تلهم اليبوسيون، وأطلقوا أول اسم عليها وهو "يبوس" فيما
سماها العموريون قبلهم أورشليم.
واليبوسيون هم بطن من بطون العرب الذين نشئوا وترعرعوا في الجزيرة العربية،ثم هاجروا مع
غيرهم من القبائل الكنعانية، واستوطنوا المنطقة الشرقية لساحل البحر المتوسط "سوريا الطبيعية"
وخاصة ما يعرف اليوم بفلسطين.
وأصبح اليبوسيون هم أصحاب فلسطين وملوك القدس، ويقال إن أهم ملوكهم "ملكي صادق هو أول من
خططها وبناها، وكان وديعا ومحبا للسلم، ومن هنا جاء أسمها "سالم" وعرفت فيما بعد بالسم الكنعاني
"أور سالم" أي مدينة السلم.
التوافق على هذا التحديد، ربما كان يخص مرحلة تاريخية معينة، هي أقصى ما استطاع الباحثون في
التاريخ، والعاملون في الثار والتنقيب إدراكه، ذلك أن هناك من يعيد النشأة الولى للقدس، إلى زمن
مختلف، وتاريخ آخر، هو وفق الرادة البشرية، ويرتبط بالرادة اللهية التي منحت المكان قداسة
خاصة، أي أن القدس أقيمت بالرادة اللهية
جاء في صحيح البخاري:
سئل رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم: أي مسجد وضع في الرض أول؟ قال المسجد الحرام قال
السائل: ثم أي؟ قال: المسجد القصى. قال كم بينهما؟ قال أربعون سنة.
وقد روى الحديث ابن ماجه في سننه، والمام أحمد في مسنده.
ومما جاء في كتاب: النس الجليل بتاريخ القدس والخليل للقاضي مجير الدين الحنبلي: قال المام أبو
العباس القرطبي: يجوز أن يكون بناه، ويعني مسجد بيت المقدس، الملئكة بعد بنائها البيت الحرام بإذن
ال تعالى، وظاهر الحديث يدل على ذلك.
وفي موضع آخر من كتابه، ينقل الحنبلي عن رواة التاريخ، أن آدم عليه السلم، شارك في عمارة
القدس، ثم من بعده نوح عليه السلم، وينقل رواية ابن نوح، سام، جدد البناء القديم،لنه جاء ملكا
على قومه.
إن التقديس الذي منحه ال سبحانه وتعالى للقدس، وذكرها في القرآن الكريم، ثم ما جاء من أحاديث
مسندة عن الرسول الكريم، من فضائل بيت المقدس، يؤكد الرادة اللهية في إقامة المكان المقدس.
ولعل الهمية العظيمة التي يعنيها هذا التقديس هي التي دفعت الخباريين والرواة، إلى الحديث عن
مشاركة كل من آدم ونوح عليهما السلم في بناء مدينة القدس، ومسجدها.
ثم أنهم سعوا إلى التوفيق بين ما هو في علم الغيب، ول يعلمه إل ال، وما تناهى إليه إدراكهم من
وقائع، وهكذا نجد أن مجير الدين الحنبلي، ينقل لنا رواية، تدمج بين سام بن نوح، وملكي صادق،
الملك اليبوسي، وتجعلهما شخصا واحدا.
يقول الحنبلي: "ومما حكي في أمر بناء القدس في تواريخ المم السالفة: أن ملكي صادق –وهو سام بن
نوح ملك اليبوسيين – نزل بأرض بيت القدس، وقطن بكهف من جبالها، يتعبد فيه واشتهر أمره حتى
بلغ ملوك الرض الذين هم بالقرب من أرض بيت المقدس بالشام وسدوهم، وغيرهما، وعدتهم اثنا
عشر ملكا، فحضروا إليه، فلما رأوه وسمعوا كلمه اعتقدوه، وأحبوه حبا شديدا، ودفعوا له مال، ليعمر
به مدينة القدس، فاختطها أي: كما علم ذلك من أبيه نوح عليه السلم وعمرها. وسميت ورشلم ..فلما
انتهت عمارتها، اتفقت الملوك كلهم، أن يكون ملكي صادق، ملكا عليها، وكنوه بأبي الملوك، وكانوا
بأجمعهم تحت طاعته. واستمر حتى مات بها.
أيا كان أمر هذا النص، من حيث الدقة العلمية، وانسجامه مع وقائع التاريخ، وهما أمران ل بد أن
ينفيهما انعدام القدرة على إثبات صلة ملكي صادق بسام بن نوح، إل أنه من جانب أخر، يثبت واقعة أن
ملك اليبوسيين، هو من بنى القدس، في التاريخ المعروف والمدرك والمثبت بالحفريات حتى وقتنا
الحاضر.
بعد ملكي صادق، واليبوسيين، سوف يأتي من يبني القدس مرارا، فقد أعيد بناء المدينة ثماني عشر
مرة في التاريخ، وذلك لما توالت على هذا البلد المقدس من أحداث وأهوال حيث كان على مر الدهور
مطمع أنظار المم والشعوب، وهدفا من أهداف الغزاة والفاتحين، فحوصر مرارا، وهدم تكرارا، وأعيد
البناء من جديد في ذات الموقع المقدس، بإرادة إلهية.
مشروع برنادوت واغتياله
عشية انتهاء النتداب البريطاني على فلسطين اتخذت المم المتحدة قرارا بتعيين الكونت فولك برنادوت
وسيطا دوليا لضمان سلمة سكان فلسطين وحماية الماكن المقدسة.
وبعد شهور قليلة من هذا القرار قامت العصابات الصهيونية باغتيال برناودت في واحدة من جرائمها
الكثيرة في أرض فلسطين.
لم يبد الصهاينة منذ البداية ارتياحا لمهمة برناودت الهادفة أساسا السعي إلى تطبيق قرار التقسيم رقم
مئة وواحد وثمانين، ففي نفس اليوم الذي اتخذت فيه المنظمة الدولية القرار بتعيينه، بدأت الهاغاناه
في تطبيق ما يعرف بالخطة داليت، الرامية إلى تحقيق مكتسبات على الرض تمنع من قيام دولة
فلسطينية بحسب القرار مئة وواحد وثمانين، وتجهض فكرة تدويل القدس وفق منطوق القرار نفسه.
وحسب الخطة المذكورة كان على العصابات الصهيونية أن تحتل المناطق الواقعة بين تل أبيب والقدس
وطرد المواطنين العرب منها.
وفي يوم تعيين برنادوت في مهمته أيضا، احتل الصهاينة دير القديس جاورجيوس للروم الرثوذكس
في القدس، ويوم العشرين من أيار سنة ألف وتسعمائة وثمان وأربعين أضاف مجلس المن الدولي
مهمة جديدة لبرنادوت، وهي التفاوض من أجل الحفاظ على الهدنة في القدس.
بذل الوسيط الدولي مجهودا كبيرا لتنفيذ مهمته وتوسط من أجل مد الصهاينة في القدس بمياه رأس
العين، التي استشهد في الدفاع عنها الشيخ حسن سلمة.
في تموز من عام ثمانية وأربعين، رفع برنادوت تقريرا إلى مجلس المن حول مهمته قال فيه: إن
مدينة القدس تقع وسط القليم العربي، وإن أية محاولة لعزلها سياسيا أو غير ذلك عن القليم العربي
المحيط بها تنطوي على صعاب جمة، ول يعني إدخال القدس ضمن القليم العربي بحال، سيطرة العرب
على اليهود أو غيرهم من الشعوب غير العربية أصحاب المصالح في تلك المدينة.
لم يلق تقرير برنادوت آذانا صاغية، وفي آب من عام ثمانية وأربعين، تلقى الوسيط الدولي من غلوب
باشا، قائد الجيش الردني مشروعا من اثني عشر بندا لتجريد القدس من السلح، وافق عليه بحراره،
ولكن الصهاينة رفضوه، فرفع برنادوت تقريرا آخر إلى مجلس المن، قيل أنه عجل في اغتياله، ففي
تقريره هذا شكك في المكان تنفيذ نزع السلح في القدس وتجريدها من السلح بصفة مؤقتة.
وقال: "حتى لو وافق الطرفان على اعتبارها منطقة منزوعة السلح، فل يتيسر تطبيق هذا الجراء
عمليا ما لم تشكل فورا قوة دولية تابعة للمم المتحدة للقيام بهذه المهمة".
كان الصهاينة يسعون إلى تعزيز مواقعهم في القدس ويرون أن من شأن تطبيق مقترحات الوسيط
الدولي إعاقة هذا المسعى، بعد أقل من شهر رفع تقريره، اغتيل برنادوت في حي القطمون في القدس
على يد مجموعة من أفراد العصابات الصهيونية كانوا يرتدون الزي العسكري.
وقع الغتيال في أيلول من عام ثمانية وأربعين، وبعد أربعين عاما تبين أن الفريق الذي خطط وقاد
الجريمة، يتألف من: "اسحق شامير، وناتان بالين مور، وإسرائيل ألداد".
وفي آونة الكشف عن هذه الحقائق كان اسحق شامير رئيسا للوزراء في الكيان الصهيوني، لكن أحدا لم
يتحرك لعقابه على جريمة موصوفة.
مما كشف عنه أيضا، أن القرار بالغتيال اتخذ في اجتماع للحكومة الصهيونية، ناقش ما سمي يومها
بمقترحات برنادوت 2 وهي المشار إليها في تقريره إلى المم المتحدة.
يوشو زيتلر زعيم عصابة شتيرن، قال بعد مقتل برنادوت: "لم نعد اليوم قادرين على قتل أحد ولكنني
ينبغي عليه العالم أن يتذكر أننا معشر اليهود نقرر مصيرنا بأنفسنا، لقد أراد برنادوت أن يعطي الجليل
والقدس والنقب إلى العرب، إن ما جرى لبرنادوت كان عملية تصفية، وليس اغتيال، وأنا لست نادما
على ما فعلت".
هذا كما ترى اعتراف صريح، والقتل ما يزال مستمرا.
عملية تزييف جديدة القدس 3000 عام
في عملية تزييف جديدة لوقائع التاريخ، أطلق الصهاينة عام خمسة وتسعين، سلسلة احتفالت ضخمة،
لمناسبة ما أسموه، مرور ثلثة آلف عام على قيام مملكة داوود في القدس.
وفي أيلول من العام المذكور، أطلق الرهابي اسحق رابين هذه الحتفالت، بخطاب مليء بالتزييف
التاريخي، ومحتشد بالعبارات العنصرية، وبالصرار على اغتصاب القدس، حيث قال الرهابي: "القدس
هي مجد الشعب اليهودي على صورة ال". وأضاف "ل إسرائيل من دون القدس الموحدة التي هي قلب
الشعب اليهودي".
صرف الصهاينة وقتا طويل في التحضير للخدعة التاريخية الجديدة، لكنها لم تحقق النتائج التي
توقعوها، باعتراف الرهابي تيدي كوليك، صاحب الفكرة، فقد كانت الحتفالت فاشلة، وهو قال: "إن
الحتفال لن يكون حدثا دوليا كما كنت أحلم".
لم تفلح اللعاب النارية، والرقصات الصاخبة في تغطية الخيبة اليهودية من فشل الخدعة، فقد قاطعت
دول التحاد الوربي هذه الحتفالت، موضحة أنها تجاهلت المسلمين والمسيحيين وصلتهم بالمدينة
المقدسة، وحتى السفير المريكي لدى الكيان الصهيوني مارتن انديك قاطع هذه الحتفالت، وإن قام
بتبرير غيابه بارتباطه بمواعيد سابقة، وليس ترجمة لموقف رافض منها.
عمليا فإن الحتفالت التي أرادها الصهاينة محاولة لتثبيت ادعائهم حول القدس، شكلت مناسبة لنشر
العديد من البحاث والدراسات التي تفضح المزاعم الصهيونية وتكشف عن محاولة جديدة لتدعيم فكرة
الحق التاريخي اليهودي في مدينة القدس عن طريق تحويل الساطير إلى حقائق تاريخية كما تفضح
حجم الضافات إلى العهد القديم، والتي كتبت في فترات زمنية متفرقة، لتعطي صفة شرعية لستيلء
اليهود على القدس.
عدنان الحسيني مدير الوقاف السلمية في القدس اعتبر أن الحتفالت التي يقوم بها الصهاينة ليست
سوى خدعة وقال: "صحيح نحن نشكل الطرف الضعف الن لكن موقفنا واضح، فالقدس عربية منذ
خمسة آلف سنة، ومسلمة منذ أربعة عشر قرنا.
بأمر الهي ل يستطيع أي قانون بشري أن يلغيه. ووجد حتى بين الصهاينة من لم يحتمل ثقل الخدعة
التي تقوم بها الحكومة الصهيونية، فقال يوري افنيري: "أن هذه الحتفالت تزور التاريخ وتعتدي على
الحق التاريخي السلمي والمسيحي في المدينة، داعيا المجتمع الدولي إلى مقاطعتها.
بالمقابل، كشف هذا النشاط التزييفي عن مدى النحياز المريكي إلى الكيان الصهيوني، فبعد تغيب
مارتن انديك عن الحتفالت بداعي الرتباط المسبق، شن الصهاينة حملة تحريض وصلت إلى حد
مطالبة المواطنين المريكيين بالتحرك ضد حكومتهم، وما لبث الكونغرس المريكي، أن نظم في الشهر
الثاني من الحتفالت التي تقرر أن تستمر لخمسة عشر شهرا أن نظم احتفال كبيرا في مبنى الكابيتول،
حضره حشد من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، بحضور الرهابي اسحق رابين، والذي تسلم قرارا
من الكونغرس بنقل السفارة المريكية إلى القدس بتوقيع ثلثة وتسعين عضوا من مجلس الشيوخ
المريكي.
وفي الكلمات التي ألقاها النواب المريكيون كشف الكثيرون منهم عن مغالة في المعتقدات الصهيونية
تتجاوز ما هو لدى بعض اليهود، وأمعن كثيرون منهم في الفتراء على حقائق التاريخ، وكأنه يصنعه
بيديه، كي يؤكد تلك الصلة المفتعلة والقسرية، بين اليهود والقدس،والتي بدأت ول زالت بهدف إقامة
المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
مع إطلق الصهاينة احتفالتهم المذكورة في القدس كان الطفال الفلسطينيون يطيرون بالونات ملونه
بالعلم الفلسطيني في سماء المدينة، ويقفون في اعتصام صامت مقابل صخب الراقصين الصهاينة، غير
أن هذا الصمت لن يلبث أن يتفجر محرقا في وجه مغتصبي القدس.
قضية دير مار يوحنا
تعتبر قضية دير ما يوحنا من ممتلكات الكنيسة الرثوذكسية في القدس نموذجا بارزا من العتداءات
الصهيونية على الوقاف والممتلكات والمقدسات المسيحية في المدينة.
وهي كذلك نموذج على طرق الحتيال والتدليس التي يمارسها اليهود في سعيهم إلى تهويد كل شيء
في المدينة المقدسة، ففي نيسان من عام ألف وتسعمائة وتسعين قام مائة وخمسون مستوطنا يهوديا
بالعتداء على دار الضيافة التي تملكها كنيسة الرثوذكس والمعروفة بدير مار يوحنا، وتجاور كنيسة
القيامة.
المستوطنون اعتدوا بالضرب على بطريرك القدس للروم الرثوذكس تيودور الول، وعلى عدد من
رجال الدين المسيحي الذين حالوا منعهم من دخول المكان، ثم قاموا بتعليق نجمة سداسية على باب
البناء المؤلف من أربع وستين غرفة ، وتمترسوا داخله مع أسلحتهم، ثم عمدوا إلى نقل أمتعة تخصهم
إلى داخله.
وبسبب هذا العتداء، أعلن رجال الدين المسيحي من كافة الطوائف إغلق جميع الماكن المسيحية في
فلسطين لمدة يومين، وذلك للمرة الولى منذ نحو ثمانمائة عام.
وفي اليوم التالي للعتداء، قام رجال دين من المسيحيين والمسلمين، وشخصيات وطنية بمسيرة
احتجاجية إلى دير مار يوحنا، ونزع البطريرك تيودروس النجمة السداسية التي علقها المستوطنون
على مدخل البناء.
حاول المشاركون في المسيرة إخراج المستوطنين من الدير، إل أن شرطة الحتلل أطلقت تجاههم
القنابل المسيلة للدموع والعيارات النارية، وفرقت المشاركين بشكل عنيف.
قامت شرطة الحتلل بهذا الجراء، برغم إصدار محكمة يهودية في القدس أمرا بإخلء المستوطنين
من البناء، ولكنها بدل من تنفيذ هذا المر قمعت تظاهرة المقدسين مما يوضح تواطؤ المؤسسات
الصهيونية مع المستوطنين وأساليبهم.
العتداء الصهيوني على الممتلكات الكنسية الرثوذكسية أثار ردود فعل كبيرة مسيحية وإسلمية، ودعا
المؤتمر السلمي العام لبيت المقدس، إلى عقد لقاء إسلمي مسيحي موسع في العاصمة الردنية
للبحث في العتداءات الصهيونية على الملك المسيحية في القدس المحتلة.
ومع إصرار المقدسين على إخلء الصهاينة من الدير، ادعى هؤلء بان استيلءهم عليه تم بصفقة
عقارية ما نفته مصادر الكنيسة الرثوذكسية نفيا قاطعا، في حين ذهب رئيس الكيان الصهيوني حاييم
هرتروغ إلى اتهام رجال الدين المسيحي بالعودة إلى ما سماه: العداء التقليدي لليهود ووجه رسالة إلى
كبير أساقفة كنيسة الروم الرثوذكس مليئة بالسباب والشتائم.
ورغم ما آثاره العتداء الصهيوني من احتجاجات واسعة وتدخلت من الكنائس الرثوذكسية والحكومة
اليونانية، واستمرار التظاهرات الحتجاجية من قبل المقدسيين، استمر الصهاينة في احتللهم للدير نحو
عام كامل، حين باشرت محكمة صهيونية أخرى النظر في شكوى الكنسية المتضمنة مطالبتها بإخلء
فوري للمستوطنين من أملك الكنيسة.
وتبين من مجريات المحاكمة أن وكيل الدير وهو محام أرمني، قام بترتيب صفقة عبر التحايل بتحرير
عقد إيجار لليهود يتيح لهم السيطرة على الدير.
وحرر عقد اليجار لشركة وهمية مسجلة في بنما، ويملكها مستوطنون صهاينة.. ومع دخول هؤلء إلى
الدير اختفى الوكيل.
البطركية أكدت أن هذا الوكيل ل يملك الحق باليجار، ولكن العقد الذي حرره أصبح ورقة قوية بيد
الصهاينة، حيث تذرعوا خلل جلسات المحاكمة التي استغرقت وقتا طويل بأنهم يملكون عقد إيجار
وصفوه بالقانوني.
كانت المحاكمة مناسبة للكشف عن التلعبات التي يقوم بها سماسرة ومشبوهون، على نحو يؤدي إلى
نقل ممتلكات وأوقاف كنسية إلى المستوطنين الصهاينة.
وأدى هذا الكشف إلى التنبه لمثل هذه اللعيب وإفشال العديد منها، رغم أن الصهاينة مازالوا يدعون
بأنهم حصلوا على ما يصفونه بالعقود القانونية للسيطرة على ممتلكات عديدة في المدينة المقدسة.
ورغم أن المحكمة الصهيونية، قد أصدرت قرارا بإخلء المستوطنين إل أن هؤلء استأنفوا الحكم مرارا
في محاولة للسيطرة على الدير، وتابعوا تحصنهم فيه وقتا طويل، قبل أن تنتهي محاولتهم إلى الفشل.
مؤسسة القدس ومؤتمر القدس الول .بيروت
مع استمرار انتفاضة القصى المجيدة، عقد في قصر الونيسكو ببيروت، مؤتمر القدس الول بحضور
أكثر من أربعمائة شخصية من أكثر من أربعين دولة عربية وإسلمية.
بادر إلى هذا المؤتمر، حزب ال، الذي تحدث أمينه العام سماحة السيد حسن نصر ال، مخاطبا
المؤتمرين، يوم الفتتاح في الثامن والعشرين من كانون الثاني عام ألفين وواحد قائل: "إن النتفاضة
هي الطريق إلى القدس، وإذا كنا نريد أن نبحث كيف نفيد القدس ونحمي المقدسات، علينا أن نركز
بشكل جدي على النخراط الكامل في خيار المقاومة والنتفاضة أما التسوية فل مستقبل لها على
الطلق.
أما خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس فقال: "إن القدس ليست موضوعا للتفاوض علينا
أن نجعل منها بوابة لوحدة المة وحشد طاقاتها في وجه المخاطر التي تحدق بها.
وتناول عبد ال الحمر، المين العام المساعد لحزب البعث العربي الشتراكي في كلمته البعاد والمعاني
الشمولية لقضية القدس عربيا وإسلميا ومسيحيا وإنسانيا وقال إن القدس يجب أن تبقى على صعيد
الصراع مع العدو خطا أحمر.
عضو مجس الشورى اليراني علي أكبر محتشمي قال: "إن جميع الراضي المحتلة بما فيها القدس
الشريف هي جزء ل يتجزأ من العالم السلمي ول يحق لي طرف كان أن يتنازل عن شبر واحد منها.
وتحدث أمام المؤتمر على مدى يومين عدد كبير من الشخصيات من بينها الوزير اللبناني السابق مشيال
أده ومحمد عبد المتوكل المنسق العام للمؤتمر القومي/السلمي والشيخ يوسف القرضاوي الذي قال ل
يجوز لنا أن نفرط بالقدس ول بشبر منها.
كما تحدث أحمد صدقي الدجاني والدكتور رمضان عبد ال الذي رأى في الصراع على القدس، صراعا
على امتلك التاريخ والمستقبل.
كما تحدث كلوفيبس مقصود، مطالبا أن تبقى القدس في قمة الولويات، ومحمد عمارة داعيا لنفي
الصلة بين اليهودية والقدس تاريخيا.
بعد يومين من بدء أعماله انتخب مؤتمر القدس هيئة مكتب أمناء مؤسسة القدس التي تشكلت من:
-الشيخ يوسف القرضاوي رئيسا
-الشيخ عبد ال بن حسين الحمر
-الشيخ علي أكبر محتشمي
-الوزير السابق ميشال أده نوابا للرئيس والدكتور مسعود الشابي أمينا للسر.
وتحولت اللجنة التحضيرية للمؤتمر إلى لجنة تأسيسية كلفت بتولي مهام مجلس الدارة لفترة انتقالية
مدتها ستة أشهر برئاسة د.موسى أبو مرزوق للعمل على إنجاز وترتيب الوضع القانوني للمؤسسة
والحصول على ترخيص رسمي لها من الحكومة اللبنانية حيث سيكون مقرها في بيروت.
وفي اليوم التالي أعلن البيان الختامي للمؤتمر الذي دعا إلى دعم انتفاضة القصى المباركة ودعم
الوحدة الوطنية الفلسطينية كما أكد على ضرورة نبد الخلفات العربية والسلمية والتوحد على القضية
المركزية للمة وتوحيد كل الجهود والبنادق نحو العدو الصهيوني، وتبني خيار الجهاد والمقاومة ووقف
كل أشكال التطبيع مع العدو الغاصب، وإذكاء روح المقاطعة للمنتجات الصهيونية والمريكية.
وأكد المؤتمر أن قضية القدس هي قضية المة جمعاء مما يوجب التنسيق المستمر بين المسيحيين
والمسلمين للدفاع عن القدس وسائر المقدسات في فلسطين مشددا على ضرورة وضع خطة إعلمية
لتعبئة المة العربية والسلمية وأخرى للتوجه إلى الرأي العام العالمي وإعداد الدراسات وتهيئة
الملفات وتحريك المتابعات ضد قادة الجرام الصهيوني، بوصفهم مجرمي حرب وأعداء للبشرية وحث
الحكومات العربية على تبني هذا القرار
.
في آذار من العام نفسه عقدت هيئة أمناء مؤسسة القدس اجتماعا في العاصمة اليمنية صنعاء دعت في
ختامه إلى توحيد الرؤى والتفاهم السلمي المسيحي حول القدس.
ثم عقدت الهيئة اجتماعا موسعا لها في بيروت مطلع العام ألفين واثنين، قيمت فيه تحركاتها وناقشت
خطة عملها المستقبلية المرتكزة إلى ثوابت التمسك بعروبة القدس والدفاع عنها.
مجلس كنائس الشرق الوسط
يعتبر مجلس كنائس الشرق الوسط، جزءا من المجلس العالمي للكنائس الذي تأسس عام ألف
وتسعمائة وعشرة من الكنائس الرثوذكسية والبروتستانتية، فيما اكتفت الكنيسة الكاثوليكية بالمشاركة
في بعض أعماله التعاونية وبعض لجانه.
ويضم مجلس كنائس الشرق الوسط، ممثلين عن معظم الكنائس في المنطقة العربية، وهو كان يحمل
سابقا اسم: المجلس المسيحي للشرق الدنى ويتكون من بعثات الكنائس الرثوذكسية في مصر والبلقان
وإثيوبيا وإيران والعراق والجزيرة العربية ولبنان وشمال أفريقيا، وفلسطين والسودان وسورية والردن
وتركيا، ثم أصبح يعرف ابتداء من عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين، باسم مجلس الكنائس للشرق
الدنى، ثم مجلس كنائس الشرق الوسط.
أبدى المجلس المسيحي للشرق الدنى، اهتماما بقضية القدس، وعبر عن مواقف تجاهها، لم تتجاوز
كثيرا الموقف المعلن من الفاتيكان في حينه، ففي عام تسعة وأربعين وتسعمائة وألف، اعتبر المجلس
بأنه من الضروري لحفظ السلم أن تخضع منطقة القدس كلها لدارة وإشراف المم المتحدة حتى يمكن
الحتفاظ بها مركزا لحرية العقائد.
إلى هذا الموقف المعلن، صرف المجلس اهتماما واسعا إلى قضية اللجئين التي كانت أيضا محط اهتمام
المجمع العالمي للكنائس. وقد دعم مجلس الكنائس للشرق الدنى عقد مؤتمرين في بيروت عامي واحد
وخمسين، وستة وخمسين وتسعمائة وألف، للمجمع العالمي للكنائس ركزا على أعمال الغاثة للجئين،
وكذلك على ضرورة إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية بعد عدوان حزيران من عام سبعة
وستين، لم يعد الهتمام مقتصرا على قضية اللجئين، ففضل عن الوقائع المستجدة، فإن الكنائس
المشرقية العربية، أصبحت أكثر تأثيرا في المجلس العالمي للكنائس، من ذي قبل، وإن لم تصبح بعد
قادرة على دفعه إلى اتخاذ القرارات التي تتلءم وتطلعاتها.
مع ذلك نجحت الكنائس العربية، في دفع المجمع نحو بحث قضية فلسطين كقضية مستقلة قائمة بذاتها
وبدل من التركيز على قضايا اللجئين، فرضت على المجمع التوجه إلى بحث النواحي الخرى من
القضية، والقرار في بيان صادر عام سبعة وستين، بأن إنشاء دولة إسرائيل دون ضمان حقوق الشعب
الفلسطيني يمثل إجحافا بحق الفلسطينيين.
وفي المؤتمر الذي عقده المجمع عام تسعة وستين، بناء على طلب مجلس كنائس الشرق الوسط في
قبرص، جرى اتخاذ موقف سياسي بالشارة إلى حقيقة وجود الكيان الفلسطيني الذي تجسد في حركة
التحرر الوطني الفلسطيني.
ولكن المواقف التي كان يتبناها مجلس كنائس الشرق الوسط، لم تكن هي ذات المواقف التي يتبناها
المجلس العالمي للكنائس، إذ ظلت الكنائس المريكية والوروبية تظهر موقفا منحازا إلى الكيان
الصهيوني، وبالنسبة إلى القدس، فقد اعتمدت موقفا شبه ثابت، يدعو إلى ضمان الحرية الدينية
واعتبار القدس مدينة مفتوحة أمام المؤمنين من جميع الديان.
كما دعت إلى أن يكون اتخاذ القرار بشأن وضع القدس ضمن إطار حل شامل في "الشرق الوسط".
عمليا ظل الموقف داخل مجمع المجلس العالمي للكنائس مقسوما بين مؤيدي الصهيونية، وبين
مناوئيها، أما مواقف مجلس كنائس الشرق الوسط، فقد ظلت متمايزة، وهو تبنى دوما الدعوة إلى
إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.
وفي بيان صدر عن اجتماعاته في بيروت عام ألفين قال:
لقد بينت الحداث الخيرة أن القدس ل يكمن أن تسلخ عن الجسم الفلسطيني فهي منه بمنزلة القلب.
وفي العام التالي، أيد بيان اجتماعاته في برلين، موقف رؤساء الكنائس في القدس، الذي أعلن تمسكه
بحق الشعب الخاضع للظلم والحتلل في المقاومة والنضال من أجل الحرية، على رغم أن الكنيسة
تؤمن بقوة وفاعلية الوسائل السلمية.
منظمة المؤتمر السلمي
أدت جريمة إحراق المسجد القصى المبارك على يد الصهاينة سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين إلى
انبثاق منظمة المؤتمر السلمي إلى حيز الوجود، بحيث يكون مدار جهدها وعملها إنقاذ القدس والحرم
القدسي الشريف مما يتعرضان له من تدنيس وتهويد على يد الصهاينة.
انعقد الجتماع الول في العاصمة المغربية الرباط، بعد نحو شهر على جريمة إحراق القصى، وذلك
على مستوى القمة، بيد أن الحتجاج لم يسفر عن آلية محددة للعمل، ونتج عنه موقف يقول: "أن
رؤساء الدول والحكومات والممثلين يعلنون أن حكوماتهم وشعوبهم عقدت العزم على رفض إي حل
للقضية الفلسطينية ل يكفل لمدينة القدس وضعها السابق على عدوان حزيران."
اتخذت منظمة المؤتمر السلمي، طابع إطار منتظم يعقد اجتماعه عادة، إما على مستوى وزراء
خارجية الدول السلمية، وإما على مستوى القمة، وبحسب القرار المتخذ في الجتماع الول، ينبغي أن
تتسم اجتماعات القمة بالدورية، مرة كل سنة.
انعقد المؤتمر الثاني في كراتشي بالباكستان سنة ألف وتسعمائة وسبعين، فأدان عمليات تدنيس المسجد
القصى واعتبر يوم الحادي والعشرين من آب لسنة إحدى وسبعين، يوم المسجد القصى المبارك، وعند
انعقاده في هذا التاريخ بجدة، اعتبر مؤتمر منظمة المؤتمر السلمي، أنه ل سبيل لعادة السلم والمن
إلى الشرق الوسط إل بتحرير بيت المقدس والنسحاب الكامل من الراضي العربية المحتلة وإعادة
الحقوق المغتصبة لشعب فلسطين.
كرر المؤتمر سنة اثنين وسبعين قراراته السابقة، وسنة ثلث وسبعين جرت المطالبة ببذل مزيد من
الجهد لوقف تهويد القدس.
عاد المؤتمر ليلتئم على مستوى القمة في لهور بالباكستان سنة أربع وسبعين، وظهرت دعوات لعلن
الجهاد المقدس لتحرير بيت المقدس، فيما نص البيان الختامي على أن الدول السلمية لن تقبل بأي
اتفاق يتضمن استمرار احتلل الصهاينة للقدس أو وضعها تحت سيادة غير عربية.
تم تأكيد هذا الموقف في اجتماعات لحقة على مستوى وزراء الخارجية، الذين رفضوا في اجتماع لهم
في فاس بالمغرب سنة تسع وسبعين اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والصهاينة مؤكدين على الحق
السلمي في القدس.
انعقدت اجتماعات وزراء الخارجية بشكل عادي سنة ثمانين في إسلم أباد، ثم عادت لجتماع طارئ في
عمان بسبب الحفريات التي يقوم بها الصهاينة.
وعادت للنعقاد مجددا في العام نفسه في مدينة فاس، عقب إعلن الصهاينة القدس عاصمة أبدية لهم
ومما جاء في مقررات مؤتمر فاس: "تعلن الدول السلمية التزامها بالجهاد المقدس، بما يتضمنه من
أبعاد إنسانية على اعتبار أنه صمود ومجابهة ضد العدو الصهيوني في جميع الجبهات عسكريا وسياسيا
واقتصاديا وإعلميا وثقافيا."
وقرر وزراء الخارجية تصعيد أنشطتهم في المم المتحدة والمحافل الدولية لمجابهة القرار الصهيوني
الجديد.
حملت دورة انعقاد مؤتمر المنظمة سنة إحدى وثمانين اسم دورة القدس وفلسطين، وتوزعت جلساتها
ما بين مكة والطائف في السعودية، لتصدر بيانا ختاميا يؤكد اللتزام بتحرير القدس لتكون عاصمة
للدولة الفلسطينية، ويشدد على رفض اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، مطالبا بعدم نقل أي
سفارة إليها، ومهددا بقطع العلقات مع أي دولة تنقل سفارتها إلى المدينة المقدسة.
جرى التأكيد على هذه القرارات في دورات الجتماع اللحقة لوزراء الخارجية، وكذلك في القمة السابعة
في الدار البيضاء سنة أربع وتسعين وسنة سبع وتسعين صدر إعلن طهران عن القمة الثامنة وفيه،
تأكيد العزم والتصميم على استعادة مدينة القدس الشريف وحرم المسجد القصى، ورفض نقل السفارات
الدول الجنبية إلى القدس، ورفض كل التغيرات التي أجراها الصهاينة في المدينة المقدسة.
أطلقت على دورة النعقاد في الدوحة سنة ألفين تسمية دورة انتفاضة القصى، وفي قرارات المؤتمر
دعم للنتفاضة ورفض للقرارات الصادرة عن الكونغرس المريكي بالعتراف بالقدس عاصمة للكيان
الصهيوني وتمسك باستعادة القدس عربية مسلمة.
الحفريات تحت المسجد القصى
ألحقت الحفريات التي قام بها الصهاينة تحت أساسات المسجد القصى ضررا بالغا ببنيانه، حتى أن
بعض الوساط السلمية في القدس، تحذر من أن قيام طائرات صهيونية بخرق جدار الصوت فوق
منطقة الحرم بشكل متكرر، قد يؤدي إلى انهيار بناء المسجد القصى.
وقد لحقت هذه الضرار بالمسجد بسبب فتح أنفاق مغلقة والقيام بالحفر تحت الساسات إلى أعماق
كبيرة.
وضع الصهاينة عنوانين لما قاموا به من حفريات، الول يتعلق بالكشف عن حائط البراق وإظهاره كامل
ما يعني إزالة جميع البنية الملصقة له، والحفر إلى جانبه لتبيان حجارته الساسية.
أما الثاني، فيتعلق بالبحث عن بقايا الهيكل الذي يزعم الصهاينة أن المسجد القصى يقوم فوقها.
كان الحجم الظاهر من حائط البراق عندما احتل الصهاينة القدس ل يتعدى الثلثين ياردة، أما الهدف
الذي أعلن عنه عام تسعة وستين، فهو كشف مائتي ياردة وأكثر، علما أن حجم ما كان قد كشف آنذاك
بلغ ثمانين ياردة، وهو ما أنجزته الحفريات التي تمت عند الحائط الغربي، أما عند الحائط الجنوبي،
فجرت حفريات أشرف عليها البروفسور بنيامين مزار، وتابعها موشيه دايان وزير الحرب في كيان
العدو آنذاك، وهو صرح عام واحد وسبعين بأنه يجب استمرار الحفر حتى الكشف الكامل عن الهيكل
الثاني، وإعادة ترميمه على حد قوله.
هذا التصريح جاء مترافقا مع مزاعم صهيونية عن العثور على بقايا قصر هيروس، وجزء من السور
الول للقدس، حيث عثر في بقايا القصر على جدران استنادية.
لم تمر هذه الحفريات دون التسبب بإتلف العديد من البنية التاريخية، وهو ما دفع د. كاثلين كاينون،
مديرة مدرسة الثار البريطانية في القدس إلى القول: "إن إتلف مثل هذه البنية يعتبر جريمة كبرى ول
يعقل أن يتم تشويه الثار القديمة بمثل هذه الحفريات".
أثارت الحفريات التي قام بها الصهاينة ردود فعل واسعة، مستنكرة لهذه الجريمة التي تتم بحق المكان
المقدس، والبنية القريبة منه، ولكن الصهاينة ضربوا عرض الحائط بهذه العتراضات، وقاموا عام
واحد وثمانين بفتح نفق كان قد اكتشفه الكولونيل وارين سنة سبع وستين وثمانمائة وألف، وتابعوا
الحفر على امتداد النفق الذي يقود إلى أسفل مسجد الصخرة المشرفة، وفي العام نفسه جرى الكشف
عن قيام المسمى حاخام المبكى، بفتح سرداب أسفل الحرم القدسي يبدأ من حائط البراق، وأنه عمل
لشهر بسرية تامة في حفره، وبدعم مما تسمى وزارة الديان.
سارعت دائرة الوقاف السلمية إلى إغلق هذا السرداب بالخرسانة المسلحة، ولكن بعد أن تسبب في
تشققات في الرواق الغربي للمسجد القصى، وهو ما دفع عالم آثار صهيوني إلى التحذير من خطورة
الحفريات على بنيان المسجد.
تكرر فتح أنفاق وسراديب تحت الحرم القدسي، وتكرر تصدي المقدسيين لهذه الجراءات الصهيونية ما
تسبب في مواجهات عنيفة عام ستة وثمانين، وعام تسعة وثمانين، وكذلك عام خمسة وتسعين،
وبانتفاضة عام ستة و تسعين، عرفت باسم انتفاضة النفق.
بعد إغلق النفق الذي تسبب بانتفاضة عام ستة وتسعين، قام الصهاينة في العام التالي بحفريات في
الجهة الجنوبية الغربية من المسجد القصى باتجاه الغرب، وبعمق تسعة أمتار ما يشكل تهديدا إضافيا
لساسات المسجد وبالتوازي مع ذلك، استغل الصهاينة إجراء إصلحات في شبكة الصرف الصحي
بالقدس للقيام بحفريات جديدة قرب حائط البراق.
وأعلن عن الشروع في حفريات جديدة لتوسيع ساحة البراق الصغير في حي الواد، والذي يحاذي
الحائط الغربي للقصى، وعن مشاريع حفر أخرى تهدد بهدم القصور الموية المحاذية للحرم القدسي.
في كل هذه الحفريات لم يعثر على أي آثر يشير إلى هيكل سليمان المزعوم، حتى أن علماء آثار
صهاينة اعترفوا بأن نتائج الحفريات التي قاموا بها لم تسفر عن كشف أي آثر للهيكل، ومع ذلك فإن
سلطات الحتلل مازالت مصرة على متابعة الحفريات، ما يظهر أن هدفها الحقيقي هو العمل على
تقويض المسجد القصى.
انتفاضة 1933
تعتبر سنة ألف وتسعمائة وثلث وثلثين من أبرز سنوات النضال الشعبي الفلسطيني، وهي تعد من
سنوات المخاض لنطلق الثورة الفلسطينية الكبرى.
بدأ التحرك الشعبي بانعقاد مؤتمر الشباب في يافا، في آذار من السنة المذكورة، وفي شهر تشرين الول
اجتمعت اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني، وتبنت أفكار مؤتمر الشباب بتوجيه المقاومة ضد
الستعمار البريطاني، ودعت إلى سلسلة تظاهرات، وإضراب عام والمتناع عن دفع الضرائب.
بعد أيام من اجتماع اللجنة التنفيذية، انطلقت تظاهرة حاشدة في القدس، صاحبها إضراب عام في جميع
أنحاء فلسطين، واشترك في تظاهرة القدس جميع أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني،
الذين جاءوا من جميع أنحاء البلد، حتى فاق عدد المشاركين فيها الثلثين ألفا.
سار على رأس التظاهرة رئيس اللجنة التنفيذية موسى كاظم باشا الحسيني، وانطلقت من المسجد
القصى بعد صلة الجمعة متجهة إلى باب السلسلة، ثم باب الخليل متحدية أوامر رجال البوليس
المسلحين بالهروات، وخلفهم سيارات محملة بالجنود المسلحين بالبنادق، وبدا أن السلطات البريطانية
كانت عازمة على منع امتداد التظاهرة خارج أسوار البلدة القديمة ولكن المتظاهرين حولوا سيرها من
باب الخليل إلى باب الحديد ومن ثم انطلقت خارج السور فاصطدمت بقوات الجيش البريطاني التي قمعت
المتظاهرين بعنف.
بعد مظاهرة حاشدة في يافا، انطلقت تظاهرة ثانية في القدس، أواخر شهر تشرين الول من عام ثلثة
وثلثين. نظم هذه التظاهرة أعضاء النادي العربي، والنادي السلمي وهما ناديان رياضيان ناشطان في
القدس.
وانطلقت من المسجد القصى بعد صلة العصر متجهة إلى حي باب السلسلة وعند وصولها إلى القرب
من مقهى الباشورة اصطدمت بقوات الحتلل البريطاني، لتختلط أصوات طلقات الرصاص بنشيد
الجماهير:
نحن جند ال شبان البلد
نكره الذل ونأبى الضطهاد
فارفعوا العلم وامشوا للجهاد
حيث أعدائنا تمادوا في الغرور
وجه البريطانيون الرصاص إلى صدور المتظاهرين واندلعت اشتباكات بين الشبان الذين يحملون العصي
والسكاكين، وبين رجال البوليس البريطاني في غير حي من أحياء القدس، فيما كان جنود الجيش
البريطاني يطلقون الرصاص على المصلين الخارجين من المسجد القصى، وعلى المتظاهرين في باب
الساهرة، ما أسفر عن استشهاد تسعة من الشبان الفلسطينيين، وجرح عدد آخر، بلغ نحو خمسين في
الشتباكات مع البريطانيين.
في اليام التالية شهدت مدينة القدس إضرابا عاما أغلقت فيه المحال التجارية أبوابها، وشهدت الحركة
في المدينة خفوتا كبيرا جدا قياسا إلى اليام العادية، وعمدت سلطات النتداب البريطاني إلى عزل
المدينة عن العالم، بعد أن طوقتها بشكل كامل ومنعت الدخول إليها والخروج منها.
لم تكن هذه نهاية النتفاضة عام ألف وتسعمائة وثلثة وثلثين، فقد جرت مظاهرات أخرى في الخليل
ونابلس، وامتد إضراب الموظفين لسابيع، فيما قامت بريطانيا المحتلة، بمحاكمة أعضاء اللجنة
التنفيذية وفرضت عليهم غرامات قاسية.
وكانت هذه النتفاضة أشبه بمقدمة للثورة الفلسطينية الكبرى.
معارك 48 الطور الول
ركز الصهاينة محاولتهم للستيلء على القدس قبل انتهاء الحتلل البريطاني، ولكنهم واجهوا مقاومة
ضارية من المجاهدين الفلسطينيين، الذين نسفوا مطلع عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، أنابيب
المياه التي تغذي المستوطنات اليهودية في القدس، وبعد صدور قرار التقسيم بوقت قصير، استأنف
القتال في القدس، فقصف العصابات الصهيونية ساحة الحرم الشريف، ورد المجاهدون بقصف
المستوطنات. وفي مطلع ثمانية وأربعين، حاول الصهاينة نسف عمارة الوقاف التي كانت تشكل موقعا
حصينا للمجاهدين، الذين أفشلوا المحاولة، وأحكموا الحصار على الحي اليهودي، من خلل نصب
الكمائن المزودة بالرشاشات على المعبرين اللذين تسلكهما قوافل المداد اليهودية من باب الخليل وباب
النبي داوود.
لجأ الصهاينة إلى العمال الرهابية لثني المقاومة، فأخذوا بدحرجة براميل المتفجرات على الحشود
المقدسية في المدينة، ومهاجمة الحياء مع تركيز على حي الشيخ جراح، ورد المجاهدون بنسف أبنية
استراتيجية في الحي اليهودي، وأحكموا الحصار بشكل نهائي على الحي اليهودي، حتى استسلم فيما
بعد.
وفي مطلع شباط، نفذ المجاهدون واحدة من أجرأ عملياتهم حين قاموا بنسف شارع هاسوليل
الستيطاني ودمروا ثماني بنايات ضخمة، وصدعوا ما يزيد عن أربعين بناء مجاورا كان أحدها يضم
مطبعة جريدة البالستاين بوست الناطقة بلسان الوكالة اليهودية، كما اقتحم المجاهدون حي المونتفيوري
الذي كان اليهود يشلون بواسطته المواصلت مع أحياء جنوبي القدس.
سيطر المجاهدون على الحي إلى أن تدخلت القوات البريطانية فأجبرتهم على التراجع.
نظم المجاهدون دفاعاتهم في القدس، واستطاعوا حماية قوافل المداد العربية التي تعتبر المدينة متجهة
من حنينا إلى بيت لحم.
حاول الصهاينة في الشهر ذاته السيطرة على قرية صور باهر المحاطة بثلث مستوطنات ولكن نجدات
المجاهدين ردتهم على أعقابهم تم لحقتهم إلى شارع بن يهوذا ونسفته.
احتلت عملية نسف الشارع مكانة هامة في حرب 48 في القدس، فقد جهز القائد عبد القادر الحسيني
ثلث شاحنات مملوءة بالمتفجرات وفجرها الثوار وسط الشارع، وقد ساهمت هذه العملية في رفع
معنويات المقدسين، وأوقفت رحيلهم عن القدس، بسبب ازدياد الضغوط الصهيونية على المدينة.
هاجم الصهاينة بعد هذه العملية حي وادي لحوز انطلقا من مشفى هداسا والجامعة العبرية، لكنهم
صدموا بمقاومة حامية، وقتل عدد كبير من المهاجمين ،قبل أن ينكفئوا مجددا.
في آذار استطاع خمسمائة مجاهد السيطرة على موقع رأس العين الذي يؤمن المدادات بالمياه إلى
القدس ما وضع الحياء الستيطانية اليهودية وإمداداتها من المياه تحت سيطرة المجاهدين، وقد فشلت
المحاولت البريطانية واليهودية في احتلل هذا الموقع، في ذات الوقت الذي وضعت فيه عصابات
الهاغاناه الخطة دالت لحتلل المناطق الواقعة بين مستوطنة تل أبيب والقدس ولطرد العرب من المدينة
المقدسة.
بدأ الصهاينة تطبيق الخطة فورا بمحاصرة حي القطون وعزله عن باقي أحياء المدينة ولكن المجاهدين
وجهوا ضربة أخرى للصهاينة بنسف مبنى الوكالة اليهودية وقاد عبد القادر المجاهدين في هجوم كبير
على مستوطنة )ميكور هاييم( لحتللها، ولكن تدخل البريطانيين أحبط استكمال الهجوم، فأعد الحسيني
كمينا لقافلة مصفحات يهودية في شعفاط ونجح مع قواته في تدميرها.
في نهاية آذار، غادر عبد القادر القدس إلى دمشق للجتماع بقيادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة
لجامعة الدول العربية، وذلك للحصول على أسلحة للحفاظ على التفوق الذي حققه المجاهدون في
القدس، والذين قاموا في الوقت نفسه وردا على قصف حي المصراره، بتوجيه قذائفهم إلى حي )مئية
شعاريم( الستيطاني، وإيقاع خسائر كبيرة في صفوف الصهاينة، كما أحبط المجاهدون قوافل المداد
اليهودية بنجاح كبير.
وضع الصهاينة خطة جديدة، عرفت باسم )نحشون( لفتح الطريق إلى القدس، لكنها فشلت فشل ذريعا،
ما نشر حالة من الحباط في صفوف الصهاينة، فأعادوا وضع خطط جديدة في نيسان، ولكن المجاهدين،
نصبوا كمينا كبيرا لقافلة إمداد يهودية كان يحرسها مائتان وخمسون عنصرا من الهاغاناه.
نجح الكمين نجاحا كبيرا وكاد يقضي على القافلة وحاميتها تماما لول تدخل البريطانيين الذين أنقذوا
العديدين من الصهاينة، وفي الثناء سهل البريطانيون دخول قافلة صهيونية إلى القدس، للمرة الولى
منذ بدء المعارك.
هاجم المجاهدون مستوطنة يعقوب، وكادوا يحكمون السيطرة عليها، فتدخل البريطانيون لحباط العملية
وساعدوا الصهاينة في احتلل قريتي بدو وبيت سوريك، لكن نجدة من المجاهدين بقيادة ميشيل العيسى،
نجحت في طرد الصهاينة من القريتين كما نجحوا في نسف حي )المونتفيوري(.
في نهاية نيسان وضع خطة يبوس لحتلل المدينة، محاولين استغلل استشهاد القائد الحسيني، الذي
عاد دون سلح، واستشهد في القسطل.
صد المجاهدون الهجمات اليهودية لكن الصهاينة حفظوا تقدما في القطمون، واحتلوا بعض البنايات، ولم
تنجح الهجمات الشجاعة التي قادها المجاهد إبراهيم أبو دية في استرداد حي القطمون، بسبب تدخل
النجليز أساسا.
في أيار، مع العلن عن انتهاء النتداب، ودخول الجيش الردني إلى المدينة، سوف تأخذ المعارك طابعا
جديدا.
ثورة 1936
يطلق على الثورة التي شهدتها فلسطين في السنوات مابين ألف وتسعمائة وست وثلثين، وتسع وثلثين
اسم الثورة الفلسطينية الكبرى، لشموليتها، واتساع نطاقها، وطول مداها الزمني قياسا إلى الثورات
والنتفاضات التي سبقتها. وهي مرت في مراحل عدة، بعد أن انطلقت في العشرين من نيسان عام ستة
وثلثين، بإعلن الضراب العام الكبير، والذي استمر ستة أشهر.
بعد خمسة أيام من إعلن الضراب ترأس الحاج أمين الحسيني احتجاجا لرؤساء الحزاب الفلسطينية في
بيت بحي المصرارة في القدس، نتج عنه تشكيل قيادة عامة لشعب فلسطين عرفت باسم اللجنة العليا،
وهي أصبحت لحقا تعمل باسم الهيئة العربية العليا.
ضمت اللجنة المفتي الحاج أمين الحسيني رئيسا، وراغب النشاشيي، وأحمد حلمي عبد الباقي والدكتور
فخري الخالدي، ويعقوب فراج، وألفرد روك، وعوني عبد الهادي، وعبد اللطيف صلح، والحاج يعقوب
الغصين، وجمال الحسيني، وفؤاد سابا أعضاء.
وقرر المجتمعون استمرار الضراب إلى أن تبدل الحكومة البريطانية سياستها المتبعة في البلد تبديل
أساسيا تظهر بوادره في وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
سرعان ما انطلقت العمليات المسلحة مترافقة مع الضراب، ومن أبرز عمليات الثوار في القدس، في
المرحلة الولى من الثورة معركة باب الواد على طريق القدس يافا، والهجوم على سينما أديسون في
القدس، والهجوم على سيارة مفتش البوليس البريطاني في المدينة، وعلى اثنين من ضباط الطيران
البريطانيين.
بعد ستة أشهر ووساطة من الملوك والمراء العرب، جرى العلن عن وقف الضراب، ونهاية المرحلة
الولى من الثورة التي ما لبث أن تفجرت بعد تبين كذب الوعود البريطانية.
واجه البريطانيون المرحلة الولى من الثورة بقمع شديد وتعزز هذا القمع عشية انطلق المرحلة الثانية
منها، بمحاولة اعتقال الحاج أمين الحسيني ونفيه لكنه استطاع الفلت من طوق البريطانيين الذين
دهموا مقر اللجنة العربية العليا، والتجأ إلى المسجد القصى ثم غادره إلى خارج فلسطين.
ومن القدس انطلقت المرحلة الثانية من الثورة عبر سلسلة كبيرة من الهجمات التي نفذها الثوار ضد
دوريات الجيش والبوليس البريطاني بلغت فعاليات الثورة في القدس ذروتها في أيلول من عام ثمانية
وثلثين، وذلك حين تمكن الثوار الفلسطينيون من تحرير البلدة القديمة في القدس، من سيطرة قوات
الحتلل البريطاني، واستمرت البلدة محررة لكثر من أسبوع رغم قيام الطائرات البريطانية بإلقاء
منشورات على القدس وضواحيها، موقعة من القائد العسكري البريطاني، لمنطقة القدس، ويدعو فيها
جميع السكان في البلدة القديمة إلى إلقاء السلح والتزام منازلهم ضد الثوار هجمات عديدة لقوات
الحتلل البريطاني التي حاصرت البلدة، وأحكمت الطوق عليها، ولكن البريطانيين الذين اقتحموا البلدة
بعد ذلك اضطروا إلى الخروج منها مجددا لثلثة أيام، قبل أن يقوموا بشن هجوم كبير عليها ومعاودة
احتللها.
استخدم البريطانيون في هجماتهم على الثوار في القدس الطائرات بقنابلها ومدافعها الرشاشة، وقاوم
الثوار الهجوم البريطاني شبرا شبرا، حتى أن وصول البريطانيين إلى سوق العطارين قد استغرق ثلثة
أيام، وجرى استخدام السكان، عبر خدعة بريطانية، كدروع بشرية لحماية تقدم البريطانيين.
معركة البلدة القديمة، هي واحدة من المعارك الكبرى التي شهدتها الثورة، في ذروتها سنة ألف
وتسعمائة وثمان وثلثين، وحيث تمكن الثوار من السيطرة على أكثر من مدينة على غرار ما شهدته
البلدة القديمة من القدس، غير أن الثورة ولسباب عديدة انحسرت عام تسعة وثلثين.
حرب حزيران 1967
شكل احتلل الجزاء المتبقية من القدس أحد أهم أهداف العدوان الصهيوني في حزيران من عام سبعة
وستين، على ما يعرف بالجبهة الردنية.
خطط الصهاينة لمعركة القدس على أساس توجيه ضربة رئيسية إلى شمالي القدس للسيطرة على
مجموعة من التلل الحيوية التي تسهل عملية تطويق المدينة، اتخذت هذه الضربة شكل التقدم على
ثلثة محاور الول من منطقة الشيخ عبد العزيز نحو النبي صموئيل، والثاني من تل الرادار نحو النبي
صموئيل حيث تلتقي القوتان وتتوجهان شرقا إلى بيت حنينا، لقطع طريق القدس –رام ال، ثم تفترق
القوتان لتتوجه إحداهما جنوبا نحو شمال القدس، والخرى تتجه شمال نحو رام ال، أما المحور الثالث
فيتقدم من اللطرون نحو رام ال.
كانت القوات الردنية التي تتولى الدفاع عن القدس تتألف من لواء مشاة، يحمل اسم المام علي بن أبي
طالب عليه السلم، ولواء المشاة 27 الموزع ما بين القدس وأريحا.
حدثت معارك دامية وعنيفة جدا في القدس بين المدافعين عن المدينة ولواءي المظليين الصهاينة اللذين
هاجما المدينة، يومي الخامس والسادس من حزيران، وبينما المعارك محتدمة في القدس، تمكن لواء
مشاة صهيوني من مهاجمة ممر باب الواد الضيق مدعوما بالدبابات، ويحتله مع مركز شرطة اللطرون
المحصن.
استمر القتال حتى السابع من حزيران داخل المدينة وتركز أعنفه حول المتحف الفلسطيني، وفي البلدة
القديمة، وفي هذا اليوم استولى الصهاينة على الجزاء الشرقية من القدس.
كان الصهاينة قد شكلوا مع بدء العدوان إدارة عسكرية للقدس ومعها مدن الضفة الخرى، برئاسة
الجنرال حاييم هرتسوغ، الذي اتخذ من فندق المبسادور مقرا له، وكان من بين أعضاء الدارة
العسكرية شلومو لهط.
استولى الصهاينة على القدس في اليوم الثالث للحرب، وقام الرهابي الجنرال مردخاي غور بدخول
الحرم القدسي الشريف، بسيارة نصف مجنزرة، فيما وقف وزير الحرب الصهيوني موشيه دايان أمام
الحائط الغربي للمسجد القصى، يخطب أمام مجموعة من جنوده المبتهجين قائل: "صباح الخير هذا
اليوم حرر جيش إسرائيل القدس، لقد أعدنا توحيد المدينة، وعدنا إلى أقدس الماكن عندنا، وسوف لن
نتركها أبدا".
أما ليفي أشكول فاعتبر احتلل القدس: أعظم يوم في التاريخ اليهودي.
لم تكن الحرب قد انتهت عمليا بعد حين سارع الصهاينة يوم السابع من حزيران إلى تكريس سيطرتهم
على المدينة، فأصدروا منشورا حمل الرقم واحد ونص على أن الجيش )السرائيلي( تقلد زمام الحكم
لقرار المن والنظام في المنطقة، فيما نص المنشور رقم 2 على استيلء الجيش على صلحيات الحكم
والتشريع والدارة، وتضمن المنشور رقم 3 إلغاء المحاكم العربية في القدس.
فرض الصهاينة حظر التجول على المدينة، واقترفوا الكثير من الفظائع داخلها، والتي بدأت بالسطو على
محتويات المتحف الفلسطيني، ثم بالسطو على البيوت.
وقد وصف توفيق حسن وصفي مدير مكتب جامعة الدول العربية في القدس، والذي اعتقلته قوات
الحتلل مع عدد من القناصل العرب من مقر القنصلية البلجيكية، وصف ما رآه من فظائع فقال: "كانوا
ينسفون أي بيت تنطلق منه رصاصة، ويسلبون ويسرقون بل حساب، وكانت كل مجموعة من الجنود،
تحمل ثلثة أكياس: الول للساعات والثاني للنقود والثالث للذهب والمجوهرات كما وصف حسن عمليات
نسف البيوت حول حائط البراق.
قام الصهاينة باعتقالت واسعة، وهدموا قرى وأحياء بكاملها لتهجير سكانها.. ومنذ ذلك الوقت الذي
احتلوا فيه القدس، وهم يعملون على إلغاء ونفي كل ما هو عربي في المدينة المقدسة.
محاولت نسف المسجد القصى
منذ أن نفذ الصهاينة جريمة إحراق المسجد القصى عام تسعة ستين وتسعمائة وألف ومحاولتهم لنسفه
أو تقويضه تتواصل دون توقف.. وفيما عول الصهاينة على تتابع الحفريات في خلخلة أساسات
المسجد، استمروا في محاولت النسف المباشر أو الحراق.
ففي عام ثمانين اكتشفت كمية كبيرة من المتفجرات والقنابل والسلحة على سطح أحد المعابد اليهودية
المقاومة قريبا من الحرم القدسي، وبالتحقيق عرف أن الهدف من وجود المتفجرات في هذا المكان، هو
نقلها إلى المسجد القصى في محاولة لنسفه.
وبعد عامين من ذلك كانت حركة كاخ الرهابية، بزعامة الرهابي مائير كهانا قد قطعت شوطا بعيدا في
تهيئة خطة لنسف مسجد الصخرة، ويبدو أن حكومة العدو التي كانت مطلعة على هذه الخطة وتعرف
المشاركين فيها خشيت ردود الفعل التي يمكن أن يثيرها هذا العمل، فعمدت إلى اعتقال يوئيل لعيرز أحد
المشاركين من أعضاء كاخ، والذي قدم اعترافات كاملة، أبقاها الصهاينة طي الكتمان.
بعد أقل من عام على هذه الواقعة، اكتشف حراس الحرم وبالمصادفة، عبوة ناسفة ضخمة جدا، جرى
زرعها بجوار حائط المسجد القصى وتم تفكيكها.
اكتشاف هذه العبوة في آذار من عام ثلثة وثمانين، جاء عقب سلسلة من التصريحات التي أطلقها
زعماء صهاينة عن نيتهم تدمير المسجد.
وفي الفحص الذي قام به مهندسو الوقاف، جرى اكتشاف عدة فتحات تحت الحائط الجنوبي للمسجد،
أعدها الصهاينة لزرع عبوات ناسفة فيها.
مطلع عام أربعة وثمانين، عثر حراس المسجد القصى على حقيبة تضم مائة وخمسين كيلو غراما من
المتفجرات داخل المسجد، وبعد إخراجها وفحص المكان، تم اكتشاف عدد من القنابل اليدوية مخبأة في
حقائب بجوار المسجد القصى ويبدو أنها وضعت في المكان تحضيرا لشن هجوم بها على المسجد.
وفي اليوم التالي فاجأ حارس فلسطيني من حراس الحرم القدسي مجموعة من الصهاينة قرب جدار
الحرم، وعندما لذت المجموعة بالفرار جرى اكتشاف ثلثين باوندا من المتفجرات والصواعق واثنتين
وعشرين قنبلة يدوية.
غير أن الخطة الخطر، هي تلك التي جرى الكشف عنها في أيار من عام أربعة وثمانين واستغرق
العداد لها سنتين، وتتمثل بقصف المسجد القصى ومسجد قبة الصخرة من الجو بالقنابل والصواريخ.
لم يكن التحقيق في هذه الجريمة المنوي تنفيذها قد انتهى، حتى حاول مستوطن صهيوني اقتحام الحرم
القدسي بسيارة ملغومة في نية لنسفه وعند اعتقاله من قبل السلطات الصهيونية ادعت أنه مختل عقليا.
وفي آب من عام سبعة وثمانين، حاصر حراس المسجد القصى ثلثة إرهابيين صهاينة، حاولوا إدخال
متفجرات إلى المسجد.
وفي عام ثمانية وثمانين، وبذريعة قمع حشود داخل الحرم ألقى الجنود الصهاينة كمية من القنابل
الحارقة والخانقة داخل المسجد، ما أدى إلى استشهاد وجرح عدد من المصلين، واحتراق كمية من
السجاد.
وبعد أسبوع من هذه الواقعة ألقى إرهابيون صهاينة قنابل حارقة داخل المسجد بغية إحراقه، وعام
ثمانية وتسعين، جرى توقيف متطرف صهيوني مسلح، يحاول التسلل إلى باحة المسجد القصى من
الجهة الجنوبية.
وفي مطلع عام تسعة وتسعين، تم كشف النقاب عن قيام الصهيوني المتطرف دميان فاكوبيتش بالتخطيط
لتنفيذ عملية تفجير كبيرة تؤدي إلى نسف المسجد القصى. وعمليا فإن نحو خمس وعشرين منظمة
صهيونية تعمل على نسف المسجد القصى.
المؤتمر السلمي العام
في المسجد القصى المبارك عقد عام ألف وتسعمائة وواحد وثلثين المؤتمر السلمي العام الذي يعتبر
الكثر من نوعه حتى حينه دفاعا عن إسلمية بيت المقدس وعروبتها.
حمل المؤتمر اسم "مؤتمر العالم السلمي الثاني" حيث أن المؤتمر الول كان قد عقد في مكة المكرمة
سنة ألف وتسعمائة وست وعشرين.
ظلت فكرة حشد المسلمين للدفاع عن بيت المقدس قائمة لدى الحاج أمين الحسيني، منذ عقد المؤتمر
السلمي الكبير في القدس سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف، ومع تزايد التهديدات الصهيونية
لفلسطين والقدس تحرك لتنفيذ الفكرة، التي لقيت معارضة بريطانية شرسة، وحملة صهيونية كبيرة.
نجح الحاج أمين، ومعه عبد العزيز الثعالبي من تونس، وشوكت علي من الهند في جمع مائة وخمس
وأربعين شخصية إسلمية من اثنين وعشرين بلدا في المسجد القصى المبارك، وفي ليلة السراء
والمعراج المباركة.
ومن أبرز الشخصيات التي حضرت المؤتمر العلمة الشيخ رشيد رضا، وشيخ الزهر محمد الحسين آل
كاشف الغطاء الذي أم المسلمين في الصلة في المسجد القصى، والسيد محسن المين، والشيخ أحمد
رضا، والشيخ أحمد عارف الزين، من علماء جبل عامل، وشاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال ..
وغيرهم كثيرون.
بدأ المؤتمر بتلوة قصة المولد النبوي الشريف، ثم افتتحه الحاج أمين الحسيني بكلمة ترحيب، وتم
انتخاب موسى كاظم باشا الحسيني رئيسا مؤقتا لدارة جلسات المؤتمر.
ثم تحدث المجتهد العلمة محمد الحسين آل كاشف الغطاء بكلمة فسر فيها معنى قوله تعالى في الية
الكريمة )باركنا حوله( مشددا على موضوع الوحدة السلمية.
تم تتالى إلقاء الكلمات وعقد الجلسات، على مدى عشرة أيام، استغرقها انعقاد المؤتمر، موزعا على
عدد من اللجان، التي صاغت التوصيات والقرارات.
وخلل انعقاد جلسات المؤتمر، قام وفد يمثل العرب المسيحيين في فلسطين بزيارته، وأعلن تأييده لما
يصدر عنه من مقررات.
كان طبيعيا بوجود مثل هذا الحشد من الشخصيات الفاعلة في العالم السلمي، أن يتحول المؤتمر في
بيت المقدس، إلى بحث الحالة العامة للمسلمين في مختلف بقاع العالم السلمي، وهذا ما انعكس في
مداولت المؤتمرين وقراراتهم.
إذ تقرر عقد مؤتمر دوري عام لجميع المسلمين في بقاع الرض يسمى المؤتمر السلمي العام. كما
قرر المؤتمر تنمية التعاون بين المسلمين، وحماية المصالح السلمية وصيانة المقدسات والبقاع
المشرفة من كل تدخل أو سيطرة.
وتقرر تأسيس مكتب رئيس للدعاية غايته نشر الدعاية لمقاصد المؤتمر السلمي العام في جميع أنحاء
العالم. على أن يقيم هذا المكتب، مكاتب فرعية للدعاية، ويتوسل إلى غرضه بالمجلت والخطب
والمحاضرات والكتب والمدارس والتمثيل والسينما والتصوير.
فيما يتعلق ببت المقدس، قرر المؤتمر انتخاب لجنة خاصة تطوف على جميع الملوك والمراء والثرياء
المسلمين لجمع التبرعات، ويسمى الذين يتبرعون بمبالغ وافية :"حماة المسجد القصى"، وتنقش
أسماؤهم في لوحات تعلق في المسجد.
وكذلك، إنشاء جامعة إسلمية عليا في القدس تفي بحاجة المسلمين في دينهم ودنياهم، وتسمى جامعة
المسجد القصى السلمية.
يذكر أن تبرعات وصلت إلى الحاج أمين، بهدف إنشاء الجامعة المذكورة، إل أن سلطات الحتلل
البريطاني عطلت المشروع، وضغطت على العديد من قادة الدول السلمية، لوقف التبرعات لهذا
المشروع.
وقرر المؤتمرون كذلك مقاطعة جميع المصنوعات الصهيونية في جميع القطار السلمية، وتأسيس
شركة زراعية كبرى في فلسطين، يشترك فيها العالم السلمي، وتكون غايتها إنقاذ أراضي المسلمين
في فلسطين.
وقرر تنبيه علماء المسلمين ورؤساء حكوماتهم، وذوي الرأي منهم إلى خطر الصهيونية على فلسطين،
ومقدسات المسلمين فيها، وعلى البلد السلمية التي تجاورها.
استنكر المؤتمر قرار لجنة البراق الدولية، السماح لليهود بأداء الطقوس أمام الحائط في العياد
اليهودية، مؤكدا الستمرار في الحتجاجات ضد الهجرة الصهيونية، وضد السماح ببيع الراضي لليهود
مع احتفاظ فلسطين بحق تقرير مصيرها بنفسها.
انتخب المؤتمر لجنة تنفيذية له، ترأسها الحاج محمد أمين الحسيني، كما انتخب مكتبا دائما مؤلفا من
ثلثين عضوا من زعماء العالم السلمي وسمي صلح الدين الطباطبائي، أمينا عاما له، واتخذ المؤتمر
القدس مقرا دائما له.
المؤتمر السلمي الكبير
تزايدت العتداءات الصهيونية على حائط البراق سنة ألف وتسعمائة وثمان وعشرين، فدعت لجنة
الدفاع عن البراق مسلمي فلسطين ولبنان وسورية وشرق الردن، إلى عقد مؤتمر إسلمي عام للتصدي
للخطر الصهيوني المتزايد، والدفاع عن الماكن المقدسة.
عقد المؤتمر في القدس في أول تشرين الثاني /نوفمبر من عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين،
وأطلق عليه أسم المؤتمر السلمي الكبير. وقد حضرت المؤتمر سبعمائة شخصية من جميع أنحاء
فلسطين وبلد الشام، وانتخب الجميع الحاج أمين الحسيني رئيسا له.
كذلك تم انتخاب وفد من اثني عشر عضوا، لمقابلة المندوب السامي بالوكالة "لوك" لطلب تصريح رسمي
من حكومة النتداب يبين موقفها وتعهداتها بحفظ حقوق المسلمين بحائط البراق.
ضم الوفد المذكور ثلثة من أعضاء الوفد اللبناني إلى المؤتمر هم: عبد الكريم أبو النصر، عبد القادر
مصطفى الغندور، ومصطفى الغليني، وذلك بهدف إظهار التضامن في الدفاع عن البراق الشريف.
في ختام أعماله اتخذ المؤتمر جملة من القرارات من بينها:
"الحتجاج بكل قوة على أي عمل، أو محاولة ترمي إلى إحداث أي حق لليهود في مكان البراق الشريف
المقدس، واستنكار هذا كله أشد الستنكار والحتجاج على كل تساهل أو تغاضي أو تأجيل يمكن أن يبدو
من الحكومة في هذا العمل".
كما قرر المؤتمر أن يطلب من الحكومة منع اليهود حال منعا باتا مستمرا من وضع أية أداة من أدوات
الجلوس والنارة والعبادة والقراءة وضعا مؤقتا أو دائما في ذلك المكان، في أي حال من الحوال، وأي
ظرف من الظروف، وأن تمنعهم أيضا من رفع الصوات وإظهار المقالت، حيث يكون المنع في كل هذا
متكفل لئل يضطر المسلمون إلى أن يباشروا منعه ودفعه بأنفسهم مهما كلفهم المر دفاعا عن هذا
المكان السلمي المحض، المقدس، وعن حقوقهم الثابتة فيه.
وألقى المؤتمر على الحكومة، تبعة ما قد ينتج من إقدام المسلمين على الدفاع عن البراق الشريف، إن
هي توانت في منع أي اعتداء يصدر من اليهود لنها متكفلة بحفظ المن، ومطالبة بالمحافظة على
الماكن الدينية السلمية من كل اعتداء، وقد قرر المؤتمر أيضا تشكيل جمعية تعرف بجمعية حراسة
الماكن المقدسة.
وكرر المؤتمر السلمي الكبير، المطالب المعروفة بحق تقرير المصير، والحصول على الستقلل،
ووقف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الراضي لليهود، ومساندة الشركات الوطنية لشراء الراضي.
وهكذا نجح المؤتمر في تحويل قضية البراق إلى قضية وطنية هامة. وحقق نقلة باشراك المسلمين في
الدفاع عن المقدس السلمي في القدس، إذ تقرر إنشاء فروع لجمعية حراسة المسجد القصى في جميع
أنحاء العالم السلمي، وحيث توجد الجاليات السلمية في المهاجر.
وأرسل الحاج أمين الحسيني بنسخة عن قرارات المؤتمر إلى عصبة المم، كما أبرق إلى المير شكيب
أرسلن، وحسان الجابري ورياض الصلح في جنيف، يوكلهم نيابة عن المؤتمر بالدفاع عن قضية
البراق أمام عصبة المم والرأي العام الوروبي.
وفعل سارع أرسلن بتقديم مذكرة إلى المركيز تيودلي رئيس لجنة النتداب في العصبة، يقول فيها: بأن
المسلمين بالنسبة إلى قضية البراق يريدون أن يبقى الحال على قدمه، وإذا حصل أي تغيير في الماكن
المقدسة فسيكون لذلك عواقب وآثار وخيمة للمم.
تلمس الحتلل البريطاني، المعاني الكامنة، وراء نجاح الحاج أمين الحسيني، رئيس المجلس السلمي
العلى، بعقد المؤتمر، ونجاح المؤتمر نفسه، في نقل القضية من إطار خلف ديني محدود، كما حاولت
الحكومة البريطانية تصوير المر، إلى قضية سياسية وطنية عامة، تتناول المشروع الصهيوني كله على
أرض فلسطين والمسعى البريطاني لقراره.
لذلك فقد أصدرت تصريحا على شكل كتاب أبيض، أقر بملكية المسلمين لحائط البراق، ويمنع اليهود من
تركيز أدوات أو حواجز في المكان.
بيد أن هذا التصريح، كان مثلما هو شأن السياسة البريطانية، يستهدف تهدئة الخواطر، فيما ظل
المحتلون البريطانيون يعملون من أجل إنفاذ وعد بلفور، وهو ما اقتضى ردودا فلسطينية مختلفة في
مرحلة لحقة.
المؤتمر العربي الفلسطيني
عقد المؤتمر العربي الفلسطيني أولى دوراته في بيت المقدس سنة ألف وتسعمائة وتسع عشرة.
والمؤتمر العربي الفلسطيني، هو مؤتمر تمثيلي عقد باسم عرب فلسطين سبع دورات ما بين عامي ألف
وتسعمائة وتسعة عشر، وألف وتسعمائة وثمانية وعشرين.
وهو مؤسسة وطنية تشبه المجلس النيابي، ولها أهدافها الواضحة وبرامجها المحددة.
تم اختيار المندوبين إلى دورات هذا المؤتمر من خلل الجمعيات السلمية – المسيحية، والهيئات
الخرى، أو بعرائض ومضابط انتخابية تقدمها المؤسسات والمدن والقرى.
وراوح عدد المندوبين تبعا لذلك بين سبعة وعشرين ومائتين وسبعة وعشرين مندوبا من مختلف مدن
فلسطين وأقضيتها.
كان هدف المؤتمر وضع الخطوط الساسية لحركة النضال الوطني وبث الدعاية لها في الخارج وانبثقت
عن كل مؤتمر نخبة تنفيذية اتفق على أن تكون الناطقة باسم عرب فلسطين، وتتولى الشراف على
تنفيذ قراءات المؤتمر وقيادة الحركة الوطنية وتوجيهها.
انعقدت الدورة الولى في القدس، بدعوة من الجمعية السلمية المسيحية في المدينة، وذلك بحضور
سبعة وعشرين مندوبا انتخبوا عارف بكر الدجاني رئيسا للمؤتمر ومحمد عزت دروزة سكرتيرا عاما.
استمرت أعمال المؤتمر ثلثة عشر يوما، تقرر في نهايتها اقتراح تسمية فلسطين: سورية الجنوبية،
وإرسال برقية احتجاج إلى مؤتمر باريس.
ووضع المؤتمر ثلثة تقارير، كان الول في تفنيد مزاعم الصهيونية، والثاني عن أخطار فصل فلسطين
عن سورية العربية، والثالث عن الراضي المدورة والميرية.
حدد المؤتمر العربي الفلسطيني في القدس مبادئ الحركة الوطنية في سياق قومي، رفض فيه و"عد
بلفور"، والهجرة الصهيونية والنتداب النكليزي، وطالب بالستقلل التام ضمن الوحدة العربية.
أرسل المؤتمر وفدا إلى مؤتمر الصلح في باريس لشرح مطالب عرب فلسطين، وآخر إلى دمشق لبلغ
الوطنيين العرب مضمون القرار الذي يدعو إلى تسمية فلسطين، سورية الجنوبية، وتوحيدها مع سورية
الشمالية وقد تبنى المؤتمر السوري العام سنة ألف وتسعمائة وتسع عشرة الميثاق الذي وضعه المؤتمر
العربي الفلسطيني، وضمه إلى قراراته التي قدمها إلى لجنة كنغ – كرين وإلى قرار إعلن الستقلل
وملكية فيصل.
حالت سلطات الحتلل البريطاني دون عقد دورة ثانية للمؤتمر في القدس. فعقدت في دمشق، ثم في
حيفا. وعاد ليعقد دورته الرابعة في القدس عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين، برئاسة موسى كاظم
باشا الحسيني، وبحضور مائة مندوب من مختلف أنحاء فلسطين.
عقد المؤتمر تسع جلسات على مدى خمسة أيام أكد فيها على المبادئ التي وضعها المؤتمر الول وبنود
الميثاق القومي، ما خل الفقرة الخاصة بالوحدة، ما عنى مسارا جديدا للحركة الوطنية.
شكل المؤتمر نخبة لدراسة ثورة يافا، وتقديم تقرير عنها إلى العالم، كما اختار وفدا برئاسة موسى
الحسيني للتوجه إلى أوروبا.
عقد المؤتمر دورته الخامسة في نابلس، والسادسة في يافا. على أن يعقد دورته السابعة في القدس
مجددا.
عقد اجتماع تمهيدي في أيار، في القدس، لعداد وثائق المؤتمر المقرر عقده في حزيران من عام ألف
وتسعمائة وأربعة وعشرين، ولكن الخلفات بين النخبة التنفيذية ومعارضيها من الحزب الوطني بزعامة
النشاشيبي، أجلت عقده أربع سنوات شهدت خللها فلسطين أحداثا جسام، حاولت اللجنة التنفيذية
التصدي لها، كما حاولت رأب الصداع وعقد المؤتمر المؤجل.
عكست قرارات المؤتمر السابع في القدس، حالة الضعف التي تعاني منها هذه الهيئة، وعدم قدرتها على
دفع النضال الوطني بما ينسجم مع التحديات التي يواجهها شعب فلسطين.
فقد قرر المؤتمر المطالبة بحكومة برلمانية، والحتجاج على كثرة الموظفين النكليز في الدوائر
الرسمية في فلسطين، والحتجاج على تفضيل العمال اليهود على العمال العرب.
سوف تفرض أحداث هيئة البراق تطورات جديدة على الوضع الفلسطيني، وإن كانت اللجنة التنفيذية
المنبثقة عن المؤتمر السابع قد بقيت تقود النضال الوطني حتى وفاة رئيسها موسى كاظم الحسيني سنة
ألف وتسعمائة وأربع وثلثين.
الهيئة السلمية العليا
تشكل المجلس السلمي العلى، أول مرة في فلسطين عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين وترأسه
عام لفلسطين. u الحاج أمين الحسيني، إضافة إلى منصبه كمفت
تولى المجلس الشراف على الوقاف السلمية، وتحول إلى هيئة قيادية ليس في القدس وحسب ولكن
في معظم أنحاء فلسطين إلى أن تلشى وجوده تدريجيا لصالح هيئات أخرى بدءا من عام سبعة
وثلثين، مع إقالة الحسيني من رئاسته.
وبعد عدوان حزيران من عام سبعة وستين قامت أربع وعشرون شخصية مقدسية، بتشكيل هيئة
إسلمية لتولي الشؤون السلمية في الضفة وبضمنها القدس، وأطلق على هذه الهيئة اسم المجلس
السلمي العلى، ولكن الذي غلب عليها هو تسمية: الهيئة السلمية العليا.
لعبت الهيئة دورا كبيرا في تنظيم شؤون الوقاف السلمية في القدس، ومدن الضفة الفلسطينية كما
لعبت دورا هاما في حماية المقدسات السلمية في بيت المقدس من التعديات الصهيونية المتكررة
عليها.
رفضت السلطات الصهيونية العتراف بالمجلس، ولكنه كرس وجوده بالمر الواقع كهيئة إسلمية
تشرف على الوقاف والمقدسات السلمية.
لجأت الهيئة في عملها بداية، إلى العتراض على التعديات الصهيونية، بواسطة رفع العرائض
والمذكرات إلى السلطات المحتلة، على غرار ما قام به الشيخ حلمي المحتسب سنة ثمان وستين، برفع
مذكرة إلى ليفي أشكول رئيس الحكومة الصهيونية، يحتج فيها على الحفريات التي يقوم بها الصهاينة
في القدس.
ومع تزايد الضغوط الصهيونية، نوعت في أساليب عملها، وأعلنت أواخر عام ثمانية وستين، أنها
ترفض بشدة التعديات الصهيونية وترفض تدخل الصهاينة في إدارة شؤون المسلمين بالقدس، المر
الذي يخالف أحكام اتفاقيات جنيف والقرارات الدولية.
تفاعلت الهيئة مع المواقف العربية والسلمية والدولية بشأن القدس والقضية الفلسطينية ففي عام
ثلثة وسبعين، وبعد صدور قرارات القمة العربية في الجزائر التي أكدت على تحرير القدس ورفض
النتقاص من الحق العربي فيها، أعلنت الهيئة السلمية في القدس أن عروبة المدينة حقيقة تاريخية ل
تستطيع كل التصريحات والمواقف التي تحاول النيل منها أو تغير طبيعتها أن تدحضها ودعت إلى
التحرك الجاد للوقوف في وجه العتداءات الصهيونية على المقدسات السلمية في المدينة.
من عام واحد وثمانين، لعبت الهيئة دورا في تنظيم التصدي لمحاولة الجماعة المسماة أمناء جيل t بدءا
الهيكل، والجماعات الرهابية الصهيونية الخرى اقتحام الحرم القدسي الشريف، وفضحت في بيانات
متلحقة طبيعة الدعم الذي تلقاه هذه الجماعات من الوساط الحاكمة في الكيان الصهيوني.
كما وقفت في وجه افتتاح النفاق تحت أساسات الحرم القدسي الشريف، على غرار ما حدث عام واحد
وثمانين، وفي سنوات لحقة أيضا، وذلك رغم تلقيها تهديدات من زعماء الحركات الرهابية الصهيونية،
بالتعرض لعضائها وقياداتها الفاعلة مثل الشيخ سعد الدين العلمي.
وعام أربعة وثمانين، دعت الهيئة إلى سلسلة اضرابات متلحقة، احتجاجا على قيام الصهاينة بتدنيس
الحرم القدسي، واقتحام مسجد قبة الصخرة.
وفي مواجهة سماح الوساط القضائية الصهيونية والشرطة للصهاينة باقتحام الحرم، أعلنت الهيئة أن
المسلمين سوف يتصدون لمن يحاول العتداء على مساجدهم أو تدنيسها، وقالت إن المقدسيين سوف
يعتصمون في مسجدي القصى وقبة الصخرة، لحمايته من التعديات الصهيونية.
ويمكن القول إن الهيئة لعبت دورا قياديا في رعاية شؤون المقدسات السلمية في القدس وحمايتها،
وبدأ تأثيرها يتلشى تدريجيا بعد أن شكلت السلطة الفلسطينية إدارة للوقاف في القدس، أخذت على
عاتقها الكثير من مهمات الهيئة السلمية العليا.
هدم حارة المغاربة
بعد عدوان حزيران عام سبعة وستين، لم تنتظر قوات الحتلل الصهيوني طويل، حتى تبدأ بجرائمها
الوحشية في المدينة المقدسة، ومع مضي أقل من أربعة أيام على الحتلل، شرعت جرافات المحتلين
بهدم حي المغاربة التاريخي في القدس بأكمله، مزيلة من الوجود مسجدين، احدهما مسجد البراق
الشريف، ومائة وخمسا وثلثين دارا للسكن، ومخازن ومحلت كانت تؤلف الحي المذكور.
الذريعة لهذا الجراء الوحشي هي توسعة مكان لظهار الجزاء المخفية من حائط البراق الذي يسميه
الصهاينة حائط المبكى، وهو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف الذي كان حي المغاربة يلصقه
تماما.
أدعى الصهاينة أنهم اشتروا البيوت من أصحابها قبل هدمها، لكن جثث الفلسطينيين التي دفنت تحت
النقاض تبين كذب هذا الدعاء، الذي يضيف جريمة إلى الجريمة الصلية.
ظل الصهاينة ينفون وجود سكان الحي أثناء عمليات الهدم الوحشية، ورغم أن متولي الوقف في الحارة
التي تعتبر كاملة وقفا إسلميا، أوضح بأدلة واسعة أن عمليات الهدم تمت بوجود سكان داخل منازلهم،
واصل الصهاينة الكذب والفتراء إلى أن اعترف الضباط الصهاينة الذين شاركوا في الجريمة بحقيقة ما
وقع عام سبعة وستين.
ففي عام تسعة وستين، نقلت صحيفة يروشاليم الصهيونية عن ضابط في سلح الهندسة التابع لقوات
الحتلل قوله:
أنه في مساء السبت العاشر من حزيران شرعت الجرافات تحت قيادة إيتان بن موشيه، بهدم البيوت في
حارة المغاربة لتسوية الساحة الواقعة بجانب حائط البراق، وذلك بعد أن أعطيت مهلة ربع ساعة
للسكان للقيام بإخلء منازلهم.
الضابط الصهيوني يقول: أنه اكتشف جثثا بين النقاض، ولدى سؤاله عما فعله آنذاك قال: "أنه ألقى إلى
السفل، أو تحت التراب"، ضابط أخر يدعى اليكس غور قال:"أن ابن موشيه خرج من الخطة الصلية
لهدم الحي، وتجاوزها حيث هدم المزيد من البيوت".
أما بن موشيه نفسه فيقول: "تيدي كوليك ويقصد رئيس البلدية الصهيونية في القدس، تيدي كوليك
ورفاقه خططوا للقيام بعمل صغير هناك من دون المس بالماكن المقدسة، كان في باحة البراق على
مسافة عدة أمتار منها مسجد البراق، حيث صعد رسول العرب على البراق إلى السماء، وأنا قلت مادام
البراق قد صعد إلى السماء، فلماذا ل يصعد المسجد أيضا، وقمت بطعنه بشكل جيد جدا، بحيث لم يبق
منه أثر يذكر" .
يكشف هذا العتراف الصهيوني حقيقة ما جرى ويقدم دليل إضافيا على شكل الجريمة التي ارتكبها
الصهاينة بحق هذا الحي الذي ظل لقرون عديدة وقفا إسلميا، يقطنه أحفاد المجاهدين الذين جاؤوا في
نجدة من المغرب العربي، لدفع عدوان الفرنجة عن القدس.
والحي يضم إلى المسجدين، زوايا للمتصوفة والمتعبدين، ودورا للسكن، ونزل للمجاورين، ومخازن
ومحلت تجارية.
الستهداف الصهيوني لهذا الحي قديم، وهو مرتبط بالطماع اليهودية الصهيونية للسيطرة على حائط
البراق، وقد حاول الصهاينة مرارا شراءه أو السيطرة عليه مع بدايات الستيطان الصهيوني في بيت
المقدس.
يذكر أن قوات الحتلل الصهيوني، قامت مع احتلل القدس مباشرة بمصادرة مفاتيح باب المغاربة ولم
تعدها.
كما أن قوات الحتلل أقامت في آب مركزا للشرطة في باب المغاربة، ل يزال قائما حتى الن رغم
العتراضات المتكررة من الوقاف السلمية.
وتستهدف الجماعة المسماة أمناء جبل الهيكل هذه المنطقة باعتداءات متكررة، بزعم أنها تشكل جزءا
من الهيكل المزعوم.
اتفاق أوسلو
أجل اتفاق أوسلو بحث قضية القدس إلى ما سمي مفاوضات الوضع النهائي، وبعد توقيعه مباشرة أعلن
الصهاينة أن القدس خارج التسوية، وكرروا مواقفهم المعروفة بأن القدس عاصمتهم البدية، وقاموا
بتسريع الستيطان والتهويد في المدينة وضواحيها على نحو غير مسبوق، لفرض الوقائع على الرض.
ولما كان لبد من مناقشة المر أخيرا في المفاوضات المسماة "مفاوضات الوضع النهائي"، بدأت تبرز
التصورات الصهيونية حول القدس في الحل المذكور.
عام ستة وتسعين قالت زعيمة حركة ميرتس، السابقة شولميت آلوني: "أنا أعارض إقامة سور في
القدس، وأفضل مجلسا بلديا مشتركا يضم أحياء القدس، وأفضل مجلسا بلديا مشتركا يضم أحياء ذات
إدارة ذاتية، ويجب أن تجري المفاوضات فقط حول المستوطنات.
أما ميشولم عميت، عضو مجلس البلدية الصهيونية في القدس، عن حركة موليدت فقال: "أن الحل
الدائم الوحيد هو ما سماه أرض )إسرائيل الكبرى( تحت السيادة اليهودية.
يهوشع بهورات من حزب الطريق الثالث، اعتبر أن المقرر لدى حزبه هو أن كيانه الستراتيجي ما
يتطلب من وجهة نظره الحتفاظ بوادي الردن والمنطقة المدنية التي تقيمها حول القدس، في إشارة إلى
المستوطنات حول المدينة.
ة لكيانه وتحت سيادته. t ودعا مخيائيل ايتان، من الليكود، إلى التوحد حول القدس عاصم
وقال أحد زعماء حزب العمل، إفرايم سنيه، أن القدس لن يتم تقسيمها في مشروع الحل الدائم، ولن
تقام مؤسسات سلطة فلسطينية ضمن حدودها. إن ما ينبغي التفاق حوله هنا هو وضع الماكن
المقدسة، وشكل إدارة الحياء العربية.
مع طرح هذه التصورات الصهيونية، برز إلى الوجود، اقتراح يقول: أبو ديس عاصمة الدولة
الفلسطينية في الحل النهائي.
تم إنضاج هذا القتراح في وثيقة باسم وثيقة أبو مازن - بيلن، وهي حصيلة اجتماعات بين محمود
عباس أحد المفاوضين الفلسطينيين والوزير الصهيوني يوسي بيلبن. وأبو ديس هي من ضواحي القدس
التي جرى ضمها إلى المدينة في إطار مشروع القدس الكبرى.
الوزير الصهيوني يوسي بيلن، أوضح لحقا تصوره التفصيلي لهذا القتراح فقال: "أبو ديس عاصمة
للدولة الفلسطينية على أن تكون منزوعة السلح، وأن تكون الماكن المقدسة داخل أسوار البلدة القديمة
خارج السيطرة )السرائيلية(، فيما يعتبر جميع المقدسين العرب مواطنين في الدولة الفلسطينية، ويكون
لهم حكم ذاتي داخل القدس التي ستبقى موحدة ومفتوحة وعاصمة )إسرائيل(".
عام سبعة وتسعين وبعد وقت قصير من توضيحات بيلين، أصدر الحزبان الصهيونيان الكبيران العمل
والليكود، وثيقة بشأن تصورهما للتسوية النهائية، تضمن حديثا عن القدس فحواه:
* القدس عاصمة للكيان الصهيوني بحدودها البلدية القائمة، هي مدينة واحدة تحت سيادة الكيان.
* يعترف الفلسطينيون بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني فيما يعترف الصهاينة بمركز الحكم للكيان
الفلسطيني، وهو يقع داخل حدود الكيان، وخارج الحدود الحالية لبلدية القدس.
* تمنح الماكن المقدسة السلمية والمسيحية في القدس وضعا خاصا.
* في إطار الحكم البلدي يعطى فلسطينيو الحياء العربية المقيمون في القدس وضعا خاصا يسمح لهم
بالمشاركة في مسؤولية إدارة حياتهم.
سوف تشكل هذه الوثيقة لحقا أساسا لما سيليها من تصورات صهيونية، فمنذ عام تسعة وتسعين، أخذ
الصهاينة يتحدثون عن أن الحل في القدس ليس في تقسيمها، وإنما في توسيعها، لتكون للفلسطينيين
عاصمة تسمى القدس، هي غير القدس المعروفة.
في كامب ديفيد الثاني جرى تداول الكثير من التصورات وانتهت الجتماعات إلى الفشل، ليعاود
الصهاينة الحديث عن قدس موحدة عاصمة أبدية لكيانهم ويسرعون وتيرة التهويد مجددا.
التحاد البرلماني العربي
لم تخرج قرارات التحاد البرلماني العربي، عن كونها تأكيدا جديدا للمواقف العربية الرسمية المعلنة
بشأن القدس.
ومثلما هو حال المؤسسات العربية الرسمية الخرى، عانى التحاد البرلماني العربي أيضا من إصدار
قرارات ل تملك آلية للتنفيذ.
ففي مؤتمره الثاني المنعقد في الجزائر العاصمة أعلن التحاد رفضه كل الجراءات الستيطانية
والتهويدية التي تقوم بها سلطات الحتلل الصهيوني في الراضي العربية المحتلة، ومقاومة أي وضع
من شأنه المساس بالسيادة العربية الفلسطينية على القدس الشريف.
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعين، ناقش مجلس التحاد المنعقد في بغداد، قرار مجلس الشيوخ المريكي
القاضي باعتبار القدس موحدة عاصمة للكيان الصهيوني ودعا مجلس الشيوخ لعادة النظر في قراره،
لن القرار يساهم في زيادة التوتر، ويبعد فرص السلم عن المنطقة فضل عن أنه يتناقض مع قرارات
المم المتحدة.
وفي العام التالي انعقد مجلس التحاد في طرابلس الغرب، وأكد في بيانه الختامي، على أن أية تسوية
للصراع العربي الصهيوني يجب أن تتضمن انسحابا صهيونيا كامل من الراضي العربية المحتلة عام
سبعة وستين، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
من اللفت للنتباه غياب قرارات خاصة بالقدس، عن العديد من دورات التحاد، أو اجتماعات مجلسه.
وفي عام خمسة وتسعين أكد المؤتمر السادس للتحاد المنعقد في الرباط، على عروبة القدس، وأدان
جميع العمال المؤدية إلى تغيير معالمها العمرانية وتركبيها الديمغرافي، وهويتها السلمية.
لكن مجلس التحاد، عقد دورة استثنائية في العام التالي، وبعد وقت قصير من إصدار الكونغرس
المريكي قرارا بنقل السفارة المريكية لدى الكيان الصهيوني من تل أبيب إلى القدس، وفي هذه الدورة،
أعلن مجلس التحاد رفضه قرار الكونغرس المريكي، باعتباره متناقضا مع قرارات الشرعية الدولية،
ومتعارضا مع مواقف الدارة المريكية المعلنة بشأن القدس ودعا مجلس التحاد إلى قيام البرلمانات
العربية والتحاد البرلماني، بالتصال بالكونغرس ،من أجل إقناعه بالعدول عن قراره بنقل السفارة،
ومناشدة جميع برلمانات العالم، القيام بإجراءات مماثلة.
في العام نفسه، أي عام ستة وتسعين عقد مجلس التحاد البرلماني، دورته السابعة والعشرين في
دمشق، فأكد في بيانه الختامي، على تمسكه بالهوية العربية لمدينة القدس، وأدان جميع الجراءات
الرامية إلى تغيير معالمها الدينية السلمية والمسيحية، وتركبيها السكاني واعتبر قرار الكيان
الصهيوني بضم القدس باطل وغير شرعي.
المجلس، دعا الحكومات في البلدان العربية والسلمية إلى تجنيد إمكانياتها دفاعا عن القدس الشريف
ومكانتها المقدسة.
وفي العام التالي عقد التحاد دورة جديدة له هي السابعة في القاهرة معيدا التأكيد على مواقفه المعروفة
ا الجراءات الصهيونية المتمثلة في مصادرة الراضي وبناء المستوطنات، خاصة في t بشأن القدس ومدين
محيط القدس على جبل أبو غنيم، وكذلك مصادرة هويات المواطنين الفلسطينيين المقدسين وإغلق
المؤسسات الشعبية والوطنية الفلسطينية في الديار المقدسة؛
وطالب المجتمع الدولي بالتدخل لوقف هذه الجراءات وإلغاء مفعولها حفاظا على عروبة القدس ودعا
الدول العربية إلى تقديم الموال اللزمة لحماية الوجود العربي في المدينة، وحماية مقدساتها.
وفي عام ألفين عقد التحاد ندوة برلمانية في عمان، اعتبر في ختامها أن مسألة القدس هي لب
الصراع. ول يمكن تحقيق سلم في غياب السيادة الفلسطينية على القدس كعاصمة لدولة فلسطين.
أبرز العمليات الستشهادية
في إطار مقاومة الشعب العربي الفلسطيني للغزاة الصهاينة، كانت القدس ومازالت، ساحة للشهادة
والستشهادين.
بعد استكمال الصهاينة احتلل القدس عام سبعة وستين، وقعت أولى العمليات الستشهادية عام ثمانية
وستين، نفذها الفتى رياض أمين جابر، البالغ من العمر ثلثة عشر عاما، داخل مقر القيادة العسكرية
الصهيونية في فندق المبسادور بالقدس، حيث فجر لغما كان يحمله داخل حقيبته، فاستشهد وأوقع عددا
كبيرا من الجنود والضباط الصهاينة بين قتلى وجرحى.
شهد العام ثلثة وتسعين تنفيذ ثلث عمليات استشهادية، أدت الولى في مستوطنة "محيول" شمال
القدس إلى إصابة ثمانية جنود صهاينة والثانية، التي وقعت بالغرب من مقر قيادة شرطة الحتلل في
الشيخ جراح أدت إلى قتل مستوطنة وإصابة العشرات، فيما أوقع تسعة وعشرون جنديا صهيونيا بين
قتيل وجريح في العملية الثالثة شمال المدينة.
عام أربعة وتسعين، هاجم الستشهادي أحمد عبد الوهاب بالسكين أربعة جنود صهاينة، وتمكن من
الستيلء على سلح أحدهم، وشرع في إطلق النار حتى استشهاده وتكتمت قوات الحتلل على حجم
خسائرها.
أما العملية الستشهادية الكبيرة التي وقعت في الحافلة العاملة على الخط رقم ثمانية عشر في القدس
عام خمسة وتسعين فأسفرت عن مصرع خمسة وعشرين جنديا صهيونيا.
ونفذ استشهادي بطل عملية استشهادية ثأرا للشهيد يحيى عياش في القدس، أدت إلى مقتل ثمانية عشر
جنديا صهيونيا.
وقعت العملية في شباط من عام ستة وتسعين، وفي آذار وقعت عملية ضخمة، أدت إلى سقوط أربعة
عشر قتيل صهيونيا.
ونفذ المجاهدون عملية أخرى في سوق محينة يهودا عام سبعة وتسعين أسفرت عن سقوط خمسة قتلى
من الصهاينة.
شهدت القدس مع انفجار انتفاضة القصى عددا كبيرا من العمليات الستشهادية، من أبرزها العملية
التي أوقعت ثلثين إصابة في صفوف الصهاينة في حافلة "بالتلة الفرنسية" في القدس، في آذار من عام
ألفين وواحد.
وفي تموز من العام نفسه، نفذ الستشهادي نضال شادوف، عملية أوقعت عددا كبيرا من القتلى
والجرحى الصهاينة قرب "استاد تيدي" في الجزء الغربي من القدس المحتلة.
الستشهادي عز الدين المصري، اخترق في آب كل إجراءات المن الصهيونية، ونفذ عملية في مطعم
للبيتزا في الجزء الغربي من القدس المحتلة، أسفرت عن مقتل أربعة عشر صهيونيا، وجرح مئة وثلثة
وثلثين آخرين.
وفي أيلول ضرب الستشهاديون مرة أخرى الصهاينة في القدس، في عملية أسفرت عن خمس عشرة
إصابة بين قتيل وجريح.
ثم كانت في مطلع كانون الول، عملية مزدوجة غطت ثلثة أماكن في القدس دفعة واحدة فيما وقعت بعد
أيام قليلة عملية في مدخل فندق الهيلتون في المدينة المقدسة ما أدى إلى إصابة خمسة مستوطنين
صهاينة بجروح خطيرة، حسب ادعاء الناطق الصهيوني الذي دأب على إخفاء الخسائر الحقيقية في
صفوف الصهاينة.
في كانون الثاني من العام ألفين واثنين، افتتحت الستشهادية وفاء إدريس موجة عمليات الستشهاديات
البطولية في القدس، إذ تلتها الستشهادية آيات الخرس، ثم الستشهادية عندليب طقاطقة، بعد عدوان
السور الواقي الشاروني في العام نفسه.
وخلل العام ألفين واثنين أيضا نفذ الستشهاديون البطال، سلسلة من العمليات النوعية الجرئية حيث
تمكنوا من الدخول مع أسلحتهم الرشاشة إلى بيت المقدس، وهاجموا الجنود والمستوطنين الصهاينة
ودبوا في قلوبهم الرعب.
خلل شهري شباط وآذار من العام نفسه ضرب الستشهايون بقوة في القدس.
ففي آذار، وردا على جرائم الحتلل المتصاعدة نجح الستشهادي فؤاد الحوراني في الوصول إلى مبعدة
ستين مترا من مقر الرهابي شارون ونفذ عملية استشهادية جرئية أوقعت العديد من القتلى والجرحى
في صفوف الصهاينة.
وفي نيسان من العام نفسه وبينما كان مسئولون صهاينة يتشدقون بأنهم استطاعوا القضاء على بنى
المقاومة الفلسطينية، تمكن الستشهاديون من الوصول مرة أخرى إلى قلب القدس، فجاءت عملية
الستشهادية عندليب طقاطقة، لتسقط واحدا من أهداف العدوان الصهيوني المعلنة بالقضاء على
النتفاضة والمقاومة.
أبرز العمليات الفدائية في القدس
لم تتوقف المقاومة في القدس، منذ أن وطأتها أقدام الغزاة، وبعد استكمال احتللها عام سبعة وستين،
كان الوجود الصهيوني الغاضب فيها، هدفا لعمليات رجال المقاومة، الذين قاموا عام ثمانية وستين،
بسلسلة من العمليات الفدائية الجريئة. كان أبرزها تفجير عبوة ناسفة أمام مبنى الذاعة الصهيونية في
القدس، وأخرى بالقرب من محطة السكك الحديدية. كما نسف رجال المقاومة معدات مخصصة للبناء
الستيطاني في المدينة. واستهدفوا بالعبوات الناسفة المكتب الصحفي الصهيوني في القدس.
العملية الفدائية البارزة في العام المذكور شهدها سوق تجاري مزدحم بالجنود والمستوطنين الصهاينة
في القدس.
أطلق الفدائيون نيران أسلحتهم تجاه الصهاينة فأردوا اثني عشر قتيل، وجرحوا خمسين من
المستوطنين، وشكل سوق محينه يهودا، هدفا لهجمات الفدائيين، الذين استهدفوا في آب، حشدا من
الشبيبة العسكرية الصهيونية، "الجدناع"، حيث أسفر تفجير عبوة ناسفة عن مقتل وجرح نحو خمسة
وعشرين من هؤلء.
شهد العام تسعة وستين تصاعدا في العمليات الفدائية في القدس، والتي استهدفت مباني إذاعة
وتلفزيون العدو، ومكاتب ما تسمى وزراء الداخلية، ومواقع تجمع الجنود الصهاينة في المقاهي وأماكن
الترفيه في المدينة، فيما نفذ الفدائيون في آب من العام المذكور عملية نوعية تمثلت بقصف
المستوطنات الصهيونية في "القطمون"، و"جعفات مردخاي" بالصواريخ.
وفي الشهر التالي استخدم الفدائيون عبوات ناسفة شديدة النفجار ضد مباني الجامعة العبرية في القدس
ومستودعات لمعدات الستيطان على الطريق بين القدس والخليل.
وتميزت عمليات هذا العام بإلقاء القنابل اليدوية على مراكز ومؤسسات صهيونية في المدينة.
عام خمسة وسبعين، وضع رجال المقاومة ثلجة مفخخة في ساحة "صهيون"، أسفر انفجارها عن
سقوط خمسة عشر قتيل، وجرح ثلثة وستين من المستوطنين والجنود الصهاينة.
وعام ثمانية وسبعين، فجر رجال المقاومة عبوة ناسفة في سوق "محنية يهودا"، أسفر انفجارها عن
سقوط عدد من الجرحى والقتلى الصهاينة.
العام ستة وثمانين، شهد تصاعدا نوعيا في عمليات رجال المقاومة في القدس، الذين فجروا عددا كبيرا
من العبوات الناسفة في "التلة الفرنسية"، و"حي راموت" حيث أحرقوا محطتين للحافلت، وشارع
"هرتزل" في القدس وحي "رامات أشكول" الستيطاني، ومخازن شركة الكوكاكول وشارع "رحمون"
بالطور غربي القدس، وشارع و"ايزمن" ومحطة الباصات المركزية في المنطقة الصناعية.
وفجر المقاومون سيارة كانت تقل اثنين من كبار أعضاء الموساد، وأخرى كانت تقل مدير مكتب
استشارات لما يسمى الضمان الوطني في القدس، والمتورط في عمليات تزييف ملكية عقارات في
المدينة لصالح اليهود.
عام تسعة وثمانين، وفي ذروة النتفاضة الفلسطينية استخدم عبد الهادي غانم، يديه العاريتين في تنفيذ
عملية فدائية جريئة، حيث حرف حافلة تقل عددا كبيرا من الصهاينة عن خط سيرها وأسقطها في واد
على طريق القدس تل أبيب.
العملية أسفرت عن مقتل أربعة عشر مستوطنا، وجرح سبعة وعشرين آخرين.
طور المقاومون عام واحد وتسعين، حرب السكاكين، ضد الجنود والمستوطنين، حيث طعن فدائي أربعة
من المستوطنين بسكين فأرداهم قتلى، وعام اثنين و تسعين، قتل فدائي شرطيا بسكين، وأصاب آخر
بجراح.
عام أربعة وتسعين نفذ الفدائيون عمليات إطلق نار على جنود الحتلل، قتلوا وأصابوا خللها عددا
منهم، وهو ما تكرر عام ستة وتسعين.
مع انفجار انتفاضة القصى، شهدت القدس عددا كبيرا من العمليات الفدائية، منها تفجير سيارة مفخخة
في "تل بيوت" في آذار عام ألفين وواحد، كما انفجرت عبوة ناسفة في نيسان، في سوق "محنيه يهودا"،
وأخرى قرب برقان على طريق القدس.
وإلى عمليات القصف وإطلق النار على مستوطنة "جيلو"، جرى تفجير عبوات ناسفة داخل المستوطنة،
وتفجير عبوات أخرى في مستوطنة "التلة الفرنسية".
وتمكن الفدائيون في عملية جريئة من قتل الرهابي رحبعام زئيفي في فندق حياة في القدس.
واستهدف فدائي بسلحه الرشاش حشدا من المستوطنين في "تل بيوت"، في تشرين الول من عام ألفين
وواحد، وفي الشهر التالي، استهدف الفدائي حاتم الشويكي، بسلحه الرشاش المستوطنين الصهاينة في
مستوطنة "التلة الفرنسية"، موقعا عددا من القتلى والجرحى في صفوفهم.
العتداء على الشيخ سعد الدين العلمي
كان الشيخ سعد الدين العلمي، مفتي القدس، ورئيس الهيئة السلمية العليا فيها، يبلغ الثمانين من
العمر، حين انهال عليه جنود الحتلل الصهيوني، ضربا بأعقاب البنادق والهروات.
لم يكن هذا السلوك الوحشي غريبا على المجرمين الصهاينة.. كما أن الشيخ الثمانيني، قد خبر كثيرا
مسلكهم الجرامي.
وقع العتداء على الشيخ العلمي في نيسان من عام ثمانية وثمانين وتسعمائة وألف، أثناء خروجه من
أداء صلة الجمعة في المسجد القصى المبارك وقيادته تظاهرة احتجاجية على الممارسات الصهيونية
في المدينة المقدسة، وعلى تزايد العتداءات على المقدسات السلمية فيها، وإغلقها بدعوى امتداد
النتفاضة الشعبية الفلسطينية إليها.
ومن على سرير المشفى الذي نقل إليه على عجل، صرح الشيخ العلمي بعد ثلثة أيام من العتداء
عليه، بأن الجنود الصهاينة يعاملون الفلسطينيين معاملة وحشية، وقال: "حتى في جنوب إفريقيا ل
يعامل رجال الدين بمثل هذه الفظاظة"." إن الجنود الصهاينة ينشرون الرعب ويريدون قتلي منذ سنوات".
الشيخ العلمي قال: "إن الشعب الفلسطيني مستعد للتضحية في سبيل كرامته، والنتفاضة ستستمر حتى
النصر أو الشهادة".
كان الشيخ سعد الدين العلمي، ابن العائلة المقدسية العريقة، يملك أسبابا كافية للقول إن الصهاينة
يحاولون قتله، ذلك أن مواقفه في مواجهتهم منذ الحتلل الثاني للقدس سنة سبع وستين، اتسمت
بمقاومة أي تفريط بحقوق العرب والمسلمين في المدينة المقدسة، كما أنه ورغم تقدمه في السن كان
حريصا على المشاركة في كل الفعاليات الوطنية المناهضة للحتلل وممارساته وتعدياته في القدس.
وعرف عنه، قدرته على مخاطبة وسائل العلم والرأي العام، بلغة واضحة وبسيطة، يوصل من خللها
الرسالة التي يريد المر الذي سبب انزعاجا للصهاينة.
عام ثمانية وستين، فضح العلمي الكثير من إجراءات الصهاينة في القدس، وأعلن أن قرارات الستملك
التي أصدروها آنذاك سوف تخلف خمسة عشر ألف فلسطيني دون مأوى وتزيد في عدد اللجئين، وقاد
عام أربعة وسبعين حملة للتنبيه إلى خطر الحفريات التي يجريها الصهاينة في القدس على المسجد
القصى، والمقدسات السلمية في المدينة عموما.
لكنه لم يكن يكتفي بالعلن والحديث، بل كان يشارك في التصدي لمحاولت الصهاينة تدنيس الحرم
القدسي كما حدث عام ستة وثمانين، عندما وقف مع جموع المصلين في وجه أعضاء كنيست صهاينة
اقتحموا ساحة الحرم، وعمل على إخراجهم من المكان وقال يومها: المساجد مساجدنا ويجب أل يكونوا
هنا.
أثار الصهاينة ضجة كبيرة في تلك الونة، إذ تزايدت مطالباتهم بدخول الحرم، ولكن الشيخ العلمي أكد
أنه لن يسمح لي يهودي بدخول المسجد الحرام وإنه سيتصدى لتلك المحاولت، مطالبا العرب
والمسلمين بالتحرك الجدي، والعمل الحقيقي بعيدا عن الستنكارات والتنديد، حيث ل يفل الحديد إل
الحديد.
اعتقد الصهاينة أن قيامهم بالعتداء على الشيخ العلمي، سوف يثنيه عن مواقفه، ويدفعه إلى التراجع،
لكن ما حدث كان العكس، فقد ثابر الشيخ على مواقفه وكشف عن أن الرهابي مائير كهانا، بعث إليه
برسالة يهدد فيها بأنه سيهدم قبة الصخرة، وأنه قال للشيخ العلمي في تلك الرسالة: إما أن تبيعني
القصى أو سأغتالك.
الشيخ العلمي تعرض لعدة محاولت اغتيال، فقد جرى في وقت سابق حرق سيارته، كما أضرم
الصهاينة النار في بيته، وهاجمه مرة ضابط صهيوني محاول ضربه، فالتف المواطنون حوله لحمايته.
ظل العلمي على مواقفه، حتى وافته المنية في القدس وهو يتطلع إلى النتفاضة الفلسطينية بأن تنجز
تحرير القصى من قبضة المعتدين.
النتفاضة الشعبية الولى 1987
عندما اندلعت النتفاضة الشعبية الفلسطينية، في كانون الول من عام سبعة وثمانين، في مدن الضفة
والقطاع، قال رئيس البلدية الصهيونية في القدس، تيدي كوليك: "إن الفلسطينيين في القدس لن يشاركوا
في النتفاضة. وإن طريقته البوية في الحكم ستبرهن أنها أفضل الطرق".
بعد عشرة أيام من هذا التصريح، قال كوليك وهو يرى النتفاضة تمتد لتشعل القدس: "إن المدينة لم تعد
موحدة، وقد انتهى التعايش بين اليهود والعرب إلى غير رجعة".
اشتعلت النتفاضة في القدس، فانضمت زهرة المدائن إلى المدن الفلسطينية الخرى حيث شهدت وتائر
متقدمة من فعاليات النتفاضة الفلسطينية وفي مطلع عام ثمانية وثمانين، وزعت لول مرة في أحياء
القدس الشرقية والشمالية، منشورات بتوقيع اللجنة الشعبية للعصيان المدني وتضمن كل منشور سبعة
عشر بندا يدعو كل منها إلى نوع مختلف من وسائل المقاطعة ورفض النصياع والعصيان.
دعت المنشورات موظفي الدارة إلى الستقالة من مناصبهم، ومقاطعة المنتجات الصهيونية، وعدم دفع
الضرائب، وعدم احترام أوامر حظر التجول، وعدم السماح لفراد الشرطة بدخول المنازل.
لقيت الدعوة استجابة واسعة في المدينة، وشن الصهاينة حملت اعتقال ومداهمة واسعة النطاق شملت
خصوصا المؤسسات والمحال التجارية، واعتقل الصهاينة عددا من الشخصيات المقدسية التي دعت إلى
العصيان.
واعتدى الصهاينة على المقدسات السلمية في المدينة، وإزاء تصاعد القمع الصهيوني، انطلقت
تظاهرة فلسطينية حاشدة ضمت نحو سبعة آلف مواطن فلسطيني من سكان جبل المكبر وصور وباهر
متجهة إلى حي "أرمون هنتسيف" الستيطاني.
المتظاهرون اصطدموا بشرطة الحتلل، في مجابهات لم تشهدها مدينة القدس من قبل، وقد استدعت
شرطة العدو اللف من أفراد الشرطة في محاولة للسيطرة على الجماهير الفلسطينية الغاضبة،
والوضاع المتفجرة في المدينة.
عام تسعة وثمانين، اتخذ الصهاينة خطوة إضافية في سعيهم لتهويد القصى حيث أصدر المستشار
القضائي للحكومة الصهيونية قرارا يقضي باعتبار المسجد القصى ضمن حدود مدينة القدس، وتحت
تصرف بلديتها.
الهيئة السلمية العليا دعت إلى مواجهة القرار الصهيوني الجديد، فاشتدت وتائر النتفاضة في مدينة
القدس، وحاول الصهاينة الحد من تزايد المقاومة في المدينة باقتراف مجازر بشعة فيها، فارتكبوا
مجزرة مروعة في سلوان في حزيران من عام تسعين، أسفرت عن سقوط ثلثة شهداء وعشرات
الجرحى.
لقت القوات الصهيونية مقاومة عنيفة من أهالي البلدة الذين هاجموا مركز شرطة الحتلل وحطموه،
واضطرت قوات الحتلل إلى استدعاء تعزيزات كبيرة للسيطرة على البلدة، ثم اقترف الصهاينة مجزرة
بشعة في الحرم القدسي الشريف في العام نفسه، أسفرت عن سقوط اثنين وعشرين شهيدا وعشرات
الجرحى.
اندلعت النتفاضة في القدس، بشكل فاجأ الصهاينة فهي بدأت في المدينة، في اليوم الذي فرض فيه
الصهاينة إجراءات أمنية مشددة جدا بسبب زيارة كان يقوم بها الرئيس اليطالي فرنشيسكو كوسيجا إلى
البلدة القديمة.
ومما فاجأ الصهاينة أن فعاليات النتفاضة انطلقت في توقيت واحد، ولكن في أماكن متعددة متباعدة، ما
أربك الصهاينة الذين حاولوا جهدهم تأمين زيارة الرئيس اليطالي، ولكن في اليام التالية، كان عليهم
مواجهة انتفاضة متصاعدة في مختلف أنحاء المدينة وقراها، وعجزت قوات الحتلل في أوقات كثيرة
عن احتلل قرى أصبحت بمثابة المحررة حول القدس.
ابتكر المقدسيون حرب السكاكين في مواجهة الصهاينة، وكذلك حرب الحرائق، وتميزت القدس
بالضرابات التجارية المتكررة.
كما أنها كانت المركز العلمي للنتفاضة، رغم أن الصهاينة شنوا حملت قمعية ضد الصحافيين
والمكاتب الصحفية في المدينة، التي واصلت عمليها في نقل صورة النتفاضة إلى العالم، ونقل فظائع
الصهاينة..
وخلل ثلث سنوات من النتفاضة، أحرق المقدسيون ستمائة سيارة وثمانين حافلة للمستوطنين
الصهاينة كما هاجموا ألفا وخمسمائة وأربعين حافلة، وتمكنوا من قتل ثلثة عشر صهيونيا، وإصابة
أربعمائة وتسعين بجروح. وقدمت القدس في الوقت نفسه اثنين وسبعين شهيدا ومئات من الجرحى،
فضل عن آلف المعتقلين، ارتفعت هذه الرقام في السنوات اللحقة وأثبت المقدسيون أن ما يتحدث به
الصهاينة عن قدس موحدة، هو وهم بوهم.
الدعوات لهدم المسجد القصى
يقول كثير من المسئولين الصهاينة، أن جيشهم أخطأ حين لم يستغل ظروف الحرب عام سبعة وستين،
ويقوم بتدمير المسجد القصى وقبة الصخرة.
وإذا كان الصهاينة في الواقع لم يوفروا طريقة إل واعتمدوها للتسبب بانهيار المسجد القصى ومن ذلك
المحاولت بنسفه، فإن الدعوات والتحرك لتحقيق هذا الهدف لم تتوقف أيضا.
عام سبعة وستين، وفي اليوم الرابع لعدوان حزيران جرى تعطيل صلة الجمعة في الحرم القدسي لول
مرة منذ تحريرها من الحتلل الفرنجي، عام سبعة وثمانين ومائة وألف.
كان هذا التعطيل مؤشرا لما سيقوم به الصهاينة لحقا، أو ما ينوون القيام به، ففي آب من العام نفسه،
دخل البريجادير شلومو غورين، حاخام جيش الحرب الصهيوني، ساحة الحرم الشريف، وأقام صلوات
مع أتباعه وجنوده هناك، وأعلن أنه سوف يبني كنيسا في المكان، وهو ما استبطن دعوة لهدم القصى
عاد وكررها على النحو نفسه، نائب رئيس الحكومة الصهيونية الجنرال إيغال آلون عام تسعة وستين
ومن داخل ساحات الحرم الشريف.
تكررت مثل هذه الدعوات على نحو متواتر، وعام سبعة وسبعين، ادعى الحاخام الكبر في الكيان
الصهيوني، اسحق نسيم، أن ما سماه حائط المبكى الصغير يقع داخل رباط الكرد، وأن الكشف عنه
واجب ديني كبير.
وتحدث يومها عن ضرورة هدم كل المباني التي تحول دون الكشف عن الحائط المذكور، حيث قال:
"نريد تنظيف المنطقة من جميع المباني التي ألصقت بقصد، وبإقرار رؤساء الدين المسلمين المتعاقبين.
حدثت حفريات ضارة جدا في المكان الذي حدده نسيم، ولجعل الضرر دائما ومؤثرا على المدى البعد
ببنيان المسجد القصى، تقدم أعضاء كنيست صهاينة بطلبات متلحقة لفرض حظر على أعمال البناء
والترميم في الحرم بمسجديه، وهو ما استخدم وسيلة لتدنيس المسجد عبر اقتحامات متكررة للجان
الفحص والتحقق من طبيعة عمليات الترميم والصلح التي تقوم بها الوقاف السلمية.
مع مطلع عام ثلثة وثمانين، اتخذت الدعوات الصهيونية شكل العدوان المسلح والمباشر والعلني، حيث
قام ستة عشر مسلحا صهيونيا بدخول الحرم، وهددوا بنسفه بمتفجرات يحملونها، إذا لم يسمح لهم
بإقامة مركز للدراسات الدينية في المسجد القصى.
وما أن وصفت حكومة الحتلل هذا المر بأنه سلوك متطرفين، حتى صرخ حاخام صهيوني وبصراحة
"أن اليهود سوف يواصلون جهودهم ويعملون من أجل هدم المسجد القصى".
بعد أشهر قليلة على هذا التصريح، حظرت سلطات الحتلل على المسلمين أداء الصلة في مساحات
واسعة من مساحات المسجد القصى والحرم القدسي، بدعوى السماح لليهود بأداء صلواتهم في تلك
الجزاء. وكانت هذه محاولة جديدة لفرض تقاسم في الحرم القدسي يمثل خطوة أولى لتقويضه بعد
تقاسمه.
دافع المقدسيون ببسالة عن مسجدهم وأفشلوا المحاولة الصهيونية الجديدة التي جاءت من ضمن
محاولت متعاقبة.
شهد عام ستة وثمانين، تصعيدا كبيرا في العدوان الصهيوني على الحرم القدسي بمسجديه، ففي مطلع
العام، أعلن الحاخام الرئيسي الشرقي مردخاي الياهو، أنه مازال مصرا على وجوب إقامة كنيس يهودي
في الزاوية الجنوبية الشرقية من الحرم الشريف خلف المسجد القصى، ويبدو أن خلفات داخل
الحاخامية، عوقت الشروع في تنفيذ هذا العدوان، إذ أعلن حاخامون آخرون أنه يحظر على اليهود
دخول المكان حتى عودة المسيح المنتظر.
لكن الحكومة الصهيونية، وإزاء تصدي المسلمين لمحاولت صهاينة اقتحام الحرم، أعلنت وعلى لسان
رئيسها آنذاك شمعون بيريز، "أن الحرم يخضع للسيادة )السرائيلية(" وأن هذا المر ليس بحاجة إلى
اختبار أو برهان إضافي.
بعد أيام من هذا التصريح حاول المستوطنون اقتحام ساحات الحرم، وهم يحملون لفتات: جبل الهيكل
لنا، اخرجوا العرب، واتخذ مجلس بلدية القدس الصهيوني قرارا بفرض سيادة الكيان على الحرم
القدسي واعتبارها من قبيل تحصيل الحاصل.
هدأت محاولت المستوطنين لبعض الوقت بعد التصدي الكبير الذي أبداه المقدسيون لمحاولتهم، ثم
قاموا بتحريك كبير في حزيران من عام ستة وثمانين، كان شعاره: تذكير الحكومة بأن استمرار سيطرة
المسلمين على الحرم وبقاؤهم فيه أمر ل يمكن السكوت عنه.
وتكررت في السنوات اللحقة الدعوات المباشرة لهدم المسجد، لسيما بعد قرار للكنيست باعتماد حائط
البراق موقعا دينيا له مكانة كنيس يهودي.
وتجددت الدعوات عام تسعة وتسعين لتقاسم الحرم القدسي، وعام ألفين وواحد قدمت لجنة صهيونية،
خطة للرهابي شارون، لبناء كنيس يهودي داخل الحرم القدسي، وقال معد الخطة إنه تلقى المر بذلك
من الحاخام )إسرائيل أرئيل( رئيس معهد الهيكل.
الصحافة العربية في القدس
ظهرت أولى الصحف في القدس عام ألف وثمانمائة وستة وسبعين، حين أصدرت الحكومة العثمانية
جريدتين رسميتين هما القدس الشريف، باللغة العربية وبالتركية، والغزال باللغة العربية فقط، وتولى
تحرير القسم العربي الشيخ علي الريماوي.
لم تصدر الصحيفتان بانتظام لسباب عديدة، وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية، ولدت الصحافة
الفلسطينية المحلية مع انتشار المطابع، وإعلن الدستور العثماني الذي نص على جواز إصدار الصحف،
وأطلق بعض الحريات، فصدرت في القدس اثنتا عشرة صحيفة ومجلة، اضطلعت السياسة منها بدور
هام في كشف أهداف الحركة الصهيونية لتهويد فلسطين، وقامت بحملت مكثفة ضد الهجرة الصهيونية
والستيلء على الراضي العربية.
من أبرز الصحف التي صدرت في القدس تلك السنة: الصمعي، القدس، والنصاف والنجاح والنفير.
ثم صدرت عام ألف وتسعمائة واثني عشر، المنادي التي أسسها سعيد جار ال، ومحمد موسى المغربي،
وأصدر المغربي لحقا مجلة المنهل الدبية.
في مطلع الحرب العالمية الولى عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، توقفت جميع الصحف الفلسطينية،
لتعاود الصدور بعد الحتلل البريطاني لفلسطين. ولتشهد انتشارا واسعا وارتفاعا كبيرا في عدد الصحف
والمجلت، رغم أن معظمها كان يعيش حياة قصيرة، بسبب الظروف القتصادية السيئة التي عاشتها
البلد.
سنة تسع عشرة وتسعمائة وألف، أصدر عارف العارف صحيفة "سورية الجنوبية" في القدس، بالتعاون
مع محمد حسن البديري، وأسس بولس شحادة جريدة مرآة الشرق.
كانت معظم الصحف السياسية في العشرينيات إما مؤيدة لكتلة الحاج أمين الحسيني )المجلسين( وإما
لكتلة راغب النشاشيبي )المعارضين( والقليل منها كان مستقل.
أهم صحف المجلسين، هي القصى والصباح التي كانت تنطق بلسان اللجان التنفيذية للمؤتمر العربي
الفلسطيني، وجريدة الجامعة العربية التي حررها منيف الحسيني وطاهر الفتياني، وكانت الجريدة
الرسمية للمجلسين، واستمرت لتصبح لسان حال الحزب العربي الفلسطيني في الثلثينيات. وكانت
سياسة هذه الصحف الطعن في النتداب البريطاني، والمطالبة بإلغاء وعد بلفور، والوطن القومي
لليهود.
وأهم صحف المعارضين، مرآة الشرق، وفلسطين، التي أصبحت جريدة الكتلة الرسمية، واستمرت لتكون
جريدة حزب الدفاع في الثلثينيات، وكانت صحف: القدس الشريف لحسن صدقي الدجاني، والنفير
مؤيدة للكتلة التي تطالب بإلغاء وعد بلفور، لكنها دعت إلى التعاون مع سلطات النتداب.
شهدت الثلثينيات ظهور الصحافة الحزبية، في القدس وغيرها، كما استمر صدور المجلت الدبية وكان
أشهرها في القدس: الروايات العربية. كما صدرت صحافة اقتصادية.
توقفت هذه الصحف جميعا في الحرب العالمية الثانية، ثم عادت للصدور لتتوقف ثانية مع حلول النكبة.
صارت القدس بعد النكبة تحت الحكم الردني وفها صدرت صحيفتا الدفاع وفلسطين، ثم الشعب
والمساء، كما صدرت الجهاد لسليم الشريف، والمنار لكامل الشريف والقدس، ثم البلد لبندلي داوود
العيسى.
مطلع عام سبعة وستين، صدر قانون جديد للمطبوعات في الردن، جرى بموجبه دمج العديد من
الصحف بعضها في البعض الخر. فحلت جريدة القدس محل الدفاع والجهاد.
وبرزت في هذه الفترة مجلة الهدف السبوعية لبرهان الدجاني ثم ليحيى حمودة، وعالجت موضوعات
سياسية و أدبية مركزة على الحفاظ على الشخصية الفلسطينية.
بعد الحتلل توقفت الصحف، ولكن الصهاينة، ولليهام بوجود الديمقراطية، شجعت الصحف على
معاودة الصدور، فعادت القدس إلى الصدور سنة ثمان وستين، والشعب سنة اثنين وسبعين، وصوت
الجماهير سنة ثلث وسبعين.
كما صدرت صحيفة الفجر عام واحد وسبعين وأصدر الصهاينة صحيفة يومية ناطقة باسمهم هي النباء
قاطعها الفلسطينيون فتوقفت عن الصدور.
أخضع الصهاينة الصحف العربية لرقابة صارمة، حيث كانت تخضع للرقيب العسكري.
كانت هذه الصحف تواجه مصاعب مالية أيضا، وخصصت لها أموال من لجنة دعم الصمود، لكن
معظمها توقف، واستمرت القدس فقط في الصدور حتى الن، بعد أن صدرت النهار لفترة ثم توقفت،
وكانت الصحف تواجه مصاعب أثناء النتفاضة الولى، جراء سياسة المصادرة وسحب التراخيص،
والمنع من الصدور.
إلى جانب الصحافة اليومية، ظهرت العديد من المجلت الدبية و السياسية و الفكرية، وأخرى
متخصصة.
وبعد قيام السلطة الفلسطينية، صدرت في الضفة صحيفتان يوميتان هما: الحياة الجديدة، واليام.
الكلية العربية في القدس
الكلية العربية في القدس.. هي أعلى المؤسسات التربوية الحكومية التي تم إنشاؤها خلل فترة الحكم
البريطاني.
تأسست في القدس عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر، وعرفت بدار المعلمين، لن غايتها كانت إعداد
المعلمين للعمل في المدارس البتدائية، وبعض الصفوف الثانوية.
ويذكر وليد راغب الخالدي، أنه تم وضع أساس مدرسة المعلمين في زمن الدارة العسكرية البريطانية
التي سبقت تحقيق حكومة النتداب، بواسطة ضباط عسكريين إنكليز، استعانوا بنخبة من الساتذة
المصريين وهم الذين وضعوا البذور الساسية للمشروع الذي عين له المربي خليل السكاكيني، أول
مدير معروف له، في أيلول من عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر.
ورغم مكانة السكاكيني كمربي، له فضل، إل أن الكلية نمت وتطورت، بوجود مديرها: أحمد سامح
الخالدي، أحد رجالت فلسطين المشهورين، والذي أعطى الكلية طابعا عربيا، بعيدا عن خدمة أهداف
السياسات النكليزية من وراء إنشائها. وتشير مصادر متعددة إلى أن الصداقة التي ربطت الخالدي،
بمدير المعارف في فلسطين، اليرلندي "جيروم فرل" كان لها أثر بالغ في النهوض بالكلية، مستفيدا من
حب فرل لفلسطين، وانعدام ميله لليهود.
، تولى الخالدي إدارة الكلية، وكانت ل تزال تعرف بدار المعلمين خلفا لسلفه خليل طوطح سنة 1925
الذي اتهمته سلطات النتداب بالعجز عن ضبط الطلب الذين قاموا بإضراب في ذكرى وعد بلفور.
وسنة ألف وتسعمائة وثمان وعشرين أصبحت الدار تحمل اسم " الكلية العربية الحكومية" وتحت إدارة
الخالدي الحازمة والعلمية تحولت إلى واحدة من أهم المؤسسات التعليمية، ليس في فلسطين وحسب، بل
في الوطن العربي حتى عام 1948 ، وكانت ذروة نظام التعليم العربي في فلسطين في الفترة من عام
ألف وتسعمائة وعشرين، حتى عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.
وإلى نظامها التعليمي المتميز، فإن طريقة اختيار الطلب، كانت ميزة أخرى لهذه المؤسسة.
نشأ نظام اختيار الطلب حسب ما يوضح وليد راغب الخالدي، من الجابة على سؤال: كيف يمكن أن
ينفق المال المخصص للتعليم لدى العرب على أحسن وجه، خصوصا وهو قليل، كما أن اليهود يزاحمون
عليه؟
في الجابة على السؤال وضعت إدارة المعارف مبدأ مهما جدا هو: "أن المال يجب أن ينفق على من هم
أهل للتعليم، ل فارق في ذلك بين غني وفقير، ول بين قروي ومدني".
هذا المبدأ يعني أن ينفق المال على الذكياء من الولد، ممن يتفوقون على غيرهم في تحصيل العلم.
يختارون، على أساس أفضل طالبين أو ثلثة ممن أنهوا الصف الثاني الثانوي في كل _ وهكذا كان طلبها
مدرسة حكومية بفلسطين، أي النخبة بين الطلب العرب في كل أنحاء فلسطين.
وفي الكلية يكمل الطالب دراسته الثانوية، ثم يتقدم لمتحان" المترك" الفلسطيني، وقد يقضي الطالب في
بعض أحوال خاصة سنة أخرى في صف تدريب المعلمين.
سنة ألف وتسعمائة وأربعة و ثلثين، انتقلت الكلية من مقرها المستأجر في حي باب الساهرة، إلى مبنى
جعل لها شعار، هو صقر عربي _ خاص بها على جبل المكبر إلى الجنوب الشرقي من مدينة القدس و
موشح باللوان الرئيسية الثلثة للعلم الفلسطيني.
لم يكن هذا النتقال، مجرد تغيير في المكان وحسب، بل عنى طورا جديدا في عمل الكلية، وبداية مرحلة
جديدة في التعليم عند العرب للتعليم الجامعي، ثم للتدريب على التعليم في المدارس الثانوية الولى.
في عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلثين أضيف إلى صفوف الكلية، الصف السادس الثانوي، حتى إذا
أنهى الطالب دراسته فيه، حصل على شهادة " النترميديت" في الداب أو العلوم بالضافة إلى دبلوم
التربية والتعليم النظري والعملي.
كان جميع طلب الكلية في الصفين الخامس والسادس الثانويين، يقدمون في نهاية المرحلة امتحانين،
أحدهما لنيل دبلوم الكلية العربية الذي يؤهلهم للتعليم، والثاني أكاديمي لنيل شهادة " النترميديت".
ويشترك طلب الفرعين العلمي والدبي في دراسة اللغتين العربية والنكليزية، عند تحضير
"النترميديت" فيما يختص طلب الفرع العلمي بدراسة الرياضيات بفروعها والكيمياء والفيزياء، في حين
يختص طلب القسم الدبي بدراسة الفلسفة والمنطق واللغة اللتينية أو اليونانية.
وكان الطلب يقومون بالتطبيق للدروس العملية في المدرسة العمرية في القدس.
شرعت الكلية قبيل النكبة في التحضير لمنح شهادة البكالوريوس الفلسطيني، إذ أن طلبها كانوا
يتوجهون لمتابعة التعليم في جامعات خارج فلسطين بشهادة المترك التي تؤهلهم لدخول الصف الول
الجامعي حسب النظام البريطاني، والثاني الجامعي حسب النظام الميركي، وكانت شهادة النترميديت
تعادل الصف الثاني الجامعي، ولكن وقوع النكبة أحبط الكلية، التي توقفت عن العمل مع انتهاء النتداب
البريطاني، ووقوع نكبة فلسطين.
امتازت الكلية بمكتبتها القيمة التي ضمت عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين نحو سبعة آلف كتاب.
إلى ذلك، فقد ارتبطت أسماء الكثير من المشاهير ورجال الفكر بهذه الكلية، فمن الذين علموا فيها:
اسحق موسى الحسيني، جميل علي، درويش المقدادي، سليم كاتول، عبد الرحمن بشناق، علي حسن
عودة، محمود الغول، مصطفى مراد الدباغ، معروف الرصافي، نقول زيادة، وصفي العنبتاوي، أحمد
طوقان، ضياء الدين الخطيب، وجورج خميس.
ومن طلبها الذين كانت لهم مساهمات فكرية وأدبية: نقول زيادة، أحمد سعيدان، إحسان عباس، أنيس
القاسم، توفيق صايغ، جبرا إبراهيم جبرا، خيري حماد، ذوقان الهنداوي، عبد اللطيف الطيباوي، عبد
ال الريحاوي، عرفان قعوار، محمد يوسف نجم، ناصر الدين السد، هاشم وعبد الرحمن ياغي.
ومن الذين آثروا في مجالت اخرى:
أسعد نصر، سالم خميس، منير صايغ، موسى بشوتي، قاسم حمد، عبد الرزاق اليحيى.
ويجدر القول مع وليد راغب الخالدي، أن خريجي المدرسة، قد صنعوا بعد النكبة، وبكفاحهم سدا منيعا
أمام العاصير التي واجهت الشعب الفلسطيني، وأسهموا إسهاما كبيرا في حفظ هويته.
الكلية التي تبلغ مساحتها سبعة وأربعين دونما وثلثة أرباع الدونم في جبل المكبر بالقدس، هي تحت
سيطرة الحتلل الصهيوني الن.
وتوجد لجنة تربوية فلسطينية، تعمل بإشراف بيت الشرق الفلسطيني، ومكونة من أساتذة وخريجي
الكلية العربية الصليين برئاسة سميح دروزه.
هذه اللجنة مكلفة على الصعيد الوطني المشاركة في استعادة أرض الكلية، ومن ثم تشغيلها
للفلسطينيين.
تحظى اللجنة بدعم طيف واسع من الممولين الفلسطينيين، وفي مقدمتهم عبد المجيد شومان، الذي
اشترط على ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، استعادة الموقع.
منذ أكثر من نصف قرن توقفت الكلية العربية، هذا الصرح التعليمي الكبير عن العمل، ومازال الكثيرون
من خريجيها يقدمون إسهامات كبيرة في الواقع الفلسطيني، ويحنون إلى عودتها، كي تكون محضنا
لجيال جديدة من الشعب الفلسطيني، الذي ل يزال يقاوم غزاة استهدفوا وجوده منذ البداية.
المنظمات المريكية لبناء الهيكل
حظيت المحاولت اليهودية لعادة بناء الهيكل المزعوم، بدعم جماعات الصهيونية المسيحية، كما تبنت
بعض هذه الجماعات، الدعوة إلى بناء الهيكل بما يفوق تطلع بعض التجاهات اليهودية إلى هذا المر.
عام ثمانية وثلثين وثمانمائة وألف، قام المبشر النكليزي نيكوليسون، بشراء قطعة ارض على جبل
الزيتون، بغية بناء هيكل انكليكاني في المكان.
ودعم البريطانيون المتحمسون للمشروع الصهيوني توجهات اليهود الصهاينة الداعية إلى هدم المسجد
القصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، غير أن أكثر التحركات كثافة في هذا التجاه، إنما جاءت من
الصهاينة المسيحيين في الوليات المتحدة، حيث يسيطر اتجاه أصولي يربط بين دعم المشروع
الصهيوني في فلسطين، ومجيء المخلص.
عام سبعة وستين قدمت مؤسسة ماسونية أمريكية طلبا لمحكمة الستئناف الشرعية السلمية، من أجل
الموافقة على بناء الهيكل في منطقة الحرم بكلفة مئة مليون دولر.
وفي اليوم التالي، تقدم مواطن أمريكي يدعى " غرايدي تيدي" بعرض للمجلس البلدي في القدس، لجمع
مئة مليون دولر من أمريكا لبناء هيكل سليمان إلى جانب مسجد قبة الصخرة.
وعام ثلثة وثمانين وتسعمائة وألف، أعلن في الكيان الصهيوني وفي الوليات المتحدة المريكية عن
تشكيل حركة تطلق على نفسها اسم: كيرن هارهابيت ومهمتها إعادة بناء الهيكل في موقع المسجد
القصى المبارك.
وبدأ في الوقت نفسه أمريكيون يهود حملة تمويل لبناء الهيكل. فيما كشف الشيخ سعد الدين العلمي،
مفتي القدس، في وقت لحق، عن أن طوائف يهودية متعصبة تساندها جمعيات مسيحية أمريكية تخطط
وتمهد لنسف المسجد القصى وقبة الصخرة.
ليست كيرن هارهيبت، سوى واحدة من المنظمات المريكية العاملة من أجل بناء الهيكل، فهناك جماعة
تطلق على نفسها اسم: المخلصون للهيكل، وجماعة أخرى تسمي نفسها " حركة مخلصي الهيكل" ولها
فروع في الوليات المتحدة المريكية، وفي فلسطين المحتلة، وقد أعدت تصاميم كاملة للبناء المفترض،
وتجمع بشكل متواصل التبرعات لجل تنفيذ المشروع.
وتتحرك على نطاق واسع، منظمة تسمي نفسها" مؤسسة الهيكل" وهي أعلنت في واشنطن سنة ست
وتسعين وتسعمائة و ألف، عن أنها جمعت ما يكفي من الموال، من مواطنين أمريكيين وكنديين، كي
تشرع في بناء الهيكل، وهي لم توضح، فيما إذا كانت قد جمعت هذه الموال من اليهود أم من غير
اليهود.
ل تكمن خطورة هذه الجماعات والمنظمات في الدعوات المستمرة لبناء الهيكل، ول في جمع الموال
لهذه الغاية وحسب، لكن أيضا في ما تخطط له وتقوم به من محاولت لنسف المسجد القصى أو إلحاق
الضرر البالغ به، على غرار ما قام به السترالي مايكل روهان من إحراق المسجد سنة تسع وستين،
ففي عام ثلثة وثمانين حاول الفرنسي البروتستانتي دان بيري نسف المسجد القصى، وهو أعلن أنه
مصر على تحقيق هذا الهدف.. وعلى غرار مائير كهانا يقول بيري إن القوات )السرائيلية( أخطأت
حين لم تهدم المساجد على جبل الهيكل سنة سبع وستين، وتقوم بتسليم حجارتها إلى العرب.
وعام ثمانية وتسعين، حذر الباحث في معهد القدس للبحاث " أمنون رامون" من قيام جماعات مسيحية
متطرفة بهدم مسجدي الحرم في الذكرى اللفية لميلد المسيح.
وقال رامون: "إن هؤلء أناس يؤمنون أن شروط عودة المسيح، هي إقامة مملكة يهودا وبناء الهيكل،
لذا فهم على استعداد لمساعدة الشعب اليهودي على هدم المساجد في الحرم القدسي".
يتحدث بعض أعضاء هذه الجماعات ومنهم أستاذ الفيزياء" أشير كوفمان" عن أنه أعد مخططا متكامل
لبناء الهيكل دون المس بالمساجد، وعندما سئل عن كيفية تحقيق ذلك، قال: إن المشروع قابل للتنفيذ
لن هذه إرادة ال.
أما دوغلس كرايجر، زعيم مؤسسة الهيكل المريكية فيقول: "إن عودة اليهود إلى جبل الهيكل، هي
جزء من مخطط الهي لن يستطيع المسلمون مقاومته أبدا" على حد قوله.
ويقول الشيخ رائد صلح، رئيس الحركة السلمية في الراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 ، "إن مئة
وعشرين جماعة متطرفة تبذل جهودا حثيثة لبناء الهيكل، من بينها خمس وعشرون منظمة متخصصة
بالعمل لهدم المسجد القصى".
تحت الحكم الردني
بعد حرب ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ونكبة فلسطين استولى الصهاينة على أكثر من ستة وستين
في المائة من المساحة الكلية لمدينة القدس، ولكن البلدة القديمة، وما فيها من مقدسات، وبعض الحياء
الخرى، ظلت بيد العرب، حيث كانت تتواجد في وحدات من الجيش العربي الردني، ورسمت اتفاقيات
خطوطا فاصلة بين الجانبين.
بعد مؤتمري عمان وأريحا التي ضمت بموجبها الضفة الغربية إلى المملكة الردنية، أصبحت القدس
العاصمة الروحية للردن ومركزا لمحافظة القدس.
أطلق على هذا الجزء من القدس اسم العربية، وسماها البعض القدس الشرقية، وقد اتخذت الحكومة
الردنية قرارا بعقد جلسات للحكومة فيها لتكريسها عاصمة، والحفاظ على عروبتها، بيد أن تنفيذ هذا
القرار لم يأخذ طابعا منتظما، وظل النشاط الحكومي متمركزا في العاصمة عمان، مع القيام بنشاطات
حكومية في القدس، على غرار قيام الملك حسين يترأس اجتماع للحكومة الردنية عقد في القدس سنة
ثلث وخمسين تأكيدا لتصريحاته باعتبار القدس العاصمة الثانية للردن.
وقيامه بعد ذلك بسنتين لزيارة المدينة، ولقاءه مع عدد كبير من شخصياتها في فندق المبسادور،
وترأسه اجتماعا آخر للحكومة.
وفي عام تسعة وخمسين، قام حسين بافتتاح دار الذاعة في المدينة المقدسة، وترأس أيضا اجتماعا
للحكومة فيها، وتكرر في العام التالي.
في أوسط ستينيات القرن الماضي، بدأ التفكير العربي يتجه نحو جعل القدس مقرا لجتماعات إتحادات
ومنظمات قومية، وبالفعل فقد عقد الطباء العرب مؤتمرا لهم في المدينة سنة تسعة وأربعين ثم عقد
المحامون مؤتمرهم العام الثاني في القدس أيضا تلهم الصيادلة العرب في العام التالي، وأعلن الدكتور
محمد مطاوع، رئيس مؤتمر الصيادلة عن اتخاذ القدس مدينة للمؤتمرات العربية لقدسيتها، ولتقوية
الدفاع عن عروبتها.
اعتبرت الحكومة الردنية القدس واحدة من المحافظات التي تشكل الممكلة الردنية الهاشمية وتكن على
غرار عمان، تم تشكيل أمانة للمدينة إلى جانب البلدية، وذلك لبراز مكانتها الموازية للعاصمة.
وجرى إيلء الوقاف وتنظيمها اهتماما خاصا يتناسب مع طبيعة الوقاف السلمية الموجودة في
القدس. كما أولت الحكومة اهتماما في عمليات إصلح وترميم الحرم القدسي، بمسجديه القصى وقبة
الصخرة.
بعد قيام الصهاينة باحتلل القدس سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، اعتبر الردن القدس مثل باقي
مدن الضفة الغربية، من ضمن الراضي الردنية المحتلة، كما اعتبر أنه المسئول عن الراضي، مع
إشارات بين الفينة والخرى، إلى أن القدس سوف تكون عاصمة القطر الفلسطيني، على غرار
تصريحات الملك حسين عام اثنين وسبعين، بيد أن الردن، قد تحفظ على القرار الماضي باعتبار منظمة
التحرير ممثل شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني سنة ثلثة وسبعين، ثم أزيل هذا التحفظ لحقا.
ومع اندلع النتفاضة الشعبية أعلن الردن عن فك الروابط القانونية والدارية مع الضفة الفلسطينية،
باستثناء الوقاف السلمية، والشراف على المقدسات ما عنى تمسكا بإبقاء الروابط مع القدس.
وعند توقيع معاهدة وادي عربة مع الصهاينة أصر الردن على تضمينها فقرة تنص على تولي الردن
رعاية الماكن المقدسة في المدينة، ما أثار تحفظا فلسطينيا، رد الردن عليه باستعداده نقل الوصاية
الردنية إلى السلطة الفلسطينية، عندما يتوصل الطرفان الفلسطيني والصهيوني إلى اتفاق نهائي حول
المدينة وفي وقت من الوقات عين الردن مفتيا للقدس كما عينت السلطة مفتيا آخر إلى أن بدأت
الحكومة الردنية تفك ارتباطها تدريجيا بالوقاف السلمية في المدينة.
تدنيس الحرم القدسي
بدأ الصهاينة عدوانهم على الحرم القدسي عام سبعة وستين باستهداف حائط البراق وسرعان ما نقلوا
هذا العدوان إلى الحرم القدسي مستهدفين اقتحامه عشرات المرات، والتي كانت أولها في آب من عام
سبعة وستين عندما وقعت مواجهات عنيفة بين الشبان المقدسيين وقوات الحتلل بسبب دخول
صهيونيات إلى الحرم بصورة خليعة.
عقب هذه الحادثة وضعت الحاخامية اليهودية إشارات خارج منطقة الحرم، تحدد المناطق التي يحظر
على اليهود دخولها وفق تعاليم الشريعة اليهودية، لكن الصهاينة تخطوا باستمرار هذه الحدود لن
هدفهم هو السيطرة على الحرم، وقام الحاخام شلومو غورين بقيادة مجموعة من الجنود إلى داخل
الحرم وأداء الصلوات هناك مع النفخ بالبوق والرقص.
مع تصاعد الحتجاجات والعتراضات الفلسطينية، ظهرت أصوات في الوساط الصهيونية تذكر بالحظر
على اليهود دخول منطقة الحرم لسباب تتعلق بالشريعة اليهودية، ولكن زعماء صهاينة منهم موشيه
دايان قادوا جموعا يهودية في عملية اقتحام للحرم القدسي سنة تسع وستين.
بعد ذلك تولت جماعات صهيونية مثل "بيتار وغوش ايمونيم وكاخ وأستاذ جبل الهيكل" عمليات القتحام
للحرم القدسي، وقاد تحركات بعض هذه الجماعات أعضاء كنيست صهاينة.
حدثت محاولت اقتحام الحرم على فترات متباعدة حتى النصف الثاني من السبعينات، عندما أعلنت دوث
أود، وهي قاضية في المحكمة المركزية الصهيونية في القدس أن من حق اليهود آداء صلواتهم داخل
الحرم.
شهدت الفترة من نهاية السبعينات وحتى أواسط الثمانينات، نشاطا مكثفا جدا من محاولت اقتحام
الحرم، والدخول إليه أحيانا، على يد الجماعة المسماة أمناء جيل الهيكل، وعادة ما تصدى المواطنون
الفلسطينيون لهذه المحاولت، وتدخلت الشرطة الصهيونية مطلقة النار عليهم، في حوادث متكررة أسفر
أحدها عام تسعة وسبعين إلى إصابة العشرات من المواطنين الفلسطينيين بالرصاص.
وشهد عاما ثمانين وواحد وثمانين، اشتباكات شبه أسبوعية بين المواطنين الفلسطينيين والصهاينة
الذين يريدون دخول الحرم القدسي الشريف.
واستخدم الصهاينة هذه الفترة، سياسة توجيه رسائل تهديد إلى مسئولين عن الوقف السلمي بالقتل إن
هم استمروا في الحض على منع اليهود من دخول الحرم.
بلغت العتداءات الصهيونية على الحرم عام ستة وثمانين حدا غير مسبوق، بدأه وزير الصناعة
والتجارة في الحكومة الصهيونية، آرئيل شارون، باقتحام ساحة الحرم مع اثنين من مساعديه، وفي
اليوم الثاني قام أعضاء كنيست صهاينة بالدخول إلى الحرم وتصدى لهم المواطنون الفلسطينيون، ما
فجر مواجهات عنيفة مع قوات الحتلل، وأصدر الحاخامون الرئيسيون في الكيان الصهيوني، فتوى
أكدوا فيها أنهم ل يمانعون قيام أعضاء كنيست بدخول منطقة الحرم. كما أصدر شلومو غورين، فتوى
خاصة داعمة لفتوى الحاخامات قال فيها: "انه بسبب سيطرة السماعيليين، ويقصد العرب، الذين
يتصرفون في الحرم وكأنهم في بيوتهم، فإنه يسمح لليهود بدخول المنطقة رغم بعض التحفظات الدينية.
وهكذا شهد العام ستة وثمانين، موجة كبيرة من عمليات اقتحام الحرم، تزعمها بشكل أساسي أعضاء
الكنيست الصهاينة، والذين طالبوا بقرار حكومي يجعل الدخول إلى الحرم مباحا لكل اليهود.
وسقط خلل العام المذكور مئات من الجرحى الفلسطينيين وعدد من الشهداء، وهم يدافعون عن الحرم
القدسي في وجه محاولت النتهاك المتكررة، وسعي شرطة الحتلل لحباط مقاومة المواطنين لتلك
المحاولت.
وفي حادثة واحدة عام سبعة وثمانين، سقط خمسون جريحا فلسطينيا دفعة واحدة في وجه حشود
صهيونية حاولت اقتحام الحرم، وتمكن المقدسيون من حماية الحرم ومنعوا الصهاينة من دخوله.
عام تسعة وثمانين، بدأت شرطة الحتلل تمنح موافقات رسمية للجماعات الصهيونية التي تريد دخول
الحرم، ما عنى أنها مستعدة لحماية دخولهم، ولكن المواطنين استمروا في تصديهم لهذه المحاولت،
حتى أنهم قدموا اثنين وعشرين شهيدا عام تسعين في تصديهم للصهاينة الذين أرادوا انتهاك حرمة
القصى والحرم الشريف.
ومع الوقت استمرت المحاولت، واستمر التصدي وازداد عدد الشهداء.. وفي العام خمسة وتسعين
منحت المحكمة العليا في الكيان الصهيوني موافقات لجماعات يهودية بدخول الحرم، وتكرر المشهد مرة
أخرى من العتداءات والتصدي، حتى أن الشبان أمضوا في أوقات كثيرة من عام خمسة وتسعين الليل
داخل المسجد لحمايته.
عام ستة وتسعين، أصدر المستشار القضائي للحكومة قرارا يسمح بموجبه للصهاينة أداء صلوات داخل
الحرم، وتصدى المقدسيون للمحاولت الجديدة إذ ليس الصهاينة هم من يقرر السماح لحد بالصلة
داخل الحرم.
ومع فشل المحاولت المتكررة في ثني المقدسيين عن تصديهم، عاد الصهاينة إلى الدعوة لتقاسم الحرم،
وجاءت الدعوة المتجددة عام ألفين وواحد على لسان الرهابي موشيه كتساب رئيس الكيان الصهيوني
ومرة أخرى أعلن المقدسيون رفضهم لي تدنيس لحرمة الحرم القدسي الشريف..
ترميم كنيسة القيامة
شهدت كنيسة القيامة العديد من عمليات إعادة البناء والترميم أما بسبب ما خلفته الظروف الطبيعية
على بنائها الصلي، أو بسبب التقادم وعمليات التوسعة غير ذلك.
وغالبا ما اصطدمت عمليات الترميم والتوسعة والضافات، بخلفات الطوائف المسيحية التي تملك
حصصا في الكنيسة، وذلك تأثرا بخلفات كانت تنشأ في أوروبا أساسا، فسنة ألف وثمانمائة واثنين
وخمسين تصاعد الخلف الروسي/الفرنسي حول ما أطلق عليه حماية طائفتي اللتين من قبل فرنسا
والرثوذكس من قبل روسيا، ووقع اصطدام بالصلبان والقنابل بين رهبان الطائفتين، فأصدرت الحكومة
العثمانية فرمانا موجها إلى والي القدس بوجوب المحافظة على ما أطلق عليه الوضع الراهن في كنيسة
القيامة وكانت التوسعات وعمليات التزيين تتم في إطار الوضع الراهن الذي تمتلك فيه كل طائفة حصة
في الكنيسة.
ومنذ بداية القرن الماضي، برزت الحاجة إلى إجراء إصلحات ملحة في الكنيسة، بعد أن تعرضت
لحريق سنة ألف وتسعمائة وثمان، وبعد الزلزال الذي شهدته فلسطين سنة ألف وتسعمائة وسبع
وعشرين.
نصبت السقالت على جدران الكنيسة سنة ألف وتسعمائة وخمس وثلثين، وعطلت خلفات رجال الدين
إتمام الصلحات المطلوبة، فقامت حكومة النتداب البريطاني بإجراء ترميم عاجل خشية انهيار الكنيسة
متجاهلة خلفات الطوائف المسيحية.
ولكن حريقا أخر شب في الكنيسة في عام تسعة وأربعين ما أوجب القيام بالترميم من جديد، ولكن
السقالت ظلت قائمة دون قيام العمل بسبب الخلفات، واحتاج المر إلى أحد عشر عاما قبل التفاق سنة
ألف وتسعمائة وستين على إجراء إصلحات محدودة في البناء، وبعد تسعة عشر عاما أخرى، تم
التفاق على إجراء إصلحات في القبة التي يبلغ قطرها خمسة وثلثين مترا.
وفقط في العام ألف وتسعمائة وخمسة وتسعين توصلت الطوائف المسيحية إلى اتفاق تاريخي لتخطيط
أعمال الترميم وتنفيذها، بعد خلف استمر عشرات السنين بين الروم الرثوذكس والروم الكاثوليك،
وانطلقت عمليات الترميم التي تتضمن تزين القبة التي غطتها طبقة سوداء على مر السنين باثني عشر
شعاعا ذهبيا، كل منها ثلثي تمثل الرسل والثالوث القدس، على خلفية من الحساب بلون اللؤلؤ ورفض
الكاثوليك رغبة الرثوذكس بتزين القبة بالفسيفساء القرب إلى روح الشرق.
الصهاينة الذين استهدفوا كنيسة القيامة بأكثر من اعتداء أبرزها كان التي وقعت عام ألف وتسعمائة
وواحد وسبعين، وألف وتسعمائة وثلثة وسبعين، حاولوا الدخول على خط أعمال الترميم الجارية في
الكنيسة لتحقيق أهداف خاصة بهم.
ففي عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين عينت الحكومة الصهيونية لجنة وزارية خاصة للتخطيط لما
سمته فتح باب طوارئ في كنيسة القيامة يعمل في حال وقوع حادث ما داخل الكنيسة.
وقد باشرت اللجنة الصهيونية اجتماعات مع ممثلي الطوائف المسيحية في بيت المقدس للغرض المعلن،
ولكن الذي تبين هو أن السلطات الصهيونية، تحاول نزع مفاتيح كنيسة القيامة من أيدي المسلمين،
وهي موجودة بحوزتهم منذ ثمانمائة سنة حيث أودعتها لديهم الكنيسة القبطية الثيوبية مع ما ينطوي
عليهم هذا المر من إعادة الخلفات على نقطة أخرى، كانت قد أصبحت عرفا توافق عليه الجميع.
جيش الجهاد المقدس
مر تشكيل جيش الجهاد المقدس في القدس بمرحلتين، الولى عام ألف وتسعمائة وستة وثلثين، حيث
تنادى قادة المنظمات العسكرية السرية في فلسطين إلى اجتماع في القدس، وقرروا جمع صفوفهم في
جيش واحد، أطلقوا عليه اسم جيش الجهاد المقدس وعهدوا بقيادته إلى المجاهد عبد القادر الحسيني.
وفي أيار من العام نفسه، اندفعت فصائل الجيش إلى أماكن جبلية اختيرت لتكون مراكز انطلقها وأطلق
عبد القادر الرصاصة الولى إيذانا بالثورة وذلك في قرية سوريك شمال غرب القدس.
خاض الجيش على مدى سنوات الثورة، مع من انضم إليه من المجاهدين العرب، معارك مشرفة ضد
قوات الحتلل البريطاني، والصهاينة، لعل أبرزها معركة الخضر، في سنة النطلقة، فضل عن مهاجمة
الحتلل البريطاني وعن نشاط فرقة التدمير، بقيادة فوزي القطب، التي نسفت الجسور والعيارات
وخطوط السكك الحديدية وبعض طرق المواصلت وعطلت خطوط الهاتف وأنبوب نفط العراق الواصل
إلى حيفا.
في عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلثين، استطاع جيش الجهاد المقدس أن يسيطر على الريف الفلسطيني
وعلى الكثير من المدن الرئيسية، ومنها القدس القديمة، وفي العام التالي، خاض معركة كبيرة شملت
احتلل مستوطنات يهودية ومراكز بريطانية.
جند البريطانيون قوات كبيرة لمهاجمة المجاهدين الذين جابهوا البريطانيين في معارك عدة، وأوقعوا
بهم خسائر كبيرة، فظل الحال كذلك إلى أن انتهت الثورة عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلثين، أما في
المرحلة الثانية من تشكيل الجيش فكانت في عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، حيث بدأ عبد القادر
الحسيني، إعادة تنظيم صفوف الجيش في قربة صوريف بالخليل، وعقب ذلك اجتماع في القدس، تم فيه
العلن عن تشكيل قوات الجهاد المقدس، كقوة ضاربة لتحرير فلسطين والمحافظة على وحدة أراضيها
والبقاء على عروبتها، وتتبع هذه القوة الهئية العربية العليا لفلسطين.
تشكلت القيادة من عبد القادر الحسيني رئيسا وكامل عريقات نائبا للرئيس، وقاسم الريحاوي أمينا
للسر، ومفتشين للشؤون العسكرية والدارية.
وقد عين لكل قطاع قائد يتلقى أوامره من القيادة، ومن القادة البارزين حسن سلمة وإبراهيم أبو دية،
إضافة إلى عدد من الضباط السوريين والعراقيين واللبنانيين.
توزعت قوات الجهاد المقدس ما بين مجندين مقاتلين وهم الذين يقع عليهم عبء العمل الحادي اليومي،
ومجندين مرابطين، وهم الموكلين حماية القرى، وفصيل التدمير، وفصيل الغتيال المكلف متابعة
العملء والسماسرة والعناصر النكليزية التي تسهل الستيطان الصهيوني وتعادي عروبة فلسطين.
بذلت قوات الجهاد المقدس جهودا هائلة للحصول على السلحة، ومن ذلك أنها أرسلت بعثات لجميع
السلحة المتخلفة عن معركة العلمين في الصحراء المصرية، وكذلك إلى ليبيا، لصلحها ووضعها
بالستعمال.
وعقدت صفقة تسلح مع المصانع التشيكية باسم الحكومة السورية، لكن الصهاينة أحبطوا هذه الصفقة.
مع اشتداد المعارك في فلسطين، أعيد تنظيم قوات الجهاد المقدس، وتوزيعها على سبع مناطق تغطي كل
فلسطين.
تولى قيادة منطقة القدس المجاهد عبد القادر الحسيني، الذي برع في تنظيم الدفاع عن القدس وفي شن
الهجمات الموفقة على الصهاينة ومراكز البوليس البريطاني في المدينة.
وقد بلغ من شدة الضغط الذي مارسه على المستوطنين الصهاينة في أحياء القدس أن خرج هؤلء في
مظاهرات يطالبون قادتهم بالستسلم وبالعتراف بفشل إقامة دولة يهودية في فلسطين وهو خاض
ببسالة منقطة النظير معركة القسطل التي استشهد فيها.
بعد استشهاد الحسيني اجتمع قادة سرايا قوات الجهاد المقدس في القدس مجددا وأسندت القيادة إلى
المجاهد خالد الحسيني.
في كانون أول من عام ثمانية وأربعين، أصدرت السلطات الردنية أمرا بحل قوات الجهاد المقدس، لكن
القوات ظلت قائمة في مراكزها إلى أن أصدرت الهيئة العربية العليا، قرارا بحلها في عام تسعة
وأربعين..
في قرارات الجمعية العامة للمم المتحدة
مثلما كان الحال مع القرارات المتكررة من مجلس المن، بشأن القدس والقضية الفلسطينية، فإن
الجمعية العامة للمم المتحدة قد أصدرت قدرا ل يستهان به من القرارات أيضا. وإذا كان الفيتو
المريكي قد عرقل الكثير من قرارات مجلس المن، فإن الجمعية العامة افتقدت إلى اللية التنفيذية
المناسبة لقراراتها أيضا.
عدا عن قراراتها الشهيرة مثل القرار مئة وواحد وثمانين، لعام سبعة وأربعين، ومائة وأربعة وتسعين
لعام ثمانية وأربعين، وتلك الخاصة بمجلس الوصاية، فقد أصدرت الجمعية العامة عددا كبيرا من
القرارات الخاصة بالقدس.
ففي عام ثمانية وأربعين، خولت الجمعية العامة في قرارها رقم مئة وستة وثمانين، وسيطا تختاره لجنة
من الجمعية العامة، تخوله سلطة القيام بعدد من المهمات من بينها تأمين حماية الماكن المقدسة،
والمباني والمواقع الدينية في فلسطين ونص قراراها رقم مئة وأربعة وتسعين على تشكيل لجنة توفيق،
لنفاذ قرار التقسيم رقم مئة وواحد وثمانين الذي نص أيضا على نظام دولي خاص في القدس. عام
تسعة وأربعين تبنت الجمعية العامة قرارا بفتح اعتماد لوضع نظام دولي دائم للقدس، قامت بإلغائه في
العام التالي.
حرصت الجمعية العامة لحقا على تثبيت الهدنة في القدس، وتعاملت مع الشكاوى الردنية والصهيونية
حول خرق الهدنة على الحدود التي اعتمدت في اتفاقية الهدنة.
استمر المر كذلك حتى عام سبعة وستين، حين اتخذت الجمعية العامة قرارا يطلب إلى الكيان
الصهيوني، المتناع فورا عن اتيان أي عمل من شأنه تغيير مركز القدس وطبيعتها. وهو ما كررته في
العام نفسه، لتعرب لحقا عن السف، إزاء عدم التزام الكيان الصهيوني بدعوة المم المتحدة في
قراريها، اللذين حمل رقمي ألفين ومائتين وثلثة وخمسين، وألفين ومائتين وأربعة وخمسين على
التوالي.
كلف المين العام للمم المتحدة مبعوثا خاصا بالتحقق مما يجري في القدس، وقدم تقريرا يفيد بأن
الكيان الصهيوني يعمل على ضم القدس، وأنه أبلغ مبعوث المين العام، أن ل رجعة عن هذا القرار،
وهو ما أبلغه المين العام إلى مجلس المن ولم يملك الطرفان سوى العراب عن السف والطلب إلى
الكيان عام ثمانية وستين عدم إجراء عرض عسكري في القدس. المر الذي رفضه الكيان الصهيوني،
ولم تملك الجمعية العامة، ما تقوله غير السف واللوم.
ثابرت الجمعية العامة، على تجديد قراراتها التي تدعو الصهاينة إلى عدم إجراء تغييرات في القدس،
وعلى اعتبار تلك الجراءات باطلة وغير مقبولة، وهو ما حدث أيضا عام ثمانين عندما سن الصهاينة
ما أسموه "قانونا أساسيا للقدس" اعتبروا فيه القدس موحدة وعاصمة للكيان الصهيوني.
طلبت الجمعية العامة في قرارها الذي أصدرته عام ثمانين، إلغاء الجراءات الصهيونية فورا، وجوبهت
بالرفض، لكنها ثبتت عدم اعترافها بما اسماه الصهاينة القانون الساسي للقدس.
كررت الجمعية العامة طلبها بإلغاء هذه الجراءات مرارا عام واحد وثمانين وعام اثنين وثمانين، الذي
شهد أيضا إصدار قرار يطالب الكيان الصهيوني بالموافقة على القرار الخاص بإنشاء جامعة القدس،
وإلغاء الجراءات التي وضعها في طريق تنفيذ هذا القرار، وجددت الجمعية العامة طلبها هذا عام ثلثة
وثمانين لمرتين متتاليتين، وعام أربعة وثمانين أيضا.
عام خمسة وثمانين، حاولت المجموعة العربية ومجموعة من الدول السلمية، أن تنقل الجمعية العامة
إلى مرحلة ما من الفعل، حين طلبت من رئيس الجمعية العامة عدم قبول أوراق تفويض المندوب
الصهيوني إلى المم المتحدة، لكونها صادرة في القدس، التي يعتبرها الصهاينة عاصمة لهم في مخالفة
صريحة لقرارات الجمعية العامة.
وافقت ثمانون دولة على هذا الطلب، لكن تدخل أمريكيا أحبطه. ثابرت الجمعية العامة عام خمسة
وثمانين أيضا على مطالبة الصهاينة بالموافقة على تنفيذ القرار الخاص بجامعة القدس للجئين وكذلك
عام تسعة وثمانين وفي العوام التي تلته حتى عام تسعة وتسعين دون أن يستجيب الصهاينة.
وهو ما كان أيضا شأن المطالبة بإلغاء القانون الساسي للقدس، ووقف التغييرات التي يقوم بها
الصهاينة في المدينة.
الجمعية العامة طالبت الدول العضاء في المنظمة الدولية بعدم نقل بعثاتها الدبلوماسية لدى الكيان
الصهيوني إلى القدس، وهو ما حققت فيه الجمعية العامة نجاحا جزئيا، وإن كانت عادت لتعرب عن
السف لوجود بعض البعثات الدبلوماسية في القدس مطالبة بسحبها.
عام ألفين صوتت الجمعية العامة بأغلبية مئة وخمسة وأربعين صوتا مقابل صوت واحد هو صوت
الكيان الصهيوني على قرار يعتبر محاولت الكيان الصهيوني فرض قانون وإدارته ووليته القضائية
على القدس باطلة.
وهي دانت في العام نفسه تعديات الصهاينة على الفلسطينيين .. وبقيت القرارات قرارات.
منظمة المؤتمر السلمي
أدت جريمة إحراق المسجد القصى المبارك على يد الصهاينة سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين إلى
انبثاق منظمة المؤتمر السلمي إلى حيز الوجود، بحيث يكون مدار جهدها وعملها إنقاذ القدس والحرم
القدسي الشريف مما يتعرضان له من تدنيس وتهويد على يد الصهاينة.
انعقد الجتماع الول في العاصمة المغربية الرباط، بعد نحو شهر على جريمة إحراق القصى، وذلك
على مستوى القمة، بيد أن الحتجاج لم يسفر عن آلية محددة للعمل، ونتج عنه موقف يقول: "أن
رؤساء الدول والحكومات والممثلين يعلنون أن حكوماتهم وشعوبهم عقدت العزم على رفض أي حل
للقضية الفلسطينية ل يكفل لمدينة القدس وضعها السابق" على عدوان حزيران.
اتخذت منظمة المؤتمر السلمي طابع إطار منتظم يعقد اجتماعه عادة إما على مستوى وزراء خارجية
الدول السلمية وإما على مستوى القمة، وبحسب القرار المتخذ في الجتماع الول، ينبغي أن تتسم
اجتماعات القمة بالدورية ،مرة كل سنة.
انعقد المؤتمر الثاني في كراتشي بالباكستان سنة ألف وتسعمائة وسبعين، فدان عمليات تدنيس المسجد
القصى واعتبر يوم الحادي والعشرين من آب لسنة أحدى وسبعين، يوم المسجد القصى المبارك، وعند
انعقاده في هذا التاريخ بجدة، اعتبر مؤتمر منظمة المؤتمر السلمي، أنه ل سبيل لعادة السلم والمن
إلى الشرق الوسط إل بتحرير بيت المقدس والنسحاب الكامل من الراضي العربية المحتلة وإعادة
الحقوق المغتصبة لشعب فلسطين.
كرر المؤتمر سنة اثنين وسبعين قراراته السابقة، وسنة ثلث وسبعين جرت المطالبة ببذل مزيد من
الجهد لوقف تهويد القدس.
عاد المؤتمر ليلتئم على مستوى القمة في لهور بالباكستان سنة أربع وسبعين، وظهرت دعوات لعلن
الجهاد المقدس لتحرير بيت المقدس، فيما نص البيان الختامي على أن الدول السلمية لن تقبل بأي
اتفاق يتضمن استمرار احتلل الصهاينة للقدس أو وضعها تحت سيادة غير عربية.
تم تأكيد هذا الموقف في اجتماعات لحقة على مستوى وزراء الخارجية، الذين رفضوا في اجتماع لهم
في فاس بالمغرب سنة تسع وسبعين اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والصهاينة مؤكدين على الحق
السلمي في القدس.
انعقدت اجتماعات وزراء الخارجية بشكل عادي سنة ثمانين في إسلم أباد، ثم عادت لجتماع طارئ في
عمان بسبب الحفريات التي يقوم بها الصهاينة.
وعادت للنعقاد مجددا في العام نفسه في مدينة فاس، عقب إعلن الصهاينة القدس عاصمة أبدية لهم
ومما جاء في مقررات مؤتمر فاس: "تعلن الدول السلمية التزامها بالجهاد المقدس، بما يتضمنه من
أبعاد إنسانية على اعتبار أنه صمود ومجابهة ضد العدو الصهيوني في جميع الجبهات عسكريا وسياسيا
واقتصاديا وإعلميا وثقافيا."
وقرر وزراء الخارجية تصعيد أنشطتهم في المم المتحدة والمحافل الدولية لمجابهة القرار الصهيوني
الجديد.
حملت دورة انعقاد مؤتمر المنظمة سنة إحدى وثمانين اسم دورة القدس وفلسطين، وتوزعت جلساتها
مابين مكة والطائف في السعودية، لتصدر بيانا ختاميا يؤكد اللتزام بتحرير القدس لتكون عاصمة للدولة
الفلسطينية، ويشدد على رفض اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، مطالبا بعدم نقل أي سفارة
إليها، ومهددا بقطع العلقات مع أي دولة تنقل سفارتها إلى المدينة المقدسة.
جرى التأكيد على هذه القرارات في دورات الجتماع اللحقة لوزراء الخارجية، وكذلك في القمة السابعة
في الدار البيضاء سنة أربع وتسعين. وسنة سبع وتسعين صدر إعلن طهران عن القمة الثامنة وفيه
تأكيد العزم والتصميم على استعادة مدينة القدس الشريف وحرم المسجد القصى، ورفض نقل السفارات
الدول لجنبية إلى القدس، ورفض كل التغييرات التي أجراها الصهاينة في المدينة المقدسة.
أطلقت على دورة النعقاد في الدوحة سنة ألفين تسمية دورة انتفاضة القصى، وفي قرارات المؤتمر
دعم للنتفاضة ورفض للقرارات الصادرة عن الكونغرس المريكي بالعتراف بالقدس عاصمة للكيان
الصهيوني وتمسك باستعادة القدس عربية مسلمة.
موقف التحاد الوربي
لم يكن موقف الدول الوربية موحدا دوما إزاء القدس، وإن كانت تنظمه عناوين عامة مثل رفض
العتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، والميل إلى إيجاد حل عبر التفاوض في المدينة.
وإذا كانت فرنسا في مواقف عديدة، تمثل تعبيرا جديا عن الموقف الوربي بعناوينه تلك، فإن بريطانيا
تعبر عن انحياز واضح للموقف الصهيوني.
ففي عام ثلثة وخمسين تسلح الكيان الصهيوني بموقف بريطاني ليعلن أنه لن يقبل سفراء أو وزراء
مفوضين ل يقدمون أوراق اعتمادهم في القدس، وذلك بعد أن صرح الناطق الرسمي البريطاني آنذاك
بأن تقديم أوراق العتماد إلى السلطات )السرائيلية( في القدس ليس معناه حتما العتراف بالقدس
عاصمة )لسرائيل(.
وفي العام التالي قدم السفير البريطاني الجديد أوراق اعتماده إلى الصهاينة في مدينة القدس.
طرأت تغيرات تدريجية على الموقف الوربي من مدينة القدس، مع انطلق الحوار العربي الوربي بعد
حرب سنة ثلثة وسبعين. ففي عام ثمانية وسبعين، صدر بيان مشترك عن اللجنة العامة للحوار طالب
الكيان الصهيوني بالقلع فورا عن القيام بأي عمل من شأنه أن يؤدي إلى تغير في الوضع القانوني أو
الصيغة الجغرافية أو التركيب السكاني للراضي المحتلة عام سبعة وستين بما في ذلك القدس.
وعام ثمانين، صدر ما يعرف بالعلن الوربي الذي اعتبر أن ما أسماه السلم العادل يقضي بانسحاب
الصهاينة من الراضي التي احتلت عام سبعة وستين. وأعلن رفض دول التحاد الوربي الجراءات
الصهيونية في القدس المحتلة ورفضها أيضا إقامة المستوطنات.
اعتبرت بعض الطراف العربية الموقف الوروبي تطورا كبيرا، فيما نظر إليه آخرون على أنه غير
كاف، خاصة فيما يتعلق بالقدس.
أدت النتفاضة الشعبية الفلسطينية عام سبعة وثمانين إلى أحداث تأثير واسع في الرأي العام الوربي،
وصاعدت من اهتمامه بقضية فلسطين وتبين حقائقها. لكن التحولت المتلئمة مع هذا التأثير ظلت على
وتيرتها البطيئة السابقة.
ومع ذلك ازدادت النتقادات الصهيونية للدول الوربية التي ل تظهر انحيازا كامل للكيان الصهيوني.
وبقيام عدد من المبعوثين الوربيين والسفراء بالجتماع إلى فيصل الحسيني، ومسئولين فلسطينيين
آخرين في بيت الشرق، أرسلت الحكومة الصهيونية، بمذكرة إلى الرئاسة اللمانية للتحاد الوربي،
اعتبرت فيها القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني وطالبت بعدم قيام شخصيات أوربية بالجتماع إلى
فلسطينيين في بيت الشرق.
رفض الوربيون مضمون هذه المذكرة، وأدانوا استمرار مصادرة الراضي في القدس، فهدد الصهاينة
باتخاذ إجراءات عقابية ضد الوربيين الذين يزورون بيت الشرق.
وفي عام خمسة وتسعين رفض الوربيون المشاركة في احتفالت "القدس ثلثة آلف عام" التي أقامها
الصهاينة، وقال ممثلو التحاد الوربي إن المشاركة الوربية في الحتفالت قد تفسر على أنها دعم
لسياسة الصهاينة تجاه المدينة.
ومع اتخاذ الكونغرس المريكي قرارا بنقل السفارة إلى القدس اعتبر الوربيون أن القرار يعرض ما
سموها عملية السلم إلى الخطر وأعلنت دول أوربية أنها لن تحذو حذو الوليات المتحدة.
عاود الصهاينة إثارة موضوع زيارة مسئولين أوربيين إلى بيت الشرق، حتى أن الرئيس الفرنسي جاك
شيراك تعرض لتحرشات رجال المن الصهاينة لدى جولة له في شرقي القدس، عقب وصف وزيره
"هيرف غيمارد" القدس الشرقية بأنها أرض محتلة. وفي تصريحات له شدد شيراك على أن القدس
الشرقية يجب أن تصبح عاصمة للدولة الفلسطينية وفي رد جديد على المطالبات الصهيونية للوربيين
عدم الجتماع مع مسئولين فلسطينيين في القدس، قالت الرئاسة الوروبية سنة تسع وتسعين "أن
للقدس وضعا خاصا، وأن التحاد الوربي يعتبر هذا الوضع خاصا من جهة القانون الدولي، وبالتالي ل
يقر بالقدس عاصمة موحدة )لسرائيل(.
رغم هذا الموقف المعلن، فإن الوزراء الوروبيين رضخوا للضغوط الصهيونية، وسنة تسع وتسعين
اجتمع وزير الخارجية الفرنسي "هوبير فدرين"، إلى فيصل الحسيني، في المشفى الفرنسي في القدس
بدل بيت الشرق.
ثابر الموقف الوروبي على انتقاد بناء المستوطنات في القدس، ورفض العتراف بها عاصمة للكيان
الصهيوني، لكنه لم ينتقل إلى ترجمة عملية لرؤياه، إذ ظل في الجانب العملي يرضخ للضغوطات
الصهيونية.
موقف البابا شنودة الثالث
سجل البابا شنودة الثالث، بابا السكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية، على الدوام موقفا ثابتا رافضا
لتهويد القدس، أو القبول بالسيادة الصهيونية عليها، وكان للبابا شنودة موقف تاريخي من التسوية مع
العدو في كامب ديفيد، تعرض بسببها لحقا إلى مضايقات من السادات، ومع ذلك أعلن ومازال رفضه
للتطبيع مع العدو وحرم على رعاياه القباط الذهاب إلى القدس وهي تحت الحتلل الصهيوني، وقال:
"لن ندخل القدس إل مع إخواننا المسلمين بعد تحريرها."
ولراعي الكنيسة القبطية، آراء متقدمة في إدارة الصراع مع العدو، إذ يدعو العرب إلى الوحدة لنقاذ
القدس مؤكدا أن قرارات المم المتحدة ليس لها سوى تأثير أدبي، وأن الحل العملي هو بأيدي أصحاب
القضية.
يرفض البابا شنودة أي تنازل للصهاينة في القدس، مذكرا أنها وقعت تحت الحتلل الفرنجي تسعين
عاما ثم حررت، ويمكن استعادتها بعد هذه السنوات القليلة من حكم اليهود، بمعنى أنه ل يجوز التنازل
عنها.
غير أن قوله هذا ل يعني وقف العمل المستمر من أجل استعادة القدس، فقد انتقد إحالة قضية القدس
إلى ما تسمى مفاوضات الوضع النهائي في اتفاق أوسلو، وقال: "ما أخشاه من إرجاء قضية القدس إلى
نهاية المطاف، هو أن تتمكن الصهيونية من القضاء على كل وجود عربي فيها، وليس مستبعدا بعد ذلك
أن تلجأ إلى خدعة، بإجراء استفتاء في القدس، بين غالبية من اليهود، وأقلية ضئيلة من العرب بحيث
تأتي نتيجته في صالح الصهاينة".
ورأى البابا أن عملية التأجيل، إنما أريد منها إعطاء الوقت الكافي للصهاينة بحيث يحسمون القضية
لصالحهم، وما يفعلونه اليوم هو تهيئة النفوس العربية لستقبال الكوارث المقبلة، ومن ضمن وسائل
التهيئة النفسية إغراقهم في اليأس إلى درجة ل يجدون فيها منفذا لحل مشاكلهم، وكذلك استعمال
التهديد والتخويف لطرد العرب واستئصال أراضيهم.
مع انطلق انتفاضة القصى المباركة، أكد البابا شنودة موقفه الرافض لتدويل القدس، واصفا هذا المر
بالخطوة الخطرة، وقال: "من السهل تحويل التدويل إلى تهويد ..إن الصهاينة يريدون القدس عاصمة
لهم، وهذا أمر ستقاومه. المسألة تحتاج إلى جهاد، بحيث ترجع القدس إلى فلسطين". يؤكد البابا دوما
أنه ليست لليهود حقوق في القدس، ل تاريخية ول غير تاريخية، مبينا أنه ل يوجد في الكتاب المقدس،
إشارة أو دليل على حقوق لليهود في القدس، أو وجود هيكل سليمان المزعوم.
كما أنه يثابر على تجديد تحريم ذهاب القباط إلى القدس قبل تحريرها، وفي محاضرة له في السكندرية
يوم الثالث والعشرين من حزيران، عام ألفين وواحد، اعتبر أن قيام أي قبطي بزيارة بيت المقدس وهي
تحت الحتلل، بمثابة خيانة، وقال: "أن التطبيع مرفوض، وزيارة القدس ل تكون إل بعد تحريرها، ولن
ندخلها إل مع العرب جميعا والمسلمين.
ويردد البابا شنودة دائما، في تصريحاته ومحاضراته، أنه يدعم بل أي تحفظ، الكفاح الفلسطيني
المشروع، في سبيل تحرير فلسطين والقدس التي هي لب الصراع العربي/الصهيوني، معتبرا أنه ل
يمكن الحديث عن أي حل أو إنهاء الصراع، ما لم تعد القدس إلى أصحابها.
أسهمت مواقف الباب في كبح التدفق التطبيعي بعد اتفاقيات كامب ديفيد، ورغم تعمد الصهاينة تسريب
مزاعم عن قيام أعداد من العرب المصريين، رعايا الكنيسة القبطية، بزيارة التقديس إلى بيت المقدس،
إل أن مصادر الكنيسة القبطية تؤكد أن المر يتعلق بأفراد، وأن الصهاينة يبالغون كثيرا جدا في الرقام
التي يعلنونها، وتقول :"أن القباط لديهم رغبة عارمة بزيارة القدس، لو أن البابا يسمح بالزيارة لرأيتم
ربع مليون قبطي يزرون القدس".
نزع هويات المقدسيين
بعد احتلل الجزاء الشرقية من القدس عام سبعة وستين، مباشرة، عمدت سلطات الحتلل الصهيوني
إلى إصدار سلسلة متلحقة من القرارات بضم القدس إلى الكيان الصهيوني، ثم شرعت على الفور في
عملية تهويد للمدينة، لم تقتصر في الواقع على السعي لزالة كل معلم يدل على عروبة المدينة
واسلميتها، بل طالت المقدسيين أهل البلد وأصحابه. فكانت سياسة هدم القرى في ضواحي القدس،
وهدم أحياء بكاملها داخل المدينة، وترحيل أصحابها، أو دفعهم إلى الترحيل، وجرى اتباع مختلف أشكال
الخنق والتضييق، بهدف إجبار الناس على ترك مدينتهم.
ومن جملة الساليب القهرية التي طبقت على المقدسيين لتحقيق تلك الغاية، أسلوب نزع الهويات وحق
القامة الدائمة في القدس.
لقد ظل الصهاينة وبرغم إغراق القدس بالمستوطنين يتحدثون عن الخشية من تحول الميزان الديمغرافي
في المدينة لصالح المواطنين الفلسطينيين، ويبتدعون كل ما من شأنه إحباط الزيادة العددية للفلسطينيين
في القدس.
وفي هذا السياق بدأوا في عهد حكومة رابين بيريز، عام خمسة وتسعين تطبيق سياسة سحب
الهويات.
طبق الصهاينة هذا الجراء في أربع حالت واضحة وهي:
إلغاء حق القامة للشخاص الذين يقطنون في ضواحي القدس الواقعة خارج حدود البلدية، وفي
المحافظات المجاورة، وكذلك الذين يقيمون خارج فلسطين.
كما اعتمدوا الحتيال في قضايا جمع الشمل: فالزوجات اللواتي يقمن بتقديم طلب جمع شمل لزواجهن،
تقبل طلباتهم بداية، ثم يجري إلغاء حقهن في القامة مع أطفالهن بحجة أن الزوج يقيم خارج القدس،
وهكذا فإن الزوجة ل تفشل في جمع الشمل فقط، بل تفقد حقها في القامة أيضا.
ومن المعلوم أن الصهاينة طبقوا أسلوب البعاد منذ مطلع السبعينات، وعندما تقدمت عائلت المبعدين
بطلب تصريح لزيارتهم، جرى منح العائلة المتقدمة بالطلب، تصريح خروج دون عودة، وتمكن
الصهاينة عبر هذه الطريقة من إبعاد ثمان وعشرين عائلة مقدسية، اضطرت لللتحاق بالب أو الزوج
الذي أبعد قسرا.
وجرى تطبيق أسلوب قهري مع الطلبة الذين يدرسون خارج القدس، إذ فرض عليهم القيام بتجديد
بطاقات هوياتهم على نحو يعطل دراستهم، ثم جرى إلغاء الحق في القامة لمن أمضى سبع سنوات
خارج القدس بسبب التعليم، وتعاونت ما تسمى وزارة الداخلية في كيان العدو مع شرطة المعابر
والحدود التي عرقلت دخول البعض لتجديد هوياتهم، ما تسبب في فقدانهم حق القامة وسحب هوياتهم.
مع مجيء حكومة نتنياهو عام ستة وتسعين، جرى اعتماد أسلوب جديد، لزيادة أعداد المقدسيين
المعرضين لسحب هوياتهم وإلغاء حقهم في القامة.
فعادة ما كان يجري منح المقدسي الذي ينوي السفر، وثيقة مرور / ليسيه باسيه/ يسمح لحاملها
بتجديدها لمدة سنة والسفر ثانية، وعندما تقدم مقدسيون بطلبات لتجديد هذه الوثائق، وضع عليها ختم
يقضي بالخروج دون عودة لمدة ثلثة أشهر.
ثم اتخذ قرار بعد تجديد تأشيرات العودة للمقدسيين الذين يحملون جنسيات أجنبية علما أن الغالبية
العظمى من أبناء المدينة تحمل جوازات سفر أردنية، فيما حصل البعض على جنسيات أخرى.
إلى هذه الحالت الواضحة، ثمة الكثير من حالت وأساليب الحتيال. فبعض المقدسيين يتقدم إلى ما
تسمى مكاتب الداخلية، لتجديد تصاريح عودة لبنائهم الغائبين للدراسة أو للعمل، يجري أول قبول
الطلب، ومن ثم الموافقة عليه لمدة شهر، ثم تبدأ المماطلة في تسليم نسخ التصريح التي تخول الممنوح
له المرور، وهكذا تنتهي مهلة الشهر دون تسليم التصريح، فيفقد الغائب حقه في القامة، بحجة تأخره
عن العودة لتجديد هويته.. وهكذا.
سحبت هويات المئات من أبناء القدس نتيجة الجراءات المذكورة، وفقد اللف حقهم في القامة من
وجهة نظر المحتلين الصهاينة، ورغم العتراضات التي أبداها المقدسيون على هذه السياسة إل أن
الصهاينة واصلوا تطبيقها، فأخذ المقدسيون يحجمون عن التردد على ما تسمى مكاتب الداخلية، فأعلن
الصهاينة عام تسعة وتسعين، عن وقف العمل بسحب الهويات ولكنه كان وقفا مؤقتا وقصيرا، إذ تابع
الصهاينة مجددا إجراءات سحب الهويات بوتائر أقل من السابق دون التوقف عنها أو إلغائها.
نقل السفارة المريكية
ارتبط الموقف المريكي من قضية القدس، بقرار التقسيم رقم مئة وواحد وثمانين الصادر عن الجمعية
العامة للمم المتحدة، سنة سبعة وأربعين، وهو القرار الذي يتحدث عن نظام دولي خاص لمدينة
القدس.
وبعد النكبة أيدت الوليات المتحدة الوضع القائم من السيطرة الردنية الصهيونية المشتركة على المدينة
ولم تعترف الوليات المتحدة بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني رغم تأييدها المطلق له.
بعد عدوان حزيران سبعة وستين، عرض الرئيس المريكي جونسون على السوفيات أن تتولى واشنطن
حماية الماكن المقدسة في القدس، مع ضمانات دولية بحرية الوصول إليها، إل أن القتراح لم ينفذ.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الموقف المريكي يتجه نحو تأييد متزايد للنظرة الصهيونية إلى المدينة المقدسة؛
ففي العام التالي لعدوان حزيران أعلن جونسون نية الوليات المتحدة المحافظة على وحدة مدينة القدس
وقال: "أن أحدا ل يرغب في أن يرى المدينة المقدسة مقسمة مرة أخرى، وعلى الطراف أن يفكروا في
حل يضمن مصالحهم ومصالح العالم في القدس.
وفي عام واحد وثمانين، أعلن الرئيس المريكي رونالد ريغان أن القدس يجب أن تظل دون تقسيم، وأن
يتقرر مركزها النهائي عن طريق المفاوضات. وقبل انتهاء وليته بيوم واحد سنة تسع وثمانين، وقع
ريغان اتفاقا مع الصهاينة. هو كناية، عن عقد إيجار لربعة عشر فدانا من أراضي الوقف السلمي في
المدينة لقامة السفارة المريكية عليها.
ينص القرار على إيجار الرض لمدة تسعة وتسعين عاما، مقابل دولر واحد في السنة.
وفي الكونغرس المريكي، كانت الخطوات تتسارع لتنفيذ مشروع نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس،
ففي عام أربعة وثمانين، أدلى السناتور دانيال موينيهان بشهادة أمام لجنة العلقات الخارجية في مجلس
الشيوخ، طالب فيها بنقل السفارة المريكية من تل أبيب إلى القدس، معتبرا أن المصلحة المريكية
تقتضي هذا الجراء.
أصبحت قضية نقل السفارة مجال للمزايدة بين السياسيين المريكيين من الحزبين الديمقراطي
والجمهوري، إذ تسابق كل منهما إلى إعلن نقل السفارة إلى المدينة المقدسة.
ففي عام تسعين أعلن الرئيس جورج بوش حق الصهاينة في استيطان القدس في حين اعترض
السناتور بوب دول على فكرة نقل السفارة خوفا من الساءة إلى مشاعر العرب، ومشيرا إلى أن أعضاء
مجلس الشيوخ أجبروا على توقيع القرار الذي يعتبر القدس عاصمة للكيان الصهيوني دون السماح لهم
بقراءته. ولحقا سوف يصبح بوب دول من أشد مؤيدي نقل السفارة. مع انتخابه رئيسا للوليات
المتحدة، أعلن بيل كلينون أنه يعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وأن عملية نقل السفارة هي
مسألة وقت فقط.
وفي آذار من عام خمسة وتسعين، أبلغ ثلثة وتسعون عضوا في مجلس الشيوخ المريكي من أصل مئة
هم كامل أعضاء المجلس أبلغوا وزير الخارجية المريكي وارن كريستوفر، ضرورة أن تبدأ الوليات
المتحدة بالتخطيط لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.
ووقع هؤلء رسالة سلموها إلى الوزير فقال: "نؤمن أن سفارة الوليات المتحدة مكانها القدس وسيكون
من الملئم جدا البدء بالتخطيط الن لضمان مثل هذا التحرك في أيار سنة تسع وتسعين، عندما يبدأ
سريان اتفاقات سيجري التفاوض حولها بشأن الوضع النهائي للقدس.
أثار قرار الكونغرس ردود فعل واسعة مستنكرة عربية وإسلمية ودولية، فيما أعلن أعضاء في المجلس
المريكي أنهم سيتولون نقل السفارة حجرا، حجرا في حال عدم تنفيذ الرادة لقرارهم. الذي تضمن نصا
بأن يرجى الرئيس التنفيذ وفق مقتضيات المصلحة المريكية.
عام ألفين تسابق بوش البن، وألبرت غور في إطلق التصريحات المؤيدة لنقل السفارة، واعدين بوضع
قرار الكونغرس موضع التنفيذ.
وفي حزيران من عام ألفين وواحد، وقع جورج بوش مذكرة تسمح للخارجية المريكية بنقل السفارة
إلى القدس مع إرجاء التنفيذ ستة أشهر، على غرار ما كان يفعل بيل كلينتون.
يوم القدس العالمي
يوم السابع من آب سنة تسعة وسبعين وتسعمائة وألف، أعلن سماحة آية ال العظمى، المام الخميني
)قدس ال سره( يوم القدس العالمي، حيث قال:
أدعو جميع مسلمي العالم إلى اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، التي هي من أيام القدر،
ويمكن أن تكون حاسمة أيضا، في تعيين مصير الشعب الفلسطيني، يوما للقدس. وأن يعلنوا من خلل
مراسيم التحاد العالمي للمسلمين، دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم".
جاءت هذه الدعوة، حضا للمسلمين، على القيام بخطوة عملية تجاه القدس، وتوجيها لعملهم وأفئدتهم
نحو بيت المقدس، لتتحول الجمعة الخيرة من شهر رمضان المبارك، إلى يوم عالمي للقدس، هو في
الوقت نفسه، وكما بين سماحة آية ال العظمى المام الخميني ) قدس سره(، يوم مواجهة المستضعفين
مع المستكبرين، ففي عام تسعة وسبعين، قال سماحته:
"يوم القدس يوم عالمي، ليس فقط يوما خاصا بالقدس، إنه يوم مواجهة المستضعفين مع المستكبرين.
انه يوم مواجهة الشعوب التي عانت من ظلم أمريكا وغيرها، للقوى الكبرى، وانه اليوم الذي سيكون
مميزا بين المنافقين والملتزمين، فالملتزمون يعتبرون هذا اليوم، يوما للقدس، ويعملون ما ينبغي
عليهم، أما المنافقون، هؤلء الذين يقيمون العلقات مع القوى الكبرى خلف الكواليس، والذين هم
أصدقاء )لسرائيل(، فإنهم في هذا اليوم غير آبهين، أو أنهم يمنعون الشعوب من إقامة التظاهرات.
لقد بين سماحة المام الخميني، )قدس سره( موقع الجهاد من أجل القدس، في تحديد معالم المعركة بين
المستضعفين والمستكبرين، وهو ما تتكشف معانيه في يوم القدس، الذي اعتبره، يوما يجب أن تتحدد
فيه مصائر الشعوب المستضعفة، يوما يجب أن تعلن فيه الشعوب المستضعفة عن وجودها في مقابل
المستكبرين.
وهو كما رآه سماحته أيضا: يوم إحياء السلم ويوم حياة السلم، حيث يجب أن يصحوا المسلمون،
وأن يدركوا مدى القدرة التي يتملكونها سواء المادية منها أم المعنوية. فهم كما قال سماحة آية ال
ا، والسلم سندهم، واليمان سندهم، فمن أي شيء t العظمى: مليار مسلم وهم يملكون دعما إلهي
يخافون؟
لقد أكد المام الخميني )قدس سره( على متابعة إحياء يوم القدس، لما رآه فيه من معان عظيمة تتعلق
بالوحدة السلمية التي دعا إليها على الدوام، وبالجهاد من أجل القدس، التي احتلت حيزا واسعا من
تفكيره واهتمامه. وهو الذي كان يقول دائما: القدس ملك المسلمين ويجب أن تعود إليهم. معتبرا أن
واجب المسلمين أن يهبوا لتحرير القدس، والقضاء على شر جرثومة الفساد هذه عن بلد المسلمين.
وهو قال عام ألف وتسعمائة وثمانين: نسأل ال أن يوفقنا يوما للذهاب إلى القدس، والصلة فيها إن
شاء ال. وآمل أن يعتبر المسلمون يوم القدس، يوما كبيرا، وأن يقيموا المظاهرات في كل الدول
السلمية، في يوم القدس، وأن يعقدوا المجالس والمحافل، ويرددوا النداء في المساجد. وعندما يصرخ
مليار مسلم، فإن إسرائيل ستشعر بالعجز، وتخاف من مجرد ذلك النداء".
لقد استجاب عشرات المليين في مختلف أنحاء العالم السلمي لدعوة آية ال العظمى، سماحة المام
الخميني )قدس سره( لحياء يوم القدس، وتشهد الجمعة الخيرة من شهر رمضان المبارك، في كل عام
تظاهرات حاشدة تهتف للقدس وتدعو لتحريرها في مشهد يكرس الوحدة السلمية التي أرادها سماحته،
ويبقي القدس حاضرة في عقول المسلمين وفي توجهاتهم، وتطلعهم إلى تحريرها، وهو أيضا ما رمى
إليه المام العظيم من خلل الدعوة إلى يوم القدس العالمي.
وتأكيدا على المكانة التي أرادها المام الخميني )قدس سره( ليوم القدس العالمي، فإن المام القائد
سماحة أية ال علي الخامنئي، يشدد دوما على إحياء يوم القدس العالمي، وتكريس معانيه، وهو خاطب
المسلمين في العام ألفين قائل: إن واجب الدول السلمية تقديم المعونات لهذا الشعب، ومؤكدا انه
عاجل أو آجل ستعود فلسطين إلى الفلسطينيين مكرسا بذلك ما كان يقوله، سماحة آية ال العظمى،
المام الخميني: حين يتعرض السلم والماكن المقدسة للتهديد بالعتداء ، فل يمكن لي فرد مسلم أن
يقف موقف المتفرج إزاء ذلك.
محاولة شارون تدنيس الحرم، وانتفاضة القصى
كانت محاولة الرهابي شارون تدنيس الحرم القدسي الشريف، هي السبب المباشر والعامل المفجر
لنتفاضة القصى.
لكن كل العوامل كانت قد تكاملت لندلع النتفاضة، وبالحرى تجددها، فالحتلل الذي واصل إجراءته
القمعية والذللية ضد الشعب الفلسطيني، وتابع تهويد القدس وإغراق الراضي المحتلة عام سبعة
وستين بالمستوطنات، رافضا القرار بأي من الحقوق الفلسطينية، شكل الظروف الموضوعية لنفجار
النتفاضة، ويضاف إلى كل العوامل السابقة توق الفلسطينيين إلى حرية أرضهم، ودحر الحتلل عنها،
بعد أن تبين وهم السلم مع العدو الذي أراده كسبا للوقت لستكمال مشاريعه التهويدية والستيطانية.
كانت كل المؤشرات تؤكد قرب اندلع النتفاضة ويوم السابع والعشرين من أيلول عام ألفين، أعلن
الرهابي شارون عزمه التوجه إلى الحرم القدسي الشريف في اليوم التالي.
تداعت القوى الفلسطينية، إلى التحشد لمواجهة محاولة شارون تدنيس الحرم، ودعت الشعب الفلسطيني
إلى التوجه إلى بيت المقدس لحماية الحرم، فيما اندلعت تظاهرات واسعة في المدينة، وأحرق المواطنون
إطارات السيارات احتجاجا على الزيارة المزمعة.
وطالبت السلطة الفلسطينية حكومة باراك بمنع الزيارة التي اعتبرتها تحريضية، وتشكل تحرشا واضحا،
وحذرت أوساط فلسطينية من مجزرة يخطط لها الصهاينة على غرار مجزرة عام ألف وتسعمائة
وتسعين.
صبيحة يوم الثامن والعشرين من أيلول، انتشر آلف من أفراد شرطة الحتلل ومن يسمون حرس
الحدود في القدس، لحماية الرهابي شارون، بينما كان اللف من أبناء الشعب الفلسطيني من الراضي
المحتلة عام سبعة وستين، والراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين، قد تجمعوا في الحرم القدسي
وحواليه لحمايته من العدوان الشاروني الصهيوني الجديد، ومع اقتراب الرهابي شارون من منطقة
الحرم اندلعت المواجهات العنيفة بين الشبان البواسل وجنود الحتلل، وغطى الدخان وقنابل الغاز
ساحات الحرم.
تمكن أبناء الشعب الفلسطيني البواسل من منع الرهابي شارون من دخول الحرم، وتصدوا بصدورهم
العارية لرصاص قوات الحتلل الصهيوني، وسقط العشرات جرحى برصاص المحتلين.
شكلت هذه المواجهات دفاعا عن الحرم القدسي ضربة البداية في انتفاضة القصى، ففي اليوم التالي
هاجمت شرطة الحتلل عشرات آلف المصلين في الحرم، في خطة مبيته لرتكاب مجزرة تحبط
النتفاضة في مهدها.
تمترس جنود العدو وراء الدروع، وأطلقوا الرصاص المعدني والمطاطي تجاه الشبان المصلين، الذين
ردوا بإلقاء الحجارة على الجنود الصهاينة.
تصاعدت صيحات ال أكبر، واندفع آلف الشبان في مواجهة الصهاينة، الذين أطلقوا النار بغزارة، ما
أسفر عن استشهاد خمسة من المصلين وإصابة أكثر من مائتين بجراح، فيما أصيب أربعة وأربعون من
الجنود الصهاينة، وأربعة عشر من المستوطنين بحجارة الشبان البواسل.
ومع انتقال خبر المواجهات في المسجد القصى والحرم القدسي إلى المدن الفلسطينية، اندلعت
المواجهات في كل مكان.
يوم الثلثين من أيلول، ووسط موجة غضب عارم، لفت كل أنحاء فلسطين، شيعت القدس شهداء يوم
الجمعة، وقد تحولت جنازات التشييع إلى مواجهات عنيفة مع قوات الحتلل التي أطلقت النار على
المشيعين فردوا بإلقاء الحجارة، وانتقلت المواجهات لتشمل كافة أنحاء البلدة القديمة، وضواحي شرقي
القدس.
أعلنت قوات الحتلل عن إغلق القدس في وجه المواطنين الفلسطينيين من الضفة، في حين كان
الفلسطينيون في الراضي المحتلة عام 48 قد انخرطوا في معركة الدفاع عن الحرم، وفي شوارع
القدس بالذات، قبل أن تتحول النتفاضة، إلى فعالية كفاحية تغطي كل مكان من فلسطين.
فما أن حل يوم الول من تشرين الول عام ألفين حتى كانت فلسطين بأكملها تنتفض في وجه المحتلين،
وتشرع في كتابة صفحة مجيدة جديدة، في سجل كفاحها المديد ضد الغزاة.
مستوطنة جبل أبو غنيم
يرتبط بناء المستوطنة الصهيونية المسماة )هارحوما( في جبل أبو غنيم، بسياسة الصهاينة في تطويق
القدس بحزام من المستوطنات، ويعود التخطيط لبنائها إلى أواخر الثمانينات بغية إكمال الطوق
الستيطاني بشكل كامل حول القدس، والفصل بين الحياء العربية في صور باهر وأم طوبا، وبين
مدينتي بيت لحم وبيت ساحور.
ولدى العلن عن خطة بناء المستوطنة مطلع العام تسعين، قال الصهاينة إن المرحلة الولى من
المشروع تهدف إلى إقامة أربعمائة وخمسين مسكنا على مساحة تبلغ ألفا وثمانمائة دونم، تمتد على
التلل بين أم طوبا وبيت ساحور.
وفي مطلع العام خمسة وتسعين، أعلن المتحدث باسم البلدية الصهيونية في القدس، أن مجلس البلدية
وافق على خطة لبناء مستوطنة جديدة تستوعب خمسة وعشرين ألف مستوطن، في جبل أبو غنيم.
أثار القرار الصهيوني ردود فعل فلسطينية حادة فحاول الصهاينة امتصاص الغضب الفلسطيني بالعلن
عن النية ببناء ألف وخمسمائة مسكن للفلسطينيين في القدس، ولكن الفلسطينيين رفضوا هذه التسوية
واعتبروا أنها محاولة للتغطية على استكمال تطويق القدس عبر بناء المستوطنة الجديدة.
انطلقت تظاهرات حاشدة في القدس، وأقام الفلسطينيون الصلة بالقرب من الراضي المصادرة كما
أقاموا اعتصاما مفتوحا، واعترض العشرات بأجسادهم تقدم الجرافات الصهيونية للبدء في العمل ببناء
المستوطنة، واستطاعوا إيقاف أعمال تمهيد الرض لعدة أشهر، ثم نجحوا في إيقاف العمل نهائيا، حتى
عام سبعة وتسعين.
مطلع عام سبعة وتسعين، هدد الرهابي أيهود أولمرت رئيس البلدية الصهيونية في القدس، بإرسال
الجرافات، للشروع فورا بالعمل في المستوطنة وترافق هذا التهديد مع إعلن عن أن خطة البناء في
جبل أبو غنيم، تشمل إقامة نحو سبعة عشر ألف وحدة سكنية بشكل أولي.
مرة أخرى أقام الفلسطينيون خيام العتصام في موقع الرض المصادرة، واندلعت تظاهرات في القدس
ومدن أخرى من الضفة، فيما هددت أحزاب صهيونية بالنسحاب من الحكومة إذا هي لم تشرع بالبناء
في المستوطنة، فقالت مصادر الحكومة الصهيونية، إن توقف العمل ل يرتبط بردود الفعل العربية
والسلمية بل بعدم جهوزية المخططات.
وتحت حراسة المئات من أفراد الشرطة وحرس الحدود، بإشرت جرافات الصهاينة في شباط عام سبعة
وتسعين، العمل في الشغال التمهيدية لبناء المستوطنة.
حاول الفلسطينيون تقديم التماسات إلى ما تسمى محكمة العدل العليا، دون جدوى ودعوا إلى تدخل
الهيئات الدولية، ولكن حكومة الرهابي نتنياهو واصلت العمل في المستوطنة وبوتائر سريعة جدا، وسط
استنفار عسكري كبير في المنطقة مع الكشف عن معطيات جديدة تتعلق بالمستوطنة، حيث أعلن أنها
ستستوعب خمسة وثلثين ألف مستوطن، وستقام فيها مؤسسات عامة مختلفة على مساحة مئتين
وستة وستين دونما.
شكلت مستوطنة جبل أبوغنيم وحسب التقديرات الصهيونية، ما نسبته اثنين وسبعين في المئة، من
مخططات تسويق الوحدات السكنية الستيطانية لعام سبعة وتسعين، وذلك رغم تصاعد العتراضات
الفلسطينية والعربية والدولية، ومع اللجوء إلى مجلس المن الدولي فإن الوليات المتحدة استخدمت
حق النقض /الفيتو/ ضد مشروع قرار يطالب الكيان الصهيوني بوقف بناء المستوطنة في جبل أبوغنيم.
جرى إتمام المرحلة الولى من بناء المستوطنة عام ألفين، ولكن اندلع انتفاضة القصى ترك الكثير من
بيوتها فارغة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد أقرت لجنة صهيونية خاصة مطلع العام ألفين وواحد، بناء ألف وخمسمائة
وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة جبل أبوغنيم، ثم قامت حكومة الرهابي شارون بإعطاء الضوء
الخضر لبناء ألفين وثمانمئة واثنين وثلثين وحدة سكنية في المستوطنة.
وتظهر معطيات مطلع العام ألفين واثنين عن الواقع الستيطاني في القدس، أن الكثير من الوحدات
الستيطانية في جبل أبوغنيم مازالت فارغة، رغم تسهيلت كبيرة في الدفع.
ولكن السلطات الصهيونية تصر على استمرار البناء. والتوسع فيها، مفترضة أن توقف انتفاضة
القصى سوف يجعل المستوطنين يتوجهون لشغال هذه الوحدات الستيطانية.
مستوطنة معاليه أدوميم
أقيمت مستوطنة )معاليه أدوميم( في منطقة الخان الحمر، بداية كمنطقة صناعية ولسكان العمال
وعائلتهم، ثم جرى توسيعها باستمرار، إلى أن أصبحت مدينة استيطانية.
في عام واحد وتسعين أعلن الرهابي شارون عن خطة لتوسيع مستوطنة )معاليه أدوميم(، ليبلغ عدد
المستوطنين فيها إلى خمسين ألفا بدل من خمسة عشر ألفا، وتصل مساحتها إلى خمسين ألف دونم.
وحسب الخطة التي أعلن عنها في حينه، سيتم توسيع الراضي الواقعة تحت سيطرة مجلس المستوطنة
باتجاه الغرب، وستتصل )معاليه أدوميم( تقريبا مع الحياء الستيطانية في القدس مثل )بسغات زئيف(،
وستشرف الحدود الجديدة للمستوطنة على قرى ومخيمات فلسطينية مثل شعفاط والعيزرية والزعيم، ما
يعني أن أراضي المستوطنة ستنحدر إلى قلب منطقة مسكونة بحوالي مئة ألف مواطن فلسطيني.
الرهابي إيلي هارنير، المسئول عن التخطيط الستراتيجي في المستوطنة، ادعى أن الراضي التي
ستنضم إلى حدود مجلس المستوطنة، تشمل فقط ما سماه أراضي دولة، ولكن نظرة إلى خريطة الخطة
تظهر أن في داخل المنطقة الجديدة المضافة إلى حدود المستوطنة أراض تعود ملكيتها للمواطنين
الفلسطينيين والتي لن يكون بوسع أصحابها استخدامها بأي شكل كان.
النيات الصهيونية اتضحت حين أعلن هارنير نفسه لحقا، أن الواقع الجديد سيحرك أصحاب الراضي
العرب باتجاه بيع أراضيهم، وبهذا ينشأ تواصل لراضي الدولة ضمن الحدود بأكملها.
وعمليا فإن معظم الراضي صودرت وجرى طرد عشيرة عرب الجهالين من أراضيهم للسيطرة عليها
والقيام بتوسيع المستوطنة.
خطة توسيع )معاليه أدوميم( وربطها بالقدس، هي جزء من خطة أكثر توسعا، يطلق عليها أسم باب
الشرق، وتهدف إلى خلق تواصل للمستوطنات الصهيونية في قطاع عرضي واسع يمر من القدس عن
طريق )معاليه أدوميم(، أريحا، والبحر الميت، وتشكل )معاليه أدوميم(، المدينة اللوائية لهذا القطاع،
وذلك من ضمن مخطط القدس الكبرى.
سرع عقد مؤتمر مدريد في عمليات توسيع )معاليه أدوميم(، إذ أن هدف تحويلها إلى مدينة استيطانية
كان محددا له العام ألفين، ولكنه تحقق عمليا قبل هذا التاريخ بكثير، واستوعبت المستوطنة أعدادا
كبيرة من المسجلين الجدد من التحاد السوفياتي السابق.
عام ستة وتسعين، كشف النقاب عن خطة جديدة لتسريع ضم عدد من المستوطنات الواقعة على ما
يسمى الخط الخضر إلى المدينة المقدسة، وهي تشمل ضم مستوطنات )معاليه أدوميم(، و)جعفات
زئيف( و)ميتسور أدوميم(.
واعتبرت هذه الخطة النقلة اللزمة، لشوط جديد في مشروع القدس اليهودية الكبرى. وقد طالب رئيس
بلدية )معاليه أدوميم(، باستكمال ربط المستوطنة بمدينة القدس، واعتبارها جزءا منها رسميا.
ووعد بتغيير الصورة الحالية التي يرى فيها المسافر عن طريق القدس أريحا إلى المستوطنة، مناطق
فارغة، وقرى عربية معادية، إلى صورة أخرى من الحياء والفنادق المتصلة على الطريق مع مضاعفة
عدد المستوطنين.
الخطة التي طالب رئيس البلدية بتطبيقها تلحظ مصادرة أراض فلسطينية ما بين المستوطنة ومدينة
القدس، والتي تعود ملكيتها لهالي الطور والعيزرية وأبوديس.
أيد ثمانون عضو كنيست صهيوني عام ستة وتسعين، مصادرة هذه الراضي، وتحقيق التواصل الذي
يدور الحديث عنه منذ زمن طويل، فيما جرى الشروع عمليا، وفي العام نفسه في بناء ألف ومائتي
سكن للمستوطنين، وأعلن أن الهدف هو استيعاب الزيادة العددية في المستوطنة.
عام تسعة وتسعين خطا الصهاينة خطوة أخرى في اتجاه مصادر المزيد من الراضي وتحقيق الوصل
بين )معاليه أدوميم( والقدس، وذلك حين صادقت ما تسمى المحكمة العليا في الكيان الصهيوني على
خطة التوسيع وردت التماسا تقدم به مواطنون فلسطينيون تتهدد المصادرة أراضيهم، ضد مشروع
التوسيع الذي يلتهم اثني عشر ألف دونم من أراضي أبوديس والعيزرية والعيسوية والطور وعناتا.
فور صدور قرار المحكمة العليا، قامت سلطات الحتلل بشق مسارب أرضية في جبل الزيتون، تشمل
نفقين، يربطان الحياء الستيطانية في القدس الشرقية ومستوطنة )معاليه أدوميم(، مع منطقة )شدروت
حاييم بارليف( غرب المدينة.
وأواسط العام ألفين أعلن الرهابي أيهودا باراك رئيس الوزراء الصهيوني، أنه سيضم مستوطنتي
)جعفات زئيف( و)معاليه أدوميم( إلى القدس بشكل عاجل، معطيا أمر المباشرة في التنفيذ.
وفي نيسان من عام ألفين وواحد أعلنت حكومة الرهابي شارون عن توسعه جديدة )لمعاليه أدوميم(،
تشمل إقامة أربعمائة وستة وتسعين مسكنا استيطانيا فيها.
مشروع القدس الكبرى
عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، قدم شموئيل نامير مشروعا إلى الكنيست الصهيوني سمي مشروع
القدس الكبرى التي تشمل بالضافة إلى مدينة القدس في حدودها البلدية الموسعة، ثلث مدن وسبعا
وعشرين قرية في الضفة الفلسطينية، هي مدن بيت لحم وبيت ساحور وبيت جال والقرى المحيطة بها.
جرت مناقشة هذا المشروع، وأدخلت تعديلت عليه، لكنه بقي قائما باسم القدس الكبرى، واستندت
نسخته الجديدة إلى ما يعرف بخطة الجيش وهي الخطة الستيطانية المنية القائلة بوجوب نقل حدود
القدس إلى ما وراء الجبال المحيطة بالمدينة ما بين منطقة قلنديا شمال، ومنطقة بيت لحم جنوبا،
ومابين )معاليه أدوميم( شرقا، و)معالية هعشميا( غربا بحيث تكون المساحة الكلية نحو مائتي ألف
دونم.
في العمليات التنفيذية جرى التحرك في نطاق مئة وعشرة آلف دونم، وهي ذات المساحة التي حددها
وزير الداخلية الصهيوني حاييم شابيرا سنة تسع وستين، ثم جرى تجاوز هذه المساحة تدريجيا، ما
يعني أن الحديث عن التقليص قد ظل في الطار النظري، ذلك أنه قد جرى الشروع عمليا في استيطان
سفوح الجبال المحيطة بالقدس لجهة المدن والقرى والتجمعات العربية، حتى أن كثيرا من قرى بيت لحم
وبيت ساحور جنوبا، ورام ال شمال قد أضحت ضمن الطوق الستيطاني الذي يشكل القدس الكبرى.
وفي سياق هذا المشروع عمد الصهاينة إلى السياسة المعروفة بتسمين المستوطنات، والتي تعني ضم
حيازات جديدة للمستوطنات، ثم إدارجها في نطاق القدس الكبرى، وهو ما حدث في مستوطنة )معالية
ادوميم(، فقد ضم إليها خمسة عشر ألف دونم، وأدخلت في نطاق القدس الكبرى، ويتطلع الصهاينة إلى
دمج كامل كتلة )غوش عتصون( الستيطانية في نطاق المشروع، ما يخلق كتلة هائلة من الستيطان
والمستوطنين، تشطر الضفة الفلسطينية إلى شطرين كبيرين، شمالي وجنوبي، تفصل بينهما القدس
الكبرى.
عام اثنين وتسعين أطقلت الحكومة الصهيونية حملة استيطانية باتجاه مناطق بيت لحم، وبيت جال،
وبيت ساحور، انطلقا من حدود الحياء الستيطانية في القدس، وضاعف الصهاينة شق الطرق في
منطقة )غوش عتسيون(، التي أعلن عن قرب ضمها إلى القدس، حيث قال اسحق شامير إن )إسرائيل(
لن تتخلى مطلقا عن أي جزء من عاصمتها القدس بل ستقوم بتوسيعها شرقا وغربا إن أي محاولة من
جانب أي شخص سيء النية لتقويض وحدة القدس ستبوء بالفشل.
وبالتزامن مع ذلك، أعلن عن نية الصهاينة إسكان القدس بمليون مستوطن، على نحو يجعل حياة
الفلسطينيين مستحيلة فيها.
هذا التصريح جاء في وقت جرى فيه استنفاذ مساحات الستيطان داخل القدس ما عنى توجها للتوسع
في مساحات جديدة، وهو ما حدث فعل بإبرام عقود لبناء عشرات الوحدات السكنية الستيطانية في
الفترة النتقالية الفاصلة ما بين حكومتي الليكود والعمل، وعندما جاء رابين إلى الحكم أعلن أنه ملزم
بتنفيذ العقود والمواثيق التي أبرمتها الحكومة السابقة بشأن الستيطان.
وقد أطلق رابين بالذات حملة مصادرات واسعة في الراضي حول القدس، وصفت بأنها الكبر من
نوعها في مدى زمني قصير نسبيا.
لحقا بدا أن كل السلوك الستيطاني الصهيوني في القدس، يندرج في إطار تنفيذ المخطط الهيكلي للقدس
الكبرى الذي نشر عام سبعة وثمانين، والذي أوضح جملة من البعاد المستهدفة صهيونيا وأهمها:
تعزيز المواقع الستيطانية القائمة تمهيدا لتطبيق مراحل جديدة من برنامج حزام المستوطنات، وتجزئة
الوحدة العضوية لراضي الضفة، عن طريق خطة شبكة الطرق القطرية، وشبكة الطرق القليمية، إلى
شرائح تنموية فرعية، ترتبط بمراكز ثقل تنموية مرادفة في الكيان الصهيوني.
يلحظ هذا المخطط مساحة للقدس بطول خمسة وأربعين كيلومترا، وبعرض عشرين كيلومتر، وهو يريد
تقويض البنية العمرانية في البلدة القديمة، وتقويض البنية السكانية الفلسطينية في هذه المساحة
الواسعة، وبدءا من عام ثلثة وتسعين أخذ الصهاينة يتحدثون عن مشروع القدس اليهودية العظمى.
معركة دير ياسين ومجزرتها
استغلت العصابات الصهيونية انشغال المجاهدين بتشييع المجاهد عبد القادر الحسيني، لقتراف المجزرة
البشعة في دير ياسين.
تقع دير ياسين إلى الغرب قليل من القدس ويندرج الهجوم الذي تعرضت له في إطار خطة )نحشون(
الصهيونية لفتح الطريق إلى القدس، ولكن بعض العصابات الصهيونية سعت إلى التخلص من
المسؤولية عما حدث في القرية بادعاء أن الهاغانا لم تشارك في الهجوم والمذبحة، وأن المر اقتصر
على عصابتي الرغون وشتيرن.
الحقيقة وحسب ما كشفت الكثير من الوثائق أن التنسيق بين العصابات الصهيونية قد بلغ أوجه عشية
المجزرة، وقد وجه زعيم الهاغاناه برقية إلى قائد الرغون يقول فيها: "لقد بلغني أنكم تخططون للهجوم
على دير ياسين، وفي هذا الصدد أود أن ألفت نظركم إلى أن غزو دير ياسين، هو خطوة واحدة ضمن
خطتنا، وأنني شخصيا ل أعترض على هذه المهمة".
فجر العاشر من نيسان سنة ثمانية وأربعين، بدأ الهجوم على دير ياسين، حيث تحركت وحدات
الرغون، إضافة إلى عناصر البالماخ والهاغاناه لكتساح دير ياسين من الشرق إلى الجنوب، وتبعتهم
جماعة شيترن بسيارتين مصفحتين، وضع عليهما مكبر للصوت. استوعب المدافعون عن القرية الموجة
الولى من الهجوم الصهيوني، وكادوا يردونه، لول قلة الذخائر، وعدم إمكانية وصول نجدات.
طور الصهاينة هجومهم مجددا، ودار القتال من بيت إلى بيت، وحسب اعتراف الرهابي مناحيم بيغن:
أن العرب دافعوا عن بيوتهم وأطفالهم ونسائهم بقوة، مع بدء تقدم الصهاينة داخل القرية، أخذوا بنسف
البيوت بيتا بيتا على من فيها، ووجهوا نداءات عبر مكبرات الصوت، بأنهم تركوا الطريق باتجاه بيت
كارم مفتوح لمن يريد الخروج، وعندما خرج عدد من الهالي حصدتهم رشاشات الصهاينة، أما الذين لم
يخرجوا، فقد جرى إلقاء القنابل داخل منازلهم، ثم الدخول إليها والجهاز على من تبقى فيها بواسطة
السكاكين والفؤوس والبلطات.
مع ذلك ظل تقدم الصهاينة إلى وسط القرية بطيئا بسبب المقاومة التي أبداها أهلها، ولذلك أرسل القادة
الصهاينة بشحنات كبيرة من المتفجرات إلى دير ياسين، مع تعليمات بتدمير كل منازلها، وإبادة كل
عربي فيها.
استمرت عمليات القتل والتدمير حتى الظهر، ومن أصل أربعمائة نسمة هم سكان دير ياسين استطاع
مغادرة القرية أربعون فقط، أما الباقون فقد قتلهم الصهاينة جميعا، ودفن مائتان وخمسون منهم في قبر
جماعي تولت عصابة الهاغاناه حفرة في أحد أطراف القرية.
أغلق الصهاينة البلدة أثناء القيام بعمليات الدفن، ومنعوا بعثة للصليب الحمر من دخولها، لكن رئيس
البعثة الفرنسي تمكن من الدخول وشاهد أكوام الجثث وكتب في تقرير له: "لم يرفضوا مساعدتي
فحسب، وإنما رفضوا أن يتحملوا مسؤولية ما يحدث لي، وكانت العصابة ترتدي ملبس الميدان وتعتمر
الخوذات، وكان جميع أفرادها شبانا ومراهقين ذكورا وإناثا، مدججين بالسلح، وكان القسم الكبر منهم
ل يزال ملطخا بالدماء، وخناجرهم الكبيرة في أيديهم، وعرضت فتاة جميلة تطفح عيناها بالجريمة يديها
وهما تقطران دماء وكانت تحركهما وكأنهما ميدالية حرب".
وقعت المجزرة في ظرف صعب، نظرا لستشهاد القائد عبد القادر الحسيني، كما أن القيادة الفلسطينية
في حينه لم تدرك الثر النفسي الذي تريده المجزرة، فجرى التهويل في الحديث عن الرقام والفظائع
التي اقترفت في دير ياسين، بهدف كسب تعاطف إنساني ولكن النتيجة جاءت لصالح الصهاينة، إذ قام
سكان بعض القرى بإخلئها دون قتال وحتى وصول الصهاينة إليها، وهو ما يقول الصهاينة أنه كان
خدمة كبيرة لهم، وحققت أهدافهم مما اقترفوه في دير ياسين.
قيام منظمة التحرير الفلسطينية
في بيت المقدس، التأم أواخر أيار من عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين شمل المؤتمر الفلسطيني
الول. حيث ضمت قاعات فندق النتركونتيننتال في المدينة ثلثمائة وسبعة وتسعين عضوا يمثلون
الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، للبحث في إقامة القواعد السليمة لنشاء الكيان الفلسطيني.
جاء انعقاد المؤتمر في القدس، حصيلة جهود مكثفة بذلها الستاذ أحمد الشقيري مكلفا من مؤتمر القمة
العربي الول، وهو في تحركه النشط تجاوز حدود قرار القمة من مجرد "التصال" بالشعب الفلسطيني،
إلى عقد مؤتمر وطني في القدس، سوف يتحول إلى المجلس الوطني الفلسطيني لحقا.
ويعتبر هذا المؤتمر هاما جدا من نواح عديدة، فهو قد انعقد في بيت المقدس، وشمل أوسع تمثيل ممكن
للشعب الفلسطيني في حينه. ثم شهد العلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، والمصادقة على
الميثاق القومي لمنظمة التحرير.
وقد قال الستاذ أحمد الشقيري الذي انتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير: إن شعب فلسطين
يجتمع في مدينة القدس الخالدة لول مرة بعد كارثة فلسطين ليعلن عبر هذا المؤتمر للدنيا بأسرها، أننا
نحن، أهل فلسطين، وأصحابها الشرعيين، قد التقينا على تحرير فلسطين.
وأعلن أن أهل فلسطين يرفضون السير في أي طريق إل طريق الكفاح المسلح. وقرر المؤتمر، أن قيام
)إسرائيل( في فلسطين، وهي جزء من الوطن العربي، رغم إرادة أصحابها الشرعيين يعتبر عدوانا
استعماريا صهيونيا مستمرا، ويخالف مبدأ حق تقرير المصير، وبقاء إسرائيل في هذا الجزء من الوطن
العربي يشكل خطرا مستمرا على كيانه وعلى السلم العالمي، وأن للشعب العربي الفلسطيني، بموجب
العراف الدولية والمبادئ المقررة، الحق في أن يناضل في سبيل تحرير وطنه بكافة الوسائل مدعوما
بمساعدة الدول العربية الشقيقة والدول المحبة للسلم.
كما قرر المؤتمر، المباشرة فورا بفتح معسكرات لتدريب جميع القادرين من الشعب الفلسطيني، رجال
ونساء، على حمل السلح، وبصورة إلزامية ودائمة، وتشكيل كتائب فلسطينية عسكرية نظامية، وكتائب
فدائية قادرة وفعالة. واتخاذ كافة الجراءات السريعة لتزود الكتائب الفلسطينية بمختلف أنواع السلحة
الحديثة والتجهيزات اللزمة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات للحاق الشباب الفلسطيني وزيادة أعداده في
الكليات العسكرية بأنواعها لدى الدول العربية والصديقة، وتطبيق نظام المقاومة الشعبية، والدفاع
المدني في صفوف الشعب الفلسطيني.
إضافة إلى عدد كبير من القرارات في المجالت السياسية والعسكرية والعلمية والقتصادية.
اتخذ المؤتمر من مدينة القدس مقرا له. كذلك أن تكون مقرا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
التي ظلت تعقد اجتماعاتها في مدينة القدس، حتى عدوان حزيران سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين.
وتقرر أن تكون مدينة القدس مقرا لكل أمانات المنظمات الشعبية والتحادات الفلسطينية التي تقرر
إنشاؤها. وهو ما حدث بالفعل، حيث عقدت منظمات واتحادات مؤتمرات لها في القدس. كما أن
المنظمات التابعة لجامعة الدول العربية، عقدت خلل عام ألف وتسعمائة وستة وستين مؤتمراتها في
مدينة القدس تأكيدا على عروبة المدينة ودعما لمنظمة التحرير الفلسطينية.
شكل المؤتمر الفلسطيني الول في القدس، قاعدة المؤسسة الرسمية الفلسطينية، التي شاركت في
مؤسسات جامعة الدول العربية، واعتبرت بمثابة الكيان السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني، ورغم
الثغرات التي حالت دون وضع الكثير من القرارات موضع التنفيذ، إل أن هذه المبادرة قد نجحت في
تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، وبعد وقت قصير انطلق الكفاح
الفلسطيني المسلح.
كلية العلوم والتكنولوجيا أبو ديس
تعود فكرة إنشاء جامعة عربية في القدس إلى عام واحد وثلثين، حيث اتخذ المؤتمر السلمي العام
قرارا بإنشاء جامعة إسلمية، وذلك بعد أن كان الصهاينة قد قاموا بافتتاح جامعة لهم، هي الجامعة
العبرية عام خمسة وعشرين.
غير أن القرار لم ينفذ لسباب متعددة، ثم عطلت نكبة فلسطين تحول الكلية العربية في القدس إلى
جامعة، وفي أواسط الستينات عادت الفكرة إلى الظهور مجددا، فاتخذ المؤتمر الطبي العربي المنعقد في
الكويت قرارا بإنشاء كلية الطب في القدس تكون نواة لجامعة فلسطين العربية.
وبعد أيام قليلة من اتخاذ القرار، قام الملك حسين، والشيخ صباح السالم أمير الكويت، بوضع حجر
الساس، لقامة المعهد العربي، وكلية العلوم والتكنولوجيا في أبو ديس بالقدس، وأعلن وزير الخارجية
الكويتي في حينه أن أمير الكويت سيسهم بمبلغ مئة ألف دينار لمشروع إنشاء المعهد العربي في
القدس لبناء اللجئين.
بدأ العمل في البناء، ولكنه تعطل بفعل الحتلل الصهيوني عام سبعة وستين، ثم بعد ثلث سنوات،
جرى الفتتاح كمدرسة إعدادية، واستمر يعمل بوصفه كذلك سنوات عدة. إذ برغم موافقة السلطات
الصهيونية على افتتاح جامعات عدة في المدن الفلسطينية، مثل بيرزيت، وبيت لحم، وجامعة النجاح في
نابلس، فقد رفضت باستمرار الموافقة على افتتاح كلية جامعية في القدس، مع أن المم المتحدة
أصدرت قرارات عدة بهذا الشأن تدعو الحكومة الصهيونية إلى الموافقة على افتتاح الجامعة في "أبو
ديس".
سنة تسعة وسبعين، اتخذت جمعية المعهد العربي في الكويت قرارا بدعم المعهد العربي في القدس،
وتطويره إلى كلية للعلوم والتكنولوجيا، تكون نواة جامعة عربية في القدس، وتم تخصيص مبلغ مئة
وخمسين ألف دينار لدعم المشروع، كما قدمت منظمة المؤتمر السلمي أربعمائة وثمانين ألف دولر
للغاية نفسها.
وفي السنة ذاتها تم افتتاح الصف العلمي الول في كلية العلوم والتكنولوجيا مع البقاء على المعهد
العربي كمدرسة إعدادية بكامل حقوقه وطلبه، عملت الكلية لشهر معدودة، قبل أن تقوم قوات الحتلل
بإغلقها تعسفا بذريعة افتتاحها دون موافقة السلطات الصهيونية والتي كانت تحارب أي وجود
مؤسساتي عربي في القدس وضواحيها.
لجأت الكلية إلى القضاء الصهيوني، الذي أصدر قرارا ملتبسا سمح بموجبه بافتتاح صف جامعي واحد،
ما يفقدها أي أفق للتطور كجامعة، وفي سنة إحدى وثمانين عاودت الكلية نشاطها، وتم تجديد المنحة
الكويتية لها، وكان عليها أن تخوض مجددا معركة الستمرار باستكمال صفوفها الجامعية.
تلقت الكلية دعما من مجلس التعليم الفلسطيني ومن اللجنة المشتركة الردنية الفلسطينية لدعم
الصمود، خاصة بعد أن أصدر اتحاد الجامعات العربية، في اجتماع له بالخرطوم سنة اثنين وثمانين،
قرارا اعترف بموجبه بقيام جامعة القدس، من كليات العلوم والتكنولوجيا في أبو ديس، الدعوة وأصول
الدين في القدس، العربية للمهن الطبية في البيرة، ثم انضمت إليها كلية الداب للبنات بالقدس نهاية
عام ثلثة وثمانين.
وبالتوازي مع ذلك أنشأ مجلس التعليم الفلسطيني العالي "جامعة القدس المفتوحة ".
كامب ديفيد الولى
في تشرين الثاني من عام سبعة وسبعين، ألقى الرئيس المصري أنور السادات خطابا أمام الكنيست
الصهيوني في القدس المحتلة، تجاوز السادات بهذه الخطوة كل الخطوط الحمراء ولكنه سعى إلى إظهار
تمسك لفظي بعودة الجزء المحتل من القدس سنة سبع وستين إلى السيادة العربية وتحدث عن اعتبار
دور العبادة السلمية والمسيحية شاهد صدق على الوجود العربي الذي لم ينقطع في هذا المكان سياسيا
وروحيا وفكريا.
وفي رده على كلم السادات، اعتبر الرهابي مناحيم بيغن أنه فيما يتعلق بإدارة الماكن المقدسة يصدر
ويقدم اقتراح خاص يضمن حرية وصول أبناء الديانات إلى الماكن المقدسة الخاصة بهم.
مع بدء المفاوضات بين الجانبين المصري والصهيوني برعاية أمريكية، طالب السادات الرئيس
المريكي جيمي كارتر بالضغط على الكيان الصهيوني لتقديم ضمانات حول القدس وقدم الوفد المصري
مشروعه للتسوية، الذي ضمنه حول القدس نصا يقول:
"تنسحب )إسرائيل( من القدس إلى خط الهدنة المبين في اتفاقية الهدنة الموقعة عام تسعة وأربعين
وتعود السيادة والدارة العربية إلى القدس العربية ويشكل مجلس بلدي مشترك للمدينة من عدد متساو
من العضاء الفلسطينيين والصهاينة".
لكن رسالة السادات التفصيلية إلى كارتر تضمنت أساسا سيعرف لحقا باقتراحات الحل البلدي للقدس.
تحدث السادات في رسالته عن أنه يجب "أن يكون لجميع الشعوب حرية الوصول إلى المدينة، والتمتع
بحرية ممارسة شعائرهم، وأن الماكن المقدسة لكل ديانة يمكن أن توضع تحت إدارة ممثليها وسلطتهم.
كذلك فإن الوظائف الساسية في المدينة يجب أل تقسم، ويشكل مجلس بلدي مشترك".
جواب الصهاينة على المقترحات المصرية، جاء في رسالة بيغن إلى كارتر والتي قال فيها: "إن حكومته
الصهيونية أصدرت مرسوما في تموز من عام سبعة وستين، ينص على أن القدس مدينة واحدة غير
قابلة للتقسيم، وهي عاصمة )دولة إسرائيل(.
لم تنكشف صيغة الحل البلدي الذي اقترحه السادات إل بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق حول القدس،
فقد قال السادات بعد توقيع التفاقية مع الصهاينة:
بالنسبة للقدس، إنها بين المور التي لم نتفق عليها تماما، ولم تتضمنها التفاقية، ومضيفا:
أنا غير مؤهل لتحدث وحدي عن القدس ل بد أن يكون معي الملك حسين، وكان هذا قرار مني ومن
أمريكا.
وفي تصريحاته ذاتها أوضح السادات أنه تقدم بمقترحات حول القدس، بحيث ل يعاد تقسيمها مرة أخرى
أو بحيث يكون في القسم الشرقي إدارة عربية، وفي القسم الغربي إدارة صهيونية وفوقهما بلدية
مشتركة.
سيكون هذا أساسا لقتراحات لحقة حول التسوية في القدس، وسيثابر السادات على القول أن الموقفين
المصري والمريكي من قضية القدس متطابقان، مستندا إلى رسالته تلقاها من جيمي كارتر يقول فيها
إن واشنطن ل تقر إعلن القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وأن الحل فيها يكون عبر المفاوضات.
كما سيثابر على طرح مشروعه بالحل البلدي واعتباره السبيل المتاح لحل قضية القدس. فبعد أن أصدر
الكنيست الصهيوني قراره بضم المدينة، قال السادات: حينما تحدثت مع صديقي بيغن بخصوص القدس
كانت وجهة نظري أن للقدس حساسية دينية لنا جميعا، وعلى ذلك فقد كان تصوري هو أن الدعوة
لتقسيم القدس مرة أخرى ل بالسلك الشائكة ول بغيرها وإنما تعود القدس مدينة موحدة، ولكن الجزء
العربي منها يكون تحت سيادة عربية، مع بلدية مشتركة ومجلس بلدي مشترك، وينتخب العمدة
بالترتيب".
ردود صديقه بيغن كانت بتثبيت ضم القدس وتوسيع حدودها، وإغراقها بالمستوطنين.
كامب ديفيد الثانية
يتردد كثيرا أن اجتماعات كامب ديفيد الثانية قد فشلت بسبب الخلف على الحلول بشأن وضع القدس.
دعا إلى الجتماعات الرئيس المريكي بيل كلينتون وشارك فيها كل من ياسر عرفات على رأس وفد
فلسطيني، والرهابي ايهود باراك على رأس وفد صهيوني، وذلك لمناقشة ما تعرف بقضايا الحل
النهائي حسب أجندة أوسلو وهي: القدس، المستوطنات، اللجئون. إلى جانب ملفات أخرى توصف
عادة بأنها ملفات القضايا الصعبة.
ذهب الصهاينة إلى تلك الجتماعات، وهم يعلنون أن القدس هي العاصمة البدية والموحدة لكيانهم
وأنهم لن يقبلوا أي تقاسم فيها، مع الستعداد لحل اعتبروا أنه يضمن حرية العبادة في المدينة
المقدسة.
أما خلف ما هو معلن، فقد كان يجري التداول في مجموعة من السيناريوهات، لتقسيم البلدة القديمة
من القدس التي تضم الحرم القدسي الشريف، والمقدسات السلمية والمسيحية.
كان الصهاينة قد أطلقوا منذ عام ثلثة وتسعين، العديد من التصورات الختبارية لتقسيم البلدة القديمة،
من بين هذه التصورات، ما نشرته الصحف الصهيونية في العام المذكور، بتوقيع الباحث أبراهام
أبولتكا، وفيه اقتراح بتحويل ساحة الحرم إلى نوع من الفاتيكان بطوابع وعلم، ويدار المكان من خلل
مجلس وهيئة إدارية تعينها كل الدول السلمية، والجهات السلمية في الدول غير السلمية كالوليات
المتحدة وإنكلترا. ويتحدث القتراح عن تحويل كنيسة القيامة وجوارها إلى دولة مسيحية، تدار من
هيئة تتشكل من مندوبي الكنائس المسيحية الممثلة في القيامة حاليا.
ثم دولة صهيون، التي تضم حائط البراق، بما في ذلك أقبية الحائط، وتدار من هيئة ينتجها اليهود في
جميع أنحاء العالم.
تكررت أمثال هذا القتراح كثيرا، كما جرى التداول في جعل إحدى ضواحي القدس، عاصمة لدولة
فلسطينية.
كان الرئيس المريكي يطمح إلى تسجيل إنجاز باسمه يوصل المفاوضات بين الجانبين إلى توقيع اتفاق،
فاختار منتجع كامب ديفيد مكانا للجتماعات وعزله عن الصحافة.
ربما أراد السير على خطى سلفه كارتر، بإنجاز التفاق في كامب ديفيد الولى، وكي يضمن النجاح
لجهوده، عمد إلى تقديم سلسلة من التصورات والقتراحات حول القضايا موضع النقاش.
في مسألة القدس، حاول الرئيس المريكي أن يستخلص تصورا من مجمل التصورات التي تم عرضها
بشأن القدس، منذ قرار التقسيم سنة سبعة وأربعين، حتى لحظة انعقاد الجتماعات في كامب ديفيد.
حاول كلينتون في اليام الولى للجتماعات تمرير اقتراح بتجميد الوضع الراهن داخل البلدة القديمة
ا إلى الحرم، ورفع العلم t آمن t ونقل التفاوض عليها إلى مرحلة قادمة، مع إعطاء الفلسطينيين ممرا
الفلسطيني فوق المساجد. لكن القتراح رفض، فعاد كلينتون إلى تقديم تصور تفصيلي في اللحظات
الخيرة.
استند التصور المريكي الجدي إلى القتراحات الختبارية الصهيونية فجاء فيه: "كل ما فوق الرض،
المسجد القصى وقبة الصخرة والباحة الواقعة بينهما تكون هي الحرم الشريف، وتحت السيادة
الفلسطينية، أما ما تحت المقدسات السلمية، والذي قد يحتوي على أطلل الهيكل اليهودي، فسوف
يخطى بمكانة خاصة يتم فيها احترام الصلة اليهودية.
ويقترح كلينتون بديلين:
"في الخيار الول تمنح )إسرائيل( السيادة ما تحت الرض والتي ستكون على ارتباط بباحة حائط البراق
الذي سيخضع في كل الحوال للسيادة )السرائيلية(.
أما الخيار الثاني، فيذكر الصلة بما يسميه المقدسات اليهودية الواقعة تحت الحرم القدسي، ويقترح
إقامة جهاز إشراف دولي خاص يقلص السيادة الفلسطينية على ما تحت الحرم ويمنع الحفريات في
المكان.
وفي البلدة القديمة، يقوم نظام خاص يتيح المرور الحر من دون سياج أو معابر حدودية، ويقضي هذا
النظام بإخضاع الحي المسيحي والحي السلمي للسيادة الفلسطينية، فيما يبقى الحي اليهودي وحائط
البراق تحت السيادة اليهودية.
ويتم تقسيم الحي الرمني بصورة تمنح )لسرائيل( سيادة على ممر باب يافا إلى حائط البراق، على أن
يخضع باقي الحي للسيادة الفلسطينية.
ويضم اقتراح وضع جبل الزيتون وسلوان )التي يسميها الصهاينة مدينة داوود( المجاورين للبلدة
القديمة تحت السيادة الصهيونية.
لم تلق مقترحات كلينتون نجاحا، ومعلوم أن كامب ديفيد الثانية انتهت إلى الفشل، وحمل الصهاينة
والمريكيون مسؤولية فشلها إلى الجانب الفلسطيني الذي لم يكن ليجرؤ على توقيع اتفاق ينقض من
السيادة على القدس ويسقط حق عودة اللجئين الفلسطينيين.
مجزرة الحرم القدسي
1990
مثلما كان حريق المسجد القصى سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين، فقد كانت المجزرة الوحشية التي
اقترفها الصهاينة في المسجد القصى يوم الثامن من تشرين الول سنة ألف وتسعمائة وتسعين جريمة
مدبرة.
قبل المجزرة بأيام، وزعت الجماعة المسماة "أمناء جبل الهيكل" بيانا على وسائل العلم الصهيونية
عرش اليهودي، أعلنت فيه أنها تنوي القيام بمسيرة باتجاه المسجد القصى يوم _ بمناسبة ما يسمى عيد ال
الثامن من تشرين الول، لسترداد المسجد من أيدي العرب، ودعت اليهود إلى المشاركة في هذه
المسيرة التي وصفها البيان بالحاسمة لوضع حجر الساس لبناء ما أسمته الهيكل الثالث.
مع صدور هذا البيان، تنادى المسلمون من كل أنحاء فلسطين لحماية المسجد، ومنذ صلة فجر ذلك
اليوم، بدأ المسلمون بالتوافد إلى المسجد للحيلولة دون دخول الجماعة الرهابية الصهيونية إليه.
السلطات الصهيونية التي كانت تبيت للجريمة سمحت بدخول المصلين بأعداد كبيرة رغم أنها دأبت على
منع من يقل عمره عن خمسة وثلثين عاما من دخول المسجد.
مع تقدم النهار، بدا الوضع هادئا، لكنه يشي بالريبة، فتعداد أفراد الشرطة الصهيونية كان أكبر من
حجمه المعتاد بكثير.
عند العاشرة وأربعين دقيقة عل صراخ النساء المتواجدات في مصلى النساء وعلى سطح مسجد قبة
الصخرة، حيث أمطر اليهود السماء بقنابل غازية تجاههن.
توجه المصلون صوب الصراخ، فبدأ الجنود الصهاينة بإطلق الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز
باتجاههم.
تعالت أصوات التكبير في المسجد وساحات الحرم القدسي، فخرج المصلون الذين انتبهوا إلى صوت
إطلق الرصاص إلى الساحات للدفاع عن مسجدهم.
واندلعت معركة غير متكافئة.. الصهاينة يطلقون الرصاص الحي.. والشبان والطفال والشيوخ والنساء
يردون عليهم بالحجارة، لتغوص ساحة المسجد وساحات الحرم بالدماء التي انتشرت على مساحة
واسعة.
افتدي القصى بدماء اثنين وعشرين شهيدا وأكثر من مائتي جريح تراوحت جراحهم بين الخفيفة
والمتوسطة، وكان يوما مشهودا آخر من أيام القدس.
قوات الحتلل التي اقترفت هذه المجزرة الوحشية ادعت أنها تعرضت لمضايقات أجبرتها على أن تقوم
بما قامت به.
في حين أكد شهود العيان أن الشرطة الصهيونية كانت تزود المستوطنين بأمشاط الرصاص كي
يساعدوها في إطلق النار على المصلين المسلمين في المسجد القصى وساحات الحرم القدسي.
الهيئة السلمية شكلت لجنة لتقصي الحقائق ردا على الدعاءات الصهيونية، وقد أكد التقرير الذي
أصدرته اللجنة التي شكلتها الهيئة على أن المجزرة كانت مبيتة وأن الصهاينة قاموا بالعداد لها بشكل
محكم.
وأورد التقرير قول للضابط المسئول عن حرس الحدود لمساعد مدير المسجد القصى:
"إذا ما رمي حجر صغير علينا، فإننا سنطلق الرصاص الحي، ول يكفيني قتل مئة ألف مسلم".
وهذا القول الذي ترجمه الصهاينة جزئيا يعكس نيتهم بتنفيذ الجريمة، علما أن الصهاينة هم من بدأ
العتداء بمهاجمة مصلى النساء.
مجلس المن الدولي أصدر قرارا دان فيه المجزرة الوحشية التي وقعت في الحرم القدسي وحمل القوات
الصهيونية المسؤولية عنها.
وهو قرار أضيف إلى قرارات سابقة وسوف تلحقه قرارات أخرى دون جدوى أو ترجمة فعلية على
الرض.
في قرارات اليونسكو
كان حال اليونسكو، وهي منظمة دولية تتبع المم المتحدة، مع الكيان الصهيوني، شبيها بحال الجمعية
العامة ومجلس المن، ربما باستثناء أن اليونسكو، نجحت في بعض الخطوات العملية المحدودة للحفاظ
على التراث الل نساني الحضاري في المدينة المقدسة.
عام واحد وسبعين، وضع أمين القدس روحي الخطيب المجلس التنفيذي لليونسكو في صورة المخاطر
التي تتهدد مدينة القدس، نتيجة الجراءات الصهيونية الهادفة إلى تغيير معالم المدينة وتهويدها.
وفي العام التالي انهار رباط الكرد جزئيا فدانت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم أعمال
الحفريات التي يقوم بها الصهاينة، والتي سببت هذا النهيار.
وفي العام نفسه، أقرت الدورة السابعة عشر لتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي التي
نظمتها اليونسكو، أقرت اعتبار البلدة القديمة من القدس ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر.
بذلت المنظمة الدولية جهودا مضنية مع الصهاينة لوقف أعمال الحفريات، ولكن الصهاينة أحبطوا كل
مساعيها، فقررت عرض القضية على المؤتمر العام لليونسكو الذي أدان الكيان الصهيوني عام أربعة
وسبعين، لقيامه بتبديل الشخصية الثقافية والتاريخية لمدينة القدس، كما اتخذ المؤتمر قرارا يدعو
المين العام لليونسكو إلى عدم تقديم أي عون في ميادين التربية والعلم والثقافة إلى الكيان الصهيوني.
عام ألف وتسعمائة وثمانين، دان المؤتمر العام لليونسكو مجددا وبشدة الكيان الصهيوني لرفضه
المستمر تنفيذ القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بشأن مدينة القدس، وأوصى لجنة التراث
بالتعجيل في اتخاذ الجراءات المتعلقة بإدراج مدينة القدس في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر،
تنفيذا للقرار المتخذ عام اثنين وسبعين، وهو ما تم تنفيذه فعليا عام ثلثة وثمانين، حيث أقر المؤتمر
العام لليونسكو في الن عينه، دعوة الدول العضاء إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير ضد الكيان الصهيوني
الذي يرفض المتثال لمطالبات اليونسكو المتكررة بوقف التغييرات التي يجريها في القدس.
عام خمسة وثمانين طالبت المنظمة الدولية بتوجيه دعم إلى الوقاف السلمية التي تقوم بصون التراث
السلمي الحضاري في المدينة المقدسة، وعقدت في العام التالي ندوة عالمية حول التراث الحضاري
النساني في القدس، فيما طالب المؤتمر العام مجددا دعم عمليات الترميم وصون التراث الحضاري في
المدينة المقدسة، بغية الحفاظ على طابعها.
ووجهت اليونسكو عام سبعة وثمانين نداء عاجل إلى الكيان الصهيوني طلبت فيه إليه التوقف الفوري
والنهائي عن الحفريات والجراءات الهادفة إلى تغيير طابع المدينة المقدسة.
بالطبع لم يلتفت الصهاينة إلى هذا النداء، فقررت منظمة اليونسكو في العام التالي فتح حساب خاص
لتلقي إسهامات الدول العضاء في صون التراث الثقافي في القدس، وأرفق العلن عن فتح الحساب
بنداء إلى كافة الدول العضاء لتقديم إسهاماتها.
حاولت المنظمة الدولية إيفاد بعثة تمثل المين العام إلى القدس، لدرس مختلف الجوانب الثرية والفنية
والجتماعية والثقافية المرتبطة بصون المواقع في المدينة.
عطل الصهاينة وصول هذه البعثة على مدى عامي تسعة وثمانين وتسعين، وعقب زيارتها القدس عام
واحد وتسعين، دعت المنظمة الدولية إلى تشكيل مجلس مؤلف من شخصيات علمية مشهود لها
بالكفاءة لتقديم المشورة لترميم الثار السلمية في القدس.
ساهمت اليونسكو في ترتيب دعم مالي لترميم المسجد القصى عام اثنين وتسعين، وكذلك لترميم كنيسة
القيامة.. ولكن المجلس التنفيذي دعا سلطة الوقاف السلمية إلى مواصلة العمال في قبة الصخرة
حتى تتوافق عمليات الترميم مع المعايير العلمية، وإلى وقف الترميم في كنيسة القيامة حتى استكمال
المتفق عليها في مجال صون وترميم المعالم التاريخية.
وعام أربعة وتسعين، نجحت اليونسكو في البدء بأعمال الصيانة والترميم في سوق القطانين وحمامات
الشفاء، على أن تشرع بعد ذلك في أعمال الترميم في المسجد القصى.
تابعت اليونسكو اهتمامها بالقدس، ونجحت في أن تفتح عام ألفين في مقرها في باريس معرضا بعنوان
القدس مدينة النسانية، رغم اعتراضات صهيونية قوية.
في قرارات مجلس المن الدولي
كانت القدس حاضرة معظم الوقت في مداولت مجلس المن الدولي حول القضية الفلسطينية، وإذا كان
يقال على سبيل التنذر، إن قرارات مجلس المن بشأن فلسطين، تمل بيتا، فإن للقدس نصيبا وافرا منها،
عدا تلك القرارات التي حال الفيتو المريكي، دون دخولها سجل القرارات الخاصة بالقدس وفلسطين.
في نيسان من عام ثمانية وأربعين شكل مجلس المن لجنة قنصلية لحلل هدنة بين الطرفين المتحاربين
في القدس، وفي أيار من العام نفسه، أصدر قراره رقم تسعة وأربعين، الذي يشدد فيه على إحلل
الهدنة، وهو ما كرره في قراره رقم خمسين وفيه تأكيد على العمل من أجل تأمين حرية الماكن
المقدسة وتعين وسيط للشراف على قراره بوقف القتال وتثبيت الهدنة، وهو ما تكرر في القرار رقم
أربعة وخمسين، حيث دعا الوسيط إلى مواصلة الجهود من أجل نزع السلح في القدس دون إجحاف
بمستقبل وضع القدس السياسي.
ونجح المجلس بقراره هذا في تثبيت الهدنة الثانية، ما أدى إلى انقلب الوضع العسكري في المدينة
رأسا على عقب لصالح الصهاينة.
في قراره رقم ستين، قرر المجلس إقامة لجنة فرعية لمساعدة الوسيط برنادوت في تنفيذ قرارات
المجلس في القدس وتقديم القتراحات المناسبة ثم قام بتثبيت خطوط الهدنة بين القوات الردنية، والعدو
الصهيوني.
ما بين عامي تسعة وأربعين وسبعة وستين اقتصرت قرارات المجلس على تأييد نظام دولي خاص
للقدس، وتثبيت الهدنة.
وعام ثمانية وستين، أصدر قراره رقم مائتين وخمسين، وفيه دعوة للكيان الصهيوني للمتناع عن إقامة
عرض عسكري في القدس، المر الذي رفضه الصهاينة، ليبدي المجلس أسفه في قرار لحق على اقامة
هذا العرض، ثم ليشجب في القرار رقم مائتين واثنين وخمسين، عدم امتثال الكيان الصهيوني لقرارات
الجمعية العامة الداعية لعدم إجراء تغييرات في القدس من قبل الصهاينة، ومرة أخرى ووجه القرار
برفض الصهاينة.
عام تسعة وستين، تبنى المجلس القرار رقم مائتين وسبعة وستين، وفيه تأكيد على مضمون قراره رقم
مائتين واثنين وخمسين، الداعي إلى إلغاء جميع الجراءات التي قام بها الصهاينة لتغيير وضع القدس.
وفي قراره رقم مائتين وواحد وسبعين، إدانة لفشل الكيان الصهيوني، في حماية الماكن المقدسة بعد
حريق المسجد القصى، عام تسعة وستين.
عام واحد وسبعين، أصدر المجلس قراره رقم مائتين وثمانية وتسعين، وفيه أسف لعدم احترام الكيان
الصهيوني القرارات السابقة الصادرة عن المجلس، وتأكيد على أن جميع الجراءات الصهيونية في
القدس لغية كليا، وعام ستة وسبعين حذر المجلس الكيان الصهيوني من أي تدنيس للماكن المقدسة
في المدينة.
جاء القرار رقم أربعمائة وخمسة وستين، لسنة ثمانين، خاصا بالنشاط الستيطاني الصهيوني في الضفة
وهو دعا إلى وقف الستيطان في القدس وأنحاء الضفة الخرى، ودعا دول العالم إلى عدم تقديم أية
مساعدة تتعلق بالمستوطنات الصهيونية إلى الكيان الصهيوني ووجه المجلس في قراره رقم أربعمائة
وثمانية وسبعين لوما شديدا إلى الكيان الصهيوني، بعد مصادقة الكنيست على اعتبار القدس موحدة
وعاصمة للكيان الصهيوني، واعتبر ما قام به الصهاينة انتهاكا للقانون الدولي، ودعا جميع الدول التي
أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحبها.
المجلس عبر عن جزعه في القرار رقم ستمائة واثنين وسبعين لسنة تسعين، لعمال العنف التي وقعت
في الحرم الشريف، حيث اقترف الصهاينة مجزرة أدت إلى استشهاد أكثر من عشرين مواطنا فلسطينيا.
ودان المجلس ما قام به الصهاينة، وهو طالب عام اثنين وتسعين، الكيان الصهيوني، بتطبيق اتفاقات
جنيف على القدس.
عام ستة وتسعين، اندلعت انتفاضة النفق بعد أن افتتح الصهاينة نفقا يهدد أساسات المسجد القصى،
وفي المواجهات التي شهدتها هذه النتفاضة استشهد عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين.
أصدر مجلس المن قراره رقم ألف وثلثة وسبعين، وفيه دعا إلى إغلق النفق، وإلى ضمان سلمة
المدنيين الفلسطينيين وحمايتهم.
أضيف القرار إلى سابقاته، وسوف تضاف إليه قرارات أخرى، ولكن بوتيرة أقل بعد أن دأبت واشنطن
على إحباط أي قرار ل يروق للصهاينة، ولكن حتى القرارات التي تم تمريرها ظلت دون تنفيذ، وكرست
حقيقة تقول: إن الكيان الصهيوني فوق القانون الدولي الذي يفلح مجلس المن في تطبيقه وبسرعة في
أماكن أخرى.
قضية المطران كبوجي
لم يطق المطران هيلريون كبوجي، مطران القدس للروم الكاثوليك،رؤية المدينة وهي تهود، ورأى من
واجبه التصدي للجرام الصهيوني في المدينة المقدسية. فما كان من الصهاينة إل أن أضافوا إلى
جرائهم جريمة أخرى باعتقال المطران عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين.
سبقت هذا العتقال محاولت عديدة من قبل الصهاينة لثني المطران كبوجي عن مواقفه، وطالب
أعضاء كنيسة صهاينة الفاتيكان بعزله، بسبب نشاطاته وآرائه التي وصفها الصهاينة بأنها اتخذت
طابعا متطرفا وانحرفت عن شؤون الكنيست على حد زعمهم.
وتعرض المطران لحملة دعائية من الصحف ووسائل العلم الصهيونية التي ذكرت مرارا أنه وطني
عربي متشدد، وكان الوحيد بين رجال الدين الذي رفض حضور الحتفالت والستقبالت التي تنظمها
السلطات الصهيونية.
وجه الصهاينة للمطران كبوجي ثلث تهم هي: حيازة أسلحة، القيام بخدمة منظمة غير مشروعة،
والمقصود منظمة التحرير الفلسطينية، والتصال بعملء أجانب.
بعد أيام قليلة من اعتقاله قدم الصهاينة المطران إلى المحاكمة، وكشفوا عن التهام الحقيقي الذي
يوجهونه إليه، وهو التعاون مع الفدائيين الفلسطينيين.
أثار اعتقال كبوجي ردود فعل واسعة النطاق اعتبرت أن ما قام به الصهاينة،كان عمل مبيتا على تهمة
ملفقة للتخلص منه كأحد رجال الدين البارزين الذين صمدوا بصلبة في وجه الحتلل وقاوموا بكل
جرأة وبسالة كل مخططات سلطات الحتلل الرامية إلى تهويد مدينة القدس وتفريقها من سكانها.
واعتبرت هيئة المؤتمر السلمي العام أن من واجب العالم المتحضر العمل بأقصى سرعة لنقاذ حياة
المطران، وإنهاء الحتلل الصهيوني لبيت المقدس، حتى تعود المدينة إلى سابق عهدها مدينة للتسامح
والمحبة.
استمرت محاكمة المطران كبوجي وقتا طويل أظهر خللها بسالة وجرأة في مواجهة المحققين
الصهاينة، حيث أوضح أن عميل في المخابرات الصهيونية هدده بالموت إن لم يدل بإفادة تدينه
بالتهامات الموجهة إليه.
رغم حملة الستنكار الواسعة عربيا ودوليا، واصل الصهاينة محاكمة المطران، وتعذيبه في السجون
الصهيونية دون مراعاة لمكانته الدينية، ثم أصدرت المحكمة الصهيونية في كانون الول من عام ألف
وتسعمائة وأربعة وسبعين، حكما بالسجن على المطران لمدة اثني عشر عاما، بالتهم التي تضمنها
القرار التهامي ببنوده الثلث.
انطلقت حملة تضامن واسعة جديدة مع المطران كبوجي للمطالبة بالفراج عنه ولكن سلطات الحتلل
صمت أذنيها أمام كل النداءات والمطالبات بالفراج عنه واستمرت في اعتقال رجل الدين لمدة ثلث
سنوات، حتى أظهرت استجابة لضغوط من الفاتيكان، فجرى الفراج عن المطران سنة سبع وسبعين
شريطة أن يتكفل البابا بعدم صدور إي تصريحات تتعلق بالكيان الصهيوني عن المطران كبوجي وعن
موضوع اعتقاله، وأل يعود إلى الشرق الوسط للقامة أو العمل.
قبل الفاتيكان هذه الشروط، وغادر المطران القدس حزينا، وهو يقول: "إنني الن في المنفى ولو كنت
في روما عاصمة الكاثوليكية، فإذا تركت وطني زرعت روحي في القدس على أمل العودة كما تزرع
حبة الحنطة فإذا لم تدفن حبة الحنطة في الرض تموت، وأنا دفنتها بشرط حياتها وقيامتها، إنني
أعيش ألم الغربة والستعداد لمل العودة إلى وطني الكبر،أي دنيا العرب، ومنه إلى الوطن الصغر
"القدس وفلسطين".
ظهرت جهود لتعيين كبوجي مطرانا للبرازيل أو أمريكا الجنوبية ..لكنه ظل على موقفه محتفظا بلقب
مطران القدس، يدافع عنها بالكلمة والموقف في كل المحافل والمنتديات، ويدعم صمود أهلها في وجه
المجرمين الصهاينة.
ومع اندلع انتفاضة القصى ظل المطران يردد: "أنا مؤمن إيمانا ل يتزعزع بحتمية النتصار والتحرير
والعودة إلى القدس."
قضية بيت الشرق
بيت الشرق ..كل شيء في بيت المقدس، يمتلك معنى خاصا.. وهكذا كان مقدرا لمنزل مقدسي يملكه
آل الحسيني، أن يتحول إلى قضية في القدس.
لعب فيصل الحسيني دورا كبيرا في خوض معركة الدفاع عن القدس، وكان مهجوسا بإقامة مؤسسات
فلسطينية في المدينة، فأنشأ جمعية الدراسات العربية التي تفرع عنها مكتب للخرائط وأخر للحصاء،
وثالث للدراسات ..وغيرها.
قاومت سلطات الحتلل نشاط الحسيني، وأغلقت عام ثمانية وثمانين مقر الجمعية والمؤسسات التابعة
لها، وتكررت أوامر الغلق أكثر من مرة على مدى سني النتفاضة الولى.
كانت سلطات الحتلل تركز على منع قيام أي مؤسسة فلسطينية في القدس، وفي المقابل نجح الحسيني
في جعل بيت الشرق مقرا فلسطينيا رسميا في المدينة تتبع له مؤسسات عديدة، ويقوم بنشاط سياسي
واجتماعي واسع.
وبعد مباشرة نشاطه بشكل عملي وفاعل، بدأت التهديدات الصهيونية بإغلق بيت الشرق عام أربعة
وتسعين، ثم شرعت سلطات الحتلل في اقتحام المؤسسات الفرعية التابعة لبيت الشرق ومصادرة
محتوياتها، وهددت بإغلق المقر نفسه إذا واظب الحسيني على استقبال مبعوثين سياسيين أوربيين
فيه، وسن الكنيست الصهيوني قانونا خاصا للحد من فعالية بيت الشرق ونشاطاته، ثم طبقت حكومة
الحتلل عقوبات خاصة ضد الدبلوماسيين الذين يلتقون الحسيني في المقر، الذي أخذ يشهد تظاهرات
للمستوطنين الصهاينة تهدد بإحراقه لنه يعطي ملمحا بسيطرة فلسطينية على شرقي القدس حسب ما
قالوا.
مع حلول عام خمسة وتسعين وتسعمائة وألف تزايدت المضايقات الصهيونية للنشطة الفلسطينية في
بيت الشرق، وأصدرت محكمة صهيونية قرارا بمنع أعمال الترميم الجارية فيه، لنها تتم بدون إذن
خاص من البلدية الصهيونية في القدس، وقام المستوطنون الصهاينة بنصب خيمة احتجاجية أمام البيت
الذي يرفع العلم الفلسطيني ،فيما انطلقت تظاهرات فلسطينية لحماية المقر.
صعدت السلطات الصهيونية من إجراءاتها ضد بيت الشرق وقالت أنها قررت منع الشخصيات الجنبية
من دخوله حتى لو اقتضى المر استخدام الشرطة، وطالبت في عام ستة وتسعين بإغلق مكتبي الشباب
والرياضة، والمساحة والخرائط الموجودين في المقر، ما رفضه الحسيني، فمرر نواب الليكود في
الكنيست الصهيوني قرارا بإغلق بيت الشرق نهائيا، فيما بدأوا بممارسة ضغط للقيام بقضم تدريجي
لنشطته ومؤسساته وهو ما حدث بقيام السلطة الفلسطينية باغلق المكاتب التي طالب الصهاينة
بإغلقها أي مكتب الشباب والرياضة ومكتب الجغرافيا.
أتبعت السلطات الصهيونية هذه الستجابة، بتسليم مكاتب فيصل الحسيني والخرائط، والعلقات الدولية
قرارات بإغلقها الفوري سنة تسع وتسعين، ما اضطر الحسيني إلى نقل نشاطاته مؤقتا إلى مشفى
المقاصد بالقدس، وتوالى إغلق المكاتب التابعة للبيت، ومنها مركز المعلومات لحقوق النسان. في
أيار من عام ألفين وواحد كشفت تقارير صحيفة صهيونية عن نية حكومة الحتلل، إغلق كافة
المؤسسات الفلسطينية في القدس، وبضمنها بيت الشرق الذي استولت عليه قوات الحتلل فعليا في
آب من العام نفسه، ورفعت فوقه العلم الصهيوني وصادرت الكثير من محتوياته، من وثائق وصور
وأجهزة كومبيوتر.
جوبه القرار الصهيوني بتظاهرات واسعة قام بها الفلسطينيون في القدس، وسط حملة انتقاد عربية
ودولية واسعة للجراء الذي اتخذته سلطات الحتلل، فيما منعت الوليات المتحدة مجلس المن من
تقديم مشروع قرار يدعو الصهاينة إلى النسحاب من بيت الشرق.
توالت الحتجاجات الفلسطينية على الجراء الصهيوني بإضراب عام في الضفة والقطاع، فيما رفض
جواد بولس، محامي عائلة الحسيني التوجه إلى ما يسمى محكمة العدل العليا في الكيان الصهيوني
لعرض أمر الحتلل الصهيوني لبيت الشرق أمامها، موضحا أن هذا المر يعتبر اعترافا بالحتلل
الصهيوني، فيما لم يظهر الصهاينة أي استجابة للمطالبات المتكررة دوليا لهم بالنسحاب من المكان.
جاء احتلل المقر بعد وفاة فيصل الحسيني بقليل وكأن في ذلك دليل على عمق الرابط الذي جمع بين
اسم الحسيني وبيت الشرق.
قضية بيت العفيفي وبيوت أخرى
بعد احتللهم ما تبقى من القدس عام سبعة وستين، رفع الصهاينة شعار: بيت وراء بيت، وتكون
القدس لنا.
عكس هذا الشعار نية الصهاينة بتهويد القدس كاملة.. وبالتدريج، وتمثل تطبيقه العملي في ممارسة كل
الوسائل للسيطرة على بيوت المدينة في البلدة القديمة، ومنع أهلها من إصلحها، وكذلك في منع
المقدسيين من إشادة بيوت جديدة لهم، ففي أحياء القدس وضواحيها، ظلت جرافات المحتلين ترتكب
مجازر يومية بهدم البيوت، بادعاء أنها مبنية دون ترخيص.
وحيث لم ينجح الصهاينة في الستيلء على بيت ما، فإنهم واصلوا الضغوط لدفع أصحابه للتخلي عنه.
وحكاية بيت العفيفي هي واحدة من حكايات كثيرة لصحاب بيوت تمسكوا بها ولم يرضخوا لرهاب
الصهاينة أو إغراءاتهم.. وهي إرهابية أيضا.
أصبح بيت العفيفي الن محاطا بأبنية الجامعة العبرية، والبؤر الستيطانية اليهودية، ولكن أصحابه
يرفضون مغادرته.
والبيت الذي يعرف باسم قصر العفيفي، ذو طراز عربي، ويطل على القدس، بني قبل أكثر من تسعين
عاما، وهو اليوم يبدو غريبا عن محيطه، ويصمد أهله للضغوط.
بدأت هذه الضغوط مع اليام الولى للحتلل عام سبعة وستين.
ويقول تقي الدين العفيفي:
بعد انتهاء الحرب مباشرة، وصلت إلى بيتنا مجموعة من الضباط الصهاينة، كانوا يشاركون في احتفال
في الجامعة العبرية، وقالوا لنا: يجب عليكم ترك المكان لنه تابع للجامعة. ورفضنا هذا التهديد
المبطن.
سكان المنزل، وهم جميعا من ورثة آل العفيفي يقيمون بصورة دائمة في غرفه الست، وهم جميعا
يرفضون مغادرة المنزل أو حتى قبول عروض البيع المتكررة، التي بلغ آخرها، أواسط التسعينات
ثمانية مليين دولر.
أما الضغوط اليومية المباشرة، فيتمثل بعضها في رفض شركة الهاتف الصهيونية تمديد خط للقصر
بحجة أن الجامعة العبرية لم تقر ذلك. إضافة إلى أن مدخل المنزل الرئيسي قد ضاع لمصلحة الطريق
التي تقطع الحي اليهودي صعودا إلى جبل الزيتون، وبات على أي مركبة تريد الوصول إلى المنزل أن
تمر فوق رصيف الشارع، كما يترك عمال التنظيفات أكوام من النفايات أمام القصر.
يقول العفيفي:
لقد بنى جدي هذا المنزل، قبل أن تقام الجامعة العبرية بعشر سنوات، هنا جذوري ولن أرحل.
في حي الشيخ جراح، حكاية أخرى لمنزل آخر، منزل عائلة مراد، الذي استولى عليه الصهاينة عام
واحد وتسعين، بأمر مما يسمى حارس أملك الغائبين، لن أصحابه يقيمون في نابلس.
هرعت عائلة مراد إلى منزلها، ولكنها لم تستطع دخوله، واشترط الصهاينة لذلك أن يبقى المنزل في
وضع "ملك غائب" و أل تقوم العائلة بتأجيره.
ما حدث مع آل مراد تكرر مع عائلت أخرى تمتلك بيوتا في القدس، و تقيم في مدن أخرى من الضفة
الفلسطينية.
لم يترك الصهاينة مكانا إل وحاولوا مهاجمته والستيلء عليه، وعندما أعيتهم الحيلة في الستيلء
على منزل لعائلة الدجاني، قاموا عام أربعة وتسعين بتدنيس مقبرة العائلة، الكائنة قرب مسجد النبي
داوود.
وفيما كانت عمليات الهدم متواصلة ودون انقطاع شارك المستوطنون في عمليات الهدم والستيلء،
على غرار ما حدث عام أربعة وتسعين حين هاجموا بواسطة الجرافات، منزل المواطن يعقوب جبري،
مدعين أن المنزل يعود إلى أجدادهم. كما استولى المستوطنون في العام التالي على بناء يقع بالقرب
من باب السلسلة بجانب الحرم القدسي.
وتمثل عملية الستيلء على البيوت في سلوان التي يسميها الصهاينة مدينة داوود، واحدة من أكبر
عمليات العتداء على البيوت في القدس، حيث اقتحمها المستوطنون الصهاينة بقوة السلح وتحصنوا
فيها رافضين مغادرتها، ومدعين أنها ملك لهم وقد كافح أهالي سلوان لوقت طويل لخلء عدد من هذه
البيوت، من المستوطنين الذين احتلوها.
وبعد، فما تقدم هو أمثلة فقط، من ممارسات الصهاينة ضد البيوت العربية في مدينة القدس، وهي
الممارسات الهادفة إلى تهويد المدينة المقدسة، وتزييف التاريخ، على نحو يعزز الصلة المفتعلة
للصهاينة بالقدس، ففي عام ألف وتسعمائة و تسعين، استولى طلبة مدرسة دينية يهودية، برفقة
الرهابي حنان بورات عضو الكنيسة على منزل لعائلة سبيتاني، قرب مشفى المطلع على جبل الزيتون
وما أن أقاموا المدرسة فيه، حتى باتوا يدعون أنها مدرسة تاريخية لليهود.
انتفاضة النفق 1996
، ر قيام الصهاينة بافتتاح نفق تحت أساسات المسجد القصى انتفاضة فلسطينية عارمة عام 1996 ] فج
بدأت في القدس وامتدت لتشمل كل أنحاء فلسطين. قدم الشعب الفلسطيني خللها نحو تسعين شهيدا
وتمكن المنتفضون من قتل ثلثة عشر جنديا صهيونيا.
اندرج قيام الصهاينة بافتتاح هذا النفق ضمن المخطط الصهيوني في الحفر تحت أساسات المسجد
من النفاق، وقاموا بإجراء حفريات تهدد بنيان المسجد القصى. t كبيرا t القصى المبارك، افتتحوا عددا
اتسم افتتاح هذا النفق بالذات بخطورة بالغة. وكان الصهاينة بدؤوا بفتحه عام 81 ، ولكن الوقاف
السلمية أوقفت عملهم عند حد معين، وعام 83 جرى اكتشاف كميات كبيرة من المتفجرات داخل هذا
النفق، وضعها أعضاء التنظيم الرهابي اليهودي بغية نسف المسجد القصى، وأحبطت المحاولة في
حينه على يد حراس الحرم الشريف، وتم إغلق الفتحة المؤدية إلى هذا النفق.
ا يمتد بجانب السور الغربي للحرم الشريف ويتجه شمال نحو باب الغوانمة t عام 86 افتتح الصهاينة نفق
، بغية ربط هذا النفق بحفريات باب العمود، ورغم التحذيرات المتكررة من أن هذا t على مسافة 450 مترا
النفق الذي لم يتم تدعيمه بالشكل الهندسي المطلوب يؤثر على أساسات المسجد القصى، فإن الصهاينة
من امتداد توسيع الحفريات والتفاق باتجاه t أبقوه مفتوحا. وعام 95 حذر الشيخ حسن طهبوب مجددا
باب السباط من جهة الشرق المر الذي سيؤدي إلى خلخلة أساسات المسجد القصى، وتصدع العديد
من المواقع السلمية داخل الحرم القدسي، ولكن الصهاينة ادعوا أن عمر النفق يقترب من 2000 عام،
إلى أن هدف t وأن أعمال الحفر تبعد 700 متر عن المسجد القصى، ول تهدده على حد زعمه، ومشيرا
الحفر هو اختصار المسافة على السياح للوصول إلى طريق اللم في البلدة القديمة واستغل الصهاينة أن
الصلحات القائمة في المصلى المرواني في الحرم الشريف وافترضوا أنه بالمكان المقايضة بين
استكمال الصلحات وترميم المصلى على يد الوقاف السلمية وبين قيامهم بافتتاح النفق أمام السياح
على هذه الخطوة التي تتهدد المسجد القصى بخطر جديد، أعلن wo وإجراء توسعات جديدة فيه. وراد
الضراب الشامل في الضفة والقطاع، وانطلقت مظاهرات صاخبة في القدس اصطدمت بشرطة الحتلل
ومن يسمونه حرس الحدود، وسرعان ما امتدت الصدامات والمواجهات العنيفة إلى مختلف أنحاء
. الضفة، وبعض أنحاء الراضي المحتلة عام 48
توالى سقوط الشهداء والجرحى، وأوقع المنتفضون قتلى وجرحى في صفوف الجنود الصهاينة فيما
أعلن الرهابي نتنيناهو أنه فخور بتطبيق القرار لفتح النفق. وقال الفلسطينيون أنهم سيستمرون
بالنتفاضة إلى أن يقوم الصهاينة بإغلقه.
إزاء المقاومة الشديدة التي أبداها الفلسطينيون في وجه محاولة فرض أمر واقع جديد في القدس، بدأت
أوساط الحكومة الصهيونية، بمحاولة التنصل من المسؤولية عن اتخاذ القرار بافتتاح النفق، ولكن
رئيس جهاز الشاباك الصهيوني قال: لقد اتخذ القرار على أعلى المستويات. لقد أخطأنا، ولم نتوقع أن
تقع مثل هذه الحداث التي وقعت. ادعى الصهاينة أنهم قاموا بافتتاح النفق وباتفاق مع الوقاف
مطالبة بالغلق الفوري للنفق الذي سيؤدي وضعه في t مطلقا t السلمية، التي نفت هذا المر نفيا
الستخدام إلى إلحاق أكبر الضرر بأساسات المسجد القصى.
بين الموافقة على افتتاح المصلى المرواني والسماح t عاد الصهاينة إلى محاولة المقايضة مجددا
ا وفي الستخدام. وأظهر بعض الصهاينة t باستكمال عمليات ترميمه، وبين البقاء على النفق مفتوح
على ما وصفوه، بتساهل حكومة نتنياهو مع الفلسطينيين حيث اختار نائب وزير الديان في t احتجاجا
الكيان الصهيوني: إن حكومة نتنياهو تتصرف بتسامح تجاه المواطنين الفلسطينيين الذين أثاروا
اضطرابات عاصفة، عندما تم فتح سنتيميترات في النفق. مع استمرار المواجهات العنيفة وإصرار
الفلسطينيين على إغلق النفق، بدأ الصهاينة إلى العلن عن تعديل وضعه في الستخدام مؤقتا. وهدأت
ولم يغلقوه، واعتبرت السلطة t الوضاع تدريجيا. حيث اعتبر الصهاينة أنهم أبقوا النفق مفتوحا
الفلسطينية أن عدم وضعه في الستخدام هو إجراء كاف.
عدم استخدام النفق لم يوقف المخططات الصهيونية التي تستهدف المسجد القصى، ولكنه أظهر مجددا
من الشعب الفلسطيني. t مقاوما t حقيقة أن كل تهديد المقدسات السلمية في بيت المقدس يستدعي ردا
ضرب المؤسسات الفلسطينية في المدينة المقدسة
عملت سلطات الحتلل بشكل دائم على ضرب كل رموز الوجود العربي في المدينة المقدسة. فإلى
استهدافها المقدسات السلمية والمسيحية، وهدم أحياء عربية بأكملها وإزالتها من الوجود، جاءت
الحرب على المؤسسات مثل شركة كهرباء القدس وجمعية الدراسات العربية، وبيت الشرق...
وقد عمد الصهاينة إلى حل أمانة القدس العربية بعد الحتلل، وأبعدوا الشخصيات المقدسية الموقرة،
مثل أمين القدس روحي الخطيب، وقوضوا كل المؤسسات والمكاتب التابعة لمانة المدينة، وعام ثلثة
وسبعين، أغلقت سلطات الحتلل دائرة الشؤون الجتماعية في القدس، وقامت بتوزيع اختصاصاتها بين
ثلثة مكاتب:
* مكتب صهيوني مقره القدس للشراف على جميع الجمعيات الخيرية العربية في المدينة.
* ومكتب عربي مقره رام ال للشراف على الجمعيات في رام ال والبيرة والقضاء.
* مكتب عربي فرعي أخر مقره أريحا للشراف على الجمعيات في قضائي أريحا وبيت لحم، دون أن
تربط هذه المكاتب بالقدس، وذلك لفصلها عن الدائرة الم في المدينة.
وإلى السيطرة على المؤسسات التعليمية، تعرضت الصحف والمراكز الثقافية إلى حملة إرهاب منظمة
لجبارها إما على إغلق أبوابها أو الرحيل نهائيا عن القدس.
بلغت هذه الحملة ذروتها في السنوات الولى للنتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى التي انطلقت عام
سبعة وثمانين، حيث صدرت سلسلة من الوامر الرهابية بإغلق الصحف والمكاتب الخدمات الصحفية،
ومنها المكتب الفلسطيني للخدمات الصحفية، ول تزال هذه الحملة متواصلة.
بعد اتفاقية أوسلو، التي أجلت البحث في قضية القدس إلى ما تسمى مفاوضات الوضع النهائي، اتخذت
الحملة الصهيونية على المؤسسات الفلسطينية في القدس طابعا منتظما، كان عنوانه "الحد من نشاطات
منظمة التحرير الفلسطينية"، والسلطة الفلسطينية في القدس.
ففي عام أربعة وتسعين، اتخذ الكنيست الصهيوني قرارا بأنه لن يكون من حق السلطة الفلسطينية، إل
إذا حصلت على إذن مسبق، إقامة ممثلية أو تنظيم تجمعات عامة في أرض تخضع للسيادة السرائيلية.
وفي العام التالي، طالبت أحزاب صهيونية، بإغلق عدد كبير من المؤسسات الفلسطينية العاملة في
القدس منها:
بيت الشرق، مؤسسة بكدار، الوقاف السلمية، غرفة الصناعة الفلسطينية، الجمعية العلمية
الفلسطينية، جمعية السكان الفلسطينية، مقر الذاعة الفلسطينية، مركز الطاقة الفلسطيني، مكتب
الحصاء الفلسطيني، مركز حقوق النسان، جامعة القدس المفتوحة.
وبالفعل، أغلقت سلطات الحتلل في العام نفسه سلطة الذاعة، ومكتب الصحة، والمكتب المركزي
للحصاء في القدس .. وطاولت الجراءات الصهيونية المطالبة بإلغاء مكاتب أعضاء المجلس التشريعي
الفلسطيني عن دائرة القدس ومنها مكتب النائب حاتم عبد القادر.
وعام سبعة وتسعين أغلقت السلطات الصهيونية بشكل تعسفي جمعية الرفاه، ومكتب المؤسسات
الوطنية، واللجنة الوطنية السلمية، ومؤسسة الجريح الفلسطيني في المدينة.
وبعد أقل من عامين، قرت لجنة وزارية صهيونية تعنى بشؤون القدس إغلق: نادي السير وهو
مؤسسة تعنى بشؤون السير الفلسطيني في سجون الحتلل، وتأهيل المحررين من السجون، وإغلق
مكتب وكالة أنباء فلسطين "وفا" ومكتب نائب وزير الوقاف في السلطة الفلسطينية.
بعد اندلع انتفاضة القصى، ازدادت الحملة الصهيونية على المؤسسات الفلسطينية في القدس شراسة،
فجرى احتلل بيت الشرق، وإغلق اتحاد الغرف التجارية، ومركز البحاث والنشر، ورئاسة جامعة
القدس المفتوحة، ومكتب وزارة الشؤون الجتماعية وشؤون المرأة، ومجلس السكان، ودائرة التربية.
أدت هذه الغلقات إلى تقويض معظم المؤسسات الفلسطينية في المدينة، حيث لم تبق من مؤسسات
عاملة فيها، باستثناء دوائر الوقاف السلمية.
قضية شركة كهرباء القدس
تعتبر قضية شركة كهرباء القدس، واحدة من قصص الكفاح الطويل ضد المطامع الصهيونية في القدس.
تعود القصة إلى مطالع القرن الماضي، حين حصل اليوناني يوربيد مغروماتس على امتياز من السلطات
العثمانية لتوليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها في القدس.
أعاقت الحرب العالمية الولى تنفيذ المشروع، وبعد النتداب البريطاني على فلسطين، حاول الصهيوني
بنحاس روتنبرع، الحصول من سلطات النتداب على امتياز لتوليد الكهرباء وتوزيعها في فلسطين، ما
يتعرض مع امتياز مفروماتس السابق.
تدخلت الحكومة اليونانية، وعبر محكمة العدل الدولية، استطاعت تثبيت امتياز المواطن اليوناني، الذي
باشرت شركته العمل سنة ثمان وعشرين، وفق عقد يستمر أربعة وأربعين عاما، ويجدد تلقائيا لمدة
ستة عشر عاما أخرى.
عشية النكبة، تنازل مفروماتس عن بعض مناطق امتيازه لصالح ما سمي شركة كهرباء فلسطين التي
أسسها الصهيوني بنحاس روتنبرع في القدس الغربية، وهي التي أصبحت لحقا شركة الكهرباء القطرية
)السرائيلية( ومع هذا التنازل، انقسمت القدس كهربائيا. وعام سبعة وخمسين، تنازل مغروماتس عن
امتيازه لصالح شركة لواء القدس الردنية، التي أصبحت تحمل اسم شركة كهرباء محافظة القدس
المساهمة المحدودة.
بعد عدوان حزيران، بدأ الصهاينة حربا شرسة على الشركة فاستولوا على أسهم أمانة القدس فيها ما
مكنهم من فرض عضوين في مجلس الدارة قابله انسحاب ممثلي بلدتي رام ال والبيرة.
ثم فرض الصهاينة على الشركة أن تمد المستوطنات والحياء الستيطانية الصهيونية في القدس الواقعة
ضمن منطقة امتياز الشركة بالكهرباء، وبالسعر الذي تحدده السلطات الصهيونية، والذي كان غالبا أقل
من سعر التكلفة، ما زاد في أعباء الشركة وتركها تحت وطأة ديون ثقيلة، استخدمتها السلطات
الصهيونية ذريعة لتصفية الشركة والحجز على أموالها وممتلكاتها.
تدخلت اللجنة الردنية الفلسطينية المشتركة لدعم الصمود، وقامت بتسديد ديون الشركة بقية إنفاذها،
وما أن استقامت أمورها مجددا حتى باشر الصهاينة الحرب عليها مجددا معلنين نيتهم شراءها بهدف
تصفية هذا المرفق القتصادي الفلسطيني الهام. رفض مجلس الدارة البيع بالكراه، وشهد العام ستة
وثمانين سلسلة من الجراءات الصهيونية التعسفية بحق الشركة تحت ذريعة أنها تشكل تهديدا في زمن
الحرب، باستطاعتها قطع الكهرباء عن المستوطنات في الحياء الستيطانية.
تسبب الصهاينة في وضع الشركة تحت وطأة ديون ثقيلة بلغت اثني عشر مليون دولر، وبذريعة عدم
التسديد عمدوا إلى مداهمة مكاتب الشركة وإقفالها بالشمع الحمر رافضين كل الطلبات بمنح الشركة
مهلة لتسوية أوضاعها.
قام مجلس إدارة الشركة وعمالها بتحركات احتجاجية متعددة، ومركزين على أن تسمح السلطات
الصهيونية للشركة باستيراد معدات جديدة، وأن تخفض سعر الكهرباء التي تشتريها الشركة من
الصهاينة لتغطية منطقة امتيازها.
قوبلت هذه الطلبات بالرفض، وبذريعة "المن" تم تقليص حدود امتياز الشركة إلى أضيق نطاق ممكن،
بتولي الشركة الصهيونية مد المستوطنات والحياء الستيطانية بالكهرباء.
وعندما تابعت الشركة الفلسطينية عملها، كان نطاق هذا العمل قد تقلص كثيرا، ونجح الصهاينة في
توجيه ضربة قاسية إلى هذا المعلم القتصادي الهام في مدينة القدس، في إطار حربهم على كل ما هو
عربي في المدينة.
استخدم الصهاينة تقليص امتياز شركة الكهرباء ذريعة لمصادرة المزيد من الراضي الفلسطينية حيث
قاموا فعليا بمصادرة ألفين وأربعين دونما من مناطق شعفاط والعيسوية وعناتا، بذريعة إقامة أبراج لمد
الكهرباء إلى المستوطنات الصهيونية.
لجنة إنقاذ القدس
تشكلت لجنة إنقاذ القدس في عمان عقب احتلل المدينة عام سبعة وستين، وأوضح عضو اللجنة
إسماعيل محادين الغاية من إنشائها بالقول :"إن السبب الساسي في تشكيل لجنة إنقاذ القدس، هو أن
الجراءات في بقية المناطق الخاضعة للحتلل، حيث أخذ الصهاينة يتصرفون في مدينة القدس، ل
كمنطقة محتلة، بل كمنطقة يعتبرها الصهاينة جزءا من الكيان الصهيوني، واللجنة ستعمل على كشف
النوايا الصهيونية فيما يتعلق بالمدينة المقدسة.
سوف تجهد اللجنة بعد تأسيسها في التأثير إلى ما تقوم به السلطات الصهيونية من عمليات تهويد في
المدينة، وإلى العمل من أجل حشد موقف عربي وإسلمي مناهض لهذه العمليات.
ففي عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين، وبمناسبة عيد الضحى، وجهت اللجنة نداء إلى المسلمين، كي
يجعلوا من العيد مناسبة يعبرون فيها للعالم عن تعلقهم بالمسجد القصى المبارك، وعن استعدادهم
للموت في سبيل تحرير القدس، كما دعت إلى أن تكون خطبة العيد في المساجد مكرسة لتأكيد أن القدس
هي مدينة عربية وللمسلمين، وأنهم لن يفرطوا فيها بأي حال.
سعت اللجنة بعد وقت قصير من هذا النداء إلى وضع خطة عمل مرحلية، الغاية منها دعم الصمود
العربي في القدس، والعمل على تحريرها بكل الوسائل، وإطلع الرأي العام العالمي السلمي والمسيحي
على ما يقوم به الصهاينة من تغيير لمعالم المدينة والعمل على تهويدها، وما يتعرض له سكانها من
ضغط وإرهاب، والحفاظ على عروبتها ومقدساتها.
الخطة تحدثت عن القيام بحملت دعائية على كافة المستويات، وفي جميع وسائل العلم، وإرسال
الوفود إلى عواصم الدول لشرح الوضاع في المدينة المقدسة، وجمع المساعدات بواسطة اللجان،
وإرسالها إلى اللجنة التي تتولى إيصالها إلى أهل المدينة.
وكذلك جمع المعلومات عما يقوم به الصهاينة من إجراءات في المدينة وتوزيعها على الجهات
المختصة.
نفذت اللجنة جانبا كبيرا من خطتها العلمية والدعائية، ووجهت عشرات المذكرات إلى الجامعة
العربية، ومنظمة المؤتمر السلمي، والجمعية العامة للمم المتحدة، وأجهزتها المختلفة المتخصصة.
تميزت مذكرات اللجنة بالحث على خطوات عملية لنقاذ القدس، المر الذي ووجه بالعجز عن التنفيذ، ما
جعل عملها يبدو وكأنه مقتصر على الجانب العلمي فقط.
ولعب وجود شخصيات مقدسية عديدة داخل اللجنة، في تضمين المذكرات معلومات دقيقة وحديثة دوما
عما تشهده المدينة.
عام واحد وسبعين، دعت اللجنة إلى توحيد الصفوف لفشال مخطط تهويد القدس، ومواجهة سياسة
خلق الوقائع الجديدة التي يتبعها الصهاينة،وفي العام التالي، لعبت اللجنة دورا في الحض على مقاومة
المسعى الصهيوني لجراء انتخابات بلدية في القدس، ومدن الضفة، وإشراك جماهير الشعب الفلسطيني
فيها، حيث دعت الفلسطينيين إلى مقاطعة هذه النتخابات التي تأتي مخالفة لمفهوم القانون الدولي،
واتفاقيات جينيف.
فضحت اللجنة عام أربعة وسبعين المحاولة الصهيونية الثانية لحراق المسجد القصى، وحذرت سلطات
الحتلل من التمادي في جرائمها وأهابت بالعرب المسلمين أن يكونوا يقظين لكل ما تبيت له الصهيونية
من مخططات عدوانية، ومن أهدافها هدم المسجد القصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
مع تشكيل منظمة المؤتمر السلمي للجنة القدس وقيام اللجنة المشتركة الفلسطينية /الردنية لدعم
الصمود، تراجعت أنشطة لجنة إنقاذ القدس، واندمجت في إطارات وهيئات أخرى.
إعداد نافذ أبو حسنة
المصدر:
المركز الفلسطيني للاعلام
http://www.palestineinfo.
info/arabic/books/beet_maqdes/maqdes.htm
البوابات
أبواب القدس، إنها المدخل إلى الجوهرة، والحد الفاصل بين العادي والمقدس.. وإن كانت المدينة تماثل
الجوهرة جمال ورهبة. القدس التي ل تشبهها مدينة أخرى ل تشبه أبوابها بوابات المدن. ومذ كانت
فكرة السور، كانت للسور بوابات ومع تعاقب الزمان والدهور، لم يعد أحد يعرف بالضبط كم هو عدد
أبواب القدس، وما هي مواقعها مذ كانت القدس.
البواب المعروفة اليوم، هي أحد عشر بابا سبعة منها مستعملة وأربعة مغلقة. وهي علت أو حلت محل
أبواب أخرى سابقة عليها. وبأسماء مختلفة أيضا.
أكثر البواب المستعملة اليوم، تعود إلى زمن السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي بنى عام ألف
وخمسمائة واثنين وأربعين للميلد سورا عظيما يحيط بالقدس.
اشتهرت أبواب القدس جميعا بدقة الصنعة والجمال، وإن فاق بعضها البعض الخر شهرة ومكانة أما
أشهرها:
* فباب العمود الذي يعرف أيضا بباب دمشق وهو في منتصف الحائط الشمالي لسور القدس تقريبا.
تعلوه قوس مستديرة، قائمة بين برجين. ويؤدي بممر متعرج إلى داخل المدينة.
أقيم فوق باب يرقى إلى العهد الفرنجي، وكشفت الحفريات عن بقايا بابين يعود أحدهما إلى منتصف
القرن الول للميلد، والخر إلى منتصف القرن الثاني.
من أبواب القدس الخرى:
* باب الساهرة، ويقع في الجانب الشمالي من سور القدس على بعد نصف كيلو متر شرقي باب
العمود. وقد بني ضمن برج مربع. حاول الصهاينة اختراقه أكثر من مرة في معارك سنة ألف وتسعمائة
وثمان وأربعين في القدس.
* باب السباط: ويسمى أيضا باب القديس أسطفان، يقع في الحائط الشرقي، ويشبه من حيث الشكل
باب الساهرة. بناه الظاهر بيبرس وتم تجديده أيام سليمان القانوني.
* باب المغاربة، يقع في الحائط الجنوبي للسور، وهو أصغر أبواب المدينة، ويفتح على حارة المغاربة
التي هدمها الصهاينة بعد عدوان حزيران. وباب المغاربة، هو قوس قائمة ضمن برج مربع.
* باب النبي داوود: وهو كبير متعرج يؤدي إلى ساحة داخل السور.
*باب الخليل: ويعرف أيضا بباب يافا. يقع على الحائط الغربي من السور.
*الباب الجديد: وهو أحدث أبواب القدس عهدا إذ فتح سنة ألف وثمانمائة وثمان وتسعين، لمناسبة
زيارة المبراطور اللماني غليوم الثاني إلى القدس.
أما البواب المغلقة فهي:
*باب الرحمة، ويعرف بالباب الذهبي، نظرا لجماله ورونقه الفائقين. ويقسمه بعض المعماريين إلى
بابين: باب الرحمة وباب التوبة.
يقع على مبعدة مائتي متر جنوب باب السباط في الحائط الشرقي للسور. وهو باب مزدوج تعلوه
قوسان، ويؤدي إلى باحة مسقوفة بعقود ترتكز على أقواس قائمة، فوق أعمدة كورنثية ضخمة.
بني هذا الباب في العهد الموي، وهو يؤدي مباشرة إلى الحرم القدسي الشريف، وأغلق أيام
العثمانيين.
يرتبط إغلق هذا الباب بحادثة! ففي زمن العثمانيين سرت شائعة بأن الفرنجة، سوف يعودون إلى
احتلل القدس، وسيكون دخولهم إلى المدينة عن طريق هذا الباب.
خشي المقدسيون من إطلق هذه الشائعة، فعمدوا إلى إغلق الباب الذي ل يزال مغلقا حتى اليوم، إذ
تحرص الوقاف السلمية حاليا على إبقاء الباب مغلقا خشية تسلل الصهاينة إلى الحرم المقدسي منه.
البواب الثلثة الخرى المغلقة، تقع في الحائط الجنوبي من السور قرب الزاوية الجنوبية الشرقية،
وتؤدي جميعا إلى داخل الحرم القدسي الشريف مباشرة. أول هذه البواب ابتداء من زاوية السور:
* الباب الواحد: ويسميه بعض المعماريين الباب البسيط، وتعلوه قوس واحدة.
* الباب المثلث: وهو مؤلف من ثلثة أبواب تعلو كل واحد منها قوس.
* الباب المزدوج: ويسميه البعض الباب المضاعف وهو مؤلف من بابين يعلو كل منها سور.
وهذه البواب جميعا أنشئت في العهد الموي. أبواب القدس كلها اليوم، المفتوحة والمغلقة، مغلقة على
أهل القدس المزنرة بالمستوطنات، وحواجز الجنود الصهاينة الذين يمنعون على القدس أهلها.
)إن ما عثر عليه من أبواب قديمة للمدينة أثناء الحفريات التي وقعت تحت باب العمود، يدل على وجود
أبواب أخرى تحت البواب الحالية، أو في مواضع مختلفة من سور البلدة القديمة، وهي ترقى إلى
عهود موغلة في القدم(.
التكايا والربط
ة، هي الكلمة التركية المسايرة للخانقاه وللزاوية، فقد أطلق العثمانيون على الخوانق والزوايا التي ] التكي
كانت قبلهم أو تلك التي أسموها اسم التكايا. وكلمة تكية نفسها، كلمة غامضة الصل، وفيها اجتهادات،
فبعضهم يرجعها إلى الفعل العربي "وتأ" و"اتكأ" بمعنى استند أو اعتمد، خاصة أن معاني كلمة " تكية "
بالتركية: التكاء والتوكؤ والستناد إلى شيء للراحة والسترخاء.
ومن هنا تكون التكية بمعنى مكان الراحة والعتكاف. ويعتقد المستشرق الفرنسي "كلمان هوار" أن
الكلمة أتت من "تكية" الفارسية بمعنى جلد، ويعيد إلى الذهان، أن شيوخ الزوايا الصوفية، كانوا
يجعلون جلد الخروف أو غيره من الحيوانات شعارا لهم.
الكلمة عند العثمانيين، كانت تطلق على ثلثة أشياء:
* مقام أو مزار أحد الولياء.
* زاوية أو خانقاه يقيم فيها الدراويش والصوفية.
ل لراحة الحجاج والمسافرين _ ز` * خان أول ن
هذه المعاني كانت جميعا مستعملة في فلسطين ولكن المعنى الغالب، هو المعنى الثاني، وهو أن التكية
مكان تقيم فيه الدراويش، ويأكلون مجانا، ويقضون أوقاتهم في العبادة، وفي الذكر، الذي كان كثيرا ما
يصحب بالرقص الصوفي والموسيقى.
وفي كثير من الحيان تجدد معنى التكية، بحيث أصبحت في المعنى الكثر شيوعا منشأ، لتقديم الوجبات
الشعبية المجانية للفقراء والمجاورين للمسجد القصى، وأولئك الذين يقومون على خدمة المساجد
والحرم الشريف دون أن يكون لذلك علقة مباشرة بالدراويش والصوفية.
كان عدد التكايا في بيت المقدس ومدن فلسطينية أخرى، كبيرا جدا في العهد العثماني، حتى إن الرحالة
التركي "أوليا جبلي" الذي زار بيت المقدس في القرن الحادي عشر للهجرة، قال: إنه كان في القدس
تكايا لسبعين طريقة، منها الجيلنية، والبدرية والسعدية، والرفاعية، والمولوية، وغيرها.
تنبغي الشارة إلى أنه مع اضمحلل المدارس في العهد العثماني، انتعشت الزوايا والتكايا، وازداد عدد
الصوفية والدراويش.
من أهم التكايا التي أقامها العثمانيون في القدس التكية المولوية، وقد بناها قومندان القدس، خداوند
كاربك عام تسعمائة وخمس وتسعين للهجرة.
وكان تعيين شيخ التكية يأتي من الشيخ العلى للطريقة المولوية في قونية بالناضول. كانت التكية
المولوية مؤلفة من طابقين وبناؤها جميل متواضع له مدخل ضيق وجدران بيضاء. ولها أملك وأوقاف
للنفاق عليها، اندثرت كلها. وتوفي في سبعينيات القرن الماضي آخر شيخ من شيوخها، وهو الشيخ
عادل المولوي الطرابلسي الصل.
يذكر أن الطريقة المولوية التي تبنتها الدولة العثمانية أسسها جلل الدين الرومي الشاعر المشهور في
قونية ببلد الناضول، وهي طريقة دراويش تمتاز برقص دائري مشهور وموسيقى، وكانت الطريقة
موجودة في القدس قبل الحتلل العثماني. وقد ثبت السلطان سليم، عندما زار القدس رئيس الدراويش
المولوية أخفش زاده، في وظيفته، ومنحه خمسمئة أقجة صدقات، وفي القرن الحادي عشر الهجري،
كان في القدس عدد كبير من أتباع الطريقة المولوية، يتقاضى الواحد منهم خمسمائة أقجة.
زار التكية ووصفها سنة ألف ومائة وواحد للهجرة، الشيخ عبد الغني النابلسي المتصوف المشهور.
ومن تكايا القدس المشهورة، تكية خاصكي سلطان، الواقعة في عقبة التكية المعروفة، باسم عقبة
المفتي، شرقي دار اليتام السلمية.
أنشأتها خاصكي سلطان، زوجة السلطان سليمان القانوني، سنة تسعمائة وتسع وخمسين للهجرة.
ووقفت عليها أوقافا كثيرة. أشرف على بناء التكية المير بايرام جاويش بن مصطفى الذي أشرف على
عمارة سور القدس، وكانت التكية من أهم المنشآت التي أقامها العثمانيون في فلسطين، لمساعدة
الفقراء وطلبة العلم في القدس، وقد ظلت حتى ستينيات القرن الماضي تقدم الطعام للفقراء.
أما الربط، فالرباط في الصل بيت المجاهدين، ولكن الصوفيين، استعملوا الكلمة فيما بعد بمعنى
الخانقاه، على أساس أنهم كانوا يخوضون جهادا روحيا.
وقد أسست أول الربط العسكرية في فلسطين، في القرن الثاني للهجرة، ولكن أهميتها قلت بعد القرن
الثالث عندما استتب المر للمسلمين. ولكنها عادت بقوة بعد دحر الفرنجة، فأنشئ الكثير منها في القرن
السابع الهجري وما تله، كأبراج للمراقبة.
والربط لم تكن كلها عسكرية بعد دحر الفرنجة، وخاصة في القدس والخليل، بل كان الهدف الساسي
منها، توفير أماكن لقامة الزوار والحجاج، والكتابات الباقية على بعض هذه الربط تدل على أنها أنشئت
لهذا الغرض.
كانت الربط تغذي الوافدين إليها بالتعليم الديني، وتوفر لهم غذاء روحيا، فينقلبون إلى جنود محاربين
إذا دعا داعي الجهاد. وفي العصر العثماني أصبح كثير من الربط ملجىء للفقراء من نساء ورجال
يقدم لهم فيها الطعام وتصرف المساعدات المختلفة. وكانت الربط مراكز للتعليم الصوفي، بالضافة إلى
مهامها الجتماعية والسياسية، وكان في بعضها مكتبات. وفي حين كان الصوفية يقيمون في الخوانق
بصورة دائمة أو شبه دائمة، كان زوار الربط يقيمون فيها لمدد قصيرة نسبيا، غير أن التمييز بين
الخوانق والربط لم يكن متيسرا في كثير من الحيان.
وأشهر ربط القدس سبعة هي:
* رباط البصير، عند باب الناظر، وهو أقدم ربط القدس، أنشئ سنة ستمائة وستين للهجرة، على يد
المير علء الدين، ناظر الحرمين الشريفين، زمن الظاهر بيبرس، وهو ل يزال قائما ومسكونا.
* الرباط المنصوري، عند باب الناظر، مقابل رباط البصير، وقد وقفه قلوون الصالحي، سنة ستمائة
وإحدى وثمانين للهجرة، ووقف عليه أوقافا في غزة ونابلس وصفد وغيرها، ول يزال قائما ومسكونا.
* رباط الكرد، عند باب الحديد، أنشأه المقر السيغي كرد، صاحب الديار المصرية، سنة ستمائة وثلث
وتسعين، وهو الن دار سكن، بعد أن شهد انهيارا جزئيا سنة ألف وتسعمائة وإحدى وسبعين للميلد
نتيجة حفريات الصهاينة.
* رباط المارديني، عند باب حطة، ووقفه منسوب إلى امرأتين من عتقاء صاحب ماردين سنة سبعمائة
وثلث وستين للهجرة.
* الرباط الزمني، عند باب المطهرة، وقفه الخواجكي شمس الدين سنة ثمانمائة وإحدى وثمانين
للهجرة.
* رباط بايرام، في حارة الواد، وقد أنشئ في العهد العثماني، والمنشئ هو بايرام جاويش سنة
تسعمائة وسبع وأربعين للهجرة.
* الرباط الحموي، عند باب القطانين، ول يعرف مؤسسه، ول تاريخ تأسيسه، وكان مؤلفا من رباطين
أحدهما للرجال، والخر للرامل من النساء.
إحراق المسجد القصى
جاء الحريق المتعمد للمسجد القصى المبارك في بيت المقدس، يوم الحادي والعشرين من شهر آب،
سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين ليظهر مبلغ الحقد الصهيوني على السلم والمسلمين وحلقة شديدة
الخطورة في التآمر الصهيوني على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
حبك الصهاينة الخطة حبكا أرادوه محكما لتقويض المسجد، فقبل أربعة أشهر من ذلك اليوم المشؤوم
وصل إلى فلسطين المحتلة الرهابي الصهيوني السترالي "مايكل روهان" بهدف محدد ومتفق عليه مع
رؤساء الرهاب في الكيان الصهيوني وهو إحراق المسجد القصى.
سهل الصهاينة "لروهان" الدخول إلى المسجد وكذلك دخول معاونين له، إذ إن الحريق اندلع في أكثر من
مكان، ما يدل على أن الفاعل ليس فردا واحدا فقط. وأن مهمة الرهابي روهان كانت إضرام النار في
المحراب والمنبر فيما تولى آخرون مهمة إحراق جوانب أخرى.
اندلعت ألسنة اللهيب في المسجد، وأخذت ترتفع وتمتد، دون أن يحرك أفراد الشرطة الصهيونية ساكنا،
بل أنهم عمدوا إلى قطع المياه عن الحرم القدسي، لجعل مهمة إطفاء الحريق صعبة، فضل عن أنهم
أعاقوا وصول سيارات الطفاء.
تعالت نداءات الستغاثة عبر مآذن الحرم وهب أبناء القدس مسلمين ومسيحيين، تركوا دكاكينهم
وبيوتهم مفتوحة، واتجهوا إلى ساحة الحرم لطفاء النيران التي تحولت إلى كتلة كبيرة وسط المسجد.
تقاطر أبناء القدس وهم يحملون الجرار وكل ما يمكن أن يصلح وعاء لنقل الماء واشتبكوا مع شرطة
الحتلل التي بعد أن أمنت هرب الفاعلين وعلى رأسهم الرهابي روهان، وقطعت المياه عن الحرم،
ضربت حصارا على المنطقة وأرادت منع أبناء القدس من إنقاذ مسجدهم.
كانت تلك الساعات مريرة وصعبة، رعت عناية ال المسجد، وتمكن المقدسيون من إطفاء النيران التي
التهمت المنبر الموجود في المسجد منذ تحرير القدس من الفرنجة، كما أتت على سقف الجناح الجنوبي
الشرقي، ومحراب زكريا، حيث دمرت سقوف ثلثة أروقة، وكادت تأتي على قبة المسجد لول عناية ال
واستماتة المقدسيين في محاصرة الحريق وإخماده.
ادعى الصهاينة في البدء أن تماسا كهربائيا كان السبب في الحريق، ولكن تقارير المهندسين العرب
أوضحت بجلء أن الحريق تم بفعل أيد مجرمة، مع سبق الصرار والتصميم، وأن الفاعل أكثر من
شخص واحد، بدليل أن حريقين انطلقا في ذات اللحظة داخل المسجد.
خلفت الجريمة غضبا واسعا في فلسطين والعالمين العربي والسلمي، وجرى الصرار على ضرورة
كشف الفاعلين، فأعلنت الحكومة الصهيونية أن الفاعل هو دينس مايكل وليم روهان البالغ من العمر
ثمانية وعشرين عاما، وأنها اعتقلته وسوف تقدمه للمحاكمة، ولكن بعد وقت قصير، أعلنت السلطات
الصهيونية أن روهان هذا، معتوه وأطلقت سراحه، لينجو بفعلته، وليظل سر هذه الجريمة وتفاصيلها
الفعلية دون كشف حتى الن، هذه الجريمة البشعة، لفتت نظر العالم السلمي إلى الخطر الذي تتعرض
له المقدسات في فلسطين، فجرى تشكيل منظمة المؤتمر السلمي في أعقابها، ورغم أن الخطر الذي
يهدد المسجد ل يزال ماثل، فإن حجم الجهد المبذول في المواجهة مازال دون المستوى المطلوب، ول
يرقى إلى مستوى التحديات خاصة من قبل الهيئات التي انبثقت بفعل جريمة الحراق البشعة.
يذكر أن مجلس المن الدولي أدان في قراره رقم مائتين وواحد وسبعين الكيان الصهيوني لتدنيسه
المسجد، ودعا هذا الكيان إلى أن يقوم باتخاذ جميع التدابير التي من شأنها عدم تغير وضع القدس.
اصطف هذا القرار إلى جانب ما سبقه من قرارات، وتلته قرارات أخرى، دون أن يغير الصهاينة في
مواقفهم قيد أنملة.
إصلح المصلى المرواني
يعود المصلى المرواني المقام في الحرم القدسي الشريف إلى العهد الموي. وقد عرف في فترة من
الفترات باسم " الصطبلت" في تزوير مقصود لمحاولة نزع صفة المسجد عنه. وهو لم يكن مغلقا
بالكامل، لكنه كان محتاجا إلى ترميم، ويستخدم في أوقات محددة مثل شهر رمضان المبارك، حيث
تزدحم باحات المسجد القصى، أو في أوقات اشتداد المطر والحر، حيث يتعذر أداء الصلة في ساحات
الحرم.
في مطلع التسعينيات، أطلق الشيخ رائد صلح رئيس الحركة السلمية في الراضي المحتلة عام ثمانية
وأربعين، مبادرة لصلح وترميم المصلى، وباشر جمع التبرعات لهذه الغاية، لتنطلق أعمال الترميم
أواسط التسعينات.
أثار الصهاينة ضجة كبيرة ضد عملية الصلح هذه، وكتبت الصحف الصهيونية عن أن المسلمين
يقيمون مسجدا سريا تحت المسجد القصى.
واستصدرت جماعات يهودية أمرا من محكمة البداية في القدس، لوقف أعمال الترميم في المصلى
المرواني، معتبرة أنه إشادة جديدة، وتوسعة للحرم غير مسموح بها.
لم ترضخ دائرة الوقاف لهذه الضغوط وواصلت العمل في المسجد معتبرة أن من حقها تنفيذ العمال
التي تراها مناسبة داخل الحرم، وأن المر ل يتعلق بمسجد سري، أو توسعة، وإنما بترميم مسجد هو
مفتوح من الصل.
عرقلت السلطات الصهيونية كثيرا إجراءات العمل في الترميم، وهددت مرارا بقطع المياه عن الحرم،
وقامت بذلك بالفعل، واحتجزت شاحنات تحمل مواد أولية لزمة للعمال في المصلى.
ومع ذلك استطاعت الوقاف إنجاز الجزء الكبر من العمل والحتفال بافتتاحه في تشرين أول من عام
ستة وتسعين.
حاول الصهاينة مقايضة هذا الفتتاح بالبقاء على النفق المفتوح تحت المسجد القصى قائما. ما رفضته
دائرة الوقاف السلمية، والتي أوضحت أن الصهاينة عرضوا مثل هذه الصفقة الكريهة، عشية افتتاح
المصلى المرواني بعد استكمال العمال الساسية فيه.
جدد الصهاينة حملتهم بعد افتتاح المصلى، وأطلقوها في اتجاهات عدة، بدأت بالربط بين المصلى
والنفق، ثم استكملت بتهديدات للحركة السلمية في الراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين، وللشيخ رائد
صلح بالذات، وسرعان ما انتقلت هذه التهديدات إلى الحديث عن تقويض المصلى المرواني، أو عن
معادلة بقائه مفتوحا بإقامة كنيس يهودي داخل الحرم.
كتبت الصحف اليهودي مجددا عن أن افتتاح المصلى، هو أكبر العمال المعادية لليهودية منذ ثلثين
عاما، وطالبت بإغلقه على الفور، ثم صرح الرهابي شموئيل مئير، نائب رئيس بلدية القدس
الصهيوني، بان افتتاح المسجد السري ويقصد المسجد المرواني، يجعل من الصعب وقف مخططات
جماعة يهودية تنوي إقامة كنيس في الحرم ردا على افتتاح المسجد.
اتخذت الحملة الصهيونية طابعا مسعورا، عندما أعلن عن أن كبار الحاخامات اليهود عقدوا اجتماعا
لتحديد المكان المناسب لقامة الكنيس، في المنطقة التي يطلق الصهاينة عليها اسم إضافة هيرودوس،
والتي يعتبرونها خارج الحرم، ول توجد موانع توراتية من دخول اليهود إليها.
ثم بالعلن عن النية في افتتاح نفق جديد تحت المصلى المرواني، وهو نفق اكتشف بالقرب من باب
الرحمة إلى الشرق من الحرم القدسي، ويهدد افتتاحه بتقويض المصلى المرواني.
رفضت الوقاف الرضوخ لهذه الضغوط، وقامت الحركة السلمية بزعامة الشيخ رائد صلح، بإقامة
احتفال بافتتاح المصلى، معلنة عن النية باستكمال عمليات الترميم، التي تشمل رصف بلط جديد،
وتجديد كساء الجدران وعمليات تنظيف.
وقد استؤنفت أعمال الترميم مجددا سنة تسع وتسعين، وبذل الصهاينة محاولت حثيثة لوقفها، فأصدر
الرهابي ايهود اولمرت، رئيس البلدية الصهيونية للقدس، أمرا بوقف عمليات الترميم، رفضته الوقاف
باعتبار أن العمال داخل الحرم هي من اختصاصها.
وعندما قامت الوقاف بافتتاح بوابة طوارئ في المصلى أواخر عام تسعة وتسعين، هددت جماعات
صهيونية بإطلق تظاهرات ضخمة لن تتوقف إل بإغلق البوابة أو المصلى نفسه.
ومرة أخرى كان الوقوف في وجه الضغوط الصهيونية سببا أساسيا في استكمال ترميم المكان
السلمي.
الجامعة العبرية
في لقاء جمعه مع السلطان العثماني عبد الحميد عام ألف وتسعمائة واثنين، طلب تيودور هرتزل الزعيم
الصهيوني من السلطان الموافقة على إنشاء جامعة يهودية في القدس، فرفض السلطان هذا المر رفضا
قاطعا.
ولكن الجهود الصهيونية في هذا التجاه لم تتوقف ذلك أن فكرة تأسيس الجامعة تعود إلى المؤتمر
الصهيوني الول، وفي المؤتمر الحادي عشر تقرر إنشاء الجامعة، وشكلت لجنة تنفيذية لهذا الغرض،
سعت للحصول على الرض المناسبة لقامة المشروع.
وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر، قدم البريطانيون أرضا استولوا عليها بموجب قانون نزع
الملكية، وطردوا أصحابها منها، إلى الصهاينة، وذلك لشادة الجامعة العبرية عليها، وفي العام نفسه
قام الزعيم الصهيوني، حاييم وايزمن، بوضع حجر الساس لهذه الجامعة في منطقة جبل الزيتون في
بيت المقدس.
استمر العمل في بناء هذه الجامعة سبع سنوات حاولت خللها السلطات البريطانية، إقناع الصهاينة بأن
تشيد جامعة بريطانية في القدس، ولكنهم رفضوا هذا القتراح.
أقيمت الجامعة، في منطقة ترتفع ثمانية وعشرين مترا فوق سطح البحر، وبدأت الدراسة الفعلية فيها
عام ألف وتسعمائة وثلثة وعشرين، غير أن افتتاحها الرسمي تم في حفل كبير، حضره اللورد أرثر
بلفور، صاحب وعد بلفور المشؤوم، وذلك في نيسان من عام ألف وتسعمائة وخمسة عشرين.
اعتبر الصهاينة افتتاح الجامعة إنجازا كبيرا للمشروع الصهيوني، وقد تحدث في حفل الفتتاح الشاعر
اليهودي حاييم يياليك قائل: في هذا اليوم ستصل النباء السارة إلى جميع عائلت إسرائيل المبعثرة في
كل مكان، بأن أول وتد في عملية تشيد القدس العالمية قد ثبت اليوم وللبد.
التحق بالجامعة فور افتتاحها فريق من كبار الباحثين والساتذة كان من بينهم مارتن بوبر الفيلسوف
اليهودي النمساوي الذي شغل منصب أستاذ الفلسفة الجتماعية في الجامعة، والدكتور يهودا ماغنس،
الحاخام الصلحي المريكي الذي أصبح عميدا للجامعة.
أدت الجامعة العبرية عند افتتاحها خدمة دعائية كبيرة للحركة الصهيونية، إذ ظن المثقفون الوربيون
أن اليهود المهاجرين إلى فلسطين، هم وحدهم القادرون على النفتاح العلمي، وعلى السهام في سير
الحضارة الوربية في منطقة الشرق الوسط.
وفي وقت لحق سوف يستخدم الصهاينة هذه الجامعة في تعزيز تغلغلهم في أفريقا وأسيا. عبر منح
الدراسة في الجامعة التي قدمت لطلب من دول القارتين، كما أن مراكز التجاهات التابعة للجامعة،
قامت بأعداد دراسات وأبحاث تتعلق بالتطوير الزراعي في تلك البلدان.
استقطبت الجامعة دورا كبير من الدارسين وكذلك من الساتذة، ففي عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين
كان يدرس فيها وسبعة وستون أستاذا منهم ثمانية وثلثون يحملون درجة بروفيسور، فيما بلغ عدد
طلبها في العام نفسه سبعمائة وأربعة وثمانين طالب وطالبة، التحق نحو نصفهم بكلية الداب التي
تدرس علم اللغات، والعبرية، التوراة والتلمود، وآداب اللغة العبرية، والفلسفة اليهودية والتاريخ
السرائيلي، وعلم السر الفلسطينية، والتاريخ السلمي، والثقافة السلمية، والتربية وعلم النفس، أما
كلية العلوم، فتدرس الرياضات والطبيعيات والكيمياء وعلم الحيوان والنبات والصحة والبكتريولوجيا.
وأنشئ معهد زراعي تابع للجامعة، التي قصرت التدريس فيها على اللغة العبرية إل في بعض دراسات
اللغة الجنبية.
لعب استجلب اليهود المتزايد إلى فلسطين دورا في التطور السريع للجامعة، إذ أضيفت كفاءات علمية
عديدة من المستجلبين الذين حصلوا علومهم في أوروبا إلى طاقم التدريس في الجامعة.
أنشأ الصهاينة جامعات أخرى في فلسطين بعد النكبة، إل أن الجامعة العبرية، مازالت أهم الجامعات
الصهيونية العاملة في فلسطين.
الزوايا والخوانق
بيت المقدس الذي شهد قدوم أعداد كبيرة من الصحابة والتابعين بعد الفتح العربي السلمي، شهد أيضا
قدوم زهاد ومتعبدين وصالحين، للعتكاف في المسجد وحوله.
ومن هؤلء على سبيل المثال: قييصة بن ذؤيب، وعبد ال بن محيريز، وهانىء بن كلثوم، وأم الدرداء:
هجيمة بنت حيي، زوج الصحابي أبي الدرداء التي كانت تجالس الفقراء والمساكين وتحسن إليهم.
عاش الزهاد الولون حياة بسيطة وأقاموا في معتكفات للتعبد وذكر ال. وفي القرن الثاني للهجرة، قدم
عدد كبير من الصوفية إلى الديار الفلسطينية المقدسة.
وفي مقدمة هؤلء أم الخير رابعة بنت اسماعيل العدوية، وبشر الحافي، وذو النون المصري، وإبراهيم
بن أدهم، والسري بن المفلس السقطي.
الصوفيون كانوا أفرادا في الصل، ثم تجمعوا في منظمات منذ القرن الثالث الهجري. ولكن رواج
الطرق الصوفية، إنما تم في القرن السادس الهجري، وانتشرت انتشارا كبيرا ابتداء من القرن السابع
الهجري، فيما بلغت قمتها في القرن الثامن حيث لقي الصوفيون تشجيعا من الحكام المماليك.
ارتبط بوجود الصوفية نشوء الزوايا والخوانق. والخانقاه كلمة فارسية تطلق على المباني التي تقام
ليواء الصوفية الذين يحلون فيها للعبادة. وقد سميت في العهد العثماني "تكايا" كما أطلق عليها أيضا
اسم الربط.
تركزت معظم الزوايا والخوانق في مدينتي القدس والخليل، وقد بدأ تأسيسها في القرون السلمية
الولى، ولم تكن مقصورة على الصوفية وإنما شغلها زهاد ومتعبدون. ولم يبق من معظمها أية آثار في
الوقت الحاضر.
ولعل من قبيل الستثناءات النادرة، بقاء الزاوية الدهمية في القدس، التي تنسب إلى الصوفي إبراهيم
بن أدهم المتوفى سنة مائة وإحدى وستين للهجرة.
أما معظم الزوايا التي ل تزال آثار كثير منها ماثلة فترجع إلى عصر المماليك، الذين اجتهدوا في تعمير
زوايا ومنشآت كانت موجودة قبلهم، فضل عن إنشاء مؤسسات جديدة.
واليوم ل يعرف عن كثير من الزوايا سوى اسمها، أو أسماء منشئيها فيما اندثرت هي.
ومع أن تعبيرات الزوايا والخوانق والتكايا والربط، كانت تطلق على مؤسسة واحدة ليواء الصوفية،
فإنها كانت مختلفة، وكل منها تعني نمطا مختلفا من هذه المؤسسات.
فالزوايا التي انتشرت في معظم أنحاء فلسطين، وكان في القدس أربعين منها، هي مؤسسات شخصية،
غير مرتبطة في جميع الحيان بالصوفية. إذ الزاوية هي مقر رجل من التقياء أو بيته، يجمع فيها
حوله جماعة من التلميذ، وفيها مصلى. ولهذا السبب كانت الزوايا أصغر من الخوانق والربط وأكثر
منها عددا، كما أنها أقدم منها عهدا، فقد كان العتكاف في غرفة صغيرة أو منارة في المسجد أمرا
عاديا للزهاد والعباد منذ فجر السلم.
وكان هذا المعتكف يدعى زاوية منذ عهد الصحابة. ومما يدل على الهمية التعليمية للزوايا، فإن كثيرا
من المدارس في بيت المقدس، ومدن فلسطينية أخرى كانت تسمى زوايا. وبالعكس، فالزوايا المينية،
والنصرية والختنية في القدس، كانت تسمى مدارس أيضا.
وفي بعض الزوايا أقيمت مكتبات هامة كما هو الحال في الزاوية النصرية في القدس، التي أقيمت في
القرن الخامس للهجرة.
في بيت المقدس كان عدد الزوايا ينوف عن الربعين ومن أشهرها: النصرية، الجراحية، الدركاء،
الدهمية، البسطامية، الرفاعية، زاوية الهنود، زاوية الفغان– وغيرها.
أما الخانقاه فهي بعكس الزاوية، إذ أنها ليست شخصية، وإنما لها غالبا مقام رسمي في الدولة، إذ هي
تنفق عليها، وتعين لها الشيوخ بمراسيم سلطانية.
انتشرت الخوانق بتوسع منذ القرن الخامس الهجري، وهي أكبر بيوت الصوفية، كانوا يقيمون فيها
بصورة دائمة، ويتلقون مخصصات محددة، كما أن الخانقاه كانت مؤسسة للتعليم الديني أيضا. وكانت
على النازلين فيها التزامات معينة للتعبد والدرس والذكر.
أول الخوانق التي أسست في القدس، هي خوانق الفرقة الكرامية، أتباع محمد بن كرام المتوفى سنة
مائتين وخمس وخمسين للهجرة، وقد ذكرها الجغرافي المقدسي في كتابه أحسن التقاسيم.
أما أول خانقاه معروفة معرفة جيدة نسبيا، ول تزال قائمة حتى الن، فهي الخانقاه الصلحية التي بناها
صلح الدين سنة خمسمائة وثلثة وثلثين للهجرة وكانت لها أوقاف كثيرة.
وأهم خوانق القدس:
الخانقاه الدوادارية: وتقع عند باب العتم وقفها المير علء الدين سنجر، سنة ستمائة وخمس وتسعين،
على ثلثين نفرا من الصوفية، من العرب والعجم، وكانت مدرسة في الوقت نفسه.
الخانقاه الكريمية: عند باب حطة، وقفها الصاحب كريم الدين بن عبد الكريم بن المعلم هبة ال، سنة
سبعمائة وثماني عشرة للهجرة، وقد زارها ابن بطوطة، سنة سبعمائة وست وعشرين للهجرة، وكانت
مدرسة أيضا.
الخانقاه التنكزية: عند باب السلسلة أنشأها المير تنكز الناصري سنة سبعمائة وتسع وعشرين للهجرة،
وكانت مدرسة وخانقاه، ودار حديث، ومكتب أيتام.
الخانقاه الفخرية: في الجنوب الغربي من باب الحرم، وقفها القاضي فخر الدين محمد بن فضل ال،
ناظر الجيوش السلمية، المتوفى سنة سبعمائة واثنين وثلثين للهجرة، وكانت خانقاه ومدرسة، هدمها
الصهاينة سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين، مع ما هدموه من زاويا، منذ عام ألف وتسعمائة وسبعة
وستين، وأشهرها: زاوية المغاربة، وزاوية أبو مدين.
الخانقاه السعردية، شمالي رواق الحرم الشمالي، وقفها مجد الدين السعردي، سنة سبعمائة وإحدى
وسبعين للهجرة وكانت مدرسة أيضا.
الخانقاه المنجكية: عند باب الناظر وقفها المير منجك، نائب الشام سنة سبعمائة واثنين وستين
للهجرة.
الخانقاه المولوية: في حارة السعدية، أنشأتها الدولة العثمانية، لتباع الطريقة المولوية سنة تسعمائة
وخمس وتسعين للهجرة وتعرف أيضا بالتكية والزاوية المولوية.
بخلف الزوايا، التي اتسمت بالبساطة الشديدة، وسيادة مظاهر التقشف انسجاما مع طبيعتها وغرضها،
فقد اهتم المماليك بعمارة الخانقاه وزينتها وكسوتها وحرصوا على تدوين أسمائهم عليها كمنشئين لها،
منفقين الموال على عمارتها وخدمتها والنفاق على الصوفيين فيها.
المحاولت اليهودية المبكرة للسيطرة على حائط البراق
ففي ذلك الوقت كانت الهجرة اليهودية من أسبانيا إلى الدولة العثمانية في حالة ازدياد مستمر بفعل
عامل الجذب العثماني المتسامح، مقابل ما واجهه اليهود في أسبانيا.
مع حلول العام ألف وخمس مائة وعشرين دخل الحائط الغربي إلى التقاليد اليهودية الجديدة وصار جزأ
منها .. وتحول إلى حائط لبكاء اليهود عنده.
لم يدرك السلطين العثمانيون ما يبيته اليهود للحائط وللقدس وفلسطين عموما، وفي أجواء التسامح،
أدوا طقوسا قرب الحائط، سرعان ما أخذوا يعبرونها حقوقا لهم.
محاولين استغلل أية فرصة لتثبيتها، فقد سمحوا إلى استغلل سيطرة المصريين على القدس، فتقدم
يهودي يتمتع بالحماية البريطانية بطلب للسماح له بتبليط الرصيف الواقع أمام الحائط أو الزقاق
المجاور له.
وحين عرض الطلب على المجلس الستشاري الذي أنشأه محمد على باشا في القدس، رفض الطلب،
وثبت محمد على وابنه إبراهيم هذا الرفض.
وطلب الخير من متسلم القدس أن يمنع اليهود من رفع أصواتهم أثناء طقوسهم مع السماح لهم
بالزيارة لقاء رسم محدود لمتولي الوقف في حينه. وفي منتصف القرن التاسع عشر بذل الصهاينة
جهودا حثيثة للستيلء على الحائط، فقد حاول الحاخام عبد ال، حاخام بومباي شراء الحائط، كما سعى
الثري اليهودي موشيه مونتفيوري إلى استصدار إذن من السلطات العثمانية يسمح لليهود بوضع مقاعد
وكراسي في المكان، ونصب أعمدة لقامة مظلت واقية من المطار .. ولكن مساعي مونتفيوري لم
تنجم سوى عن السماح مؤقتا بوضع طاولة للقراءة قرب الحائط أزيلت بعد فترة وجيزة بناء على طلب
السلطات السلمية الدينية.
لحقا حاول ردتشيلد شراء حارة المغاربة المجاورة للحائط، وفشلت جهوده، إل أن اليهود كانوا
يستغلون التسامح والسماح بالزيارة على مدار الوقت كي يتحول المر إلى حق ثابت، فعادوا إلى رفع
أصواتهم والبكاء، ومع حلول عام ألف وتسع مائة وأحد عشر حاولوا مجددا إحضار الكراسي للجلوس
عليها أثناء البكاء، ووضعوا ستارا بين مكان الرجال ومكان النساء، ولكن كل ذلك أزيل بأمر السلطات
العثمانية بعد شكوى متولي الوقف السلمي.
تغيرت الصورة مع فرض النتداب البريطاني على فلسطين، فهذا النتداب كان يهدف أساسا إلى تهيئة
إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين وكان نورمان بنويش، وهو أحد كبار موظفي حكومة النتداب
البريطاني في فلسطين يعتبر "أن أكبر محفل ديني لجتماع اليهود في القدس هو الحائط الغربي".
استغل اليهود الصهاينة تأييد حكومة النتداب لهم، وعادوا إلى وضع أدواتهم أمام الحائط، ما فجر
غضب المسلمين الذين واجهوا هذا الوضع عام ألف وتسع مائة وخمسة وعشرين، مطالبين بإزالة ما
وضعه اليهود من أدوات أمام البراق، ولكن هؤلء واصلوا القيام بالبكاء والصراخ مع تركيز أدواتهم
عند الحائط، وهو ما فجر ثورة البراق سنة ألف وتسع مائة وتسع وعشرين التي أسفرت عن مقتل مائة
وثلثة وثلثين مستوطنا صهيونيا، واستشهاد مائة وستة عشر مواطنا فلسطينيا.
بعد ثورة البراق جاءت لجنة تحقيق دولية إلى فلسطين. قررت بنتيجة التحريات التي قامت بها، أنه
للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءا ل يتجزأ
من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملك الوقف.
وأعطت اللجنة لليهود حرية السلوك إلى الحائط لقامة التضرعات، دون جلب أي أدوات. مع ذلك واصل
الصهاينة التحرش بالبراق، حتى كان عدوان حزيران واحتلل القدس.
السواق
البلدة القديمة من القدس، لم يحدث أن اختصرت جغرافية بهذا الحجم، كل هذا الحشد من تفاصيل
التاريخ وزحم الحاضر، ول تلمس مكان عبق القداسة، وخاصية التشبت بالجزئيات الصغيرة كما هو
الحال هنا.
الدكاكين تستند إلى السوار، وكأنها تتكئ على الثبات، وتتزود من التاريخ لمواجهة الراهن، في حالة
رفض مستمرة للقتلع والسحق.
مذ بدأت القدس مقصدا للحجيج بما تضمه من مقدسات إسلمية ومسيحية، دخلت السواق في تكوين
معلم المدينة، وكأنها خلقت معها، لتصير من خصائصها البارزة، وواحدة من ميزاتها الهامة التي
اكتسبت مع الوقت شهرة عالمية، بما حمله السائحون والزائرون معهم من تذكارات جميلة، نقلت إلى
جهات الرض، صورة عن الفلسطيني الصانع الماهر، والصانع هنا توارث الدكان عن الباء والجداد
ورث عنهم حب القدس، وصناعة متقنة، حيث أقامت كل فئة من الصناع سوقا خاصة بها.
أسهب الرحالة المسلمون قديما في وصف أسواق القدس، التي كان يقال أنه ل يوجد بغالب البلد
نظيرها.
حرص بناه السواق على أن تكون ملصقة لسور الحرم ومن سوق القطانين كان يمكن الصعود مباشرة
إلى رصيف الحرم القدسي، وكانت السواق جميعا موقوفة على مصالحه.
ل تزال أسواق القدس، أو ما بقي منها، ميزة للمدينة، فقد كثر تجار التذكارات مع توسع القدس لكن
ذلك لم يخطف من السواق القديمة وهجها، السواق الثلثة البرز اليوم هي: سوق الخانقاه سوق
الدباغة، سوق حارة النصارى.
وأمام دكاكين هذه السواق يأخذ المرء إحساس بأن الناس والشياء راسخة هنا، بلط الزقاق، الجدران،
النقوش، والنسان حاميا على مصنوعاته الدقيقة، معمرا المكان الذي يشده إليه تواصل ل يدرك سره
ول كنه إل هو.
السواق الثلثة ترتبط ببعضها البعض متشعبة إلى أنحاء البلدة القديمة، وصول إلى منافذها الرئيسية
في باب الخليل وباب العمود، حتى لتبدو مثل سوق واحدة، وفي كل سوق عشرات الدكاكين: خمسة
وثمانون محل في سوق حارة النصارى، مئة وخمسون محل في سوق الدباغة، خمسة وأربعون محل
في سوق الخانقاه.
مثل كل شيء في القدس، لم تسلم السواق من الهجمة الصهيونية الشرسة، فقد أزالت الجرافات سوقي
الباشورة والحصر عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين وهدمت أجزاء من أسواق أخرى فيما الباقي
مهدد، بعد تدمير سوقي الباشورة والحصر، أقام الصهاينة سوق "كاردو" وجهزوه بكل المرافق اللزمة
لبعاد السياح والزوار عن السواق العربية، ولعب الدلء الصهاينة دورا كبيرا على هذا الصعيد.
وشنت سلطات الحتلل حملة إفقار منظمة ضد تجار السواق العربية من خلل فرض الضرائب الباهظة
عليهم، وهي تعلم أنهم جميعا من أصحاب رؤوس الموال الفردية التي تعجز عن اليفاء بدفع الضرائب
وإدامة دورة النشاط القتصادي الخاصة بهم.
ول تقدم سلطات الحتلل خدمات مقابل الضرائب بل تعمد إلى إبقاء الحفريات قائمة في السواق، وإلى
البقاء على انتشار استفزازي لجنود الحتلل فيها. فيما نصب المستوطنون سللم حديدية، وأقاموا
طريق اتصال بين الحي اليهودي، وأسطحة السواق، المر الذي يهدد السطحة بالضرر والتآكل، ويتيح
للمستوطنين فرض ممارسة أشكال مختلفة من التضييق على التجار المقدسيين، ومن ذلك مصادرة
المحال.
أدت هذه الممارسات الصهيونية إلى إغلق عدد كبير من المحال في أسواق القدس الثلثة، فجرى
إغلق خمسة وعشرين محل في سوق حارة النصارى، وخمسة وسبعين محل في سوق الدباغة
وعشرين محل في سوق الخانقاه.
المحلت المغلقة تصبح عرضة للمصادرة من قبل المنظمات الستيطانية الصهيونية الناشطة في البلدة
القديمة والتي استولت على محلت جديدة في نهاية العام ألفين.
أما المحلت الخرى فيتواصل الضغط على أصحابها بغية إجبارهم على تركها وإغلقها، ويقول التجار
المقدسيون: أن سبب الغلق هو عدم قدرتهم على الستمرار إزاء الضرائب الباهظة وضعف الحركة
الناجم عن سياسات الحتلل ضد أسواق البلدة القديمة.
)المقدسيون يدركون أن الهجمة على السواق ليست لسباب اقتصادية فقط، بل لتهديد معلم من المعالم
الساسية لعروبة وإسلمية القدس لذلك يقترحون دعما يعين أصحاب المحال في السواق على البقاء
فيها ومما يقترحونه أيضا ربط السواق الثلثة بسوق خان الزيت المكتظ بالمشترين المحليين، وتغيير
المهن في أسواق القدس الثلثة حتى تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة الهجمة الصهيونية.
الحرم القدسي الشريف
الحرم القدسي الشريف ..هو من يعطي القدس معناها، فهو البيت ..ولكأنه المدينة كلها. يضفي على
تميزها وفرادتها، ما تباهي به المدن، لتكون القدس زهرة المدائن، قلب العالم تشده إليها، وتبدو كمن
يمسك بأطرافه كافة، وبالحرم هي المقدس، وغيرها العادي.
والحرم هو الذي يضم المسجد القصى الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في فاتحة سورة السراء،
ومسجد قبة الصخرة التي عرج منها رسول ال صلى ال عليه وآله وصحبه وسلم إلى السماء إل أن
المفهوم الشرعي للمسجد القصى يتضمن كل ما هو داخل سور الحرم القدسي.
كما يضم بين جنباته الطاهرة، مساجد وزوايا، وبيمارستانات وقباب وسبلن، حتى أن البعض وصفه
بمدينة صغيرة، أو بمجمع روحي ثقافي.
ويقع بعض الخلط أحيانا، بين الحرم القدسي الشريف، وبين المسجد الجامع، المسجد القصى، وبين قبة
الصخرة، على أن كل منها مختلف عن سواه.
يقع الحرم الشريف في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة القدس القديمة، ويأخذ شكل شبه المنحرف،
طول ضلعه مئتان وواحد وثمانون مترا من الجنوب، وثلثمائة وعشرة أمتار من الشمال، وأربعمائة
واثنان وستون مترا من الشرق، وأربعمائة وواحد وتسعون مترا من الغرب.
ويحيط بالحرم سور يشترك من جهة الشرق والجنوب مع سور المدينة القديمة، ولذلك كان من الطبيعي
أن يشترك الحرم والمدينة في عدد من البواب القائمة على السوار، إذ أن للحرم خمسة عشر بابا،
أكثرها في الجهتين الغربية والشمالية، اتخذت لها أسماء تاريخية كان بعضها يبتدل مع الزمن.
في الشرق: باب البراق، وباب التوبة، وباب الرحمة، وهي مسدودة غير مستعملة غالب الوقت، وفي
الشمال: باب السباط وباب حطه، وباب شرف النبياء الذي تغير اسمه مرارا ويعرف الن باسم باب
فيصل أو الباب العتم، وفي الجهة الغربية، ثمانية أبواب هي من الشمال إلى الجنوب: باب الغوانمة
وباب الرباط الناصري الذي تغير اسمه أيضا ويعرف باسم باب الحبس، أو باب المجلس، وباب الحديد،
وباب القطانين، وهو من أهم البواب، بني في عهد السلطان الناصر بن محمد بن قلون سنة سبعمائة
وسبع وثلثين للهجرة، وقد وصفه العمري ابن فضل ال، بقوله "أبواب مصفحة بالنحاس المذهب
المخرم، متقن العمارة والزخرفة" يلي باب القطانين، باب الطهارة أو باب الموضأ، ثم باب السلسلة فباب
السكينة، ثم باب المغاربة.
ويعتبر الحرم بمجملة صحنا لمسجد، أو مسجدا في الهواء الطلق يمارس فيه المسلمون صلواتهم باتجاه
القبلة، لعل هذا ما يفسر إقامة العديد من المساجد والمحاريب فيه، كما أنه يفسر الخلط في السماء
الذي وقع فيه البعض حسبما أشرنا بداية.
إلى مسجدي الصخرة والقصى الكبيرين يضم الحرم عددا من المساجد، منها مسجد ملصق للقصى من
جهة الغرب دعي بمسجد النساء، ويليه جامع المغاربة.
ين الشمالي والغربي بعضها أقيم فوق i أما المدارس فقد ذكر العمري والحنبلي مجموعة منها على السور
أروقة سور الحرم وبعضها على السور وحوله، إضافة إلى عدد من الزوايا والربطة أهمها الزاوية
الصخرية، والرباط المنصوري. أما مآذن الحرم الربع، فقد جاءت إقامتها منسجمة مع طبيعة تموضعه
في القدس إذ أن سوري الحرم من الشرق والجنوب، يكملن سور المدينة، قد خل من المآذن التي
أقيمت على جداريه الشمالي والغربي، لتكون أكثر صلة بأحياء المدينة.
المئذنة الولى أقيمت على السور الشمالي بين باب السباط وباب حطة، وقد شيدت عام سبعمائة وتسعة
وستين للهجرة في أيام السلطان الشرف شعبان.
أما الثانية ففي الزاوية الشمالية الغربية من السور عند باب الغوانمة، بناها ناظر أوقاف الحرمين،
القاضي شرف الدين بن الوزير الخليلي أيام السلطان المنصور بن حسام الدين لجين، سنة ستمائة
وسبع وتسعين للهجرة، وهي أتقنها عمارة وأعظمها بناء كما يقول الحنبلي.
وأقيمت المئذنة الثالثة، على باب السلسلة في منتصف السور الغربي، وقد بنيت في ولية المير تنكز
نائب الشام، سنة سبعمائة وثلثين للهجرة .أما المئذنة الرابعة ففي الجهة الجنوبية الغربية شيدت على
سطح المدرسة الفخرية.
جرى ترميم هذه المآذن مرارا في العهد العثماني وفي العصر الحديث، لكنها ما تزال على طابعها القديم
كنموذج لهندسة المآذن في العهد المملوكي.
كان السور محاطا بالروقة من داخله، تحملها العمد والعضائد، لكنها لم تكن تحيط بكل أجزائه، وظل
قسم من الحرم مفروشا بأشجار الزيتون والتين وغيره، ل سيما في الجهة الشرقية.
ومعظمة مفروش بالبلط، كما أنه ليس في مستوى واحد، فالقسم الذي أقيمت عليه قبة الصخرة كان
مرتفعا يؤلف ما يسمى بالدكة، يصعد إليه من أرض الحرم بواسطة أدراج حجرية موزعة في الجهات
الربع للدكة. تنتهي غالبا بمجموعة من القناطر أطلق عليها اسم الميازين ومنها: الميزان الشمالي
الشرقي، ويقوم على عمودين قديمين، ويمتاز بطنف جميل، وإفريز مسنن وعليه كتابة تفيد في تاريخ
إنشائه زمن الملك المنصور قلوون، في سبعمائة وإحدى وعشرين للهجرة.
والميزان الشمالي، ويقوم على عمودين وعليه كتاباتان، والميزان الغربي في أقصى الشمال، ويقوم
على ثلثة أعمدة، ويليه الميزان الغربي على ثلثة أعمدة، فالميزان الغربي في أقصى الجنوب على
عمودين قديمين.
أما الميزان الجنوبي، فمؤلف من ثلثة أعمدة ويتصل بمنبر برهان الدين، ويقع على محور المسجد
القصى وقبة الصخرة، وعليه مزولة يستدل بها المؤذن على وقت الصلة إضافة إلى ميازين أخرى في
الجنوب.
وتتوزع حول مسجد الصخرة قباب صغيرة أهمها قبتا السلسلة والمعراج، ويبدو أن هذه القباب قديمة،
وبعضها من العهد الموي، وقد ذكر المهلبي في القرن الرابع الهجري، أربعا منها :السلسلة والمعراج
والميزان والحشر، وحول الدكة في أرض الحرم، زوايا وقباب عديدة من عهود مختلفة أسهب في
ذكرها ووصفها العمري والحنبلي، منها قبة سليمان الكائنة في الجانب الشمالي، وقبة موسى التي بناها
الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة ستمائة وثلث وأربعين للهجرة، في الجهة الغربية قريبا من باب
السلسلة، وقبة الطومار في الجانب الشرقي الجنوبي، ومن الجهة الشرقية زاوية كانت تسمى الصمادية
وإلى جانبها زاوية البسطامي. وعلى الطرف الجنوبي للدكة، إي ضمن مسجد الصخرة، منبر رخامي،
من العهد المملوكي، نسبة الحنبلي إلى القاضي برهان الدين جماعة.
وهناك البار والصهاريج الموزعة في أنحاء الحرم، التي عد منها الحنبلي اثنين وثلثين بئرا، وسمى
الكثير من أسمائها: بئر الرمانة، بئر الجنة، بئر الشوك، بئر الكأس ..وغيرها والسبلن العديدة، التي
أحسن بناؤها وزخرفتها، وأنشئ أكثرها في العهدين المملوكي والعثماني، وأهمها سبيل من عهد
السلطان قايتباي سنة ستمائة وثمان وسبعين للهجرة، وسبيل قاسم باشا عند باب السلسلة من عهد
السلطان سليمان القانوني، ويتبقى الحديث عن المسجدين الكبيرين، المسجد القصى، ومسجد قبة
الصخرة، وهما داخل الحرم القدسي الشريف.
) الحرم القدسي الشريف ) 2
المسجد القصى، داخل الحرم القدسي الشريف، ومثلما ل خلف على القداسة، فلخلف على الموضع
د، ذلك أن القداسة والموضع، هما من اختيار إلهي، وإرادة ] أيضا ..وإنما هو اختلف على من بنى وشي
ربانية.
وإجماع الراء أن المسجد بني داخل الحرم في العهد الموي، سنة اثنتين وسبعين للهجرة، تدل على
ذلك لوحة محرفة، أما البناء الحالي فمن أعمال الملك عيسى ابن العادل، بعد تحرير القدس من أيدي
الفرنجة، وقد جدد فيه الناصر بن قلوون، ثم الملك قانصوه الغوري، ورمم مرارا.
التفاق على أن البناء تم في العهد الموي يتبعه خلف، فالبعض ينسبه إلى الخليفة عبد الملك بن
مروان، والبعض الخر إلى ابنه الوليد بن عبد الملك. وأرجح الراء أنه شرع في البناء زمن عبد
الملك، وتابعه الوليد، مضيفا بعض الزخارف من رخام وفسيفساء.
ويعتمد المؤرخون في نسبة البناء إلى عبد الملك أن مخطط القصى الموي، كان يقوم على أساس
البلطات المتعامدة مع القبلة، الوسط منها واسع ومرتفع عن بقية البلطات المجاورة له، وهو تخطيط
قريب الشبه بمخطط الكنائس البيزنطية، على خلف جامع دمشق الموي، وجوامع الشام الخرى التي
تتجه بلطاتها موازية لجدار القبلة. ولو أن الوليد هو الذي بنى المسجد القصى لقامه على شاكلة
مسجد دمشق، الذي كان له يد في تصميمه بهذا الشكل المغاير لما قبله من المعابد.
والحق أن المسجد القصى يمثل نمطا جديدا في العمارة السلمية، وهو ما جعله يتصف بميزات
وخصائص معمارية، لم تكن شائعة من قبل، ومن هذه الميزات خلو المسجد القصى من الصحن، أو
الفناء الداخلي المكشوف وهذا من المور النادرة في المساجد التي شيدت منذ صدر السلم، وحتى
العصر العباسي، التي يعتبر الصحن المفتوح من خصائصها الساسية. كما أن محرابه ل يتوسط جدار
القبلة، وبذا يشذ عن القاعدة العامة لغلب المساجد السلمية، التي روعي فيها توسط المحراب لجدار
القبلة.
وبلطات المسجد، متعامدة مع القبلة وليست موازية لها. وبهذا كله يكون المسجد القصى قد تميز عن
أغلب مساجد العصر الموي كما أن المسجد على الشكل الذي بني عليه في ذلك العصر، بلطه وسطى
واسعة، وإنما كانت مساوية ومشابهة لبقية البلطات وذلك لخلو المسجد من القبة في حينها، وقد يكون
عدم وجود قبة في المسجد القصى راجعا إلى الرغبة في إبراز قبة الصخرة القريبة منه.
عام مائة وثلثين للهجرة، وقع زلزال، أدى إلى تهدم القصى الموي، فأمر أبو جعفر المنصور بترميمه
سنة مائة وأربع وخمسين، ثم تعرض لزلزال أخر عام مائة وثمانية وخمسين، فأمر المهدي بإعادة
بنائه.
ويبدو أن أجزاء القصى الموي بقيت، وأدمجت في مخطط القصى العباسي، ومنها البلطة الوسطى
واثنتان على جانبها.
واستحدث المهدي سنة مائة وثلث وستين، توسيعا في البلطة الوسطى بعد الستغناء عن صف من
الدعامات كان يتوسط بيت الصلة، وغطاها بسقف جملوني ضخم يعلوه منور لدخال الضوء، وقبة
خشبية مزدوجة مغلفة بصفائح من الرصاص من الخارج، مزينة بالجس من الداخل، وحسب أوصاف
الرحالة، فقد كان للقصى العباسي رواق من الجهة الشمالية، يتقدم أبواب المسجد.
أما القصى في العهد الفاطمي، فمحل خلف فمن قائل أنه تهدم جراء زلزال وقع عام أربعمائة وأربعة
وعشرين للهجرة، وإن الخليفة الفاطمي الظاهر، قام بإعادة بنائه، وحوله من مسجد كبير مؤلف من
خمس عشر بلطة إلى أربع بلطات فقط، إلى قائل بأن الزلزال الذي وقع في التاريخ المذكور، لم يطل
القصى، وأن الخليفة الفاطمي قام بأعمال تجديد وترميم فقط، وربما تكون اقتصرت على بناء القبة من
جديد، بحسب كتابه أوردها الرحالة الهروي حين زار المسجد سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة،
أثناء وجوده تحت احتلل الفرنجة.
غاب الحديث عن القصى زمنا طويل، أثناء الحتلل الفرنجي، وفيما أشار الهروي إلى أن الفرنجة لم
يحدثوا تغييرا فيه، يتحدث العماد الصفهاني كاتب صلح الدين عن تغييرات واسعة حدثت في المسجد.
ويقول شهاب الدين المقدسي، نقل عن العماد، كانوا قد بنوا من غربي القبلة دارا وسيعة وكنيسة،
فأوعز صلح الدين بهدم ذلك الحجاب وهدم ما قدامه من البنية، ونقض ما أحدثوه بين السواري، وأمر
صلح الدين بتعمير المحراب وترخيمه، واحتيج إلى منبر فذكر السلطان المنبر الذي أنشأه الملك العادل
نور الدين محمود لبيت المقدس قبل فتحه بنيف وعشرين سنة، وأمر أن يكتب إلى حلب ويطلب فحمل"
ل يزال المحراب قائما، أما المنبر الذي ظل يزين القصى كأحسن منابر السلم، فقد أحرقه الصهاينة
سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين. يعتبر الوصف الذي قدمه مجير الحنبلي، سنة تسعمائة للهجرة،
للمسجد القصى قريبا مما هو عليه المسجد اليوم، إذ أن كل الصلحات التي جرت لحقا، لم تؤد إلى
إحداث تغيير في عمارته، ويجدر أن نذكر أن أعمال الفسيفساء التي أشرف على ترميمها المهندس
التركي كمال الدين، أوائل القرن العشرين، كشفت عن فسيفساء تعود إلى العهد الفاطمي، فريدة من
نوعها، خص بها الفاطميون المسجد القصى، وليس لها مثيل في هذا العصر أو العصر اليوبي، أما
العناصر الزخرفية الخرى فقد بقيت هي ذاتها التي كانت في العصور الموية، والعباسية والفاطمية،
وحتى في العهد المملوكي، والمسجد القصى حاليا، يبلغ طوله ثمانون مترا وعرضه خمسون، له بابان
من الجهة الغربية وواحد في الشمال وأخر في الشرق. تعود البواب الشمالية للعهد الفاطمي، وتشكل
البوابة الرئيسية رواقا مؤلفا من سبع فتحات تعلوها أقواس منكسرة والفتحة المتوسطة هي أكثرها
زخرفة، وتعلوها أخرى مقوسة في أعلها جبهة عالية ذات شراشيف، وعبر هذه الفتحات نجد رواقا
زين بزخارف ملونة وللرواق أبواب سبعة تعود إلى المسجد، ويقود الباب الوسط منها إلى المحراب،
ولقد غطي بجمالون ممتد بالعمق حتى القبة، وزين سقفه من الداخل بالزخارف الملونة.
ويبلغ عدد العمدة ثلثة وخمسين عامودا تعلوها تيجان مقرنصة عدا العضادات، ترتفع العمدة
والتيجان لخمسة أمتار وعلى جانبي البلطة الوسطى تقوم على العمدة قناطر ارتفاع قمتها عن الرض
تسعة أمتار ونيف وفوق هذه القناطر يقوم جسم ذو فتحات مقنطرة ارتفاعها عن الرض تسعة أمتار،
وثمانون سنتيمترا، وارتفاع الفتحة متران، أما ارتفاع السقف فاثنا عشر مترا وأربعون سنتيمترا ويبلغ
ارتفاع القبة عن الرض سبعة عشر مترا وفي الجهة الشرقية من المحراب يقوم مسجد عمر، ومقام
الربعين شهيدا ومحراب زكريا، ومن الجهة الغربية يتصل المسجد بجامع النساء أما زخارف المسجد،
فأروع ما بقي منها اللواح الخشبية المحفورة والمزخرفة بالحفر النافر بعناصر نباتية من أوراق
الكرمة والغصان.
هذه اللواح موجودة الن في متحف الحرم الشريف، مصنوعة من خشب الصنوبر، وكانت تغطي أسفل
الجدران بشكل قائم، ولم تكن في سقف المسجد، وهذا أمر فريد في عمارة القصى، أما التحفة
المعمارية المذهلة بحق فقبة الصخرة المشرفة.
) الحرم القدسي الشريف ) 3
قبة الصخرة ..لعلها قمة القداسة، التي دفعت نحو البحث عن نموذج معماري مكتمل، يتساءل آثاري
عربي معروف هو الدكتور عفيف بهنسي عن السبب الذي دعا المعماريين: رجاء بن حياة الكندي،
ويزيد بن سلم، إلى اختيار هذا الشكل الثماني، لبناء آبدة تكريمية تحضن الصخرة المقدسة، أو هي
بناء تعبدي، مسجد، أو قبلة للصلة؟ يتساءل قبل أن يجيب:
لقد وصلت قبة الصخرة إلى أقصى حدود الكمال المعماري ..ولكن أهمية هذه القبة، وقد أصبحت أهم
رمز إسلمي بعد الكعبة تبدو في احتوائها على معان قدسية رسخت أسس الفكر المعماري السلمي،
وكانت أصل يقتدى في العمارة اللحقة.
بنيت القبة في العهد الموي وتاريخها المعماري والفني واضح ل لبس فيه، إذ حافظ هذا البناء على
وضعه الصيل بشكل يندر مثاله بين العمائر التاريخية الخرى في العالم.
لم يتغير مخططه، ولم تتبدل بنيته الصلية أو عناصره المعمارية، وكل ما طرأ عليه خلل تاريخه
الطويل، إصلحات طفيفة تناولت الكسوة الخارجية والعناصر الزخرفية، حرصا من العرب المسلمين في
كل العهود على بقاء هذا البناء المكرم في أجمل حلة وأبهى منظر.
ل شك أن صخرة المعراج كانت هي المنطلق ..وكان الهدف من المشروع العناية بها وإحاطتها بالطار
المعماري اللئق، فكانت القبة هي أنسب شيئ وأجمله .. ومن القبة التي تضم الصخرة وتظلها انتقلت
الفكرة نحو التكامل.
وهكذا من عامل الحاجة، والعامل الفني، ظهر إلى حيز الوجود مسجد الصخرة بمخططه الفريد ومظهره
البالغ غاية الجمال والتناسق الذي ترتاح النفس إليه أشد الرتياح.
والذي قال عنه المؤرخ بوركهارت :"إن إشادة بناء بهذا المستوى من الكمال والتقان الفني، يعتبر عمل
خارقا في دولة السلم التي لم يكن قد مضى على ظهورها قرن واحد" أمام عظمة هذه البدة وجمالها
"سعى كثيرون إلى مقارنتها بأبنية أخرى سابقة مثل قبة القديسة هيلنة في إيطاليا، ولكن قبة الصخرة
أكدت على الدوام فرادتها وطرازها المعماري الخاص، الذي وجد فيه كريزويل استاذ العمارة السلمية،
تناسبا ل متناهيا وانسجاما فوق العادة في كل جوانب البناء، فقال :أن هذا أمر ملفت للنظر حقا.
يتألف مسجد الصخرة من جدار خارجي، شكله مثمن منتظم، طول ضلعه عشرون مترا وسطيا وقطره
خمسون، يليه مثمن مصغر، طول ضلعه خمسة عشر مترا، وقطره أربعون ثم تأتي دائرة القبة، وقطرها
عشرون مترا، يحدث المثمنان حول القبة رواقين، الداخلي وعرضه عشرة أمتار والخارجي وعرضه
أكثر من أربعة أمتار.
أما من حيث الرتفاعات، فتندرج من اثني عشر مترا في الجدار الخارجي، وتنتهي بخمسة وثلثين مترا
عند رأس القبة باستثناء الهلل الذي يرتفع أربعة أمتار أخرى.
أقيمت القبة على الصخرة المكرمة التي ترتفع قرابة متر ونصف المتر عما حولها، وتقدر أطوالها
العظمية بثمانية عشر مترا طول، وثلثة عشر عرضا.
وتتألف دائرة القبة من أربع دعائم حجرية مستطيلة، يتوزع فيما بينها اثنا عشر عمودا من الرخام،
تعلوها قناطر بعددها، أي ست عشر قنطرة، نصف دائرية الشكل، فوقها رقبة القبة، أو كرسيها، كما
سماه القدماء. وهي أسطوانية الشكل تنفتح في أعلها ست عشرة نافذة.
وتغطي الرقبة طاسة القبة، المصنوعة من طبقتين من الخشب بينهما فراغ، والهدف من هذا الشكل، أي
بناء طبقتين، تخفيف الحمولة على الركائز والعمدة، وخلق عازل هوائي، يحمي داخل القبة من
تحولت الطقس.
وظاهر القبة مكسو بالرصاص، وفوقه صفائح النحاس المذهب، ما يساعد على حمايتها من المطار
والشمس، فيما كسي داخلها بالجص المزخرف بالصبغة واللوان.
يتكون المثمن الداخلي الذي يلي القبة من دعائم وعمد تحمل القناطر والسقف، وهي ثماني دعائم في
رؤوس المثمن، يتوزع بينها ستة عشر عمودا، فوقها قناطر بعددها أي أربع وعشرون قنطرة، يصل
بينها سواكف، أو جسور خشبية متينة فوق التيجان، تحكم ترابط البناء.
أما المثمن الخارجي الذي يؤلف واجهة البناء، فمكون من جدران حجرية ارتفاعها تسعة أمتار ونصف،
تعلوها ستائر فوق سطح البناء ارتفاعها متران ونصف، وفي كل تثمينة أو جدار، سبعة محاريب أو
تجويفات قليلة العمق، تنتهي في أعلها بنوافذ، باستثناء التجويفين الخريين في كل تثمينة، فإنها دون
نوافذ، وبذلك يصبح عدد النوافذ في المثمن الخارجي أربعين نافذة، تمد المسجد بالنور، إضافة للنوافذ
الست عشرة المفتوحة في رقبة القبة، الستائر التي تعلو الجدران، كانت هي الخرى مزودة بمحاريب
أو كوى صغيرة، في كل منها ثلثة عشر، طمست معالمها حين وضعت الكسوة القاشانية، في عهد
السلطان العثماني، سليمان عام تسعمائة واثنين وخمسين للهجرة.
يلحظ وجود كورنيش بين جدران المثمن والستائر، تخرج منه ميازيب المياه، وهي ستة في كل تثمينة.
أما أبواب المسجد الربعة المفتوحة في وسط التثمينات الواقعة في الجهات الصلية فهي مستطيلة تقدر
فتحتها بأربعة أمتار ونيف ارتفاعا، وبمترين ونصف المتر عرضا، وتعلو سواكفها عقود نصف دائرية
تكمل النوافذ.
ويتقدم البواب سقائف عرضها متران ونصف المتر، مؤلفة من قبوة نصف اسطوانية، محمولة على
أعمدة، ونجد أكبر هذه السقائف أمام الباب الجنوبي حيث يبلغ طولها خمسة عشر مترا وهي محمولة
على ثمانية عمد.
السقف يمتد من أسفل رقبة القبة نحو التثمينة الخارجية، وهو من طبقتين، الخارجية مائلة، وكانت
مصفحة بالرصاص منذ القديم، والسفلية مستوية تغطيها الزخارف والصبغة، ل تقل الكسوة الزخرفية
لمسجد قبة الصخرة جمال وأهمية عن فرادة المعمار، والزخرفة كانت تتألف من عنصرين رئيسيين:
الرخام والفسيفساء، أما الرخام ففي العمدة التي تنوعت ألوانها وأصنافها، وفي ألواح الرخام الجدارية
من النوع المعرق الذي أطلق عليه القدماء اسم المجزع، وهو يكسو القسام السفلية للجدران والعضائد
جميعا، داخل وخارجا، ويحتل كذلك أماكن العقود في القناطر بألوانه المتناوبة.
هذه الكسوة الرخامية الداخلية، ما تزال تحافظ على أصالتها منذ العهد الموي، إل في أجزاء صغيرة،
جددت في العهدين المملوكي والعثماني.
وأما الفسيفساء، وهي من النوع المكون من فصوص الزجاج الملون، المفصص بعضه والمذهب، فإنها
تغطي القسام العليا للجدران جميعها في الداخل، وفي الواجهات الخارجية وتزين القناطر ورقبة القبة،
وتتألف من مواضيع هندسية، ونباتية متنوعة.
في الداخل، ما تزال الفسيفساء موجودة بحالة جيدة، ومعظمها أصيل من العهد الموي لكنها زالت من
الواجهات الخارجية واستبدلت بألواح الخزف القاسي أيام سليمان القانوني العثماني.
في الزخرفة، استخدمت أيضا عناصر أخرى من بينها النحاس أو البرونز المذهب، صفائح بسيطة أو
مزخرفة تكسو وجوه البواب وسواكفها، وتغطي الجسور الخشبية التي تربط بين القناطر وتيجان
العمدة واستخدمت الصبغة كما استخدم ماء الذهب في تزيين السقوف الخشبية كلها. طالت أعمال
التجديد والترميم العناصر الزخرفية فاستبدلت الفسيفساء بالقاشاني أيام العثمانيين كما أشرنا.
وجددت في الوقت نفسه شبابيك النوافذ الربعين بالخزف، بعد أن كانت في الغالب من الرخام.
أما البواب فجرى تجديدها في العهد العباسي، وبعد أن كانت مصفحة بالفضة والذهب، جاءت العباسية
مذهبة كلها، هذه البواب لم تدم، فأعيد في العهد المملوكي تصفيحها بالنحاس المضغوط المزين
بالنقوش والكتابات.
وجددت القبة في عهد الظاهر الفاطمي وتجددت كسوتها الخارجية مرارا، حتى كانت آخر مرة سنة
1964 م بعد أن لحقت بها أضرار جراء القصف الصهيوني في حرب 1948 كما جرت أعمال ترميم لها
أوائل تسعينيات القرن الماضي، وكما في كل مرة دون تغيير في معمارها الفريد.
إصلحات المسجد القصى
حرص المسلمون دوما على العناية بالمسجد القصى المبارك، وترميم بنائه وإصلحه وتزيينه، وفضل
عن أعمال البناء والترميم والصلحات، التي جرت في العهود العباسية والفاطمية واليوبية والمملوكية
والعثمانية، فقد جرت أعمال بناء وترميم في العصر الحديث.
ففي سنة ألف وتسعمائة واثنين وعشرين، انتخب المجلس السلمي العلى في فلسطين المتولي شؤون
الوقاف والمحاكم الشرعية، لكن أهم أعمال المجلس كانت مشروعا واسع النطاق لتعمير المسجد
القصى من أثر الزلزال الذي تعرض له سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين ومما طرأ على البنيان من
وهن لطول العهد وتقادم الزمن. لسيما بعد أن لوحظ تصدع في الجدران والسقف.
أطلق المجلس حملة واسعة لجمع التبرعات في العالم السلمي، ولبى الكثيرون نداءه. وقد كان لزاما
على المعماريين قبل البدء بعمليات الصلح أن يراجعوا الكتب التاريخية القديمة والحديثة للطلع على
جميع التفاصيل والمسائل المتعلقة بالمسجد، والسير على ضوئها في تنفيذ أعمالهم لعادة المسجد إلى
حاله الصلية.
استغرقت عمليات الصلح نحو سبع سنوات بإشراف المهندس التركي كمال الدين، أستاذ الهندسة في
جامعة اسطنبول، تساعده لجنة فنية من كبار المهندسين والختصاصيين.
وعام ألف وتسعمائة وثمانية وثلثين، شعر المجلس السلمي العلى أن خطرا جديدا يتهدد المسجد
القصى، فطلب بعثة من المهندسين المصريين أجروا دراسة لنجاز عدد من الصلحات وتمت المباشرة
بالفعل في بعض أعمال الزخرفة مثل النقش والترميم السقفي الرواقين الوسط والشرقي، إل أن العمال
لم تستكمل بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية.
وأثناء عدوانهم على القدس ، سنة ألف وتسعمئة وثمان وأربعين، تعمد الصهاينة إسقاط القذائف على
الحرم القدسي الشريف ، فأصيبت قبة الصخرة المشرفة ، وقبة المسجد القصى .
فانطلقت عمليات ترميم جديدة في خمسينيات القرن الماضي، لصلح الضرار التي تسببت بها قذائف
الصهاينة .
وبعد الجريمة الوحشية التي قام بها الصهاينة بإحراق المسجد القصى المبارك، سنة ألف وتسعمئة
وتسعة وستين ، انطلقت في السنة التالية، أعمال ترميم استغرقت ثمانية عشر عاما . حاول الصهاينة
خللها عرقلة أعمال الترميم مرارا ، كما حاولوا إجبار الهيئة السلمية العليا في القدس على طلب
ترخيص من الحكومة الصهيونية لتمام عمليات الترميم . المر الذي رفضته الهيئة ، بلسان الشيخ سعد
الدين العلمي الذي قال : لن نأخذ أية رخصة لجراء أي تعمير في مسجدنا . أدت هذه الصلحات إلى
استعادة المسجد القصى شكله السابق قبل الحريق ، وبقيت الحاجة قائمه إلى أعمال في الكسوة
الداخلية استغرقت نحو عامين .
وفي تسعينات القرن الماضي ، أعيد إطلق عملية ترميم أخرى ، فاتخذت ما سميت محكمة العدل العليا
في الكيان الصهيوني ، قرارا بوقف الترميمات سنة ألف وتسعمئة وثلث وتسعين ، رفضته الوقاف
السلمية ، وتتابع العمل ، حتى انبعث في السنة التالية بريق ذهبي من قبة الصخرة المشرفة التي
كسيت بألواح النحاس المذهبة .
مع هذه العمليات ، ظلت هناك حاجة للمزيد من أعمال الترميم ، فسعت السلطات الصهيونية إلى
عرقلتها مجددا ، وسنة ألفين صادرت تلك السلطات شاحنتين محملتين بالمواد الولية اللزمة لعمليات
الترميم ، بعد أن كانت قد هددت بقطع المياه عن الوقاف السلمية ، والحرم القدسي الشريف بسبب
عمليات الترميم .
كما سعت مجددا إلى محاولة إجبار الوقاف السلمية ، على تقديم طلبات ترخيص لنجاز عمليات
الترميم ، المر الذي رفضته الوقاف رفضا قاطعا ، وأصرت على حقها في القيام بالصلحات اللزمة
في الحرم دون إذن من الصهاينة .
السلطات الصهيونية بتضييقها على أعمال الترميم والصلح ، إضافة إلى الحفريات التي تقوم بها تحت
أساسات المسجد ، إنما تهدف إلى إلحاق أفدح الضرار بالحرم القدسي ، وربما تقويضه .
الستيطان في البلدة القديمة
الستيطان الصهيوني في البلدة القديمة من القدس حكاية ألم ينطق بها كل متر مربع في المدينة
المقدسة، حيث جرى تطويق الحرم القدسي الشريف بالمستوطنات والبؤر الستيطانية، سواء بالستيلء
القسري المخادع الظالم لملك العرب أو بفتح النفاق من حوله لقامة مدارس تلمودية فيها، أو ببناء
مستوطنة قبيحة شاذة، في مكان حارة الشرف، تشوه عمران القدس التاريخي، أو بتنزيف شراء الدور
بجوار البطركية والستيلء على أملك راهبات السكوب في حارة السعدية.
السلوك الستيطاني الصهيوني في البلدة القديمة، إيذان بتدمير وجود، وطمس حضارة وتاريخ، والعبث
بمقدسات وأديان، وإخلل بواقع سكاني، واستهتار وانتهاك بالعراف والقوانين والمواثيق الدولية،
والستيطان في البلدة القديمة هو حكاية المقدسات المهددة، والدور المستولى عليها.
في أعقاب عدوان حزيران عام سبعة وستين بدا أن الستيطان الصهيوني في البلدة القديمة يسير على
نحو عفوي، فقد اندفعت مجموعات من العائلت اليهودية، لخلق وقائع جديدة أسوة بالمستوطنين الذين
اندفعوا تجاه مناطق أخرى من الراضي المحتلة، وكانت وسيلة هؤلء في القدس تتمثل في وضع اليد
على البيوت المهجورة بفعل الحرب، فاستولت ثمان وثلثون عائلة من المستوطنين على بيوت عربية
حتى عام ألف وتسعمائة وسبعين.
ترافق هذا الندفاع مع قيام السلطات الصهيونية بتوجيه سيل من المستوطنين إلى القدس، ومصادرة
أراضي المقدسين لقامة المستوطنات الجديدة عليها، ففي نيسان من عام ثمانية وستين صادرت
الحكومة الصهيونية، بقرار من المسمى وزير القتصاد مئة وستة عشر دونما داخل البلدة القديمة،
بحجة ترميم الحي اليهودي وتطويره، منشئة في الوقت ذاته شركة بالسم نفسه لنجاز المشروع،
وبادئة بذلك تركيز البؤر الستيطانية داخل أسوار القدس.
الراضي المصادرة داخل الحي السلمي، كانت تقوم عليها حارة الشرف وأجزاء من حارة المغاربة،
وقد أقامت شركة تطوير الحي اليهودي عليها، مستوطنة باسم "هارافع ها يهودي" وأسكنت فيها ستمائة
عائلة من المستوطنون، يتراوح عدد أفرادها ما بين أربعة وخمسة آلف نسمة، وجرى توسيع هذه
المستوطنة باستمرار ليدور الحديث اليوم عن حي يهودي، وسط الحي السلمي في البلدة القديمة من
القدس.
بعد أن بدأ المواطنون الفلسطينيون بصد عمليات الستيلء على البيوت المهجورة بفعل الحرب ورفضوا
تأجريها تحت ضغوط الترهيب والترغيب تولت المنظمات الستيطانية الصهيونية ترتيب عمليات
الستيلء على البيوت مستخدمة كل وسيلة ممكنة وغير ممكنة لتحقيق أهدافها وغاياتها، وهي ترفع
شعار :بيت وراء بيت وتكون القدس لنا.
قدمت تلك المنظمات أموال طائلة للستيلء على أملك من أوقاف الكنيسة، وبيوت وعقارات أخرى،
وتسربت عبر وسيلة الترغيب الضاغطة هذه بعض الملك إلى يد الصهاينة، فحولوها إلى بؤر تتوسع
باستمرار وحتى العام ألف وتسعمائة وتسعين سيطر الصهاينة على أربعين عقارا في البلدة القديمة
قريبة من المسجد القصى، بأساليب مختلفة.
وفي العام نفسه قررت حكومة شامير، باتفاق مع الحزاب الدينية الصهيونية، إقامة أربعة عشر ألف
وحدة سكنية استيطانية في البلدة القديمة، وتصفية الوجود العربي فيها حتى نهاية العام ألفين.
وفي هذا السياق قام الرهابي أرئيل شارون بالستيلء على عقار عربي في القدس، وجعله بيتا له،
داعيا المستوطنين للقتداء به، غير أن تصدي المقدسين لهذه الهجمة الستيطانية أفشل مخطط حكومة
شامير، ولكن الهجمة ذاتها لم تتوقف.
ففي العام نفسه الذي شهد العلن عن خطة تصفية الوجود العربي في البلدة القديمة، قدم الرهابي
شارون، بوصفه وزيرا للسكان في الحكومة الصهيونية، ثلثين دونما من الرض، لجماعة عطيرات
كوهانيم الستيطانية، والتي أعلنت بعد عامين من ذلك أنها حصلت على موافقة لقامة مجمع سكني من
مائتي منزل على هذه الرض.
تزامن العلن عن المخطط الجديد، مع نشر إحصائية تقيد بأن أربعين أسرة من المستوطنين، إضافة
إلى ثلثمائة من طلبة اللهوت، يعيشون في بيوت مستولى عليها في الحي السلمي بالقدس.
خاض المقدسيون معارك شرسة حول كل بيت من البلدة القديمة، فالمستوطنون الذين يستولون على
بيت ما، يشرعون فورا بالعمل على إقامة بؤرة استيطانية وتوسيعها، مهددين أصحاب البيوت القديمة،
ومطلقين شتى أشكال المضايقات لدفعهم للرحيل.
هذا يحدث دوما وإلى جانبه حكايات صمود أسطورية لصحاب البيوت في عقبة الخالدية، مثل عائلة أبو
رجب، ونورا غيث، ودور الزربا والزرو، وآل رصاص، ودار المحتسب، ودور السلفيتي، والخياط
وعويضه.
هؤلء أصحاب بيوت، يصمدون في وجه الهجمة الستيطانية على البلدة القديمة، والتي تزداد بشاعة
وشراسة كل يوم.
السكندر البطالمة السلوقيون
أنهى السكندر المقدوني، الوجود الفارسي في بيت المقدس وفلسطين، مفتتحا عصرا جديدا من
الصراعات الشديدة.
ورب قائل إن المر كان دوما هكذا في بيت المقدس وفلسطين، لكن أحدا ل يستطيع نكران حقيقة أن
الطور الجديد قد اتسم بعنف زائد في صراع مرير.
عشية حملة السكندر على فلسطين، كان العرب الكنعانيون والراميون، هم العنصر الغالب من السكان،
فيما واصل الفلسطينيون اندماجهم مع الكنعانيين وتموضعت جماعتان يهوديتان، أحدهما إلى جانب
العرب في القدس، والخرى في السامرة، كانت تعتبر نفسها اليهودية الحقيقية، ومعبدها هو الساس.
وكان بين الجماعتين صراع، لن السامريين يقدسون جبل جرزيم. ومعلوم أن الجماعة اليهودية في
ين الذين جاؤوا القدس مع الحملت الفارسية، وحظوا برعايتها. ] القدس، كانت من المسبي
بدأ السكندر حملته سنة ثلثمائة وأربع وثلثين قبل الميلد. وأنجز احتلل سهل بعد هزيمته ملك
الفرس في ايسوس في كليكيا، فسيطر على مصر والشام، دون مقاومة تقريبا. إذ لم تواجهه سوى
صور وغزة، وثار السامريون ضده بعد وقت قليل من احتلل مدينتهم فنكل بهم تنكيل شديدا.
أما القدس فقد دخلها قواد السكندر دون مقاومة. تابع السكندر حملته باتجاه الشرق فأخضع فارس
وأواسط " آسيا " وحوض السند، ومات في بابل سنة ثلثمائة وثلث وعشرين قبل الميلد.
خلف السكندر لقادته إمبراطورية شاسعة جدا، لم يتمكنوا من الحفاظ عليها موحدة سوى سنتين، إذ
اندلعت الحروب بينهم، فتولى سلوقي الجزاء السيوية منها، واستأثر بطليموس بمصر وضم إليها
الشام، من خط يمتد جنوبي دمشق إلى الساحل غربا.
لم يكن هذا التقسيم سليما، بل اقتضى حربا استمرت اثنين وعشرين عاما، ذاقت خللها فلسطين
المرين، حيث عبرتها الجيوش المتحاربة سبع مرات، واقتحمت بيت المقدس مرة واحدة على القل.
وطوال القرن الثالث قبل الميلد، اندلعت بين البطالمة والسلوقيين خمس حروب، تنازعا خللها السيطرة
على الشام، إلى أن استقرت في يد السلوقيين سنة مائتين قبل الميلد.
وهكذا يمكن التمييز بين عصرين من الحكم اليوناني لفلسطين وبيت المقدس. عصر البطالمة، وعصر
السلوقيين.
اعتبر البطالمة القسم الذي ظل في حوزتهم من سورية وحدة إدارية سموها " سوريا – فينيقيا" وأطلقوا
على القسام الدارية التي قسمت الولية على أساسها " إبارخيات " واحدتها إبارخية. وكانت هذه ستا.
الجليل وقصبتها بيسان. وتشمل الجليل العلى وتلل الجليل الدنى ومرج ابن عامر حتى بحيرة طبرية
ونهر الردن شرقا.
أما في الغرب فكانت حدودها تنتهي عند أقدام مرتفعات الجليل وجبل الكرمل . ثم أبارخية السامرة
وعاصمتها جبل جرزيم، أما السامرة فأصبحت مستعمرة عسكرية مقدونية.
واحتفظت " أبارخية " القدس من الحدود التي كانت لها في التقسيم الداري الفارسي، فقد شملت
المنطقة الممتدة من منحدر جبال القدس غربا إلى نهر الردن والبحر الميت شرقا ، ومن حدود السامرة
شمال إلى خط يمتد شمالي مدينة الخليل جنوبا ، وكانت المقدس العاصمة .
أما البارخية الدومية، فقد وسعت، إذ أصبحت مدينة الخليل ودورا، وما ولهما شرقا وغربا جزءا
منها. وكانت عاصمتها تل صفد حنه. وأنشئت أبارخية ساحلية، مركزها الداري حصن ستراتون.
وأبارخية اسدود، ومركزها يبنا.
وتمتعت يافا، وعسقلن، واسدود الداخلية وغزة، بحكم ذاتي، وكانت مرتبطة بالملك البطليمي مباشرة.
كانت لكل أبارخية إدارة يرأسها ستراتفوس. وهو ضابط رفيع المستوى بصلحيات عسكرية ومدنية.
ويوناني بالضرورة. كان هناك ستراتفوس للقدس، وهذا يعني أنها لم تكن تتمتع بأي استقلل سياسي،
ولن تعرف كدولة إل في العصر الهليسنتي لحقا. وفي مصر البطالمة كانت تسمى: ايروسوليما،
المكونة من جذرين الول: ايرو التي تشير إلى قدسيتها، كما هي الحال في مدن أخرى كثيرة في
المنطقة منها ايرابوليس ) منبج ( وبعلبك وغيرهما .. والثاني : هو سوليما .. ولعل معناه السلم.
المر الذي يعطي انطباعا أنها عوملت كمدينة مقدسة وأبقى فيها على تقليد كان سائدا منذ العصر
الفارسي وهو مجلس شيوخ يسمى غيروسيا، كان أعضاؤه من رؤساء السر الكبيرة ورجال الدين
الكبار والنبلء العلمانيين الثرياء وأصحاب الملك، ويرئسه الكاهن العظم، الذي يتولى المنصب
بالرث العائلي.
ولكن المدينة كانت تحت إشراف ملكي دقيق كما هو حال جميع المدن، وتخضع الراضي ووراداتها فيها
لشراف حكومي في شؤونها المالية. في العهد البطليمي ، نشأ في بيت المقدس اتجاه يميل إلى
السلوقيين، وكان يتزعمه الكاهن العظم في حينه: سمعان الوني، مؤيدا من أسرة يوسف طوبيا التاجر
الثري الذي انتقل من شرق الردن إلى القدس، وكانت له مصالح تجارية مع البطالمة في مصر، لكنه
غير اتجاهه، عندما رأى المور تسير في صالح السلوقيين.
وقد استقبل ملك السلوقيين انطيوخس الثالث استقبال حارا في بيت المقدس عند دخولها بعد انتصاره
على البطالمة في بانياس وإخضاع الشام لحكمه، ومقابل ذلك، سمح لهم العيش بمقتضى ناموسهم
وأعفاهم من الضرائب لثلث سنوات وأعفى أعضاء الفيروسيا من دفع الضرائب نهائيا. وهذه معاملة
كانت تلقاها عادة المدن الدينية من البطالمة والسلوقيين.
حول هذه النقطة ل بد من نقل رأي حرفي للمؤرخ د . نقول زيادة، حيث يقول:
" ثمة أمر حري بالهتمام، وهو أن الشعب اليهودي لم يكن له كيان سياسي مستقل خاص به، ولم يتمتع
حتى باستقلل داخلي، وكل ما هناك هو أن ما قام به السلوقيون نحو شعوب ودول " هياكل أخرى ، لم
يجد من يدونه بتفصيل كي يتضح العمل للجيال التالية. أما الب اليهودي الديني فقد دون هذه المور
بتفصيل كبير. وهو لم يدون للتاريخ والحقيقة، بل كانت الغاية من ذلك إظهار هذه المور بأنها إتمام
لعناية يهوه بالشعب اليهودي. فقد خلق العبرانيون قضية العهد الذي قطعه يهوه لشعبه إذ اختاره دون
الشعوب الخرى، ووعدوه بأمور كثيرة منها أرض الميعاد.
وهذه القضية التي خلقها العبرانيون القدامى واعتبروها عهدا من يهوه يترتب عليه المحافظة عليه،
تبناها اليهود فيما بعد، وأكدوا عهد يهوه لشعبه المختار، ومن الواضح أن جميع هذه المور ادعاءات
ومختلقات.
وقد أصبحت هذه العقيدة اليهودية عقدة في تاريخ الشعب وتاريخ علقاته بالشعوب الخرى على مدى
الجيال وما تزال". )انتهى المقتطف(.
سرعان ما انخرط السلوقيون في حروب خارجية وداخلية أنهكتهم، وامتصت قواهم ومواردهم فمدوا
أيديهم إلى أموال معبد زفى في سوسة، ومعبد بيت المقدس، وصارت رئاسة الغيروسيا في بيت المقدس
تشترى من الملك الموال فكثر المتنافسون، وتصارعوا فيما بينهم أيضا، وأصبحت الهلينية مدار صراع
جديد في القدس، عندما أقام فيها السلوقيون معبد ألزفس.
سنة مئة وتسع وستين احتل أنطيوخس الرابع بيت المقدس، ونهب أموال المعبد بالتفاق مع منلوس
زعيم الغيروسيا، الذي اشترى منصبه بالمال، وبعد عام واحد، ومع انتشار التذمر فيها، أرسل
أنطيوخس قائده ابولينوس، فدمر المدينة، ونهبها، وبنى فيها الكرا، أي القلعة التي أصبحت شاهدا
عمليا للوجود الهليني القوى في القدس، وأصبحت المدينة من الناحية العملية مستعمرة عسكرية.
بالطبع بالغ التدوين اليهودي مبالغة كبيرة في تصوير هذه الحداث كما سيبالغ لحقا في سرد أحداث
ثورة المكابيين ضد السلوقيين، فالثورة التي كانت ذات طابع سياسي، في مواجهة محاولت أنطيوخس
الرابع فرض القيم الهيلنية، وضرب القيم الخاصة، صورها التدوين اليهودي، على أنها ثورة ضد
الضطهاد الديني لليهود. وعرفت هذه الثورة باسم ثورة المكابيين، لن زعيمها ، كان يدعي "المطرقة "
وهي "مكابي" بالعبرية. وقد استمر طورها الول من عام مئة وسبعة وستين إلىعام مئة واثنين
وأربعين قبل الميلد. وانتهى هذا الطور بقيام السرة الحشمونية كأسرة ملكية، وسمي ملكها الول
ارستوبولس الول.
لكن ما ساد بعد ذلك هو القتل ولضطراب ، إذ دبت الخلفات داخل السرة نفسها . ويقول د . نقول
زيادة :
أحاق بفلسطين بسبب هذه الثورة د، وخاصة خلل الفترة التي مرت بين تأسيس السرة الحشمونية
ووصول بومبي إلى فلسطين سنة ثلث وستين قبل الميلد. مصائب ومعارك أتت على الحرث والضرع،
ولما اشتد التنافس بين أفراد السرة، ثم لما ثار الفريسيون، وهم على الراجح بقايا الحسديم، على
المكابيين، زادت المصائب حجما ومساحة وعمقا، بحيث كان مجيء بومبي إنقاذا لرواح الذي لم
تحصدهم سيوف المكابيين من مخالفيهم، بقطع النظر عن العنصر الذي انتسبوا إليه أو الجهة التي
أيدوها.
التوزيع الديمغرافي في القدس
أعطى المشروع الصهيوني اهتماما كبيرا لتعزيز الستيطان في القدس، وتركيز أكبر عدد ممكن من
اليهود فيها، وذلك لسباب عديدة وثيقة الرتباط باليديولوجية الصهيونية، وبمشروعها الستعماري
ككل.
ومازال الكيان الصهيوني، يعمل باستمرار من أجل زيادة عدد المستوطنين الصهاينة في المدينة، كما
أنه يعيد تشكيل حدودها الدارية وحجمها في خدمة السياسة الهادفة إلى إظهار غلبة للمستوطنين
اليهود فيها، على أهلها العرب الفلسطينيين.
تبعا لذلك، فإن تحديد التوزيع الديمغرافي في المدينة ينطوي على صعوبة بالغة، فهناك مفهومان
ورؤيتان لحدود القدس ومساحتها، رؤية صهيونية ورؤية فلسطينية، إذ يتعامل الصهاينة مع كتلة كاملة
دون تحديد، يعتبرونها موحدة وعاصمة لكيانهم، ولكنها متحركة باتجاه التوسع باستمرار.
وهكذا، فإذا قلنا إن البلدة القديمة من المدينة لم تكن في يوم من اليام تضم غالبية يهودية، فإن هذا
القول ل ينطبق على القدس التي ينظر إليها الصهاينة. ونظرتهم هذه، هي التي تفسر القفزات السريعة
في الميزان الديمغرافي لصالح الصهاينة في المدينة المقدسة.
ما ينبغي أن يكون واضحا أن مجيء اليهود إلى فلسطين ارتبط بالتسامح السلمي تجاههم فاستقبلت
فلسطين عدة آلف منهم في العهد العثماني، انضافوا إلى أقلية صغيرة جدا كانت تعيش في البلد،
وسكن معظم هؤلء في مدينة القدس، لكن عددهم مع ذلك، لم يتجاوز الربعين ألفا في كل أنحاء
فلسطين مطلع القرن العشرين، وكان ربع هؤلء يحملون جنسيات أوروبية، ومسجلين في قنصليات
الدول الوروبية.
مع استجلب أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين بعد صدور وعد بلفور، ونشوء حكومة النتداب
البريطاني في فلسطين، وصل عدد اليهود في فلسطين، عام سبعة وأربعين إلى مائة وسبعة وخمسين
ألف نسمة، كان منهم أحد عشر آلفا في البلدة القديمة، مقابل أربعة وستين ألف مواطن فلسطيني، فيما
استوطن ثمانية وثمانون ألف يهودي، الحياء الستيطانية في القدس الجديدة وحول القدس، مقابل ألف
وخمسمئة عربي.
إذا كانت الكثافة العربية متركزة في البلدة القديمة، فيما احتل الصهاينة الحياء الستيطانية الجديدة،
حيث شكل العرب 85 % من سكان البلدة القديمة، بينما شكل اليهود 60 % من مجموع السكان في
البلدتين القديمة والجديدة والضواحي.
عمل الصهاينة بشكل كثيف على زيادة تمركزهم في القدس، وبعد عام سبعة وستين، ركزوا على
اختراق البلدة القديمة، و أحياء القدس الشرقية، لتصبح كثافتهم العددية فيها أعلى من كثافة السكان
الفلسطينيين، أصحاب البلد الصليين، حيث يستهدف الصهاينة، جعل نسبة المواطنين الفلسطينيين في
القدس كلها ل تتجاوز العشرين في المائة. وقد وصل عدد المستوطنين الصهاينة في الحياء
الستيطانية حول القدس القديمة عام ستة وثمانين إلى مائة وثمانية وأربعين ألف مستوطن، مقابل
ثلثمائة وواحد وخمسين ألف مواطن عربي، في حين وصل إجمالي الصهاينة في كل القدس إلى ما
71 % من إجمالي سكان المدينة، أي ثلثمائة وواحد وثلثين ألف مستوطن، داخل الحدود \ نسبته 5
الدارية للقدس.
وعام اثنين وتسعين، وبعد أن ضم الصهاينة عددا من المستوطنات إلى حدود القدس الدارية، أصبح
عدد الصهاينة في شرقي القدس، وللمرة الولى في التاريخ أعلى من عدد المواطنين الفلسطينيين، إذ
وصل عدد المستوطنين إلى مئة وستين ألفا. مقابل مئة وخمسة وخمسين ألف عربي فلسطيني. أما في
كل القدس، فبلغ عدد المستوطنين اليهود أربعمائة وسبعة آلف مستوطن، مقابل مئة وواحد وستين ألف
مواطن فلسطيني، ما اعتبره الصهاينة نسبة زائدة لعداد الفلسطينيين الذين يتكاثرون بمعدلت طبيعية
هي العلى في العالم.
ما أدى إلى ارتفاع نسبتهم عام ألفين وواحد، إلى 32 %، مقابل 27 % مطلع السبعينات، وحتى العام
ألفين، كانت الغالبية الساحقة من سكان البلدة القديمة هي من الفلسطينيين البالغ عددهم ثلثة وثلثين
ألفا، مقابل ثلثة آلف مستوطن صهيوني.
المكتب المركزي للحصاء الفلسطيني، وضع تقديرات إحصائية للعام ألفين، مبنية على معطيات
إحصائية تم جمعها عام سبعة وتسعين ولوحظت الزيادة الطبيعية للمواطنين الفلسطينيين في محافظة
القدس، التي تضم وفق الرؤية الفلسطينية الرسمية، القدس الشرقية المحتلة عام سبعة وستين
وضواحيها، وبحسب هذه التقديرات فإن عدد المواطنين الفلسطينيين في محافظة القدس وصل الى
ثلثمئة و أربعة وخمسين ألفا وأربعمئة وسبعة عشر مواطنا فلسطينيا، بضمنهم مواطنو البلدة القديمة.
ويستهدف الصهاينة الن رفع عدد المستوطنين في القدس وضواحيها إلى مليون مستوطن. وذلك
لحباط أي إمكانية لن يشكل التكاثر الطبيعي للفلسطينيين تعديل حادا في الميزان الديمغرافي المائل
بحدة لصالح المستوطنين الصهاينة.
المكتبات
المكتبات من المعالم البارزة في بيت المقدس، فبعد تحريرها من الفرنجة مباشرة، بدأ تزويد خزانة
المسجد القصى بالكتب، وكذلك تزويد المدارس والزوايا.
ولكن مكتبة المسجد القصى ظلت الشهر والغنى وهو تحوي ألف مخطوط من المصاحف والربعات،
والكتب التي تعود إلى العصرين المملوكي والعثماني.
وفيها كتب متفرقة في الدب والفقه والتفسير والحديث. ومن نفائسها، مخطوط كتاب "نشق الزهار في
عجائب القطار" للمؤرخ المصري ابن إياس من القرن التاسع للهجرة. ومخطوط "تلخيص المتشابه في
الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم" لبي بكر البغدادي من القرن الخامس
للهجرة.
ومخطوط "طبقات الشافعية" لتقي الدين الدمشقي من القرن التاسع للهجرة، ومخطوط "كتاب القاليم"
للصطخري من القرن الرابع للهجرة.
وتضم خزانة المسجد القصى أكثر من عشرة آلف كتاب أكثرها مطبوع.
وفي بيت المقدس العديد من خزانات الكتب الخاصة منها:
خزانة آل أبي اللطف، خزانة آل البديري، وكانت مكتبة كبيرة تضم عددا وافرا من المخطوطات، لكنها
تبددت بعد أن اقتسمها أفراد العائلة، وآل قسم من مخطوطاتها إلى الشيخ محمد البديري فجعلها في
جناح من أجنحة المسجد القصى.
ومنها، خزانة آل الترجمان، وخزانة آل الحسيني، وخزانة النشاشيبي، وخزانة محمود اللحام، وفيها
أربعة آلف مصنف.
ى سنة ألف ومائة وسبع o أما خزانة آل الخليلي، فقد وقفها الشيخ محمد الخليلي مفتي الشافعية المتوف
وأربعين للهجرة، وهو أول من حقق فكرة إيجاد مكتبة عامة في القدس، استنادا إلى وقفية كتبه، والتي
حفظت في المدرسة البلدية بباب السلسلة.
ومن الخزانات التي نهبت أو تفرقت كتبها خزانة عبد ال مخلص في حي الشيخ جراح، وكانت تحوي
نفائس المخطوطات، ويبدو أن المكتبة نقلت بعد النكبة إلى بعض الديرة قرب سور المدينة، وقيل أيضا
إن الصهاينة قد نهبوها.
أما خزانة آل قطينة بباب العمود، فكانت تضم مخطوطات نفيسة في الرياضيات والفلك والتنجيم، لم يبق
منها اليوم شيء.
وكانت خزانة آل فخري تضم عشرة آلف مجلد اقتسمها أفراد السرة فتفرقت كتبها.
وفي القدس خزائن كتب مسيحية عربية وأجنبية أكثرها تابع للطوائف الدينية، والبعثات الثرية
والتبشيرية الفرنسية والنكليزية والمريكية. ومن هذه الخزائن:
مكتبة القبر المقدس، ومكتبة دير الروم، وفيها نحو ألفين وثمانمائة مجلد باليونانية وغيرها بينها
مخطوطات يونانية، تعود إلى القرن العاشر للميلد.
وهناك أيضا مكتبة دير الدومينيكان، مكتبة الباء البيض، مكتبة دير الفرنسيسكان، مكتبة دير الرمن،
خزانة الثار المريكية، خزانة الثار النكليزية، مكتبة المجمع العلمي الثري البروتستانتي، ومكتبة
الجامعة العبرية.
لكن المكتبة الخالدية في القدس تبقى أهم دور الكتب الخاصة في فلسطين وأغناها، أوقفها الحاج راغب
الخالدي سنة ألف وتسعمئة للميلد، إنفاذا لوصية والدته، وبمعونة ومشورة الشيخ طاهر الجزائري
مؤسس المكتبة الظاهرية بدمشق والشيخ ابن الحبال الدمشقي، فوضعا فهرسا بأسماء كتبها.
تحتوي المكتبة على عشرة آلف كتاب ثلثاها مخطوط، والثلث من نوادر المطبوعات القديمة في العلوم
العربية والسلمية. وقد ضمت إليها خزانتا الشيخ يوسف ضياء باشا الخالدي، ومحمد روحي الخالدي،
وضمت إليها لحقا خزانة الشيخ أحمد بدوي الخالدي، بالضافة إلى ما أهدي إليها من نفائس مطبوعات
المستشرقين.
تضم المكتبة كتبا في التفسير والتجويد والقراءات والرسم والحديث ، والصول والفتاوي والفقه
والفرائض والتوحيد والتصوف والمواعظ والنحو واللغة والداب والسياسة والقوانين والدواوين
والمدائح النبوية، والسيرة النبوية والمناقب والتراجم والفلك والطب والروحانيات.
وفيها عدد كبير من المجامع في مختلف العلوم الدينية والدنيوية. ومن أهم المخطوطات النادرة فيها:
إتحاف الخصا في فضائل المسجد القصى لبي شرف الشافعي.
وحسن الستقصا لما صح وثبت في المسجد القصى لبن التافلني. والمدهش، لبن الجوزي، من القرن
السادس للهجرة. واختصار السيرة النبوية للشيخ محي الدين بن عربي.
مدارس القدس
) 1 (
بيت المقدس الذي يضاعف ال سبحانه وتعالى، أجر العبادة فيه للمسلمين، ببشرى الرسول الكريم صلى
ال عليه وآله وسلم، في أحاديثه الشريفة، هو أيضا بيت العلم، وموئل الباحثين عن التفكر في أمور
دينهم ودياناتهم. ومنذ أن فتح العرب المسلمون المدينة، انتقل إليها عدد من الصحابة الكبار، فكان
الصحابي عبادة بن الصامت، وهو من حفظه القرآن الكريم، قاضي بيت المقدس.
ومع إقامة المسجد القصى، فقد كان بيتا للعبادة، ودارا للعلم معا، كما هو الحال في المساجد في كل
الديار السلمية، حيث كانت تدرس فيها علوم القرآن والحديث.
فيما كان استمر العطاء العلمي للتابعين وتابعي التابعين، وانتشرت في بيت المقدس الكتاتيب التي تعلم
ور _ ور د i القرآن والحديث، وحفل بالقراء والمحدثين والمفسرين والفقهاء. واستمرت المساجد تلعب د
العلم حتى القرن الخامس الهجري عندما أنشئت المدرسة النصرية، أو الناصرية، ومدرسة أبي عقبة.
المدرسة الناصرية:
على برج باب الرحمة من أبراج السور الشرقي لمدينة القدس.مؤسسها هو الشيخ نصر بن إبراهيم
النابلسي المقدسي، شيخ الشافعية في عصره، القرن الخامس للهجرة.
وعرفت هذه المدرسة أيضا بالغزالية ،نسبة إلى المام أبي حامد الغزالي، الذي ألقى دروسا في هذه
المدرسة أثناء وجوده في القدس، فسميت باسمه بعد ذلك.
ويقال أن المام الغزالي أتم أثناء وجوده في القدس تأليف كتابه "أحياء علوم الدين".
جدد بناء المدرسة الملك عيسى بن أيوب سنة ستمائة وعشرة للهجرة، وجعلها زاوية لقراءة القرآن
والشتعال بالنحو، ووقف عليها كتبا منها بعض المراجع، مثل كتاب "إصلح النطق" لبي يوسف يعقوب
بن إسحق بن السكيت.
اندثرت هذه المدرسة في القرن التاسع الهجري بعد تحرير بيت المقدس من الفرنجة، وقع اهتمام واسع
وكبير بإنشاء المدارس، وعلى نحو غير مسبوق في المدينة،وكذلك بإنشاء الزوايا التي كانت دور علم
أيضا.
عام خمسمائة وخمسة وثمانين للهجرة، تأسست المدرسة الصلحية للفقهاء الشافعية، وأوقفت عليها
وعلى مصالح المسجد القصى أوقاف حسنة منها السواق الثلثة المتحاذية، المعروفة اليوم بأسواق
العطارين واللحاميين والصياغ.
ثم أنشئت المدرسة الميمونية، على بعد حوالي مائتي متر إلى جنوب شرق باب الساهرة داخل سور
المدينة، سنة خمسمائة وثلث وتسعين للهجرة على يد المير ميمون بن عبد ال القصري.جدد عيسى
بن أبي أيوب سنة ستمائة وعشرة المدرسة النصرية، وأقام القبة النحوية لدراسة الداب العربية.
والقبة النحوية بناء جميل يقع عند الزاوية الجنوبية من صحن قبة الصخرة كما بنى المدرسة المعظمية.
وتعرف أيضا بالمدرسة الحنفية، إذ أوقفها على فقهاء الحنفية وجعل لها أوقافا كثيرة.
يروي عارف العارف، أنه زار بناء المدرسة سنة سبع وأربعين وتسعمائة وألف فوجد الخراب مخيما
على الجانب الكبر منها وقد احتكر مواطنون مقدسيون أجزاء منها.
وقد أقيمت المعظمية مقابل باب شرف النبياء، المعروف اليوم بباب الملك فيصل.على يمين الخارج من
الحرم، من باب شرف النبياء تقوم المدرسة الدوادارية، التي بناها ووقفها المير على الدين الدوادار
الصالحي سنة ستمائة وخمس وتسعين للهجرة، وهي تعرف اليوم بمدرسة الناث السلمية. وإلى
جوارها من جهة الشمال تقع المدرسة السلمية ،المشادة سنة سبعمائة للهجرة ومن المدارس الخرى:
-المدرسة الجاولية: روضة المعارف الوطنية، وهي من مدراس القدس المشهورة، تقع عند زاوية
الحرم الشمالية إلى الغرب، وقد وقفها المير علم الدين سنجر الجاولي، نائب غزة والقدس، في القرن
السابع الهجري، وجعلها مدرسة فسميت باسمه.
بناؤها الصلي قديم، يرجع إلى ما قبل الميلد فيقال أنها كانت قلعة أو برجا أو حصنا، واتخذها الرومان
مقرا لولتهم.
ويقال إن الوالي الروماني بيلطس الذي حاكم السيد المسيح أقام فيها، حولها العثمانيون إلى دار للحكم
فعرفت باسم السرايا القديمة، وبقيت كذلك حتى بداية الحرب العالمية الولى، وفي بداية عهد بداية عهد
الحتلل البريطاني وضع المجلس السلمي العلى يده عليها باعتبارها من أملك الوقف، وأقام فيها
39 اتخذها النكليز مقرا للشرطة، ثم - مدرسة، سميت روضة المعارف، وأثناء الثورة الفلسطينية 36
عادت بعد ذلك مدرسة.
وبالقرب من باب حطه، إلى جهة الشرق، أقام ناظر الخواص الشريفة بالديار المصرية، المدرسة
الكريمية سنة سبعمائة وثماني عشر للهجرة، وسنة سبعمائة وثلثين للهجرة، أقام الصاحب أمين الدين
عبد ال المدرسة المينية، على الجانب الغربي من الطريق المؤدي إلى الباب الحرم المعروف بباب
شرف النبياء.
في الجهة الشمالية من الحرم، بالقرب من باب شرف النبياء إلى جهة الغرب، أقيمت المدرسة
الفارسية، أقامها المير فارس الدين البكي،سنة سبعمائة وخمس وخمسين للهجرة، وذلك إلى جانب
المدرسة الملكية التي أقامها الحاج آل ملك الجوكندار سنة سبعمائة وإحدى وأربعين.
وعلى ميسرة الخارج من الحرم من باب الحديد تقوم المدرسة الرغونية، التي أقامها المير أرغون
الكاملي، واكتمل بناؤها بعد وفاته سنة سبعمائة وتسع وخمسين للهجرة.
ومن المدارس المشهورة :
المدرسة الطشتمرية :
عند ملتقى طريق باب السلسلة وطريق حارة الشرف، تقوم المدرسة الطشتمرية حيث تطل واجهتها
الشمالية على طريق السلسلة أنشأها المير طشتمر الدودار، الذي نزل القدس سنة سبعمائة وأربع
وثمانيين للهجرة .
وفي واجهة المدرسة حجر من المرمر، نقش عليه اسم المنشئ وتاريخ النشاء، كانت المدرسة تتكون
من عشرين غرفة، لكن معالمها المميزة اندثرت مع الزمن، عندما تحولت دارا للسكن. وقد استولت
قوات الحتلل الصهيوني عليها في نيسان، من عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين.
وبالقرب من مدخل الحرم الغربي المعروف بباب الناظر تقوم المدرسة المنجكية وواقفها هو المير
منجك، نائب الشام، وقفها سنة سبعمائة واثنين وستين وشغلت بناءها لوقت طويل دوائر المجلس
السلمي العلى سابقا. وفي طريق باب السلسلة لجهة الشمال اتجاه المكتبة الخالدية أنشأ سيف الدين
طاز سنة سبعمائة وثلث وستين للهجرة المدرسة الطازية.
وعلى مقربة منها، على الجانب الجنوبي من طريق باب السلسلة، دار القرآن السلمية وقفها سراج
الدين السلمي سنة سبعمائة وإحدى وستين.
وعند سويقة باب حطة، قامت المدرسة الشيخونية في السنة نفسها، وبعدها بسنة واحدة، وعند باب
الغوانمة قامت المدرسة المحدثية. وواقفها هو عز الدين العجمي الردبيلي. في الجهة الشمالية من
الحرم أيضا أوقف مجد الدين السعردي المدرسة السعردية وبالقرب من مقام القرمي لجهة الغرب،
أقيمت المدرسة اللؤلؤية، كما أقام نائب حلب منكلي الحمدي سنة سبعمائة واثنين وثمانين المدرسة
البلدية بالقرب من باب السلم، وهو بحداء باب السلسلة لجهة الشمال، واتخذها مدفنا له أيضا.
نتابع في الحلقة التالية الحديث عن مدراس القدس.
مدارس القدس
) 2 (
في بيت المقدس، لم يكن مستغربا أن يتخذ الواقف من وقفيته، إن كانت مدرسة أو سواها مدفنا له ..
بل لعل هذا كان دأب الكثيرين، إذ هو يوقف في القدس تقربا إلى ال وخدمة لدينه الحنيف، وأن يدفن
في البقاع المقدسة الطاهرة، فإنه يحوز موطئا في الرض التي باركها ال.
لذلك فقد كثرت الترب في الوقفيات، وكانت موجودة في معظم مدارس القدس التي نواصل الحديث عنها
في هذه الحلقة، بادئين بالحديث عن المدرسة الخاتونية، لنجد أنها قد ضمت أيضا في تربتها عددا من
القادة المسلمين والمقدسيين على وجه الخصوص.
المدرسة الخاتونية :
تقع في باب الحديد غربي الحرم الشريف، ويتفق المؤرخون على أن واقفتها هي أوغل خاتون.
وكان وقفها في الخامس من ربيع الثاني سنة سبعمائة وخمس وخمسين للهجرة. وفي سنة سبعمائة
واثنين وثمانين للهجرة، أكملت أصفهان شاه بنت المير قازان شاه عمارة هذه المدرسة ووقفت عليها.
بقيت الخاتونية مكانا للتدريس، فدرس فيها القرآن الكريم حتى القرن العاشر الهجري. وأصبح متقطعا
بعد ذلك، إلى أن توقف مع بداية الحتلل البريطاني في فلسطين، إذ أصبحت دارا للسكن. دفن في
المدرسة الخاتونية الزعيم الهندي المسلم محمد على سنة ألف وتسعمائة وواحد وثلثين للميلد، كما
دفن فيها الزعيم الفلسطيني، موسى كاظم الحسيني سنة ألف وتسعمائة وثلث وثلثين، ونجله شهيد
القسطل عبد القادر الحسيني، ثم ابنه فيصل عبد القادر الحسيني.
وبباب الحديد أيضا أقام "بيدمر" نائب الشام سنة سبعمائة وإحدى وثمانين المدرسة الحنبلية. فيما أقامت
المدرسة البارودية بباب الناظر، الحاجة سفري خاتون ابن شرف الدين محمود المعروف بالبارودي،
وذلك سنة سبعمائة وثمان وستين للهجرة.
ومن مدارس القدس أيضا، المدرسة الجهاركسية بجوار الزاوية اليونسية من جهة الشمال. وفي الجهة
الشمالية من ساحة الحرم، غرب المدرسة السعردية المتخذة اليوم مكانا لمحكمة الستئناف الشرعية
السلمية، تقوم المدرسة الصبيبية، وقريبا منها المدرسة الباسطية. ثم المدرسة الغادرية، ما بين باب
شرف النبياء ومئذنة باب السباط. وغرب المدرسة المنجكية تقوم المدرسة الحسينية وبداخل ساحة
القصى عند الرواق الشمالي تقوم المدرسة الطالونية، ويصعد إليها من السلم الموصل إلى منارة باب
السباط أنشأها شهاب الدين الناصري الطولوني.
وبخط باب حطة لجهة الغرب تقوم المدرسة الكاملية. ومن المدارس التي تحولت دورا سكنية، المدرسة
العثمانية، وتعرف اليوم بدار الفتياني، وهي واقعة على يسار الخارج من الحرم من باب المتوضأ
المعروف بباب الطهارة. والمدرسة الجوهرية، وتعرف اليوم بدار الخطيب، وهي في طريق باب الحديد
من الجهة الشمالية.
وقريبا من الجوهرية تقوم المدرسة المزهرية، وواقفها هو الزينبي أبو بكر النصاري الشافعي سنة
ثمانمائة وخمس وثمانين للهجرة. ولما كان الحديث عن مدارس القدس بعددها الكبير فضل عن وصفها
ولو باختصار، مما ل تستطيعه هذه الوقفات فسنفضل القول في بعض من أشهرها وهي.
المدرسة الفضلية:
من مدارس القدس، عرفت قديما بالقبة، وتقع في حارة المغاربة، وقد وقفها على فقهاء المغاربة
المالكية الملك الفضل نور الدين، سنة خمسمائة وتسع وثمانين للهجرة.
ل تذكر المصادر التاريخية شيئا كثيرا عنها، أما في الستينات من القرن العشرين، فكانت دارا يسكنها
بعض الفقراء المغاربة، وزالت مع قيام جرافات الحتلل الصهيوني، بهدم حارة المغاربة عام ألف
وتسعمئة وسبعة وستين.
ويقول المؤرخ المقدسي عارف العارف: أن هناك مدرسة بهذا السم في حارة النصارى، كانت في
القرون الوسطى مسجدا له منارة ويرجع تاريخه إلى ثمانمائة وسبعين للهجرة، وقد ذكر هذا المسجد،
مجبر الدين الحنبلي في النس الجليل.
المدرسة الشرفية:
من أشهر مدارس مدينة القدس وأضخمها إن لم تكن أشهرها قاطبة. وقد عرفت أيضا بالمدرسة
السلطانية.
تقع بجوار باب السلسلة، وقد بناها في الصل المير حسن الظاهري، باسم الملك الظاهر خوشقدم سنة
ثمانمائة وخمس وسبعين للهجرة، ولكنه لم يتم بناءها، إذ توفي الملك الظاهر، فقدمها المير حسن إلى
الملك الشرف قاتيباي، فنسبت إليه وسماها الشرفية.
سنة ثمانمائة وثمانين للهجرة، زار قاتيباي القدس، ولم يعجبه بناء المدرسة، فأمر بهدمها، وأرسل من
مصر مهندسين وعمال باشروا بإعادة بنائها في سنة ثمانمائة وخمس وثمانين للهجرة، واستغرق العمل
فيها سنتين.
فجاءت آية في التقان والجمال، وفي وصفه لها قال مجير الدين الحنبلي: "إنها الجوهرة الثالثة" في
منطقة الحرم بعد قبة الجامع القصى، وقبة الصخرة الشريفة. ومن ميزات بنائها أن أكثر أحجارها من
الرخام ذي الحجم الكبير، وأنها مكونة من طبقيتي ومئذنة ومصلى، وهي ذات مدخل مصنوع من
الحجار الملونة والمنقوشة.
تعرض هذا البناء العظيم للزلزال الذي أصاب مدينة القدس، سنة تسعمائة واثنين للهجرة، فتهدم أكثره،
ولم يبق منه إل بعض الجدران والمدخل، وعلى أحد الجدران الباقية نص منقوش يشير إلى منشىء
المدرسة وتاريخ إنشائها. بقيت المدرسة وقفا، أقيم في موضعه منزل مدرسة اليتام السلمية في
القدس.
المدرسة الرشيدية :
تأسست عام ألف وتسعمائة وستة في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وسميت بهذا السم
نسبة إلى أحمد رشيد بك متصرف القدس. تطورت هذه المدرسة في الحرب العالمية الولى فأصبحت
مدرسة ثانوية كاملة من اثني عشر صفا، ويعرف هذا النوع من المدارس بالمدارس السلطانية )المكتب
السلطاني(.
خلل عهد النتداب البريطاني، أخذت المدرسة الرشيدية تنمو وتتطور، حتى غدت من أحسن المدارس
الحكومية في فلسطين. كانت المدرسة أولية، وفيها قسم ثانوي. ثم زاد التعليم فيها عن الثانوي بسنتين
أخريين، فصارت تؤهل خريجيها الحاصلين على شهادة الثانوية العامة )المتريكوليشن(، لدراسة الطب
والهندسة بدراسة مواد خاصة تحضيرية.
وكانت السنتان الدراسيتان في المدرسة تعادلن العدادية في كليتي الطب والهندسة.
بلغ عدد طلب المدرسة الرشيدية عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين، ثلثمائة وعشرة طلب منهم
ستة وعشرون طالبا يدرسون في الصفوف العليا التحضيرية للطب والهندسة.
فضل عن كل ما ذكرناه عن مدارس القدس، وصول إلى نهايات العهد العثماني، فقد أثمرت جهود
البحاثة الستاذ كامل العسلي، في مراجعة سجلت ووثائق المحكمة الشرعية السلمية في القدس،
أثمرت كشفا عن عدد كبير جدا من المدارس التي أقيمت في بيت المقدس، كما كشف عن التعديلت التي
أجريت عليها، والترميمات والصلحات التي عرضت لها.
مدارس القدس، هي واحدة من مميزات المدينة العظيمة، التي كان فضل العلم فيها، مثل فضل العبادة
في مسجدها، فالدين السلمي الذي حث على أداء العبادات، حث أيضا على العلم والتعلم، وفي القدس،
كان المسلمون يجدون ما يبحثون عنه، دور العبادة، ودور العلم.
الفتح العربي السلمي
شكلت معركة اليرموك بين الجيوش العربية السلمية والجيوش البيزنطية، نقطة انعطاف حاسمة في
الفتوح العربية السلمية، إذ أن هذه المعركة قد ضمنت انكفاء الروم عن بلد الشام ومغادرة هرقل
أنطاكيا إلى القسطنطينية. وبحسب كتب التاريخ، فإنه بعد اليرموك، كان قد تبقى على العرب المسلمين
فتح بيت المقدس وقيسارية، ولذلك يذكر أن فتح بيت المقدس إنما جاء في المرحلة الثالثة من الفتح
العربي السلمي لبلد الشام، فهل كان هذا التأخير متعمدا؟ وكيف يكون كذلك وفتح بيت المقدس في
خاطر المسلمين، منذ زمن الرسول الكريم، صلى ال عليه وآله وسلم؟
أحد التفسيرات يكمن في أن العرب المسلمين قد اعتمدوا منذ البداية في فتوحهم في المنطقة تجنب
المدن، وركزوا على القرى والسواد، ففي المدن حاميات بيزنطية، وأحيانا من الموالين القوياء
ليبيزنطة، أما في السواد والقرى، فالقرباء من العرب، ما يمكن معه تجنب وقوع صدامات كبيرة،
وضمان دخول أعداد جديدة كبيرة من العرب حظيرة السلم، فيكونون عونا ..وبهذا التكتيك فإن
الفاتحين العرب استقبلوا أكثرا مما خاضوا معارك مع القبائل العربية المقيمة في بلد الشام.
وربما آثروا أل يأخذوا القدس بالسيف، فلو حدث ووجهوا جيوشهم نحوها منذ البداية، لقتضى ذلك
منهم حروبا كثيرة، ووقتا أطول، وأعطى الفرصة للبيزنطيين كي يحشدوا قواهم في المواجهة، أما بعد
أن تكون أغلب الشام في أيدي العرب المسلمين، فإن فتح بيت المقدس يكون أيسر.
مثل هذه الستخلصات من سير الفتوح في بلد الشام، ل يلغي حقيقة أن العرب المسلمين، كانوا
يقصدون مدينتهم المقدسة منذ البداية، ولم تكن لفتوحاتهم أهداف اقتصادية ول هي عمليات غزو، على
ما يذهب بعض المستشرقين. فالقدس مكان مقدس ذكرها ال في كتابه العزيز. ما حولها أرض مباركة
باركها ال.
يعيد كثير من المؤرخين نية الرسول الكريم صلى ال علية وآله وسلم، فتح بيت المقدس، إلى الرسالة
التي بعث بها إلى هرقل أثناء وجوده في القدس، ودعاه فيها إلى السلم، وكذلك إلى السرايا والبعثات
التي وجهها قبل وفاته إلى تخوم الشام.
حسب بعض الروايات أن رسول ال صلى ال عليه واله، قال لواحد من صحابته أعدد ستا بعد وفاتي
وتحرر القدس "وتحققت النبوءة الكريمة. فقد أقرنت من البدء بالعمل، ففي أحاديثه الشريفة أوضح
محمد صلى ال عليه وآله وسلم مكانة بيت المقدس، ومنذ السنة الخامسة للهجرة، بدا رسول ال صلى
ال عليه وآله وسلم، ببعث السرايا على الطريق بين المدينة والشام، ففي تلك السنة كانت غزوة دومة
الجندل، وهي مكان على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترا شمال تيماء.
وفي السنة السادسة بعث الرسول صلى ال عليه وآله وسلم، سرية أخرى إلى دومة الجندل، وفي
السنة السابعة، كانت غزوة خبير، لن يهودها كانوا يهددون الطريق إلى الشام، وفي السنة الثامنة
كانت سرية كعب الغفاري إلى ذات أفلح من ناحية الشام، وهو في منطقة وادي عربة، وفي السنة
نفسها كانت غزوة ذات السلسل، وسرية زيد بن حارثة إلى حدود فلسطين، ثم جاءت غزوة مؤته
وتبوك.
وفي السنة الحادية عشرة للهجرة كانت سرية أسامة بن زيد، وقد أمره رسول ال صلى ال عليه وآله
وسلم، أن يصل إلى دير البلح في جنوب فلسطين، لكن الغزوة توقفت فترة بسيطة بسبب وفاة الرسول.
ويذكر أبي هشام في سيرته أن رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم، أقام بالمدينة ما بين ذي الحجة
إلى رجب، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وكان العام عام عسرة وشدة من الحر وجدب في البلد،
وكان صلى ال عليه وآله وسلم قلما يخرج في غزوة إل كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي
يقصده، إل ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان، وكثرة العدو، ليتأهب
الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم، لكنه لم يصطدم معهم في حرب،
وأخضع بعض المناطق وكان يأمر ببناء مسجد في كل منطقة يمر بها.
تعكس كل هذه الحداث توجيها واضحا من الرسول الكريم صلى ال عليه واله وسلم، ولذلك فإن كثيرا
من المؤرخين يشيرون إلى أن حروب الردة هي التي أخرت فتوح الشام، فما أن انتهى المسلمون منها،
حتى تابعوا ما بدأه الرسول الكريم صلى ال عليه واله وسلم قبل وفاته.
بعد معركة اليرموك، وكما سبقت الشارة ،شرع العرب المسلمون في استكمال الفتح ومطاردة الفلول
البيزنطية.
في فلسطين كانت مدينة بيت المقدس، وكذلك قيسارية، اللتين لم يتم فتحهما، فضرب المسلمون عليها
الحصار.
كان أبو عبيدة بن الجراح يقود حصار بيت المقدس، الذي دام طويل على ما تذكر المصادر التاريخية،
وهو أراد منذ البداية دخولها صلحا، ولكن بطريرك المدينة أراد أن يكون متولي الصلح، ليس القائد
الذي يحاصرها، بل الخليفة نفسه، إذ رأى في ذلك ضمانة أوقع أثرا.
كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بالمر، فحضر إلى بيت المقدس عام ستة عشر للهجرة حسب بعض
المصادر، فيما تشير مصادر أخرى إلى سنة خمس عشرة للهجرة، وقد أعطى الخليفة عمر بن
الخطاب، إلى أهل بيت المقدس ما عرف ل حقا بالعهدة العمرية التي تعتبر وثيقة تاريخية هامة.
ففيها أعطى الخليفة أهل إيلياء "أمانا لنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبرئيها وسائر
ملتها، أنه ل تسكن كنائسهم ول تهدم، ول ينتقص منها، ول من خيرها، ول من صلبهم، ول من شيء
من أموالهم، ول يكرهون على دينهم، ول يضار أحد منهم، ول يسكن بايلياء معهم أحد من اليهود".
وتجمع المصادر التاريخية، على أعد الفقرة الخاصة باليهود، إنما جاءت على طلب من البطريك
صفروينوس.
تحدد بقية نص العهدة شروط المصالحة فتقول: "على أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل
المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم، فإنه آمن على نفسه وماله حتى
يبلغوا مآمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل
أيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا
مآمنهم، ومن كان بها من أهل الرض، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية،
ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، ل يوخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى
ما في هذا الكتاب عهد ال، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذين عليهم من
الجزية".
إرهاب العصابات الصهيونية
ارتبط الوجود الستيطاني الصهيوني في القدس بالرهاب وجرائم القتل البشعة، فإلى العتداء الدائم
على المقدسات، ونهب الرض، تسلط الصهاينة على المقدسين في محاولة مستمرة لقتلعهم من
مدينتهم.
وسجل الجرائم الرهابية الصهيونية في القدس كبير.
في عام ألف وتسع مائة وسبعة وثلثين، هاجمت العصابات الصهيونية، سيارة باص تابعة لشركة
الباصات الوطنية الفلسطينية، وقتلوا ثلثة من ركابها الفلسطينيين.
وفي العام التالي، ألقت العصابات الصهيونية قنبلة على باص عربي في المدينة المقدسة ما أسفر عن
استشهاد ثلثة من ركابه، وإصابة آخرين بجروح.
وبعد ثلثة أيام من هذه الجريمة، اقترف الصهاينة جريمة أخرى بإلقاء متفجرات على حشد من
المقدسيين عند باب الخليل، ما أدى إلى استشهاد عشرة منهم.
مع ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتنامي قوة العصابات الصهيونية، طورت هذه من أساليب
إرهابها ووسعتها، فقامت بنسف أحد أجنحة فندق الملك داوود في القدس عام ألف وتسع مائة وستة
وأربعين.
هذا الجناح كانت تشغله السكرتارية العامة البريطانية، وقد أدت عملية النسف إلى مقتل واحد وتسعين
شخصا من العرب والبريطانيين.
وفي العام التالي، هاجمت عصابات الهاغاناه الرهابية منطقة باب العامود في القدس، فقام أحد أفراد
هذه العصابات بإلقاء برميل من المتفجرات من سيارة مسرعة وسط حشد من المقدسين ما أدى إلى
استشهاد ستة منهم وجرح عشرين آخرين.
وبعد عشرة أيام من جريمة عصابات الهاغاناه قام أفراد من عصابة الرغون، بإلقاء قنابل في شارع
مزدحم في القدس، أدى انفجارها إلى استشهاد أحد عشر مواطنا مقدسيا.
بحلول العام ألف وتسع مئة وثمانية وأربعين عام النكبة شهد الرهاب الصهيوني تصعيدا كبيرا، ففي
كانون الثاني من العام المذكور، فجرت عصابات الهاغاناه الصهيونية، فندق سميراميس في القدس.
كانت أعداد كبيرة من مواطني القدس، قد لجأت إلى الفندق في وقت سابق، فجاءت عملية التفجير
الوحشية لتقتل أكبر عدد منهم، وبالفعل فقد أسفر تفجير الفندق عن استشهاد ثمانية عشر رجل وامرأة،
فيما زاد عدد الجرحى عن العشرين.
كان لعصابات الهاغاناه هدف من آخر من هذه الجريمة، يتمثل في اغتيال القائد عبد القادر الحسيني،
الذي كان موجودا في الفندق مع عدد من رجالت الجهاد المقدس ولكنه غادره بالمصادفة، قبل لحظات
من وقوع النفجار.
لم يمض يومان على جريمة تفجير السمراميس حتى دحرج الرهابيون الصهاينة برميل من المتفجرات
بين الجموع المحتشدة في باب الخليل بمدينة القدس.
أدى هذا العمل الرهابي إلى استشهاد عشرين فلسطينيا، وجرح ستة وثلثين آخرين، تبين أن اليهود
استخدموا في هذه العملية الرهابية سيارة مصفحة تابعة للبوليس النكليزي، حيث تعقب المجاهدون
السيارة وتمكنوا من قتل أحد المجرمين بداخلها.
وفي آذار من عام ثمانية وأربعين، هاجم الرهابيون الصهاينة سيارة باص فلسطينية متجهة من رام ال
إلى يافا، وأطلقوا عليها الرصاص وألقوا القنابل اليدوية، لكن الركاب نجو بأعجوبة.
وفي الشهر نفسه، عبرت قافلة يهودية مصفحة منطقة شعفاط في القدس، وفاجأت الهالي بإطلق
النار، ما أدى إلى استشهاد عشرة منهم، وجرح الكثير.
وفي كانون الول من عام ثمانية وأربعين فجر أفراد العصابات الصهيونية سيارة ملغومة في ساحة باب
العامود ما أدى إلى استشهاد وجرح ثلثين مقدسيا.
المملكة الفرنجية الطور الول
استطاع بفدوين الول توسيع مملكة القدس بسرعة مستغل حالة الذهول التي سيطرت على المسلمين
بعد المذبحة الرهيبة في القدس.
سيطر الفرنجة على طبريا والجليل وبيسان ونابلس والخليل وكان لهم منفذ على البحر من يافا، وردت
إليه الساطيل اليطالية التي ساعدت بفدوين الول في الستيلء على قيسارية وعكا وجبيل وطرابلس،
مقابل مصالح تجارية، وبمعونة السطول النرويجي تم الستيلء على صيدا سنة ألف ومائة وستة.
وساند اليطاليون بفدوين الثاني في الستيلء على صور مقابل حصول البندقية على حي في القدس
وحمامات وأفران في عكا، وثلث صور، وإعفاء لتجار البندقية من الضرائب.
بحلول سنة ألف ومائة وأربع وعشرين سيطر الفرنجة على الساحل ما عدا عسقلن، أما الداخل فإن
غاراتهم الولى على الواد التابع لدمشق في حوران والجولن، اصطدمت بنجدات دمشقية. ولكنهم
فرضوا الجزية على الواد.
واستولوا على أيلة على البحر الحمر، وأقاموا حصن الشوبك فصار لهم نفوذهم على الهضاب الشرقية
للردن الذي سوف يتعزز عام ألف ومائة وأربعين بإقامة حصن الكرك.
تحكمت المصالح التجارية بتوسعات مملكة القدس، التي صارت لها اليد العليا على المارات الفرنجية
في المنطقة، فأصبحت هذه تتبع لها آليا، خاصة في قوتها زمن بفدوين الثاني، الذي وقع في أسر
تمرتاش الرتقي سنة ألف ومئة وثلث وعشرين وأطلق مقابله فدية كبيرة.
نمت في عهد بفدوين الثاني مؤسستان دينيتان عسكريتان كبيرتان هما الستبارية والداوية.
وقد بدأ تشكل أولهما سنة ألف وسبعين للميلد، أي قبل حروب الفرنجة بنحو ثلثين سنة حين أنشأ
تجار أمالفي دارا للحجاج المالفيين في القدس، قام على رعايتها أفراد من الرهبنة البندكية في
فلسطين، برئاسة مقدم لهم يعرف ب " جيرار ...
ظل يدير الموقع حتى وفاته سنة ألف ومئة وثماني عشرة، وبعد أن نجح في توسيع هذه الدار التي
أضيف إليها على يد خليفته، إعداد الفرسان للقتال إلى جانب إرشاد الحجاج وإيوائهم. وعرفت باسم
الستبارية، وانخرطت في القتال سنة ألف ومائة وتسع وثلثين.
وأسست سنة ألف ومئة وثماني عشرة فرقة أخرى حملت اسم" فرسان الهيكل" وعرفها المسلمون باسم
الداوية.
حضرت هاتان الفرقتان بقوة في محكمة القدس ثم في مجمل حروب الفرنجة، وكان لهما تأثير كبير
على سير المور كفرقتين رئيسيتين عسكريتين تمتلكان قوة كبيرة وترتبطان بالبابا.
جاء إلى حكم مملكة القدس بعد بفدوين الثاني الملك فولك سنة ألف ومئة وواحد وثلثين الذي تابع بناء
الحصون لحماية المملكة وأطرافها ومع وفاته سنة ألف ومئة وثلث وأربعين بدأ انحدار مملكة القدس.
فقد تبعه في الحكم صبي هو بفدوين الثالث، وفي زمنه سقطت أمارة الرها. وتراجعت أحوال المملكة،
فاستغاثت بالبابا الذي جند حملة فرنجية ثانية، سيطر الخلف على زعمائها واصطدمت بالمقاومة
السلمية التي كانت قد تنامت آنذاك، فجاءت نتائجها مخيبة للمال، ومع تضافر أسباب عديدة لهزيمة
الفرنجة أمام دمشق بدأ التفكير بمهاجمة عسقلن لنقاذ سمعة الحملة، وهو أمر لن يتم سوى سنة ألف
ومائة وثلث وخمسين في ظروف مختلفة.
تحالفت مملكة القدس مع البيزنطيين، وأضحت تحت حمايتهم، وحاولت استغلل السيطرة على عسقلن
في إيجاد دفع معنوي كبير لهيبة المملكة، ولكن الخلفات على عرش المملكة بالذات، بدأت تقدم إسهاما
جديدا في إضعافها، فيما اعتبر دخول نور الدين زنكي إلى دمشق خبرا مزعجا في القدس.
حاول ملك القدس الفرنجي عموري التوجه إلى غزو مصر، مستغل حالة الضعف التي تعانيها وتآمر
بعض الوزراء معه، ولكن مصر كانت لقمة كبيرة على المملكة الفرنجية، في حين كان نور الدين زنكي
ينجح في تشكيل الجبهة من الشام ومصر.
استغاثت المملكة مجددا بأوروبا، فحصلت على نجدات ضعيفة لم تستطيع أن تحدث تغيرا كبيرا في
المواقع، فعادت للتحالف مع البيزنطيين معترفة بسيادة المبراطور على المسيحيين الوطنيين.
بعد وفاة عموري سنة ألف ومئة وأربع وسبعين تولى المملكة صبي مجذوم هو بفدوين الرابع، بوصاية
ريموند كونتا طرابلس، وظهر انقسام جلي في المملكة يمثل طرفه الول حزب البارونات الوطنيين
والستبارية بقيادة ريموند، وهو يريد التفاهم مع المسلمين، أما طرفه الخر فيمثله القادمون حديثا من
أوروبا ومعهم الداوية، بزعامة أرناط المتعصب المتوحش الذي حاول احتلل مكة والمدينة.
احتدمت الخلفات على تولي العرش، فتم إيجاد حلول ملفقة لها، اتسمت بالدسائس والمكائد.
بعد موت بفدوين الرابع، ولي طفل هو بفدوين الخامس، مات بعد سنة، فعين مغامر فرنسي هو غي
لوزينان المتزوج من سيبل ملكا على القدس، جاء هذا التعيين مخالفا لتفاق سابق مع ريموند بأن
يتولى البابا وملكا فرنسا وإنكلترا شأن تعيين الملك بعد بفدوين الخامس.
وفي عهد لوزينان، نجح صلح الدين اليوبي في إنهاء الطور الول من حياة مملكة القدس الفرنجية
سنة ألف ومائة وسبعة وثمانين للميلد.
الستيطان في القدس
إضافة إلى سياسة زرع البؤر الستيطانية في البلدة القديمة من القدس، سعى الصهاينة إلى إغراق
المدينة بالمستوطنين، وضرب ثلثة أطواق استيطانية حولها، الول يطوق منطقة الحرم القدسي
الشريف والبلدة القديمة والثاني يطوق الحياء في القدس، والثالث يطوق القرى العربية المحيطة
بالقدس.
ويتحدث الصهاينة عن أن سياسة التطويق هذه تخدم أهدافا عديدة ومن بينها هدف أمني حيث تقول
المصادر الصهيونية: روعي في استيطان القدس إمكانية تجدد الحرب في المدينة لذا جعلت الحياء
الجديدة في المدينة الغربية، قريبة من الحدود في مواجهة المنطقة العربية، وعلى طول خط الهدنة
وتحولت المباني إلى مراكز عسكرية، بنيت لتكون جدارا عاليا أمام الجانب العربي، تحمي في الوقت
نفسه المباني الموجودة خلفها.
تم إنشاء عدد كبير من الحياء الستيطانية والمستوطنات على رؤوس التلل والودية التي تسهل
الدفاع عنها وعلى أنقاض ما هدم من أحياء وقرى عربية، وما اغتصب من أراضي، ما حصر العرب
المقدسين في ساحات ضيقة ومطوقة.
فأقيم في الجهة الشمالية من القدس، حي أشكلول ملصقا لحي الشيخ جراح، وأقيم على جبل سكوبس،
والتلة الفرنسية حي شابيرا الستيطاني، إضافة إلى تجمع استيطاني كبير على جبل الزيتون، وآخر باسم
راموت على أراضي النبي صموئيل، ومستوطنة باسم عتاروت على اراضي الرام وبيت حنيينا، كما أقيم
حيان على أراضي جبل المكبر، وثالث باسم جيل على أراضي بيت صفافا، ثم عاد الصهاينة لقامة
حيين استيطانيين على أراضي الشيخ جراح، وعلى القسم الوسط من جبل المشارف وهكذا.
هذا فضل عن عدد كبير من مستوطنات الطوق، على أراضي قرى يالو وعمواس، وبيت نوبا، وجبل
المكبر، وصور باهر وشعفاط، وعناتا، والخان الحمر، ومخماس، والرادار.
ل تتوقف حدود هذه المستوطنات عند الشكل الذي أقيمت عليه، بل يجري توسيعها باستمرار وتوجيه
المستوطنين إليها، حتى أن البلدية الصهيونية في القدس، والتي تهدم كل بيت عربي يتم بناؤه بدعوى
البناء بدون ترخيص، تسمح للمستوطنين الصهاينة، بالقيام ببناء عشوائي في أي مكان يستطيعون
الستيلء عليه، ثم تتولى البلدية تنظيم البنية، وتحويلها إلى مستوطنة، وتتولى أيضا الدعوة إلى
الستثمار فيها وتوسيعها.
وفي إطار التضييق على توسيع البناء العربي في القدس، كانت السلطات الصهيونية، قد أعلنت عن
مساحات خضراء داخل وحول الحياء العربية في المدينة، يمنع البناء بها بأي شكل، وعندما لم تعد
تتوفر مساحات واسعة للستيطان، قفزت سلطات الحتلل والمستوطنون نحو المساحات الخضراء، التي
تبين أنها تركت كاحتياط استراتيجي للستيطان، يحقق عدة أهداف، منها الدمج النهائي بين شطري
القدس، وتحويل الحياء العربية إلى غيتوات مغزولة، ثم تفتيتها إلى وحدات سكنية صغيرة جدا، فارغة
في بحر من المستوطنات والمستوطنين، ويسهل اقتلعها لحقا لنجاز تطويق نهائي للقدس وتهوديها.
عام اثنين وتسعين أعلن عن المشروع الستيطاني الجديد الذي يحمل اسم "بوابات شارون" وهو يشمل
بناء 500 وحدة استيطانية أسفل بيت العفيفي، حتى مدرسة المأمونية الجديدة، وبناء 900 وحدة ما
بين شارع وادي الجوز والمنطقة الصناعية والشيخ جراح، وبناء 400 وحدة في وقف السعديات باتجاه
محطة الديسي، وبناء مستوطنة عند تقاطع رامات أشكول، ووادي الجوز– رام ال.
ويتحدث المشروع عن شق شوارع للوصل بين الحياء الستيطانية، ما يفتت التجمعات والحياء العربية
بشكل شبه نهائي.
تم تلزيم مشاريع البناء فورا بعد العلن عن المخطط عام اثنين وتسعين، وتولت الحكومات الصهيونية
المتعاقبة تنفيذه، وكل منها تتحدث عن أنها تكمل التزاما سابقا للحكومة السابقة.
بعد اتفاق أوسلو، جرت مصادرة واسعة لراضي داخل القدس وحولها، منها عشرة آلف دونم لصالح
الستيطان، ونحو ثلثين ألف دونم لغراض عسكرية، ومحميات طبيعية، تشكل احتياطا للستيطان.
ومع حلول العام ألف وتسعمائة وستة وتسعين، كان قد جرى بناء إحدى عشرة آلف وحدة سكنية
للمستوطنين في القدس وحولها، فيما جرى العلن في العام نفسه عن خطة استيطانية جديدة تخترق
هذه المرة الحياء العربية من داخلها. ومن ذلك توسيع رقعة الستيطان في سلوان، المتاخمة لسور
البلدة القديمة، ومنطقة أم حورون داخل حي الشيخ جراح، وفي منطقة رأس العامود، وهو يحقق وصل
بين البؤر الستيطانية في البلدة القديمة والمستوطنات والحياء الستيطانية خارجها.
ومع استكمال هذا المشروع، فإن الصهاينة يستكملون مخطط إحكام السيطرة اليهودية على المدينة
المقدسة من داخلها بعد أن أنهوا تقريبا إحكام السيطرة على الحدود الخارجية للقدس،عن طريق حزام
المستوطنات القائمة الن في الجهات الجنوبية والشرقية والشمالية للمدينة.
إعلن القدس عاصمة للكيان الصهيوني
مر إعلن الصهاينة القدس عاصمة لهم، بأكثر من مرحلة، ففي البداية أعلن الصهاينة، الجزاء المحتلة
من المدينة عام ثمانية وأربعين عاصمة لكيانهم، وذلك في شهر كانون الول من عام تسعة وأربعين،
وفي العام التالي قام الكنيست بتأكيد هذا القرار وعقد جلسة له في القدس المحتلة، قرر خللها نقل
جميع المؤسسات والوزارات الصهيونية إلى المدينة.
وعام ثلثة وخمسين شرعت حكومة الحتلل بنقل مقر وزارة الخارجية الصهيونية إلى القدس، وبدأت
بعد ذلك بسنوات قليلة إشادة مبنى الكنيست الصهيوني بتبرعات الثري اليهودي جيمس دي روتشيلد.
عام ستة وستين، عقد حزب رافي الصهيوني مؤتمره العام في القدس، وطالب بإعلنها عاصمة أبدية
للكيان الصهيوني، ونقل جميع المؤسسات ومقار الحزاب إليها، واعتبارها المركز الرئيسي لمختلف
النشاطات. وفي العام نفسه تم افتتاح مقر الكنيست الصهيوني الجديد في حفل حضره عدد من أعضاء
الكونغرس المريكي.
بعد أيام قليلة من استكمال احتلل القدس عام سبعة وستين، أعلن الصهاينة عن ضم الجزاء الشرقية
من المدينة لهم، وشرعوا في عملية تهويد واسعة النطاق لها.
في نهاية تموز من عام ثمانين، أقر الكنيست الصهيوني، بشكل استثنائي، قانونا جديدا عرف باسم
"قانون أساسي" القدس مشروع هذا القانون تقدمت به الرهابية غيئول كوهين من حركة هيتما، وهو
ينص على التي:"
1. أن القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل.
2. القدس هي مقر الرئيس والكنيست والحكومة والمحكمة العليا.
3. تحمى الماكن المقدسة من أي تدنيس أو مساس بأي شكل أو شيء من شأنه أن يمس بحرية
وصول أبناء كافة الطوائف إلى الماكن المقدسة، أو بنظرتهم إليها.
4. ستحرص الحكومة على تنمية القدس وازدهارها وتوفير الرفاه لسكانها بواسطة تخصيص موارد
ولسيما تقديم منحة سنوية خاصة لبلدية القدس بمصادقة لجنة الكنيست المالية.
5. يفترض في هذا القانون بوصفه أساسيا أن يصبح وفقا للنظم السرائيلية جزءا من دستور إسرائيل
عند وضعه.
مع إقرار الكنيست الصهيوني لهذا القانون بدأ الصهاينة بتكثيف المطالبات للعالم أن يعترف بالقدس
الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني، معتبرين أنه ل ينبغي أن تبقى السفارات خارج القدس التي تشكل
مقرا للمؤسسات الحكومية الصهيونية.
لحقا عمد الصهاينة إلى استصدار سلسلة متتابعة من القرارات، أطلقت عليها غالبا صفة تعزيز القدس،
ومن ذلك القرار التي اتخذه الكنيست الصهيوني عام تسعين وهو ينص على عدم تقسيم القدس، وبقائها
كاملة تحت السيادة الصهيونية، دون أن تتبع لي إدارة مستقلة أخرى.
كما نص على منع ممثلي الكنيست من المشاركة في أي مفاوضات بشأن وحدتها والسيادة الصهيونية
عليها، وعام أربعة وتسعين تبنى الكنيست الصهيوني قرارا جاء فيه:
يعود الكنيست ويقرر أن القدس عاصمة إسرائيل، وستبقى إلى البد مدينة موحدة تحت سيادة إسرائيل،
ويقرر الكنيست أنه يجب منع كل محاولة للمس بمكانة المدينة ووحدتها، القدس وضواحيها ليست
موضوعا سياسيا أو أمنيا، وإنما روح الشعب اليهودي.
وعام ألفين تقدم الليكود بمشروع قانون جديد إلى الكنيست حمل عنوان "قانون أساس القدس عاصمة
إسرائيل" وهو مزيج من القوانين والقرارات السابقة ..حتى ليبدو وكأن اللص حريص على التأكيد دوما
بأنه يريد الحتفاظ بما سرقه، وفي أعماقه شعور بأنه ليس له.
العتداء على المقدسات المسيحية
) 1 (
في بيت المقدس حيث عانى السيد المسيح عليه السلم اضطهاد اليهود له، مازال المسيحيون يتعرضون
للضطهاد الصهيوني ولزالت الكنائس والمقدسات المسيحية عرضة للعتداءات الصهيونية.
وتتراوح هذه العتداءات بين منع الصلة عبر منع المسيحيين الفلسطينيين من دخول القدس، وبين
انتهاك حرمة الكنائس وسرقة محتوياتها. ففي معارك ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، احتل الصهاينة
كنيسة نوتردام دوفرانس، وعززوا وجودهم فيها بالسلحة الثقيلة، لستخدامها قاعدة لهجماتهم غير
مراعين لقدسيتها.
وسنة ألف وتسعمائة وسبع وستين، اضطر بطريرك اللتين إلى إصدار أمر بإغلق ثلث كنائس في
القدس بسبب انتهاكها ووقوع سرقة فيها وقيام الصهيونيات بدخولها بصورة منافية لكل احترام
للكنائس المقدسة.
وكان ثلثة من الصهاينة قد أقدموا على سرقة تاج السيدة العذراء وبعد أن اتضح أمر هذه الجريمة
أعاد الصهاينة التاج بعد سرقة للئ ثمينة منه.
وبعد أيام من عدوان حزيران سنة سبع وستين، حضر جنود صهاينة إلى سطح كنيسة القيامة ودير
الروم الرثوذكس واعتدوا على رجال الدين المسيحي بالقرب من كنيسة القديس قسطنطين وحاولوا
لحقا سرقة صليب وأيقونة من سيارة مطران الروم الرثوذكس في القدس المطران تيودروس.
وسنة ألف وتسعمئة وسبعين تعرض دير القباط لعتداءين حيث ضرب الجنود الصهاينة رهبان الدير
في القدس ليلة عيد الفصح المجيد، وليلة عيد الميلد داهم الجنود الصهاينة الدير وسرقوا أشياء ثمينة
من ممتلكاته واعتدوا بالضرب على المطران فاسيليوس وهو الشخصية الثانية في البطريركية
الرثوذكسية.
وفي السنة التالية أعلن المطران ذيوذروس مطران الروم الرثوذكس أن البطركية اضطرت إلى إغلق
نوافذ العديد من الكنائس بالحجر لكي تمنع المارقين من السلطات المحتلة من العتداء على كرامة بيوت
ال وشمل هذا الجراء كنيسة مار جريس في القدس.
وحيث لم يستطع الصهاينة السرقة لجأوا إلى الحراق والتدمير، فأحرقوا سنة ألف وتسعمائة وثلث
وسبعين المركز الدولي للكتاب المقدس على جبل الزيتون، ثم اتبعوا ذلك في العام التالي بإحراق أربعة
مراكز مسيحية في المدينة.
عام ألف وتسعمائة وثلثة وثمانين شن الصهاينة حملة اعتداءات واسعة النطاق على المقدسات
السلمية والمسيحية، من خلل زرع قنابل موقوتة في دور العبادة، منها كنيسة للروم، وأدى انفجار
القنبلة إلى إصابة راهبة بجراح واضطرت الكنائس إلى إغلق أبوابها مجددا عام ألف وتسعمائة
وتسعين احتجاجا على اعتداءات المستوطنين الصهاينة الذين عاودوا اعتداءاتهم مجددا سنة ألف
وتسعمائة وأربعة وتسعين حيث ضربوا بشكل وحشي الكاهن الرمني رازليك بوغسيان.
كما قامت سلطات الحتلل بتجريف قبور في ساحة كنيسة السيدة مريم في الجثمانية بالقدس وذلك
لتعبيد طريق فوقها وقد تم هذا الجراء دون إعلم ذوي الموتى ليقوموا بنقل رفات موتاهم.
عمليات منع المصلين المسيحيين من دخول المدينة المقدسة هي عمليات متكررة كان آخرها سنة ألفين
وواحد عندما منعت سلطات الحتلل المسيحيين من الدخول إلى بيت المقدس للحتفال بيوم الجمعة
العظيمة.
القمع الذي تعرض له أبناء الشعب الفلسطيني وبضمنهم أبناء الشعب من المسيحيين دفع البطريرك
صباح إلى القول: إذا كانت إسرائيل بحاجة إلى فدية، فسنقدم لهم كنائسنا ليدمروها.
وتوجه البطريرك صباح إلى جماهير الشعب الفلسطيني بالقول: ل تهجروا أرضكم ابقوا هنا في الرض
المقدسة ول تدعوا غيركم يصنع مستقبلكم.
سلطات الحتلل منعت مرارا البطريرك صباح من دخول قرى ومدن الضفة لحياء قداديس في كنائسها.
ولكن هذه ليست كل العتداءات الصهيونية على المقدسات المسيحية في القدس.
العتداء على المقدسات المسيحية
) 2 (
تطبيقا لمقولة هرتزل بتدمير كل ما هو غير مقدس لدى اليهود في القدس، واظب الصهاينة على استهداف
المقدسات المسيحية في المدينة.
وإضافة لما ذكرناه في الحلقة السابقة، فقد بين المطران تيودروس أنه إضافة إلى ما قام به الصهاينة من
نهب الكنائس الثرية، فقد اعتدوا على كنيسة ودير مار إلياس على طريق بيت لحم سنة سبع وستين،
وكسروا مقاعد الكنيسة ونهبوا اليقونات المقدسة الثرية وأثاث الدير والواني المقدسة.
الدير استهدف بالقصف المدفعي، في حرب حزيران ووجدت مقتنياته معروضة للبيع في أسواق مستوطنة
تل أبيب مما اضطر المسؤولين عن الدير إلى شراء معظم المسروقات، فيما بقي قسم منها مفقودا.
ومن الكنائس التي تعرضت لعتداءات وحشية الكنيسة الرمنية للقديس المنقذ، تعتبر هذه الكيسة كنيسة
تاريخية بنيت في القرن الخامس عشر الميلدي، وتخص البطركية الرمنية في القدس.
وقعت الكنيسة تحت الحتلل عام ثمانية وأربعين، ولم يتمكن رجال الدين المسيحي من زيارتها.
وفي عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين استخدمها الصهاينة كحصن للرشاشات، ودمروا في ساحاتها قبور
أربعة عشر من بطاركة الرمن.
وقد مزقت الصور الزيتية على الجدران، ونزع من الحيطان البلط المحضر من قبل زوار الكنيسة في القرن
التاسع عشر، لم يكتف الصهاينة بذلك، بل أنهم قاموا بتحويل جزء من ساحة الكنيسة إلى ملهى ليلي،
وعلقوا لفتة باللغتين النكليزية والعبرية، كتب عليها "ملهى ليلي" وتمكن يهودي من التسلل إلى كنيسة
القيامة ليحطم قناديل الزيت والشموع الموضوعة فوق القبر المقدس.
وحاول عدد من الصهاينة سرقة أكاليل مرصعة بالماس، قائمة قرب صليب الجلجلة داخل كنيسة القيامة،
وذلك بعد أن اعتدوا على راهب فرنسيكاني، حاول منعهم من تنفيذ السرقة، في حين أن السلطات
الصهيونية لم تتورع عن هدم كنيسة للروم الرثوذكس على جبل الزيتون سنة اثنين وتسعين بدعوى البناء
دون ترخيص.
وفي عين كارم، حطم الصهاينة أبواب ونوافذ كنيسة القديس يوحنا القديمة، وسرقوا محتوياتها، وكتبوا
على جدرانها عبارات نابية، كما عمدوا إلى تغيرات في لوحة كان رسمها الرسام اليطالي المعروف روفائيل
للسيدة العذراء والطفل يسوع.
وجاءت هذه التغيرات مخجلة وتنتهك قداسة السيدة العذراء والسيد المسيح. ويمثل التشويش على أداء
الصلوات، وحضور القداديس، جانبين من العدوان ألهوني على المقدسات المسيحية.
وسنة تسع وثمانين، وقع رؤساء كنائس الروم الكاثوليك والرثوذكس والكنائس النغليكانية والرمنية في
القدس بيانا احتجوا فيه على عمليات إطلق النار التي يقوم بها الجنود الصهاينة من الماكن المقدسة.
وطالب البطاركة والمطارنة الذين وقعوا على البيان، بأن يحترم الصهاينة حق المؤمنين في التمتع بدخولهم
الحر إلى جميع أماكن العبادة في اليام المقدسة لدى جميع الديان.
غالبا ما يرفع الصهاينة وتيرة مضايقاتهم في المناسبات والعياد المسيحية، ومن ذلك قيام الحاخامية
اليهودية بالضغط على أصحاب الفنادق للغاء الحتفالت بحلول العام الميلدي الجديد، ألف وتسعمائة
وتسعة وتسعين لنه صادف يوم السبت واليهودي.
الكنيسة الكاثوليكية اعتبرت ما قامت به الحاخامية انتهاكا لحقوق المسيحيين في القدس، ما ينبغي أن يكون
واضحا لدى الحديث عن العتداءات الصهيونية على المقدسات المسيحية في القدس هو النظرة العدائية من
قبل اليهود الصهاينة إلى هذه المقدسات، وإلى المسيحيين ما أدى إلى تناقص أعدادهم في القدس على نحو
مطرد، وهذا أحد الهداف الساسية للصهيونية، ولذلك تتكرر دعوة البطريرك صباح: "ل تهجروا أرضكم
..أبقوا هنا في الرض المقدسة".
الحملت البابلية
اندمج الفلسطينيون بالكنعانيين، وظلت الحضارة الكنعانية مسيطرة في فلسطين، ورغم أن الفلسطينيين
أخضعوا أنحاء كثيرة من البلد لسيطرتهم، فقد بقيت القدس بيد الكنعانيين، إلى أن دخلها داوود – عليه
السلم -حوالي اللف قبل الميلد، دون أن يتمكن من انتزاع أهلها اليبوسيين منها.
ولما كانت هذه الفترة شديدة التشوش وتنذر المكتشفات الثرية حولها، وتخضع لضغوط التوراة
المحرفة، فإن ما يمكن استنتاجه أساسا أن الحروب والصراعات قد ظلت دائرة في المنطقة وأن داوود
دخل إلى مدينة معمورة ومسكونة بعيدا عن ادعاءات الصهاينة وتحريفاتهم.
لم تعن هذه السيطرة إشاعة الستقرار في المنطقة، ومن المتصور أن الكنعانيين قد استنجدوا بأقربائهم
من خلف العموريين، الذين كانوا قد أقاموا دول قوية في بلد الرافدين.
ارتبط وجود مملكة داوود بصراعات داخلية وبصراعات مع المحيط الكنعاني، قاد إلى انقسام المملكة
نفسها إلى مملكتين.
أمام هذا الضطراب، قاد شيلمنصر الخامس الملك الشوري حملة على المملكة الشمالية، ولكن الذي أتم
تفويضها كان سرجون الشوري سنة سبعمائة وإحدى وعشرين قبل الميلد وفرض الجزية على
المملكة الجنوبية التي تضم القدس. ما بين عامي سبعمائة وخمسة، وستمائة وواحد وثمانيين قبل
الميلد، قام سرجون وخلفه سنحاريب بسلسلة من الحملت والعمليات الحربية ضد المدن الكنعانية
والفلسطينية وبلغت ذروتها عام سبعمائة وواحد قبل الميلد بحصار القدس.
وتذكر المصادر التاريخية أن ربشاقي القائد الشوري جاء في جيش كبير، ودك أسوار المدينة، وكان
رجاله مزودين بالسيوف والنبال والتروس والقواس والرماح، ولهم مركبات خفيفة يجر الواحد منها
حصانان، وكانتا لهم وسائل نقل منظمة.
لم تسقط القدس في هذه الحملة، ولكن الشوريين عادوا لمهاجمتها، واحتللها وأسروا ملكها في حينه
"منسا بن حزقيا"، ما بين عامي ستمائة وثمانية وسبعين، وستمائة وأربعة وأربعين قبل الميلد ثم
أطلقوا سراحه تمكن البابليون، وهم من العمورييون، من تحطيم المبراطورية الشورية، مستفيدين من
توغل المصريين في عمق المبراطورية، فاحتل البابليون نينيوى عام ستمائة واثنا عشر قبل الميلد.
دانت أرض كنعان، ومنها مملكة يهوذا الصغيرة للحكم البابلي الجديد، وكانت تدفع له الجزية وجرى
تصد للفرعون ينخحو الثاني أثناء تقدمه باتجاه بابل، إل أنه سحق المقاومة وتجاوز أرض كنعان ليلتقي
بالبابليين عند الفرات، وليتعرض لهزيمة قاسية على يد نبوخذ نصر.
ساعد المصريون يهوياقيم على تولي مملكة يهوذا بعد موت أبيه يوشيا، ولكن ياقيم لم يستطع الصمود
أمام تقدم قوات نبوخذ نصر، فاحتل القدس سنة خمسمائة وست وتسعين قبل الميلد، وأسر سبعة آلف
مسلح وألف عامل، وساقهم ومعهم يهودياقيم إلى بابل، وهذا ما يطلق عليه السبي البابلي الول.
وقام نبوخذ نصر، بتعيين "صدقيا" ملكا على يهوذا إل أن هذا حاول التحالف مع المصريين ضد
البابليين، رافضا دفع الجزية على غرار ما فعلت ممالك مدن كنعانية أخرى. أعد الزعيم البابلي حملة
كبيرة أدت إلى حصار القدس سنة خمسمائة وسبع وثمانيين قبل الميلد وبدعم الحامية المصرية
الموجودة داخل المدينة، صمدت القدس نحو عام كامل إلى أن اجتاحتها القوات البابلية سنة خمسمئة
وست وثمانين قبل الميلد، وقامت بتدميرها، فيما هرب صدقيا وبعض أفراد حاشيته، ولكن رجال نبوخذ
نصر لحقوه واستطاعوا القبض عليه في شمال أريحا، فحمل إلى الملك البابلي الذي أمر بقتله، وساق
نحو أربعين ألفا من السرى إلى بابل، وهو ما يعرف بالسبي البابلي الثاني، وفي هذه الحملة أخضع
نبوخذ نصر مدنا كنعانية أخرى قبل أن يعود إلى بلده، وتكتمل ملمح إمبراطورية الواسعة.
حظيت الحملة البابلية على أرض كنعان وبلد الشام، بحيز واسع من اهتمام الرواة والخباريين، نظرا
لنها أسفرت عن تدمير القدس كما أنها وضعت حدا للصراعات التي شهدتها المنطقة، والتي استمرت
منذ انتهاء السيطرة المصرية، فيما كانت الفترة الشورية حافلة بالضطرابات أيضا.
لكن هذا الهتمام الواسع يخضع في جانب كبير منه لمرويات التوراة المحرفة، ولدس السرائيليات،
وبذلك فإن الحملت البابلية، لم تعامل كما سواها، كالمصرية والشورية مثل، فيما بدا الصراع بين
العموريين والكنعانيين وحتى بين الفلسطينيين والكنعانيين في مرحلة معينة أشبه بما يسمى اليوم
"الصراعات الداخلية" .
سوف نستثني من هؤلء الخباريين والرواة ما قدمه اليعقوبي، الذي تشوب أخباره تخليطات كثيرة،
وتأثير "إسرائيلي واضح، حتى في معالجته لحداث معروفة وموثقة ولكن سنجد مع ذلك أن الخباريين
الخرين، لم يتخلصوا تماما من تأثير التوراة المحرفة.
في النس الجليل يتحدث مجير الدين الحنبلي عن حادثتي السبي البابلي ويقول عن الحادثة الثانية: لما
عصى صدقيا نبوخذ نصر، قصد بخت نصر بيت المقدس بالجيوش، وكان معه ستمائة راية، ودخل بيت
المقدس بجنوده ووطىء الشام. وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخربت بيت المقدس وأمر جنوده أن
يمل كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملوه.
وتصل مبالغات الخباريين والرواة حدا كبيرا عند وصف الجواهر والذهب الذي حمله نبوخذ نصر من
القدس إذ يصل الوصف حدودا أسطورية ل يمكن تخيلها، وكذلك المر فيما يتصل بكرسي سليمان.
يتحدث المؤيد، مثل، عن أن نبوخذ نصر، احتمل من القدس ثمانين عجلة ويقصد عربة من الذهب
والفضة.
ويروي برهان الدين الفراري، وصفا لما يسميه كرسي سليمان بأنه مصنوع من أنياب الفيله، ومفصصا
بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر.
وأكثر من ذلك فهو ينسب مقتل نبوخذ نصر إلى الحيلة السحرية الموجودة في الكرسي إذ لما حاول
نبوخذ نصر الجلوس عليه، وهو ل يعرف الكيفية الخاصة لهذا الجلوس، انطلقت أداة من داخل الكرسي،
وضربته ضربة شديدة مات في إثرها.
وفي هذا ما يتنافى تماما مع سجل الخبار البابلي الذي دون كثيرا من وقائع تلك الفترة ويجدر أن يكون
مصدرا لدراستها.
مهما يكن من أمر، فإن كثيرا من المؤرخين يعيدون إلى السبي البابلي، انتشار اليهودية في أنحاء
متفرقة من العالم القديم، على أن هناك من يقدم روايات مخالفة لكل هذه الوقائع مقترحا إمكانية حدوثها
جغرافية مختلفة.
الحملت الرومانية وحكم هيرودس الدومي
بدأت رومة التدخل في شؤون فلسطين ارتباطا بضعف الدولة السلوقية، ولكن الحملت العسكرية
الرومانية بدأت سنة خمس وستين قبل الميلد، بالحملة الولى على سورية والتي قادها بومبي، وهو
نفسه الذي احتل بيت المقدس سنة ثلث وستين للميلد وخرب معظم أنحائها.
وقد سبق هذا الحتلل، صلت ومكائد دبرها المكابيون، واشترك فيها الدميون العرب، الذين فرضت
عليهم اليهودية بالسيف في وقت ما ولكنهم ظلوا عنصرا غريبا، بالنسبة لمن فرضوا عليهم هذا الدين
بالقوة.
بدأت القصة عندما مد المكابيون صلت مع رومة الصاعدة، أثناء خلفهم مع السلوقبين والحرب التي
جرت الدمار على فلسطين، وعندما شرع الرومان في حملتهم العسكرية اتصل بهم حلفاؤهم، فالتقى
سكاورس، وكيل بومبي في سورية، الخوين المتنافسين على زعامة الجماعة الدينية في بيت المقدس،
وهما هركانوس وأرستوبولس، في محاولة للتوفيق بينهما.
وكان ارستوبولس طرد هركانوس من القدس، فتلقى هذا المير دعما من ملك النباط، وأيضا من
أنتيباتر الدومي، وبذلك تغلب على أرستوبولس.
حاول الثنان شراء الدعم من القائد الروماني بالمال وانتهى المر بأن سكاوروس أرستوبولس في
منصب الكاهن العظم، عند ما جاء بومبي إلى سورية، استقبل مندوبا عن ارستوبولس، يحمل وعدا
بمبلغ كبير من المال، وأخر هو انتيباتر الدومي وكيل عن هركانوس تم حضر الثنان بالذات إلى
بومبي، حضر وفد ثالث بمثل فتات من الجماعة الدينية في بيت المقدس، مطالبا بإزاحة كليهما.
طلب بومبي تأجيل المر سنة، فرفض أرستوبولس وحاول النتقام والقدس، ولما أورى أنه خاسر ل
محاولة سلم نفسه للقائد الروماني بومبي الذي اعتبره أسيرا لديه، وسار إلى بيت المقدس، فدخلها بعد
قتال شديد، وتذكر المصادر التاريخية أنه قتل الكثير من سكانها، ثم ثبت هركانوس في منصب كاهن
أعظم، ووضع بومبي المدينة تحت سلطته المباشرة.
استطاع أحد أبناء ارتوبولس الفرار من السر وأخذ يعد عدة للثورة، ولعبت الخلفات في البلط
الروماني دورا في عودة الفوضى والضطراب إلى فلسطين فيما اشتدت خلفات هركانوس مع أقربائه،
فقد أطلق سراح ارستوبولس من السر، ولكنه سحل في الطريق، وكذلك قتل ابنه.
وقف انتيباتر الدومي وهركانوس إلى جانب بومبي في الصراعات التي اندلعت في رومة، كما ناصرا
خلفه يوليوس قيصر، الذي قدم له انتيباتر الدومي خدمات كبيرة عسكرية وتميونية، انعكست علقة
انتيبابر القوية مع القيصر على حلفية هركانوس، فجرت تثبيته ككاهن أعظم في القدس، مع صلحيات
أوسع كما منح أنتبياير، حق الرعوية الرومانية، فعين أول حاكم لبيت المقدس، ووسعت سلطته ليضم
إليه يافا وعدد من قرى مرج ابن عامر.
قدم انتبياير الدومي ابنيه فصايل وهيرودس إلى المسرح، فأعطى إدارة بيت المقدس وبيريا لفصايل،
وعهد إلى هيروس بإداترة الجليل، وسمى كل منهما ستراتفوس.
أثار هذا حنق الكهنة والجماعة الرستقراطية في بيت المقدس، وأرادوا الكيد لهيردوس الدومي العربي
بتقديمه إلى محاكمة أمام المجلس "السنهدريم" فما كان من هيروس إل أن قاد فرقة عسكرية وأراد
اقتحام المدينة ففتحه أبوه من ذلك مقابل صمت المجلس.
كان انتيبابر الدومي يسير مع اتجاه الريح في روما، فبعد اغتيال يوليوس قيصر، وقف إلى جانب
كاسيوس، فازدادت نقمة الجماعة الدينية في بتت القدس عليه، ثم مات مسموما، إل أن ابنيه كان قد
ثبتا مكانهما.
نجا هيرودس من مكيدة رومانية، تسببت في موت أخيه انتحارا، ثم اختار السير على خطى أبيه، بتأييد
القوى في روما، فأخذ باحتلل المدن الفلسطينية مؤيدا من انطونيوس واكتافيوس، وأتم احتلل بيت
المقدس سنة ست وثلثين قبل الميلد، وأصبح ملكا على فلسطين.
تعلم هيرودس كيف يسير مع اتجاه الريح الرومانية وفرض الستقرار في فلسطين، بعد أن قضى على
العصابات اليهودية في الجليل، وشرع في عمليات بناء واسعة وأدخل العناصر الحديثة إلى المدن التي
بناها وهي: جمنازيوم ومسرح وميدان سباق على ما كان سائدا من أدوات الثقافة آنذاك، وكان في
بلطه فئة من أهل المعرفة يقصدهم نقول الدمشقي المؤرخ والديب الذي كتب شبه يوميات عن
هيروس، وأرخ للفترة، وكان يحيط نفسه لمجلس استشاري يدعوه للمشاورة.
من الدرجة الولى، فبنى في فلسطين أول ميناء بحري كبير هو s يوصف هيرودوس بأنه كان بناء
أخرى وأشاد قلعة في أريحا، وبنى مدينة سبسطية. وجدد بناء بيت المقدس. كلفته هذه t قيصرية ومدنا
كثيرة، ففرض ضرائب كثيرة، ولم يكن يسمح بأي تساهل، حتى أنه قتل ابنين من أبنائه، t العمال أموال
وإحدى زوجاته.
كان هيرودوس أدومي الصل، والدوميون عرب، وقد فرضت عليهم اليهودية بحد السيف، لكن ذلك لم
يغير من عنصرهم العربي، واليهود في منطقة القدس كانوا يعتبرونه غريبا ..وقبل به الجميع مرغمين
خلل فترة حكمه التي دامت من سنة سبع وثلثين قبل الميلد إلى السنة الرابعة قبل الميلد.
قسم الحكم بين أبناء ثلثة له قبل موته لكن هؤلء كانوا ضعفا، وبالتدريج عادت فلسطين ولية
رومانية.
سنة ست وستين للميلد نشبت في فلسطين حركة عصابة عنيفة ضد الحكم الروماني بسبب الضرائب
المرتفعة والهمال وكانت بذور التمرد بدأت سنة أربع وخمسين في عهد نيرون، الذي عهد إلى القائد
الروماني فسبسيان للقضاء عليها، لكن هذا اختير إمبراطورا فأسند المر إلى تيطس، الذي دمر بيت
المقدس سنة سبعين للميلد، وخربها وخرب المعبد فيها.
تحولت بيت المقدس بعد هذه الحرب إلى معسكر للفرقة العاشرة الرومانية التي وضعت هناك وفشلت
محاولة إقامة مدينة هيللينة محل بيت المقدس القديمة، وأدت المحاولة إلى عصيان استمر ما بين عامي
مائة واثنين وثلثين إلى مائة وخمسة وثلثين للميلد .قضى عليه الرومان بقسوة، ومعه كسروا شوكة
الجماعة الدعية اليهودية.
بعد انتهاء هذا العصيان تم الشروع في بناء المدينة التي ستعرف مذاك باسم إيلياء كابيتولينا.
كان هدريان بناء قناعا، وأراد أن يقيم مدينة جديدة مكان القدس القديمة التي لم تعد في حينه عن
كونها معسكرا ومخزنا للجنود.اختط هدريان للمدينة الجديدة سنة مئة وثلثين للميلد، وتشمل هيكل
رومانيا وجميع المؤسسات الرومانية العمرانية والثقافية، وقد أتم بناءها بعد الحداث التي ذكرت، ومنع
اليهود من دخولها نهائيا.
مع إتمام بناء إيلياء، انتهى عهد "السلم الروماني" ودخلت المبراطورية في الغوص والصراع
والحروب الطاحنة، ونالت فلسطين حظها من هذه الحروب، وإذا كان صحيحا أن إيلياء التي أصبحت
بيزنطية منذ القرن الرابع الميلدي، سوف تعيش قرنين آخرين قبل أن تدمر من جديد، في الحروب
الساسانية –الرومانية، إل أن السنوات التي سبقت الدمار، كانت حافلة بأحداث كثيرة.
فقد شهدت بيت المقدس ظهور المسيح عليه السلم، وانتشار دعوته واضطهاده أيضا وفي إيلياء شهد
الدين الجديد قفزات كبيرة.
الحملت الفارسية
من الروايات المتداولة على نطاق واسع أن الملك كورش، ملك الفرس، هو الذي أعاد اليهود إلى
القدس، بعد انتصاره على البابليين، وعليه تصور الحملت الفارسية على فلسطين بأن سببها الوحيد هو
إعادة اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل.
والحقيقة أن سياسة المبراطورية الفارسية في المنطقة كانت مرتبطة أساسا بمنع المصريين من القفز
عبر كنعان وبلد الشام لتهديدهم، بل أرادوا أن تكون المنطقتان معبرهم، هم إلى مصر.
سنة خمسمائة وتسع وثلثين قبل الميلد تمكن كورش من إخضاع بابل، منهيا المبراطورية البابلية،
وقد عرف عن كورش أنه احترم التقاليد والعادات الدينية، لما أصبحت تعرف بمقاطعات المبراطورية
الفارسية، وينقل المؤرخون، أنه وعد المسبين في بابل بإعادتهم إلى فلسطين.
ورغم وجود أشكال من التدوين في تلك المرحلة التاريخية إل أن معظم المؤرخين يتفقون على أن فترة
الحملة الفارسية الولى على فلسطين مشوشة إلى حد كبير، وتختلط فيها المعطيات المدونة القليلة مع
نصوص التوراة المحرفة.
يقال إن قائد الجيش الفارسي "غوبر ياس" اتجه نحو بيت المقدس، واحتلها سنة خمسمئة وثمانية
وثلثين، وأنه أخذ معه من أراد الرجوع من المسببين اليهود إلى فلسطين، وسمح لهم ببناء المعبد في
القدس، مدفوعا برغبة إيجاد جماعة موالية للمبراطورية الفارسية إلى جانب الجماعات الموالية
للنفوذ المصري، وبسبب هذا فإن اليهود نعتوا كورش بالمخلص اللهي أو المسيح المنتظر.
تذكر الروايات اليهودية أن عدد من عادوا من اليهود مع غوبر ياس، بلغ أكثر من اثنين وأربعين ألفا،
وهو رقم مبالغ فيه، حيث أن كثيرين من اليهود قد رفضوا الذهاب إلى فلسطين وشكلوا تجمعا خاص
بهم، مكنهم من تأدية دور بارز في التجارة وجمع الموال ومن الوقائع الثابتة أن السامريين لم يرحبوا
بالقادمين مع القائد الفارسي.
تتحدث المرويات اليهودية أيضا عن أن زعيم اليهود الذين جاؤوا مع غوبر ياس، كان اسمه زرو بابل،
وأنه من سللة الملك يهو ياقيم، وأعاد معه الكنوز التي كان قد أخذها نبوخذ نصر معه من القدس،
ولكن هذا المر ل يتناسب مع تتمة الرواية اليهودية نفسها بأن زرو بابل لم يتمكن من بناء المعبد
،لسوء الوضع القتصادي ولكثرة المشاحنات بين اليهود، مشيرة إلى أن بناء المعبد تم في وقت لحق.
وأن نحييميا قام ببناء أسوار القدس، بعد أن أتم زرو بابل بناء المعبد. وهذا أمر ل يوجد أي دليل عليه،
فالحفريات التي تمت في القدس، تناقض حدوث مثل هذه الواقعة تماما، كما أنه باستثناء المرويات
اليهودية، ل يوجد أبدا ما يؤكد تلك الوقائع المدعاة.
والفارق بين مجيء زرو بابل، ومجيء نحميا إلى المدينة، فارق زمني طويل، فالخير، كان يعمل حامل
للكؤوس في بلط المبراطور الفارسي "ارتحشتشتا الول" الذي حكم في الفترة ما بين أربعمئة وخمس
وستين، وأربعمائة وأربع وعشرين قبل الميلد، وهو هذا حذو كورش، بالسماح لمن يريد من اليهود
العودة إلى فلسطين.
ومرة أخرى يتضح أن السياسة الفارسية كانت تريد موالين لها في مواجهة المصريين.
وحسب المرويات اليهودية، فإن عزرا الكاهن قد سبق نحميا إلى القدس، وغالبا ما يشار إلى هذا
الكاهن، بأنه أجبر اليهوديات المتزوجات من غير اليهود على الطلق، وأعلن أبناءهن غير شرعيين.
أقام اليهود سلطة دينية، تحت سيطرة السلطة الفارسية، وكانوا يستخدمون العبرية في معاملتهم، بينما
كانت العبرية لغة دينية.
وقد انتهت الحملة الفارسية الولى بوصول قوات السكندر المقدوني إلى فلسطين، وهي أساسا كانت
حملة للمراقبة، ومنع حكام دويلت المنطقة من التحالف مع المصريين، وهذا ما يفسر ندرة الثار
الفارسية في فلسطين في تلك العقبة.
عاد الفرس إلى فلسطين مجددا، ولكن سنة ستمئة وأربع عشر للميلد، وكانت آنذاك تحت حكم
الرومان، وتقدم المصادر التاريخية وصفا مفضل لتلك الحملة. وفيما يخص القدس، تذكر الموسوعة
الفلسطينية أن الذي احتل القدس من الرومان هو القائد شهرباراز، في عهد كسرى الفرس الثاني.
وذكر مؤرخون عرب أن كسرى ملك الفرس أرسل قائده باراز ،على رأس جيش كبير إلى القدس
فافتتحها في العشرين من أيار، سنة ستمئة وأربع عشرة للميلد، وذلك بعد حصار دام عشرين يوما،
استعمل الجيش الفارسي أثناءه جميع الوسائط اللزمة للستيلء على المدينة، فأقاموا البراج حولها،
ووضعوا المنجنيقات عليها.
وفي اليوم العشرين، قاموا بهجوم قوي، ما أدى بالجنود الرومان إلى الهرب، فيما استتر بعضهم في
البار والخنادق، وتذكر المصادر التاريخية، أن هذه الحملة اتسمت بالقسوة الشديدة، وشهدت تقتيل
كثيرا في القدس، وأن اليهود الذين انضموا إلى جيش باراز شاركوا في عمليات القتل.
كانت الحملة على القدس هذه في إطار حرب أوسع، هي تلك التي كانت تدور بين الرومان والدولة
الساسانية الفارسية، ولم يستمر مكوث الفرس طويل في القدس، ففي عام ستمائة وثمانية وعشرين
تمكن المبراطور الروماني هرقل من فرض صلح قاس على الساسانيين بعد أن حاصر عاصمتهم
المدائن، واحتفل بنصره في القدس.
وهكذا فإن الحملة الثانية على القدس، كانت في إطار العمليات الحربية ،ولم تكن القدس فيها إل أحد
الهداف، ولكن المتميزة جدا أيضا، ولذلك فإن باراز عمد إلى نقل "صليب الصلبوت" إلى المدائن، كما
ترك لجنده أن يخربوا المدينة.
وتجدر الشارة إلى أن الحملت الفارسية على فلسطين عموما ،كانت تندرج في إطار حروب أوسع
مدى، وأكثر امتدادا، ولم تكن فلسطين أو بيت المقدس هدفا مباشرا، إل حسب ما أوضحناه في الحملة
الثانية.
وربما في هذا ما يفسر أنهم لم يقوموا بترك آثار ذات قيمة في المنطقة. أما المصادر الفارسية، فتذكر
أن الملك داريوس الول الذي حكم في الفترة ما بين خمسمائة وواحد وعشرين، وأربعمائة وستة
وثمانين قبل الميلد قد بنى اسطول بحريا كبيرا بمساعدة الفينيقيين، وبنى طرقا برية بمساعدة سكان
فلسطين لتمكين القوات الفارسية من الوصول إلى مصر وضمها إلى المبراطورية.
وتتحدث المكتشفات الثرية عن العمران المرتبط بالوجود الفارسي في تلك الفترة في مناطق فلسطين،
ومنها القدس، كان قليل، وربما أميل إلى أن يكون ذا طبيعية حربية.
العصر الموي
أصبحت بيت المقدس في العصر الموي، جزءا من ولية الشام التي كانت تمتد من البحر المتوسط في
الغرب إلى البادية والفرات في الشرق، وآخر حدودها ما يلي مصر، رفح، وما يلي الروم الثغور. وتبعت
جند فلسطين، الذي انتقل مركزه من اللد إلى الرملة، التي بنيت حديثا.
وفي هذا العصر ظلت بيت المقدس وجهة للفقهاء والمتعبدين، وأصبحت مركزا للنشاط الفكري في ظل
الحرية الدينية، التي أتاحها الحكم السلمي. ومع أن الطابع العسكري قد طغى زمنا طويل على جند
فلسطين وولية الشام عموما بسبب قر بها من الثغور، فقد هيمن الهدوء والطمئنان اللذين انطلقت في
ظلهما الحركة العمرانية الواسعة في جند فلسطين عموما، وبيت المقدس على وجه الخصوص، حيث تم
بناء قبة الصخرة والمسجد القصى المبارك، فضل عن إعادة تخطيط المدينة وعمرانها.
هناك مبادئ أساسية التزم بها مخططو المدن السلمية، وظهرت في مدينة القدس، في طليعتها العلقة
الوثيقة بين متطلبات الدين ومتطلبات العمران، مع مراعاة المبادئ الفنية الجتماعية والبيئية عند
التخطيط.
من أهم المبادئ التي روعيت أن المسجد يجب أن يكون في القلب من الوحدة التخطيطية، ويتفرع منه
نسيج المدينة المعماري، ولهذا كان المسجد القصى هو البؤرة الساسية في تخطيط هذه المدينة يضاف
إلى ذلك التجانس مع البيئة ضمن روحية واحدة.
وقد حرص المخطط على عدم إغفال عادات السكان العرب وتقاليدهم وثقافتهم، وانعكس هذا في إقامة
الحياء السكنية، وما يتصل بها من خدمات رئيسية كالمساجد والسواق والمدارس والملعب والخدمات
الصحية التي كانت كلها مرتبطة مع الحياء السكنية، كما حافظ على تراثها الثقافي والبيئي والمعماري
لضمان عدم إدخال عناصر غريبة عليه، و/أو إزالة أي جزء منه مع الهتمام بالترميم المستمر.
إذن، فقد كان المسجد البؤرة الرئيسية للمدينة، وهو يشكل مع قبة الصخرة إنجازا معماريا فريدا من
نوعه، وتعد قبة الصخرة التي لم يقلد المسلمون بناءها في المساجد من أولى القباب التي بنيت
بالسلم، كما تعد من العناصر المعمارية النادرة من حيث المادة والتصميم، وهي تشكل مع المسجد
القصى نمطا جديدا في العمارة العربية السلمية، استمد أصوله من العقيدة السلمية، وبعض الطرز
المعمارية العربية السابقة للسلم، فضل عن بعض المؤثرات المحلية.
ورا مطورا ومبتكرا لما يؤدي الوظيفة الدينية، ول يتعارض مع ] لكن البناء لم يكن مقتبسا، وإنما مح
تعاليم السلم من جهة، ولما توصل إليه الفن المعماري السلمي من جهة أخرى، فكانت المحصلة
بروز طراز معماري جديد هو الطراز العربي السلمي.
لم تقتصر عمارة العصر الموي في بيت المقدس على بناء المسجد القصى وقبة الصخرة، فقد تم بناء
قبة السلسلة الواقعة شرقي قبة الصخرة، وهي ملصقة لها، وتصغرها حجما.
ومما بناه المويون في بيت المقدس دار المارة، في الزاوية الجنوبية الغربية من الحرم الشريف، وهي
ثلثة قصور تتطابق من حيث الهندسة المعمارية مع القصور الموية التي اكتشف في أنحاء متفرقة من
الردن وفلسطين.
وكانت دار المارة مقرا للوالي وللموظفين، كما تم أيضا بناء الباب الذهبي، وأبنية إدارية أخرى، وفي
عهد سليمان بن عبد الملك شيد حمام في الجهة الغربية من الحرم، كان خاصا بخدام المسجد القصى
ومسجد قبة الصخرة.
وتذكر العديد من المصادر التاريخية أنه في الفترة التي بنى فيها مسجدا قبة الصخرة والقصى، بني
أيضا مهد عيسى عليه السلم ومسجده، وقد وصفه بعض الرحالة والجغرافيين، وصفا يقرب مما هو
عليه الن.
يقع هذا الثر في الزاوية الجنوبية الشرقية لسور المدينة، وينزل إليه بخمس وثلثين درجة، وفيه قبة
صغيرة تقوم على أربعة أعمدة، وتحتها حوض حجري يقال إنه مهد عيسى عليه السلم، وأمام المهد
محراب حجري بسيط التجويف، يقال أنه المكان الذي كانت تتعبد فيه السيدة مريم، وفي ركنه موضع
يقال أنه موضع سيدنا جبريل، ويوجد باب حديدي في الجدار الجنوبي.
يتكون هذا الثر من ساحة مربعة الشكل، وأرضيته مفروشة بالبلط الحجري، وجدرانه مبنية حجارة
كبيرة جدا، ويشكل جداره الشرقي الزاوية الشرقية لسور القدس وسور الحرم الشريف. وعامة تؤشر
النشاطات الفكرية والمعمارية في بيت المقدس، إلى أن المدينة قد ازدهرت في ذلك العصر ازدهارا كبيرا
بحيث كانت المنارة الحضارية الساسية فيه.
العصر العباسي الول
في أواخر العهد الموي تعرضت بيت المقدس لزلزال قوي هدم المسجد القصى، وذلك سنة مائة
وثلثين للهجرة، في حين بقي مسجد قبة الصخرة على حاله.
وبعد أن قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بزيارة بيت المقدس، وهو عائد من أداء فريضة الحج
سنة مائة وأربعين للهجرة، أمر بإعادة بناء المسجد، الذي تم سنة مئة وأربع وخمسين للهجرة، وجاء
المنصور في السنة التالية لزيارته.
ولكن زلزال آخر هدم المسجد بعد أربع سنوات فأعاد الخليفة المهدي بناءه بعد زيارة القدس سنة مائة
وستين للهجرة.
تمت إعادة البناء في ثلث سنوات، عاد بعدها المهدي إلى زيارة بيت المقدس والمسجد القصى الذي
استحدث فيه توسيعا في البلطة الوسطى، بعد الستغناء عن صف من الدعامات، كان يتوسط بيت
الصلة، وغطاها بسقف جملوني ضخم، يعلوه منور لدخال الضوء، وبنى قبة خشبية مزدوجة مغلفة
بصفائح الرصاص من الخارج ومزينة بالجبس من الداخل.
جاءت التعديلت التي استحدثها الخليفة المهدي في بناء المسجد القصى متأثرة بالمزايا المعمارية لقبة
الصخرة، أدت زلزلة ثالثة إلى تهدم المسجد القصى جزئيا فأمر الخليفة المأمون بإعادة بنائه، موزعا
تكاليف البناء على أمراء الطراف وسائر القادة، تولى البناء قائد جند المأمون عبد ال بن طاهر،
وشرع في البناء بعد عام مائين وعشر للهجرة، وعام مائتين وخمسة عشر للهجرة جاء المأمون لزيارة
بيت المقدس، وأمر بترميم قبة الصخرة فجرى إدخال تزيينات بالخط العربي على زخرفة القبة، نفذت
بواسطة الفصوص المذهبة على أرضية زرقاء من زخارف الفسيفساء ،تتضمن آيات قرآنية، وإشارة
إلى اسم الخليفة الذي أمر بالترميمات على أنه الباني.
تعكس أعمال الترميم والبناء هذه اهتمام الخلفاء العباسيين ببيت المقدس، فهم وإن صرفوا جهدا كبيرا
في تقوية المدن الساحلية والحصون وإقامة الرباطات لمراقبة الساطيل المعادية، فقد قاموا أيضا بالبناء
في بيت المقدس، وفضل عما تقدم ذكره، فقد قاموا ببناء عدد من البوائك منها البائكة الجنوبية،
والبائكة الشرقية، والبائكة الغربية.
تتألف هذه البوائك من دعامات حجرية بينها أعمدة رخامية تعلوها أقواس حجرية مدببة الشكل.
دام العصر العباسي أكثر من خمسة قرون شهدت الكثير من التقلبات في قوة مركز الخلفة ببغداد.
وعادة ما يميز الباحثون بين عصرين عباسيين الول والثاني، وكان طبيعيا أن تتأثر فلسطين، وبيت
المقدس بهذه التقلبات، قضى التنظيم الداري الجديد بتغير الجناد إلى وليات، وصارت الرملة مركز
ولية فلسطين، وبيت المقدس كورة من اثنتي عشرة كورة تضمها الولية.
وقد حرص الخلفاء العباسيون على تولية أمير عباسي، أو مقرب مخلص ولية فلسطين، التي كثيرا ما
جمع حكمها إلى دمشق أو مصر، ومن ولتها: عبد ال بن علي، وأخيه صالح بن علي، ثم عبد الوهاب
بن إبراهيم المام، والعباس بن محمد بن علي زمن المنصور. وإبراهيم بن صالح بن علي، ومحمد بن
إبراهيم المام زمن المهدي، ثم موسى بن عيسى العباسي وصالح بن سليمان العباسي، وإبراهيم بن
المهدي زمن الرشيد، وعبد الملك بن صالح العباسي زمن المين، والمعتصم زمن المأمون.
سنة مائتين وأربع وستين، سيطر على فلسطين الطولونيون، فأصبحت داخلة في حكم السرة الطولونية
المتمركزة في مصر.
وقد أبدى الطولونيون اهتماما كبيرا ببيت المقدس، وكانت أكثر إقامة زعيمهم خمارويه في فلسطين.
بعد الصلح بين مركز الخلفة وآل طولون تم تثبيت هؤلء في فلسطين حتى عام مائتين واثنين وتسعين،
عندما عمد مركز الخلفة إلى استرداد فلسطين ومصر من بين أيديهم، وعادت فلسطين لتنبع مركز
الخلفة مباشرة، ويتم تعين الولة من قبلها.
وقد استمر هذا الوضع حتى سنة ثلثمائة وثلث وعشرين للهجرة، وهي السنة التي شهدت تأسيس
السرة الخشيدية التي حكمت مصر وجنوب الشام كله.
استمر حكم الخشيديين خمسا وثلثين سنة شاع الستقرار في بداياتها، ثم عم الضطراب حتى انه
جرى تشكيل وحدات للدفاع الذاتي في المدن ومنها القدس، وقد عرفت هذه الوحدات باسم "الحداث"
وكان لها رؤساؤها وتنظيماتها وضرائبها وتدخلها السياسي.
طوال هذه الفترات من التقلب، ظلت مكانة القدس حاضرة، وحرص كل أصحاب العهود على العناية
والهتمام بها، وفيها بنى الخشيديون تربة لمرائهم، ودفن فيها "أبو بكر بن طغج الخشيدي سنة
ثلثمئة وأربع وثلثين، وأبو القاسم أنوجور بن محمد سنة ثلثمئة وتسع وأربعين، وأبو الحسن على
بن حمد سنة ثلثمئة وخمس وخمسين.
ويكتب من وصفوا بيت المقدس في تلك الفترة العباسية الولى أنه كان عليها حصن له ثمانية أبواب
من الحديد، بنيانها حجر، ول أتقن من بنائها ول أنظف من أسواقها، ول أكثر من مساجدها، ومع نهاية
حكم الخشيد انتهت الفترة العباسية الولى في حكم بيت المقدس وفلسطين اللتين انتقلتا إلى حوزة
الفاطميين.
العهد العثماني
فتحت معركة مرج دابق سنة ألف وتسعمائة وست عشرة الطريق أمام العثمانيين للسيطرة على بلد
الشام ومصر بعد هزيمة المماليك.
وفي كانون الثاني من السنة المذكورة وصل السلطان العثماني سليم الول إلى أسوار القدس، دون أية
مقاومة، وخرج العلماء لمقابلته وأهدوه مفاتيح المدينة، فيما صلى ركعتين أمام أسوارها، وظلت المدينة
قائمة بعمائرها ولم تشهد أي قتال.
كانت تلك بداية العهد العثماني الذي سيستمر أربعة قرون راوحت فيها الدولة بين القوة والضعف
وشهدت ازدياد النفوذ الوربي في المنطقة العربية التي شكلت جزءا من المبراطورية العثمانية تبعت
فلسطين إداريا ولية "شام شريف" وضمت خمسة صناجق من بينها صنجق القدس الذي أوله
العثمانيون اهتماما خاصا، وبالذات في عهد السلطان سليمان القانوني الذي تولى الحكم سنة ألف
وخمسمائة وعشرين للميلد.
قام القانوني بعمارة أسوار القدس التي استغرق العمل فيها خمسة أعوام كاملة، وجدد أبوابها كما أنشأ
تكية خاصكي سلطان، ومساجد وأسبلة، وإليه ينسب تجديد كوة قبة الصخرة بالقاشاني بدل الفسيفساء
المخربة.
وعموما فقد حظيت القدس في بدايات العهد العثماني باهتمام كبير، سواء لجهة الشادة والبناء أو لجهة
موقعها العلمي والثقافي، فمع المدارس التي أنشأها العثمانيون أو جددوها بلغ عدد المدارس في القدس
تسعا وستين مدرسة، فضل عن أربعين زاوية تشهد حلقات الدرس والعلم. واستمر المسجد القصى في
تأدية دور مدرسة علمية كبيرة ومتميزة، كما اهتم العثمانيون بإقامة التكايا والزوايا ومؤسسات
الصوفية.
انعكس التدهور الذي أصاب الدولة العثمانية بدءا من القرن الثامن عشر الميلدي الثاني عشر الهجري
على القدس، وأصاب على نحو خاص المؤسسات العلمية فيها مع تراجع واردات الوقاف المخصصة
لها وعجز الدولة عن تلبية نفقاتها.
ولكن الفترة نفسها شهدت نمو مدينة القدس وامتدادها خارج السوار، كما أقيمت في وقت لحق سكة
الحديد الواصلة بين القدس ويافا.
يتفق المؤرخون على أن العهد العثماني الذي بدا قويا،اتسم عموما بالضطراب، الذي كان على أشده
في فلسطين، إذ بعد أن انتهى الطور الول من هذا العهد، والذي شهد اهتماما نوعيا بالقدس، كانت
مقاومة الثورات التي شهدتها فلسطين ضد العثمانيين الشاغل الساسي لهم خصوصا مع ما رافقها من
تدخل الدول الوربية الكبرى في فلسطين وأراضي السلطنة عموما بدعوى حماية الطوائف المسيحية.
كما شهدت فلسطين حملة فرنسية بقيادة نابليون بونابرت، وحملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا،
التي خضعت القدس خللها للحكم المصري ما بين عامي ألف وثمانية وواحد وثلثين، وألف وثمانمائة
وأربعين للميلد.
لقد كانت القدس محور الكثير من التحركات الوروبية، التي بدأت منذ مطلع القرن الثامن عشر
الميلدي، تبحث في تقاسم التركة العثمانية وتحت جناح التدخل الوربي المتزايد، وباستغلل ضعف
السلطنة، بدأ الصهاينة بالتسلل إلى فلسطين وبيت المقدس.
يسجل كثير من المؤرخين، وبشيء من العجاب موقف السلطان عبد الحميد العثماني، الذي رفض وفي
أقصى حالت ضعف الدولة المغريات الصهيونية بالتخلي عن فلسطين، وبيت المقدس وبالذات، لكن
الحكم حقيقة لم يكن في يد السلطان، بل في يد حكومة التحاد والترقي وهو حزب وصفه سفير بريطانيا
في الستانة، في رسالة إلى حكومته بأنه: "اللجنة اليهودية للتحاد والتقدم".
وفي فترة سيطرة من عرفوا بالتحاديين كان التسلل الصهيوني إلى فلسطين قد قطع شوطا ليس بالقليل
منذ أن أعطى مرسوم عثماني موافقة لليهود على إنشاء حي في القدس.
شهد العام ألف وتسعمائة وسبعة عشر نهاية الحكم العثماني على فلسطين، واحتل البريطانيون بيت
المقدس، ولكن قبل هذا العام بسنوات كانت المؤامرة الدولية على فلسطين قد اكتملت وأعطت نهاية
الحكم العثماني إشارة بتسارع خطواتها على النحو المعروف.
العهد اليوبي
بتحرير بيت المقدس من أيدي الفرنجة، بدأت المرحلة الثانية من العهد اليوبي. عاد الزدهار إلى بيت
المقدس، وقصدها الزوار من مختلف البلد.
وغدا المسجد القصى مرة أخرى مقصد العلماء والفقهاء والمحدثين ورجال الدين من المعلمين
والمتعلمين. وتولى المسلمون حراسة الحجيج المسيحي إلى كنيسة القيامة.
بدأ العهد اليوبي قويا بوجود صلح الدين، وانتهى إلى الضعف والتمزق بعد وفاته، وصول إلى قيام
الكامل بإعادة بيت المقدس إلى الفرنجة سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين.
قام العهد اليوبي على نظام القطاع، الذي يرى في البلد إرثا يتم تقاسمه بين أفراد السرة ومن
يواليهم. فبعد فتح القدس، أعطاها صلح الدين إلى حسام الدين صاروجا. وحين أعطى مملكته لبنائه،
أقطع جنوب الشام للملك الفضل ومقره دمشق. فجعل هذا عز الدين جرويك النوري نائبه في القدس.
وهكذا كان حاكم القدس يسمى نائبا ويعينه الملك أو الحاكم اليوبي من مقربيه.
كان النائب يتولى الدارة كاملة. يجمع الضرائب وينفق ويقدم للدارة المركزية، وعليه أيضا أن يحشد
الجند، وتتمدد قوته وفقا لما يستطيع حشده منهم.
وكان لدى كل نائب ديوان للرسائل وديوان للجلوس أي الوقاف، ويشرف على أعماله ناظر من
اليوبيين يسمى "المشد".
وكان قاضي دمشق هو الذي يعين قاضي القدس، أو يقوم بهذا التعيين الخليفة في بغداد، وأول من
تولى قضاء القدس بعد تحريرها بهاء الدين بن شداد، قاضي صلح الدين.
على أن قاضي بيت المقدس، كان يسمى قاضي القضاة، مما يبرز أهمية المدينة التي يقضي فيها،
وتبعية قضاء فلسطين له.
مهما يكن من شأن ما انتهى إليه العهد اليوبي بالنسبة إلى بيت المقدس، فإن الهتمام بالمدينة كان
كبيرا جدا وبعد تحريرها مباشرة جرى العمل حثيثا على تجديد معالمها السلمية، وإضافة الكثير إليها
من المساجد والمدارس والبيمارستانات والخانقاه.
كانت البداية بتجديد سور المقدس وتقويته، ثم إقامة البيمارستان الصلحي وتزويده بالطباء والعقاقير،
ثم بناء خانقاه للمتصوفة لعبت دورا كبيرا في الحياة العسكرية في القدس لحقا.
وتم بناء الزاوية الختنية، وقبة يوسف في فناء الحرم القدسي، وتوسعة جامع الطور، وإعادة مدرسة
الشافعية التي حولها الفرنجة إلى كنيسة، ولعبت هذه المدرسة أيضا دورا لفتا في الحياة الدينية
والفكرية في القدس.
وهي التي أعطاها العثمانيون للفرنسيين فجعلوها مدرسة وكنيسة في القرن التاسع عشر، ثم استرجعها
العثمانيون وأعادوها مدرسة كما كانت، إلى أن استولى عليها النكليز ومنحوها للباء البيض.
وأقام الفضل ابن صلح الدين المدرسة الفضلية التي عرفت بالقبة في حارة المغاربة. وأعاد بناء
الجامع العمري جنوبي ساحة كنيسة القيامة.
هذا كله فضل عن عمارة المسجد القصى وترميمه وإحضار منبره من حلب وهو الذي أحرقه الصهاينة
سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين.
لقد تابع المراء اليوبيون تعمير القدس بالزوايا والربطة والمساجد، وكانوا يطلبون أن يدفنوا في بيت
المقدس تبركا بقدسية المكان. وفي هذا ما يفسر غنى مقبرة الساهرة بقبور كبار العهد اليوبي.
ومن البنية اليوبية الشهيرة المدرسة الميمونية، والزاوية الجراحية، وتجديد أبواب الحرم، والقبة
النحوية التي أنشأها الملك المعظم وخصصها للشتغال بعلوم اللغة العربية والنحو. والمدرسة البدرية،
والمدرسة المعظمية التي أنشئت سنة ستمائة وأربع عشرة، وصارت من كبريات المدارس في القدس،
وتولى مشيختها عدد من كبار العلماء. وتجديد القسام المبنية حول الصخرة.
انصب اهتمام اليوبيين بشكل أساسي على القدس والخليل. لقد صارت بيت المقدس مركزا للتصوف
والمتصوفة. وبعد تحريرها وفد إليها الكثيرون من جميع أقطار السلم للتعبد والزيارة، وانتشرت الكتب
التي تحكي عن فضائل بيت المقدس، حتى أصبحت تشغل حيزا هاما في المكتبة السلمية.
وحظي الحج المسيحي إلى بيت المقدس برعاية خاصة ويمكن القول إن القدس شهدت في العهد اليوبي
مرحلة زاهرة، لول قيام الكامل بتسليمها وتخريب حصونها قبل ذلك.
تنقل كتب التاريخ أن العزيز عثمان وعز الدين أيبك رفضا فكرة التدمير، واقترحا الصمود والقتال، ولكن
الشرف شقيق الكامل أصر على التدمير فهدم سور المدينة وأبراجها في آذار سنة ألف ومائتين وتسع
عشرة.
وكتب مؤرخو تلك الفترة عن هذه الواقعة قائلين: اضطرب الناس، وكانت القدس على أتم الحوال من
العمارة وكثرة السكان .. فوقع في البلد ضجة مثل يوم القيامة وخرج النساء والمخدرات والبنات
والشيوخ والعجائز والشبان والصبيان إلى الصخرة والقصى وقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم.
كان من شروط التسليم أل يبني الفرنجة حصونا أو أسوارا حول القدس، ولكنهم خرقوا الشرط . فشن
الملك الناصر سنة ألف ومائتين وأربعين هجوما على المدينة، وخرب التحصينات فعادت المدينة خرابا.
وبدا تخريب المدينة، وكأنه تخريب لكل منجزات اليوبيين فيها.
الفاطميون والسلجقة
حاول الروم استغلل ضعف الدولة العباسية، باحتلل الشام ومصر، هذه المحاولة الرومانية كانت الدافع
الساس في تحرك المعز الفاطمي، بإنقاذ حملة بقيادة جوهر الصقلي من قاعدته في تونس سنة ثلثمائة
وثمان وخمسين، سيطرت خللها على مصر ثم على فلسطين. في العام التالي، تعمد القائد الفاطمي
الصقلي، الشارة إلى الخطر الروماني في منشوره الذي وزعه على أهالي مصر باسم المعز، فقال أن
هدف الحملة: الدفاع عن البلد ضد الروم الذين استطالوا، وأطمعتهم أنفسهم بالقتدار عليها واستنقاذها
من "المذلة والخزي" وإقامة الحج الذي تعطل وتأمين الطرق، وحسم الظلم.
استقرت سيطرة الفاطميين في مصر، ولكنها ظلت قلقة في الشام، التي حاول الرومان احتللها وهاجمها
القرامطة مرارا.
تصدى الفاطميون لثلث حملت رومانية على القل، فيما ظلت جيوشهم تتناوب السيطرة على أجزاء من
الشام مع القرامطة، لعدة عقود نجحوا بعدها في تحقيق استقرار نسبي، فأجبروا الروم على هدنة،
وصلت معها إلى الخليفة المستنصر في القاهرة هدية قيمتها ثلثون قنطارا من الذهب، سنة أربعمائة
وسبع وثلثين، وكان من بنود هذه الهدنة، أن يقوم الروم بتعمير كنيسة القيامة، ويطلقوا خمسة آلف
أسير مسلم لديهم، وإلى فترات الستقرار تعود النشطة العمرانية التي قام بها الفاطميون في القدس،
ومنها عمارة القصى الفاطمي، التي يتردد أنها جاءت بعد زلزال دمر المسجد فقام الخليفة الظاهر
بتعميره، فيما تتحدث مصادر أخرى عن أن الزلزال هدم بعض أجزائه فقام الظاهر بأعمال ترميم واسعة
شملت التعديلت التي أدخلت على بنيان المسجد وأوجدت ما اصطلح على تسميته بالقصى الفاطمي،
الذي يتكون من سبع بلطات بماثل عرضها عرض المسجد الحالي، وفي كل منها إحدى عشرة قنطرة،
كما كان الحال في القصى العباسي باستثناء قناطر البلطة الوسطى، لكونها تحمل القبة المجددة على
قناطر واسعة تعدل ثلث قناطر في الروقة الجانبية، وأضيف إليه أيضا صفان من القناطر، تتعامد مع
البلطات السبع وتوازي جدار القبلة، وذلك على امتداد القنطريتن الكبيرتين الحاملتين للقبة.
ويذكر الهروي الذي زار بيت المقدس سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة، نص كتابة تفيد قيام الظاهر
بتجديد القبة وتذهيبها سنة أربعمائة وست وعشرين للهجرة، أي بعد عامين من وقوع الزلزال.
ولم يقدم الرحالة الخرون وصفا دقيقا للمسجد وعدد بلطاته، لكن حديثهم عن أعمدته يفيد في أن
القصى ظل كبيرا، وبذا ل يمكن الحسم بشأن الزمن الذي تقلصت فيه مساحة المسجد في العهد الفاطمي
على نحو ما تقدم.
قام الفاطميون أيضا بتجديد قبة الصخرة، وجرى الكشف عن فسيفساء فريدة استخدموها في أعمال
الزخرفة والتزيين. كما جددوا عددا من البوائك التي كانت قد أقيمت في العهد العباسي ، وفي فترات
الستقرار شهدت القدس ازدهارا كبيرا.
سنة أربعمائة وخمس وستين، حاصرها اتسز بن أوق الخوارزمي، وهو زعيم جماعة من المرتزقة
كانت تتبع السلجقة، وتسمى "الناوكية".
تلك كانت سنة قحط وشدة، من سنوات متوالية على هذا النحو، فاستسلمت القدس ودخلها اتسز
وجماعته، ليقيم فيها إمارة تدعو للسلجقة مركزها القدس، وتمتد ما بين حمص إلى سيناء ووادي
الغور، ولكنها ل تملك الساحل من طرابلس إلى أقصى عسقلن لعجزها البحري، ثم سرعان ما توسع
بالسيطرة على دمشق، وطمع في احتلل مصر لكنه تلقى هزيمة ساحقة على يد الفاطميين عند بلبيس،
وانهزم راجعا إلى الشام، ليواجه ثورة في القدس، قمعها بقتل ثلثة آلف من سكانها ولم يسلم إل من
احتموا بالمسجدين: القصى وقبة الصخرة، ثم طاف ينفذ مذابح رهيبة في غزة، ويافا وصور، لم يكن
من شأنها إل أن تعجل في نهايته ففي تلك الفترة كان قد بدأ تحرك سلجوقي كبير باتجاه الشام بقيادة
"تتش" الذي تقدم في الراضي الفلسطينية بحذر شديد، إلى أن حاصر القدس سنة أربعمائة واثنين
وسبعين، وبها أصحاب اتسز.
استمر حصار المدينة ثلث سنوات، حتى دخلها أحد أعوان تتش ويدعى ارتق بك، الذي استمر يتردد
إليها حتى وفاته سنة أربعمائة وأربع وثمانين وحكمها ابناه: سقمان وايليفازي لمدة سبع سنوات
اتسمت بالشدة والظلم اللذين هددا التسامح القائم في المدينة.
تحرك الفضل بن بدر الجمالي الفاطمي وحاصر القدس سنة أربعمائة وإحدى وتسعين، ولم يشأ أخذها
عنوة حتى ل يضطر إلى تهديمها، ولكن من فيها رفض التسليم، حتى أحدث ثلمة في المور بواسطة
المجانيق، فوافق سقمان على تسليمها مقابل المان لينتهي حكم السلجقة فيها، ومعه فترة سيطرتهم
على أجزاء من جنوب الشام دامت ثلثين سنة.
في ذلك الوقت كان الفرنجة قد بدءوا تحركهم ويبدو أن الفضل قد تحرك باتجاه القدس بعد أن أيقن أنها
وجهة الفرنجة.
العهد المملوكي
مرت عاصفة المغول دون أن تصيب بيت المقدس بشيء. وبعد دحر المغول أنهى المماليك بقايا الوجود
الفرنجي في فلسطين ومناطق الشام الخرى.
حظيت بيت المقدس بعناية خاصة في العهد المملوكي، وبعد أن كانت تتبع نيابة دمشق، تحولت إلى
نيابة مستقلة تتبع لها وليات الخليل ونابلس والرملة.
شاركت نيابة القدس مع النيابات الخرى الشامية في حروب المماليك ودفع الخطار عن الشام. رغم أن
العهد المملوكي الذي بدأ قويا في فلسطين مع هزيمة التتار في معركة عين جالوت سنة ألف ومائتين
وستين للميلد، انشغل لثلثين سنة أخرى في حروب الفرنجة، ودرء الخطار المغولية المتجددة وشهد
كسابقه اليوبي خصومات ونزاعات على السلطة. إل أن بيت المقدس ظلت لها الحظوة وشهدت نهضة
كبيرة.
كان نظام النيابات الذي أقامه المماليك أشبه بالممالك المؤسسة على القطاع العسكري، وزاد في نيابة
القدس مكانتها الدينية، ولذلك كان نائب القدس غالبا ما يتولى أيضا نظارة الحرمين الشريفين في
القدس والخليل.
قبل أن تصبح نيابة القدس مستقلة، كان نواب القدس يقيمون في قلعة المدينة الواقعة قرب باب الخليل،
وعندما استقلت النيابة نزل النواب زاوية الدركاء ثم المدرسة الجادلية بعد بنائها، وقد تحولت إلى دار
للنيابة.
استقرت في القدس حامية قوية لحفظ أمنها وللمشاركة في حروب السلطة متى استدعى المر ذلك.
تتضح مكانة القدس خلل العهد المملوكي، ليس من حجم البناء الذي قام به أمراء المماليك وحسب،
ولكن من طبيعة الوظائف الهامة فيها، والتي مزجت بين أمور الدين والدنيا.
وأهم هذه الوظائف:- النظارة، كانت وظيفة ناظر الحرمين الشريفين من أقدم الوظائف في القدس
وأهمها، وهي وجدت زمن اليوبيين، لكن قواعدها ترسخت في عهد المماليك، كان على الناظر الشراف
على حرمي القدس والخليل والعناية بهما من جميع الجوانب ل سيما ما ارتبط بترميم البنية وإصلحها،
معتمدا على الوقاف الكثيرة ومواردها المخصصة لهذا الغرض.
وفي وقت ما، كان ناظر الحرمين في القدس يشرف على الحرمين في مكة والمدينة، وعندما لم تكن
النظارة تسند إلى نائب القدس، يتولها واحد من العلماء الجلء يعين بمرسوم من السلطان.
مشيخة الصلحية: وتأتي في المرتبة الثانية بعد النظارة، والمقصود مشيخة المدرسة الصلحية وكان
شيخ المدرسة يعين بمرسوم سلطاني، ويعتبر أحد أهم ثلث شخصيات في المدينة مع النائب والناظر،
وكان شيخ الصلحية يشغل أحيانا منصب قاضي القضاة أيضا.
القضاة: وكان يتم تعيينهم من قبل قاضي القضاة في دمشق، ثم بعد أن صارت القدس نيابة
مستقلة، كانوا يعينون بمرسوم سلطاني.
الخطابة في المسجد القصى، وقبة الصخرة والمسجد البراهيمي في الخليل: كان الخطباء يعينون
في نيابة القدس بمرسوم سلطاني، ويجمع بعضهم إلى الخطابة مشيخة المدرسة الصلحية، وأحيانا
منصب قاضي القضاة.
وظائف التدريس: تمتعت القدس في العصر المملوكي بنهضة ثقافية عظيمة، وكان من مزايا ذلك
العصر التوسع المستمر في بناء المنشآت من مساجد وتكايا ومدارس. وبلغ عدد المدارس في القدس
أربعين مدرسة، وتدفق العلماء من بغداد بعد أن دمرها المغول إلى القدس ليساهموا في نهضتها
العلمية.
وكانت المدارس المقدسية أشبه بجامعات لها نظمها وقوانينها الخاصة، ولم يحظ بوظيفة التدريس إل
عالم مقتدر، لذلك كانت مكانة المدرسين عالية. وتأتي بعد ذلك وظيفة المحتسب وناظر البيمارستان،
وهي أشبه بوزارتي المالية والصحة على التوالي.
شاع جو من التسامح داخل القدس، لكن السلطات المملوكية متأثرة بفصول الحملت الفرنجية تشددت
في مراقبة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة القدس. وفرضت عليهم ضرائب.
أما أهل بيت المقدس من المسيحيين، فكانوا يبنون كنائس جديدة، ويرممون ما يحتاج منها إلى ترميم
ويحظون بدعم نائب القدس ورعايته، وتشير كتب التاريخ إلى أن الكثر حظوة كانوا من القباط
واليعاقبة العرب...
أسهم الحج المسيحي، وتوجه العرب من المسلمين والمسيحيين إلى سكنى المدينة، في سرعة ازدهارها
وعرفت من بين النيابات الثرية في السلطة المملوكية على اختلف أطوارها، كما شهدت جور بعض
النواب في جباية الضرائب المرتفعة، في العهود المملوكية المتأخرة، ما أثار غضب المقادسة على
أولئك النواب وعلى السلطة التي حاولت جرهم إلى معارك لم يكونوا ليروا مصلحة لهم فيها، مع اقتراب
الخطر العثماني على الدولة المملوكية.
حملت الفرنجة
)1(
بيت المقدس كانت الهدف المعلن لحملت الفرنجة على الشرق. وهو هدف كان يخفي وراءه الكثير بقدر
ما كانت متهافتة تلك الذرائع والدعاوى التي ساقها من أطلقوا صرخة الحرب الدينية المقدسة.
بين تلك الذرائع: اضطهاد المسيحيين في الشرق وهو حجة ل سند لها في الواقع، فقد كان معظم
مسيحي الشرق من أبناء الكنائس الشرقية التي تعتبرها البابوية هرطقة كافرة، ول يأبه لها أحد في
الغرب.
وكان المسيحيون الشرقيون يتعايشون مع المسلمين عدة قرون بحرية كاملة، ويتولون المناصب في
الدولة السلمية، ولهم كنائسهم وأعيادهم. أما فترات الشدة عليهم، وهي محدودة ول تكاد تذكر، فإنما
كانت لسبب سياسي يتعلق ببيزنطة بالذات، ثم يزول السبب مع زوال المسبب.
ولم يبعث مسيحيو الشرق أي استغاثة إلى الغرب ليرد عليهم ويحارب من أجلهم، بل ثمة ما يؤكد
بالعكس رعايتهم وعدم المساس بهم، حتى في فترات تبادل السيطرة على القدس. بل وتذكر مصادر
تاريخية أن كلمة المسيحيين كانت العليا في القدس، قبل قرن من الحملت الفرنجية. أما ما كان من
شأن ابني ارتق السلجوقي، فكانت له دوافع أساسية أدت إلى إخراج البطريك سمعان من القدس.
الذريعة الخرى المعلنة لهذه الحرب، هي اضطهاد الحجاج الذاهبين إلى زيارة القبر المقدس من الغرب.
الواقع يكشف عكس ذلك. كان العدوان الغربي قائما بالفعل في أسبانيا وفي صقلية قبل ذلك بقرن كامل
ومعاركه سجال، فيما الروم يشنون الحملت على شمال الشام، وتجري تصفية ملوك الطوائف في
الندلس. أما الحج المسيحي إلى الماكن المقدسة، فلم يكن من المسيحية في شيء، ولكنه مجرد طقس
من طقوس التقى والتبرك ازداد ظهوره حوالي نهاية القرن الثامن حين جرت محاولة تنظيمه ومعونته
برعاية شارلمان.
ثم ازداد مع قوة الساطيل اليطالية خاصة، ومع إقامة جماعة دير كلوني مجموعة من المنازل في
الطريق إلى بيت المقدس ومن الديرة فيها وحولها.
كان الحجاج من الفرنسيين واللمان والسكندفايين والنورمانديين، وقد يكرر بعضهم الحج مرات والكثير
منهم يأتي عن طريق البر. وندر أن تعرض الحجاج لي مضايقة، إل بمثل ما يتعرض له أي عابر من
المضايقات سواء أكان تاجرا أم عابرا، مسلما أم غير مسلم.
وباستثناء فترة قصيرة جدا، فإن الخبار متواترة عن الحركة السلمية الهادئة للحجاج التي وصلت حد
التجمع في قوافل كبيرة، فقافلة الساقفة اللمان سنة ألف وأربع وستين بلغت عشرة آلف من الرجال
والنساء والطفال. وكان لكبار السادة حاشية مسلحة ل يعارضها أحد. وكانت العراقيل والصعاب تقوم
في بيزنطة ضدهم أكثر بكثير مما تقوم في الشام ومنها فلسطين.
ربما زادت متاعب الحجاج بعد التوسع السلجوقي في الناضول، لكن ليس إلى الحد الذي يوجب الحرب
وعلى الشكل الذي قامت به، ففي كل الحوال لم ينقطع ورود الحجاج إلى فلسطين.
وهكذا فقد كان الحديث عن تأمين الحجيج مثل الحديث عن حماية مسيحي الشرق مجرد ذرائع. وتكمن
الدوافع الحقيقية في مكان آخر.
تواصلت هذه الحملت زمنا طويل، وربما كان لكل منها سبب خاص بها. وأن كان البعض يذكر كثيرا
من السباب الجامعة.
يقال في تفسير الحملة الولى دينيا إنها ذروة حركة الحياء الدينية التي كان يقودها دير كلوني، وأنها
حج جماعي مسلح، وأنها كانت وسيلة خلص وغفران في أوروبا، وتعبير عن السياسة الخارجية
للبابوية، أو أنها قامت لحماية أوروبا من السلم، ورفع شأن البابوية وفرض سيطرتها على الملوك،
ولتوحيد الكنيسة كلها وراء البابا. وخلق كنيسة عالمية، أو أنها جواب لستنجاد بيزنطة ضد اليقظة
السلمية السلجوقية، فسنة ألف وإحدى وسبعين للميلد ومعركة ملذكرد، هي التي جاءت بسنة ألف
وتسع وتسعين وسقوط القدس.
وأن الكنيسة هي التي حولت الستنجاد إلى حرب مقدسة، وهدفت إلى فتح الطريق إلى القدس بالقوة.
وأنها تحقيق لطماع الكنيسة الغربية في الشرق.
ربما كانت الحروب هي كل ذلك، مضافا إليها السباب القتصادية. هذه الحملت والحروب كانت بداية
ونهاية فرنجية غربية ل علقة للصليب بها.
ولعل من الدلئل على ذلك أن خمسا من الحملت الثمان، لم تتجه إلى القبر المقدس، وإنما سلكت
وجهات أخرى، وحتى الحملة الولى عندما وصلت إلى مشارف القدس عند الرملة اختلف قادتها،
فبعضهم يريد المسير إلى مصر وآخرون إلى القدس، وكان التوجه إلى القدس تحت ضغط حماسة
الجموع التي ضمتها الحملة. والتي جمعت المحرضين أمثال "بطرس الناسك" والسقف أديمار ممثل
البابوية. والنبلء أمثال : ريموند ضجيل، وكونت فلندر، والقتله أمثال: والتر المفلس وغوتشيك.
والنبلء الفرسان الصغار أمثال غودفري دي بويون، وأخيه بلدوين إلى الحلقين والتجار والباعة، فضل
عن جموع شتى من السر والطفال، وكان بين المحاربين من ترك جبهات القتال ضد المسلمين في
أسبانيا وصقلية ليحارب في الشرق. ويغرق القدس بالدماء.
القبر المقدس هو الهدف المعلن، لكن المراء يريدون الحرب لكسب الرض والقطاعيات، والكنيسة
لسيطرة البابوية عالميا، وأساطيل المدن اليطالية تريدها للوصول إلى تجارات الشرق وموانئه،
والفقراء يريدونها للثروات التي يحلمون بها.
حملت الفرنجة
)2(
ضمت الحملة الفرنجية الولى حشدا من مائتي ألف شخص نصفهم من المحاربين، وهو ليس بالعدو
ليس بالعدو القليل. وفي هذه الحملة كانت أوروبا موحدة، بينما كان الشرق السلمي ممزقا، وهذا ما
يفسر التقدم السريع للحملة، في الجزء الكثر اضطرابا وتمزقا آنذاك أي الناضول والشام.
احتل الفرنجة نيقية في التاسع عشر من حزيران سنة ألف وسبع وتسعين، وهزمت سلجقة الروم في
معارك سريعة لتعسكر بعد أشهر قليلة أمام أنطاكية، فيما اتجه بلدوين إلى الرها ليحتلها وينشأ أول
أمارة صليبية في المشرق.
حاول السلجقة التصدي، لكن سقوط انطاكية أحبط محاولتهم، فيما اختلف الفرنجة أنفسهم بسب
استئثار بوهميند النورماندي بالمدينة، وبعد تسوية الخلفات التي دامت عدة أشهر، عاودوا التحرك
جنوبا ليقضوا في الطريق إلى بيت المقدس تسعة أشهر مروا بمعرة النعمان، فقاموا بمذبحة مزلزلة
حتى اختلط الزيت المخزون في البار فيها مع الدماء والجثث وانعطقوا في ممر حمص طرابلس نحو
الساحل، فحاصروا عرقة طويل دون طائل. فما بدا الفاطميون التنبه لحقيقة الغزو، فعرضوا تسهيلت
لحجيج مقابل إيقاف مشروع الغزو، فرفض الفرنجة، فيما كان الفضل يسارع بالسيطرة على القدس
وصور ويحاول تحصينها.
مضت الحملة في طريقها إلى بني عمار في طرابلس وحاولت إقامة أمارة هناك، إل أن ابن عمار
فاوضهم وهاودهم من أجل المشروع، فتابعت الحملة مسيرها إلى بيروت فصيدا ثم صور، حين أطلوا
على فلسطين، ولكنهم اتبعوا الخط الساحلي معتمدين على دعم السطول في البحر، فتابعوا السير أمام
عكا، وحيفا التي كانت قرية صغيرة، ثم قيسارية فأرسوف، وكانوا ينهبون كل ما في طريقهم ولم يخرج
أحد للتصدي لهم.
كان النطباع السائد أنها حملة من حملت الروم سرعان ما تنقشع، وانطلقت الصرخات لحماية بيت
المقدس من حملة الروم الذين لم يكونوا يخفون طمعهم به. ولن يجري التنبه لحقيقة ما يجري تماما إل
بعد سقوط بيت المقدس.
عند أرسوف توجه الجيش الفرنجي إلى الرملة الحاضرة الدارية لقليم فلسطين قبل الغزو السلجوقي.
وكانت الزلزل دمرتها سنة أربعمائة وستين للهجرة.
لم يجد الفرنحة بها أحدا. هرب سكانها لنهم دون أي دفاع ول تصلهم المعونة من البحر، وسر الفرنجة
حين أعلنوا الرملة أبرشية يتولها أسقف لضيوفه من النورماند وسموه: أسقف ال!.
مساء الثلثاء، السابع من حزيران سنة ألف وتسع وتسعين للميلد، عسكر الجيش الفرنجي بمجموعه
أمام بيت المقدس، في حين توجه تانكريد إلى بيت لحم وسيطر عليها.
كان افتخار الدولة هو والي الفضل على القدس وقد بذل كل جهد ممكن في الدفاع المدينة المحاصرة.
استمر الحصار أربعين يوما دون أن تصله أية نجدات، في حين رست في يافا ست سفن وانكليزية
زودت الفرنجة بالمؤن والسلح وحاجات الحصار فاستطاعوا دخول المدينة في الخامس عشر من تموز
سنة ألف وتسع وتسعين، واقترفوا فيها مذبحة، صارت حديث التاريخ، إذ قدر عداد ضحاياها بسبعين
ألفا.
خاض الفرنجة بالدماء حتى كعوبهم وحتى الركب في المسجد القصى، وخاضت بها الخيل، وظلت
الجثث أكواما في الطرقات حتى جافت المدينة.
ويذكر المؤرخ الفرنسي فوشيه دي شارتر الذي كان مرافقا للحملة وأرخ لها يوما بيوم أنه "كانت القدم
تغوص حتى الكامل في دماء المسلمين" أما المؤرخ اللتيني وليم الصوري فيقول: "لم يكن بالمكان
التطلع إلى هذا العدد الهائل من القتلى دون أن تصاب بفزع شديد. فكل الرض كانت ملطخة بدماء
القتلى".
ومن المؤرخين المسلمين يذكر ابن الثير أن الفرنجة قتلوا في المسجد القصى سبعين ألفا من بينهم
عشرة آلف عالم وفقيه.
بهذه المذبحة الرهيبة، بدأ الفرنجة إقامة ما سيعرف لحقا بمملكة القدس، ففي البداية تولى غودفري
دي بويون المملكة وأطلق على نفسه لقب: حامي القبر المقدس، وبعد وفاة فودفري تولى السلطة في
القدس أخوه بفدوين الول، الذي تم تتويجه ملكا على مملكة القدس في كانون الول من عام ألف ومئة
للميلد، ليشرع في توسعتها، ولتسقط في يده مدن كثيرة، مع أن المؤرخين يجمعون على حقيقة أنه لو
حدث توحد فعلي بين أمراء المسلمين آنذاك لمكن تقويض تلك المملكة في لحظاتها الولى واستعادة
بيت المقدس، المر الذي سيتأخر كثيرا، بسبب الفرقة والتناحر.
حملة هرقل
لم تكن بيت المقدس ساحة الصراع الرئيسية بين البيزنطيين والساسانيين، ذلك أن الحروب بين
الدولتين غطت مساحات واسعة من العالم القديم. لكن مثلما كان المر في الحروب بين البطالمة،
والسلوقيين، كانت فلسطين وبيت المقدس هذه المرة أيضا معبرا للجيوش المتقاتلة، تتبادل السيطرة
عليها، كما تتناوب عمليات التدمير، وما بين الحروب بين البيزنطيين والساسانيين كانت تعقد معاهدات
واتفاقات صلح ل تلبث أن تلغى ثم تندلع الحروب مجددا بين الطرفين.
في القرن السادس الميلدي، وقعت حرب استمرت ما بين عامي خمسمائة وأربعة وعشرين وستمائة
وثلثة وثلثين للميلد، حين قام المبراطور البيزنطي حسبتنان بعقد الصلح مع الساسانيين كي ينصرف
إلى حروبه في الغرب، محققا نجاحات كبيرة، المر الذي أزعج كسرى أنوشروان، فقد توقع أن ينكفئ
جسبتنان بكل قواه ضد المبراطورية الساسانية بعد انتهاء حملته في الغرب، فأطلق حملة وصل فيها
إلى إنطاكية، ونهب شمال سورية ثم عاد أدراجه، وعقد صلحا بين الدولتين.
تجددت الحرب عام ستمائة واثنين عندما وصل فوكاس إلى سدة المبراطورية، وأراد أن ينتقم من
الساسانيين، وعندما هاجم أبرونير سورية وآسيا الصغرى، ووصل إلى قرب القسطنطينية، ما دفع هرقل
إلى التحرك من شمال أفريقيا فاحتل مصر برا، والقسطنطينية بحرا، وتولى قيادة المبراطورية
البيزنطية سنة ستمائة وعشرة ليبقى حاكما حتى سنة ستمائة وإحدى وأربعين.
بدت إمبراطورية هرقل وكأنها في طور النهيار. فعلى مدى اثني عشر عاما ما بين عامي ستمائة
وعشرة، وستمائة واثنين وعشرين، كان الفرس يقومون بهجماتهم على الروم وانتصروا في حملتهم،
فنهبوا إنطاكية ودمشق وبيت المقدس واستولى ابرويز على الصليب المقدس، لتصبح بيت المقدس
حاضرة بقوة في السجال الحربي بين الطرفين منذ ذلك التاريخ، فقد تابع ابرويز حملته فاحتل مصر، ثم
خلقدونيه مقابل القسطنطينية التي باتت نفسها مهددة.
كان هرقل بحاجة إلى المال لتنظيم جيشه وأسطوله، وصار الصليب المقدس المستولى عليه من بيت
المقدس عنوانا لحملة جمع المال هذه، فتقدم بطريك القسطنطينية بجميع الواني الذهبية الموجودة في
الكنائس لتذاب وتسك نقودا، وإذ امتلك هرقل مال وفيرا نتيجة هذه العملية، فقد بدأ عملية تنظيم واسعة
لجيشه، وبدأ بمهاجمة الساسانين حتى أنه وصل إلى المدائن، عاصمتهم، وحاصرها. وخلع ابرويز عن
سدة المبراطورية، ليقوم خلفه بعقد صلح مع هرقل، سنة ستمائة وثمان وعشرين.
كان أحد الشروط الساسية لهذا الصلح إعادة الصليب المقدس، الذي حمله هرقل بنفسه إلى بيت
المقدس في أيلول من عام ستمائة وتسعة وعشرين، وتحولت هذه العودة للصليب إلى احتفال مسيحي ل
يزال قائما الن ويعرف بعيد الصليب.
كان دخول هرقل إلى القدس مع الصليب المقدس، خاتمة الحروب التي سبقت الفتح العربي السلمي
لبيت المقدس، والذي لن يتأخرا كثيرا بعد الن.
وتذكر كتب التاريخ أن رسالة الرسول الكريم محمد صلى ال عليه وآله وسلم، إلى هرقل قد وصلت إلى
هذا الخير وهو في القدس، وفيها يدعوه للسلم.
كما هو معروف لم يقبل هرقل الدعوة، وسوف تقوض إمبراطورية بعد وقت قصير على يد الفاتحين
العرب المسلمين.
وهنا يذكر المؤرخون أيضا أن الحروب المستمرة بين المبراطوريتين البيزنطية، والفارسية قد أنهكت
قواهما، فلم تستطيعا الوقوف أمام العرب الذين قضوا على الدولة الساسانية ثم انتزعوا بلد الشام
ومصر من البيزنطيين بعد المعركة الفاصلة في اليرموك سنة ستمائة وست وثلثين، والتي لقي فيها
هرقل هزيمة قاسية. بالطبع فإن منطق الشياء يقود إلى هذا الستنتاج، إذا وضعنا أن الفاتحين العرب
المسلمين، كانوا حملة رسالة، وقوة صاعدة حيوية ،لكن هناك سببا أخر أيضا.
ربما كانت عودة هرقل للصليب المقدس إلى بيت المقدس مسألة ذات بعد هام بالنسبة لمسيحيي المدينة
والعالم، ولكن عدا عن كثافتها الرمزية، فإن الوضاع العامة في فلسطين وبيت المقدس آنذاك كانت
صعبة وعسيرة على أهليهما.
مع ضعفها وافتقادها إلى الموارد اعتمدت الدولة البيزنطية على الزعامات المحلية الموالية في المدن،
حيث كان التقسيم الداري يقوم على أساس مدينة لها حيازات من الراضي، وفي المدن تولى
ستراتغوس الدارة مع مجلس، وكان عليه تنظيم كل الشؤون المحلية والدفاعية، ما يعني تحويل
ميليشيات محلية، مع ما يعنيه ذلك من نفقات وفوضى في الن عنيه.
ومنذ أيام جسيتنيان أهملت صيانة خط الحدود، ولم يعد هناك دور ملحوظ للدولة المركزية، ومعلوم أن
الغساسنة من حلفاء البيزنطيين عهد إليهم الحفاظ على المنطقة بعد استقرارهم فيها في القرنين الرابع
والخامس الميلديين.
لكنه منذ ثلثينات القرن السابع كانت القسام الشرقية من بلد الشام كلها خاضعة لنفوذ زعماء محليين
كان نفوذهم في الغالب يمتد إلى مناطق صغيرة، وحتى المدن التي احتفظت ببقية من مجالس وموظفين
كانت في الواقع تدار على هذا الساس، أن لدى الغساسنة، وأجزاء من سورية ومصر، كان فيه نفخة
من الوطنية والمقاومة للدولة البيزنطية التي اعتبرها أهل البلد، كما اعتبروا الدولة الرومانية قبلها
الملوك الهلينسيتن قبل ذلك، دولة غريبة متسلطة فكانت الروح الوطنية تبدو في هذا الخلف الكبير مع
السلطة، حول قضايا دينية.
حملة إبراهيم باشا
شعر محمد علي باشا والي مصر، أن الظروف صارت مواتية كي يضم الشام إلى حكمه فأوروبا منشغلة
والسلطان ضعيف. ومصر قوية وبحاجة إلى أخشاب الشام وثرواتها.
كان محمد على يشعر بأنه أسدى خدمات إلى السلطنة في نجد والسودان واليونان، يستحق عليها
المكافأة، ليس أقل من ضم الشام إلى حكمه وحين تحركت قواته بقيادة ابنه إبراهيم إلى الشام كان
متوقعا بأن يفوز بعكا على القل، ولكن ضعف الجيش العثماني أغراه بإقامة مملكة واسعة للناطقين
بالعربية تعادل ما تبقى من مساحة السلطنة. ووجد تأييدا فرنسيا لتحركه لحقا.
كان في الشام تمرد وغضب على السلطان محمود الثاني، فتقدمت قوات إبراهيم باشا بسرعة سنة ألف
وثمانمائة وإحدى وثلثين، فاحتل عددا من مدن الساحل الفلسطيني، وحاصر عكا برا وبحرا واتخذ حيفا
قاعدة لعملياته، ثم احتل المدن الداخلية ومن بينها بيت المقدس، التي أعلن فيها عن رفع العوائد
والضرائب المفروضة على غير المسلمين.
تابع إبراهيم باشا حملته التي حسبها السلطان واحدة من تلك الحروب التي تدور عادة بين الولة، وكان
معتمدا على صمود عكا.
ولكن سقوط المدينة بعد أشهر من الحصار، وهزيمة جيوش السلطان في معركتين كبيرتين، أدى إلى
موافقة السلطان على صلح كوتاهية سنة ألف وثمانمائة وثمان وثلثين، الذي أعطى لمحمد علي ولية
الشام كله مع أضنه مدى الحياة إضافة إلى ما كان بيده من نجد والحجاز ومصر والسودان وكريت.
نشأ الصلح عن تدخل دولي، سوف يتزايد باطراد ثم اندلعت الثورات في الشام ضد حكم إبراهيم باشا
الذي كان حاول إرضاء الزعامات المحلية، ولكن الثورات اندلعت بسبب محاولة جمع السلح من السكان
وفرض التجنيد الجباري عليهم. سنة ألف وثمانمائة وأربع وثلثين، حيث طلب ثلثة آلف مجند من كل
من أقضية القدس ونابلس والخليل وذلك أثناء اجتماع له في بيت المقدس مع زعماء المدينة والخليل
ونابلس.
ما كاد الجتماع ينفض حتى اندلعت ثورة في الخليل والكرك ونابلس، وحاصر الثوار القدس التي أعلن
زعماؤها الثورة في نيسان من العام نفسه، وتمكنوا من السيطرة على المدينة، ومحاصرة حاميتها في
القلعة.
جمع إبراهيم باشا نجدات كثيرة وهاجم القدس، ليدخلها بعد ثلثة اصطدامات عنيفة في حزيران، وليصد
ثلث هجمات قام بها الثوار النابلسيون عند لفتا، ودير مار الياس وسلوان.
حاول إبراهيم باشا مراضاة الثوار، فألغى الضرائب الفردية، وأوقف التجنيد، فهدأت الحوال قليل في
حين وصلت نجدات قوية من مصر، قاد بعضها محمد على بنفسه.
واعتقل عددا من زعماء القدس ونفاهم إلى مصر فارضا عليهم القامة الجبرية.
وبعد أن أنهى ثورة يافا، وثورة نابلس عاد إبراهيم باشا إلى القدس في تموز، ليدخلها في ثلثين ألف
جندي، منعوا أهلها من أي تحرك. واستطاع أن يفرض التجنيد الجباري.
حفرت هذه الحداث شرخا عميقا بين أهل فلسطين والشام من جهة، وحكم إبراهيم باشا من جهة
أخرى، حتى إذا ما ازداد الضغط الدولي لم يجد منهم نصيرا.
نشأت عن تمدد محمد علي في فلسطين والشام أزمة دولية أتاحت للدول الوروبية زيادة تدخلها في
شؤون السلطنة العثمانية والمنطقة.
عدلت فرنسا عن التأييد المطلق لمحمد علي وافتتحت بريطانية أول قنصلية أجنبية في القدس سنة ألف
وثمانمئة وثمان وثلثين وتولى القنصل البريطاني رعاية المصالح البريطانية والمريكية واليهودية.
عمل القنصل يونغ مع ضباط التجسس البريطانيين ضد مشروع محمد علي، وكذلك على زيادة التسلل
اليهودي الصهيوني إلى فلسطين في آن معا، حيث بدأت تحركات الضابط البريطاني "جولر" مع المتمول
اليهودي مونتفيوري، ليجاد قاعدة استيطانية للصهاينة في القدس.
وكان وكيل طائفة من "السكناج" قد طلب من مجلس المشورة المحلي في القدس، الموافقة على شراء
الملك والراضي، فرفض المجلس ذلك وصدق محمد علي على الرفض.
سوف تؤدي هذه التحركات لحقا إلى بدء نوبات الستيطان الصهيوني في بيت المقدس.
ازداد التدخل الوروبي لتقويض مشروع محمد علي، وظهر في الدب السياسي مصطلح "المسألة
السورية" التي أرادت الدول الوروبية حلها بما يخدم مصالحها. بإبعاد محمد على القوي، والتعامل مع
السلطان الضعيف.
وجه الوروبيون سنة ألف وثمانمائة وأربعين إنذارا إلى محمد علي كي يقبل صفقة تعيده إلى مصر
وتجعل وجوده في الشام مؤقتا. فرفض النذار. لكن الثورات اندلعت ضده في الشام، فيما احتلت
الساطيل العثمانية والنكليزية والنمسوية مدنا عديدة على الساحل، واحتلت وحدة إنكليزية القدس.
فأصبحت مقاومة المصريين دون جدوى ليبدءوا انسحابا تحت وطأة الضطرابات التي كلفتهم ضحايا
كثيرة، وأسدلت الستار على مشروع كبير.
الحملة الفرنسية
تذكر بعض المصادر التاريخية أن نابليون بونابرت زار بيت المقدس سنة ألف وسبعمائة وثمان وتسعين
أي قبل وقت قصير من مغامرته الفاشلة في فلسطين، والتي هدف من خللها إلى تامين حملته في مصر،
وذلك بمبادرة ذاتية منه، إذ يؤكد مؤرخو الحملة الفرنسية أن فلسطين لم تكن من بين أهدافها، وأن
وجود الفرنسيين في مصر كان كفيل بتحقيق أحد أهم أهداف الحملة، وهو مواجهة النفوذ البريطاني
المتزايد، والتشويش على طرق التجارة البريطانية.
نشأت فكرة مهاجمة فلسطين كنوع من الحل لمصير الحملة الفرنسية البائسة، فقد اقترحت الحكومة
الفرنسية ثلثة حلول على نابليون، إما البقاء في مصر والدفاع عنها في مواجهة التحالف العثماني،
النكليزي، الذي انضمت إليه روسيا، وإما التوجه لمهاجمة الهند، وإما الزحف إلى القسطنطينية. وهي
حلول لم تكن تلئم القوة الفرنسية الضعيفة والتي ل تستطيع تحقيق أي من هذه الهداف وأيسرها البقاء
في مصر.
وصلت هذه الحلول إلى بونابرت أثناء حصاره عكا، ما يعني أنه بادر ذاتيا بالهجوم، في شباط من عام
ألف وسبعمائة وتسعة وتسعين بواسطة ثلثة عشر ألف جندي، فاحتل العريش، ثم خانيونس فغزة.
وتوجه لحتلل اللد والرملة.
في بيت المقدس، بدأت الستعدادات لمواجهة الفرنسيين. إذ أن سقوط الرملة يعتبر عادة إيذانا بالهجوم
على القدس. ولكن نابليون، وبدل التوجه إلى بيت المقدس والتورط في الجبال المحيطة بها، اختار
الهجوم على يافا، لتبدأ نهاية حملته عمليا.
صحيح أن الحملة الفرنسية تحطمت أمام أسوار عكا. لكن نهايتها ارتسمت بمجزرة يافا.
في آذار من العام نفسه احتل نابليون يافا بعد قتال استمر ثلثة أيام، وبعد القتل والنهب والهتك، وجد
جنوده ثلثة آلف أسير في أبراج المدينة، فأمر بقتل ألفين وخمسمائة منهم في مجزرة وحشية، سوف
تنقلب آثارها عليه، فتفسخ جثث السرى مع جثث ألفين استشهدوا أثناء الدفاع عن المدينة، أدى إلى
انتشار الطاعون الذي أصاب الفرنسيين، وشكل عامل إضافيا لهزيمتهم إلى جانب صمود عكا.
بعد مجزرة يافا، تزايدت الستعدادات في القدس لتنظيم الدفاع عنها. ولكن بدل أن يرسل نابليون جنوده
إلى المدينة، أرسل كتابا طويل، يشبه الكتب التي وجهها إلى المدن الخرى. وفيها كثير من التملق، وكثير
من التهديد أيضا. فقد اختتم كتابه إلى أهل القدس مطالبا بتسليم المدينة. وتلقى ردا دبلوماسيا ذكيا. كان
المقادسة على ما يبدو واثقين من صلبة عكا، كما أنهم أرادوا كسب مزيد من الوقت، فكتبوا إلى نابليون،
أنهم ل يرغبون في الحرب لن بلدهم مقدسة، وبها أماكن مقدسة إسلمية ومسيحية ول يريدون للحرب
أن تدمر هذه الماكن.
وغير ذلك فهم تابعون لولية عكا. ومن يستطيع السيطرة عليها، يكون بإمكانه إصدار الوامر إلى
القدس.
راهن نابليون على سقوط بيت المقدس بعد سقوط عكا، ولذلك وجه قواته إلى حيفا فاحتلها ثم احتل
الناصرة، وبدأ يضرب الحصار على عكا برا لن السطول النكليزي المتحالف مع العثمانيين منع حصارها
البحري، وأبدى واليها عبد ال الجزار صلبة في الدفاع عنها مع جنود الحامية وأهل عكا، ما أدى إلى
فشل نابليون في احتللها وبالتالي فشل حملته كليا إذ اضطر إلى مغادرة فلسطين، وترك لحد نوابه:
كليبر، تدبر أمر انسحاب الجنود إلى مصر.
ل يكتمل الحديث عن الحملة الفرنسية على فلسطين دون الشارة إلى علقة نابليون بالصهاينة وسبله إلى
إيجاد موطن قدم لهم في فلسطين إبان حملته تلك.
فقبل تحرك الحملة من فرنسا إلى مصر، تلقى بول باراباس ، عضو حكومة الدارة في باريس من صديقه
توماس كوريت، الرأسمالي اليهودي اليرلندي، رسالة ينصحه فيها بالستفادة من اليهود الذين وصفهم
بأنهم: يقدمون لكم عنصرا يمكن العتماد عليه في الشرق.
وضع القتراح أمام نابليون الذي التقى شخصيات يهودية، ما لبثت أن أصدرت بعد اللقاء بيانا تدعو فيه
إلى إقامة مجلس ينتخبه اليهود في خمسة عشر بلدا، ليقرر ما يجب عمله. وإبلغ ذلك إلى الحكومة
الفرنسية. كما دعت إلى إقامة وطن يهودي بالتفاق في فرنسا، في إقليم الوجه البحري من مصر، مع
حفظ منطقة واسعة المدى ليمتد خطها من مدينة عكا إلى البحر الميت ومنه إلى البحر الحمر.
وفي نيسان من عام ألف وسبعمائة وتسعة وتسعين وأثناء حصار عكا، نشرت الجريدة الرسمية الفرنسية
بيانا من نابليون يدعو فيه اليهود إلى مؤازرة فرنسا، وانتهاز فرصة وجوده في فلسطين لتحقيق آمالهم
في التوضع ما بين عكا والسكندرية.
كان نابليون يريد دعم الرأسمالية اليهودية، وعندما فشلت حملته، كانت بريطانيا التقطت المسألة وبدأت
العمل من أجلها.
الحرب العالمية الولى
عينت الحكومة البريطانية سنة ألف وثمانمائة وثمان وثلثين أول قنصل لها في بيت المقدس، وهو
اللورد آشلي الذي كشف في يومياته عن مشاعر متعاطفة تجاه حلم لليهود باستعمار فلسطين تحت
حماية إنكليزية عليا.
عمل آشلي في القدس ممثل لليهود، وللدوائر الصهيونية في بريطانيا.. ومنذ ذلك الوقت، كانت الحكومة
البريطانية تعمل كل ما من شأنه إقامة محمية بريطانية لليهود في فلسطين، ولذلك ما إن اندلعت الحرب
العالمية الولى حتى سارعت إلى ترتيب الخطط الملئمة لدخول الجيوش البريطانية إلى فلسطين وبيت
المقدس، تحت شعار مساعدة العرب في التخلص من الحتلل التركي، بيد أن هدفها الحقيقي كان إنفاذ
وعد بلفور.
وقد كشفت وثائق الحكومة البريطانية عن أن هربرت صموئيل عضو الحكومة الليبرالية، اقترح أثناء
مناقشة مستقبل فلسطين سنة ألف وتسعمائة وخمس عشرة، إقامة محمية بريطانية على فلسطين يمكن
لليهود من جميع أنحاء العالم الستقرار فيها، وصموئيل هذا هو الذي عين أول مندوب سام بريطاني
في فلسطين، كما أن خبيرا بريطانيا كتب إلى حكومته سنة ألف وتسعمائة وسبع عشرة أن تخليص
القدس من التراك سيحظى بتأييد كل مسيحي ويهودي وعربي، وسيكون له أثر أخلقي وسياسي
عالمي.
إذا، فالهدف البريطاني، كان المسارعة إلى احتلل فلسطين وبيت المقدس، لقامة الوطن القومي
اليهودي فيها.
وفي ظروف الخديعة البريطانية للعرب، وضعف الدولة العثمانية، لم يجر الدفاع عن القدس كما ينبغي،
رغم أن التراك بدءوا الحرب من القدس بحماسة كبيرة.
ففي نهاية عام ألف وتسعمائة و أربعة عشر، وصلت الراية النبوية إلى القدس، وتم استقبالها في حفل
كبير في الساحة المحيطة بقبة الصخرة، وتم وضعها في المسجد القصى لخراجها في اليوم الذي
تنطلق فيه حملة جمال باشا على مصر.
انتهت الحملة المذكورة إلى الفشل، وتأخر التراك كثيرا في إقامة الدفاعات اللزمة حول القدس، ففي
تشرين ثان من عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، وقبل فرض الحصار على القدس بثلثة أيام أصدر
مقر القيادة العامة للجيوش العثمانية أوامره بإعداد الدفاعات عن القدس، ولذلك لم تكن جاهزة عند
مهاجمتها من القوات البريطانية، وكانت أكثر خطوط خنادق النار محفورة في أرض كلسية طباشيرية،
يكشف بها التراب المستخرج حديثا ببياض لونه خط التحصينات. ولم يكن يكفي لغراض الدفاع الطويل
من أرزاق وعتاد ومدخرات، ولم تجهز الخنادق بمدافع الحصار الثقيلة، ولم تتخذ أي إجراءات فيما
يتعلق بموضوع السكان المدنيين وإخلئهم أو تدبر معيشة حياة الباقين في المدينة في ظروف المعركة
الدفاعية.
ومن المور اللفتة، أن الوحدات اللمانية المتحالفة مع العثمانيين وأعضاء الديوان العرفي ودائرة
الرديف والمستشفيات غادروا جميعا القدس قبل إصدار الوامر بإعداد الدفاعات عنها بخمسة أيام.
وفي العشرين من تشرين الثاني، أعلن المتصرف العثماني في القدس، أن الطريق بين نابلس والقدس
قد أقفلت لن الجيش البريطاني وصل إلى قرية النبي صموئيل.
وكان المستشار اللماني " فوق فالنكهاين" قد نظم لقائد الفيلق العشرين العثماني على فؤاد باشا خط
مواصلت آمن يمتد شرقا نحو أريحا والردن وسكة حديد الحجاز.
كان علي فؤاد باشا، من أفضل قادة الفيالق التركية، لكنه لم يكن مؤمنا بإمكانية الدفاع عن القدس،
ويرى أن فيلقه منهك، وبالفعل لم يصمد أكثر من أربع وعشرين ساعة أمام الجيوش البريطانية.
وعشية دخول هذه الجيوش إلى القدس استدعى متصرفها العثماني عزت بك، المفتي كامل الحسيني،
ورئيس البلدية حسين سليم إلى داره، وخاطبهما قائل: قد أحاطت الجنود النكليزية بالقدس، ولبد أن
تسقط في أيديهم وأنا سأترك المدينة بعد نصف ساعة.. سألقي هذا الحمل الدبي العظيم بين أيديكم..
أي تسليم المدينة.
وفي التاسع من كانون الول عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، دخل البريطانيون إلى القدس بقيادة
الجنرال اللنبي، ووقف أحد ضباطهم ليقول: ان المير الهاشمي فيصل ابن الشريف حسين سوف يرسل
نائبا عنه لستلم القدس من القوات البريطانية.
وكانت هذه كذبة بريطانية أخرى من حبل الكاذيب الطويل، فالواقع أن بريطانيا كانت تتحضر لتسليم
فلسطين إلى الصهاينة.
ومن بيت المقدس، انطلقت الجيوش البريطانية مطلع عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر لتستكمل احتلل
الجزاء الشمالية من فلسطين.
التدخل الروسي وحرب القرم
مثلما تذرعت فرنسا بحماية اللتين، وجدت روسيا في حماية الرثوذكسية غطاء لمطامعها في السيطرة
على مضيقي الدردنيل والبوسفور وتقاسم الدولة العثمانية.
في عهد بطرس الكبر، اعتبرت روسيا نفسها الوريثة الشرعية للكنيسة الرثوذكسية الكبرى في
القسطنطينية، وأخذت تمد نفوذها إلى القدس والراضي المقدسة، وأكثرت من العطايا للبطركية
الرثوذكسية للروم في القدس، وشجعت بطاركة اليونان الرثوذكس على النفصال عن كنيسة
القسطنطينية وتأسيس بطركية مستقلة.
ومع نجاح فرنسا في فرض حمايتها للتين، تقدم القيصر ألكسندر الول بمذكرة إلى الباب العالي، يطلب
فيها إقرار حقوق روسيا في حماية الرثوذكس ومصالحهم في الدولة العثمانية.
توجست فرنسا وبريطانيا ريبة من الطلب الروسي فحرضتا السلطان على رفضه، فظهرت مشكلة
الماكن المقدسة إلى العلن بوصفها مشكلة ل تحل في الستانة وبفرمانات الباب العالي، بل بوصفها
مشكلة دولية، وجزءا مما سيعرف بالمسألة الشرقية.
انشغلت أوروبا الكاثوليكية بقيام الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، والثورات والحروب القومية،
والخلف مع الفاتيكان حول سياسة فصل الدين عن الدولة، فاستغلت روسيا هذه الوضاع، وأصبحت
صاحبة اليد الطولى في شؤون الدولة العثمانية، وسيطر الروم الرثوذكس على الماكن المقدسة
مدعمين بقرار من الباب العالي سنة ألف وسبعمائة وسبع وخمسين، ومع أن فرنسا واصلت حمايتها
لللتين، وبقيت لهم حقوقهم في كنيسة القيامة إل أن السيطرة الفعلية كانت للروم الرثوذكس، رافضين
التخلي عنها بتحريض روسيا القيصرية، التي أصبحت وفي أعقاب صلح كينارجي، الذي آذن بتفكيك
الدولة العثمانية وتصفية ممتلكاتها في أوروبا، أصبحت تعتبر نفسها حامية لمصالح الكنيسة
الرثوذكسية وحقوقها في الماكن المقدسة.
بذل القيصر نيقول الول كل جهده لمنع أي تدخل غير روسي في شؤون الدولة العثمانية، ورفض
المؤتمرات الوروبية الخاصة بالنظر في مسائل خاصة بالمسألة الشرقية.. ومع ذلك دعم تحركات
محلية ضد السلطنة ما أدى إلى اندلع حرب القرم أواسط القرن التاسع عشر.
كان السبب الظاهر للحرب، هو النزاع بين رهبان من الروم ورهبان من اللتين حول حمل مفاتيح
كنيسة بيت لحم، وحقهم في نجم فضي وضع حيث ولد السيد المسيح.
عملت روسيا على تأجيج هذا النزاع البسيط، بسبب رغبتها في شن الحرب ضد تركيا، وحاول القيصر
نيقول الول استمالة بريطانيا إلى جانبه، على أن تتقاسم الدولتان التركة العثمانية، لكن بريطانيا رفضت
الوضع الروسي.
اشتبك رهبان الطائفتين في كنيستي القيامة وبيت لحم. طلبت فرنسا تثبيت حقوق اللتين فلبت السلطنة،
واحتجت روسيا التي عرضت على الباب العالي بنود معاهدة تتيح لروسيا أن تكون حامية للرعايا
الرثوذكس وضامنة لحقوقهم، وأن يوقع السلطان مستندا يجعل من روسيا صاحبة اليد الطولى في
الدولة العثمانية.
رفض السلطان فاندلعت حرب القرم التي شنتها روسيا، وانتهت بهزيمتها بعد أن حظيت تركيا بدعم
إنجلترا وفرنسا وسردينيا.
أصدر السلطان خط هاميون سنة ألف وثمانمائة وست وخمسين، مع انتهاء الحرب، يضمن حقوق
الطوائف المسيحية داخل الدولة العثمانية، والمساواة التامة بين الديان والجنسيات المختلفة.
لكن الدول التي دعمت تركيا في حربها ضد روسيا ووقعت معهما على صلح باريس، أوضحت أهدافها
الحقيقية.
فهمت الدولة العثمانية بداية أن المور قد استتبت، ووقعت سنة ألف وثمانمائة واثنتين وستين معاهدة
مشتركة مع فرنسا وروسيا للحفاظ على قبر المسيح المقدس، ومنع اليهود من القتراب منه.
لكن الدول الوروبية كانت في الواقع تفكر في أمر آخر، إذ اكتملت لديها فكرة تقاسم الدولة العثمانية،
حيث وقع المشاركون في مؤتمر برلين سنة ألف وثمانمائة وثمان وسبعين على معاهدة أشارت وللمرة
الولى إلى "الوضع الراهن في الماكن المقدسة" ولم تقصر المعاهدة حق الحماية في الماكن المقدسة
على دولة بعينها، وإنما أعطت لكل دولة من الدول الموقعة الحق في أن تجد لنفسها صالحا في ممارسة
هذا الحق في الماكن المقدسة أن تمارسه.
و تضمنت المعاهدة نصا يقول: يعترف للممثلين الدبلوماسيين والقنصليين لدى الدولة العثمانية بحق
الحماية الرسمي للشخاص المنوه عنهم وهم الحجاج والرهبان ورجال الدين، ولمؤسساتهم الدينية في
الماكن المقدسة بمدينة القدس وغيرها من المواضع".
بعد مؤتمر برلين ظهر النزاع بصورته الحقيقية كنزاع علماني لديني في جوهره، سياسي استعماري
في مبناه وحقيقته.
المستوطنات اللمانية
أثارت حملة نابليون الفاشلة، شهية المستعمرين الوروبيين لستيطان فلسطين بدعاوى دينية، ففي عام
ألف وثمانمائة وواحد وأربعين، اقترح ضابط ألماني عمل مع القوات العثمانية، ويدعى هلموت فون
مولتكه، إنشاء ما سماه: مملكة القدس، لتجعل من فلسطين مركزا متقدما للحضارة الوروبية، وأنموذجا
للتطور القتصادي في الشرق، ودولة واقية بين مصر وسورية في حال قيام مملكة وراثية في مصر
تحول دون أي اعتداء على الدولة العثمانية.
وقال مولكه: إن قيام هذه المملكة سيكون بعثا للتقاليد والقيم الصليبية، ونصرا معنويا عظيما تحققه
المسيحية في العالم، على أن يكون على رأس المملكة أمير ألماني.
تحمس ملك بروسيا للمشروع وعرضه على ملوك أوروبا فلم يقبلوا به لكن الفكرة وجدت طريقا إلى
الحياة، من خلل " جمعية الهيكل " اللمانية والتي تعود في أصولها إلى حركة التقياء التي ظهرت في
ألمانيا في القرن السابع عشر كحركة إصلحية في الكنيسة النجيلية، لتتخذ عند اندلع حرب القرم سنة
ألف وثمانمائة وثلث وخمسين اتجاها جديدا. إذ ساد شعور في أوروبا أن نهاية الدولة العثمانية صارت
وشيكة. فدعا زعيم الحركة كريستوف هوفمان إلى سلخ فلسطين عن الدولة العثمانية وجعلها موطنا لما
سماه: شعب ال.
ورغم التأثيرات التوراتية الواضحة في دعوته، والمسوغات التي ساقها لها، فإنه لم يقصد بتلك التسمية
اليهود، بل ما سماه: الشعب المسيحي النجيلي.
في آب من عام ألف وثمانمائة وأربعة وخمسين عقد أتباع هوفمان اجتماعا للجنة سموها: لجنة أصدقاء
القدس، وذلك للبحث في تنفيذ مشروعه، وسعوا إلى أن يتبنى البوندستاغ اللماني المشروع وأطلقوا
جمعية سمت نفسها: جمعية تجميع شعب ال في القدس. لبناء مملكة الرب.
حصلت الجمعية على تبرعات مالية، وشهدت خلفات أدت إلى انشقاق الجزء الفاعل منها باسم "جمعية
الهيكل " أو "الهيكل الروحي". وأخذت تضغط من أجل الحصول على أرض في القدس، بموافقة السلطات
العثمانية، التي كانت أصدرت سنة ألف وثمانمائة وسبع وستين قرارا يتيح للجانب التملك في فلسطين،
إذا حصلوا على الجنسية العثمانية.
ووافقت في العام التالي على طلب أعضاء الجمعية بتملك الرض بعد تحديد مساحتها وموقعها.
طلب هوفمان وأعضاء جمعيته شراء ثلثة أميال مربعة عند جبل الكرمل في حيفا، دون الحصول على
الجنسية العثمانية، وعندما رفضت السلطات طلبهم حصلوا على الرض عن طريق التحايل، وتدخل
القنصل البروسي لصالحهم، ليبدأ الستيطان اللماني على ارض فلسطين ولهداف دينية حسب ما قالت
الجمعية.
بنى اللمان مستعمرة في حيفا، وأخرى في يافا، وسنة ألف وثمانمائة واثنتين وسبعين استطاعوا
الحصول على قطعة أرض شمال غربي محطة سكة حديد القدس خارج حدود البلدية، بنوا عليها
مستعمرة توسعت خلل ست سنوات لتصبح المقر العام لدارة جمعية الهيكل بمساحة خمسة وعشرين
هكتارا. وجرى إنشاء مستعمرات أخرى في أنحاء متفرقة من فلسطين. ابتداء من عام ألف وتسعمائة
وخمسة وسبعين كانت الهداف الدينية الخاصة بتجميع شعب ال وبناء مملكة الرب قد تلشت، وصار
هم المستعمرين اللمان تحسين وضع استيطانهم خاصة وقد دبت الخلفات الدينية بين زعمائهم، وبدأ
التباع يعودون إلى الكنيسة النجيلية بتأثيرات قساوسة الكنيسة في القدس.
وقد شهد العام نفسه، قيام السطول اللماني باستعراض قوته أمام الساحل الفلسطيني، لحماية
المستوطنين اللمان في فلسطين، خشية رد فعل على المذابح التي تعرض لها المسلمون في البوسنة،
ذلك العام.
لم تلعب المستعمرات اللمانية دورا بارزا في العلقات العثمانية اللمانية التي قويت كثيرا في العقدين
الخيرين من القرن التاسع عشر، وكانت الحكومة اللمانية ترى في هذه المستوطنات عبئا عليها.
رغم ما مثلته زيارة غليوم الثاني إلى بيت المقدس من دفع حماسي للمستوطنين اللمان، ولجمعيات
الستيطان اللماني في فلسطين.
اتسمت علقة المستعمرات اللمانية مع عرب فلسطين بالريبة والشك والحذر. فقد نظر العرب
الفلسطينيون إليهم كمستعمرين، في حين تصرف هؤلء بفوقية واستعلء على أنهم "شعب ال" وعندما
سعى شاب عربي مسيحي من فلسطين، للزواج بفتاة ألمانية من المستعمرات، جرى رفض هذا المر
بإصرار، ووصف العرب بأنهم "رعاع" ل يليق بألمانية أن تتزوج أحدهم.
اتخذت جمعية الهيكل موقفا عدائيا من اليهود قبل استيطان أفرادها أرض فلسطين. ولكن الهيكليين
تعاونوا لحقا مع نوبات الستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين، وعندما بدأ المستوطنون الصهاينة
يهددون مصالح المستعمرات اللمانية، عاد المستعمرون اللمان إلى الموقف القديم. وقال هوفمان
مؤسس جمعية الهيكل: أن الرض المقدسة ينبغي أن تكون ملكا لشعب ال. واليهود لم يعودوا شعبا
مقدسا. الهيكليون وحدهم من أوجد الشعب المقدس الجديد.
كان الطرفان يستخدمان خطابا متشابها، لذلك استحكم العداء بينهما، وعندما وجهت الحكومة اللمانية
المستوطنين اللمان إلى التعاون مع المستوطنين اليهود، أيد اللمان موقف حكومتهم، وشهدت العلقة
بين الطرفين تحسنا مؤقتا، إذ بدأت تلك المستعمرات اللمانية بالتلشي منذ عام ألف وتسعمائة وثمانية
عشر.
بدايات الستيطان اليهودي/المونتفيوري
بدأت التعبيرات العملية لمؤامرة الستيطان الصهيوني في فلسطين بالظهور أثناء فترة الحكم المصري
للبلد، إذ شرعت بريطانيا في ربط مصالحها مع اليهود، وفي العمل على بدء الستيطان الصهيوني،
وإضافة إلى افتتاحها قنصلية في القدس، ترعى المصالح البريطانية والمريكية واليهودية، أرسلت
بريطانيا عددا من عملئها من كبار ضباط التجسس لقامة الركائز للمشروع الستعماري.
وكان من أهم هؤلء العملء فيما يتعلق بفلسطين الكولونيل جولر الذي تخصص بالعمل مع رؤساء
الجماعة اليهودية في بريطانيا، وفي بلد الشام، لكسب تأييدها لمشروع هجرة اليهود إلى فلسطين .
تعاون جولر مع يهودي بريطاني من الثرياء البارزين في تلك الفترة كان يحمل الفكرة نفسه، وهو موشيه
مونتفيوري، رئيس المجلس اليهودي البريطاني الذي زار فلسطين سبع مرات منذ عام خمسة وثلثين
دارسا أوضاعها وثرواتها وافتتح أول مدرسة لليهود فيها.
قام مونتفيوري وبتشجيع بريطاني، بحث اليهود في القدس على طلب السماح بشراء الراضي الزراعية،
فتقدم وكيل طائفة السكناج في تلك الفترة إلى مجلس الشؤون المحلي في القدس، طالبا الترخيص بشراء
الراضي ولكن الطلب رفض، وثبت محمد علي الرفض، لم يثن هذا الرفض مونتغيوري عن متابعة مساعيه
لدى إبراهيم باشا، فعرض عليه استئجار مائة أو مائتي قرية في فلسطين لمدة خمسين سنة، مقابل مبالغ
مغرية، لكن إبراهيم ومحمد علي باشا رفضا المشروع والعرض.
وسرعان ما اتضح أن ما يقوم به مونتغيوري ليس مشروعا يهوديا فقط بل هو مشروع بريطاني أيضا إذ
قدمت مذكرة به إلى مؤتمر لندن سنة ألف وثمانمائة وأربعين ،كما كتب به المرتسمون وزير الخارجية
البريطاني إلى السفير البريطاني في القسطنطينية.
وبعد تسع سنوات من ذلك أي في عام ألف وثمانمائة وتسعة وأربعين، نجح مونتفيوري، وبمساعدة
بريطانية، في الحصول على فرمان من السلطان العثماني، يسمح بموجبه لليهود بشراء الراضي في مدينة
القدس، لم ينفذ الفرمان على الفور، ومع ازدياد ضعف الدولة العثمانية كان يقترب من التنفيذ فنجح
مونتفيوري وبتدخل بريطاني أيضا في شراء قطعة أرض من باشا القدس العثماني، أحمد آغا الدزدار، أقام
عليها حيا استيطانيا يهوديا، سمي بحي مونتفيوري سنة ألف وثمانمائة وستين.
سعى مونتفيوري والبريطانيون، وكذلك ممولون يهود آخرون إلى استعمال خطواتهم في استيطان القدس
لكن هذه المساعي تعثرت مرارا ونجحت في التحايل بعض الحيان، وفي عام ألف وثمانمائة وواحد
وتسعين، رفع أعيان القدس عريضة احتجاج إلى السلطان العثماني في الستانة، ناشدوه فيها منع دخول
اليهود إلى فلسطين أو بيع الراضي لهم، ويبدو أن هذه العريضة قد قوبلت باستجابة عثمانية، لن القنصل
البريطاني في القدس، كتب في السنة التالية لرفع العريضة تقريرا إلى حكومته جاء فيه، إن التعليمات
الصادرة عن حكومة الباب العالي تفيد عدم السماح لليهود الجدد بالستقرار في القدس، لكن الفوضى التي
كانت تعيشها السلطة في آخر أيامها، حيث تمت سيطرة جماعة التحاد والترقي على مقاليد المور في
تركيا، هما عاملن ساهما في قيام المتطرفين العثمانيين بتسريب الراضي إلى اليهود في القدس وغيرها.
تحرك الفلسطينيون لمواجهة هذه المؤامرة، فقاموا بتوقيع وثيقة، سنة ألف وتسعمائة وثلث عشرة
موجهة إلى السلطان العثماني والصدر العظم وناظر الداخلية، تحذر من عزم السلطات إعطاء ثمانمائة
دونم من الراضي إلى اليهود في القدس وقالت الوثيقة: "إن منح الصهيونية داخل هذه البلد طول
وعرضا، وتمكنهم من الستيلء على القدس والماكن المقدسة، مما يؤدي إلى مخاطر ل تقل نتيجتها في
المستقبل عن حرب البلقان".
كانت تلك صرفة مبكرة تحس في الخطر، لكن الظروف التي تلت رفعا مكنت البريطانيين في فلسطين وأحلل
هؤلء الدفاع المروع الستيطاني الصهيوني الذي بدءوا التخطيط والعداد له من قبل عقود عديدة.
بناء الهيكل في الدبيات الصهيونية
مثلما عملت الحركة الصهيونية على اعتبار حائط البراق، المرتكز لعلقة الجماعية اليهودية بالقدس،
بادعاء أن هذا الحائط هو الجزء المتبقي من هيكل سليمان، فقد جعلت من العمل على إعادة بناء الهيكل
محركا أساسيا لها في السيطرة على القدس ومواصلة العدوان على الحرم القدسي الشريف والمسجد
القصى.
بدأ الحديث عن إعادة بناء الهيكل مع إدخاله في الدبيات اليهودية الصهيونية في القرن السادس
عشر الميلدي، وأخذ شكل الدعوة الحثيثة مع تسرب الصهاينة إلى فلسطين تحت الغطاء البريطاني، في
العقود الخيرة من العهد العثماني، وبعد سيطرة البريطانيين على فلسطين تحولت الدعوة إلى محاولت
عمل في التجاه الذي يخدم التطلعات الصهيونية على هذا الصعيد.
تتحدث دائرة المعارف اليهودية "جويش انسيكلوبيديا" عن "أن اليهود يبغون أن يجمعوا أمرهم وأن
يقدموا إلى القدس، ويتغلبوا على قوة العداء، وأن يعيدوا العبادة إلى الهيكل ويقيموا ملكهم هناك".
بعد الحتلل البريطاني لفلسطين، أخذت التحرشات اليهودية بالحرم القدسي وحائط البراق طابعا أكثر
جرأة واتخذت شكل العدوان المباشر بتشجيع بريطاني، حيث حرصت الحكومة البريطانية على أن ترسل
لدارة احتللها في فلسطين، متحمسين للفكرة الصهيونية.
كان من هؤلء اليهودي نورمان بنتويش، الذي شغل منصب السكرتير القضائي لحكومة النتداب في
فلسطين، وقد قال في كتاب أصدره عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر تحت عنوان: فلسطين اليهودية:
"إن اليهود يرغبون في تشييد بناء عظيم من جديد تشييدا كامل في مكان هيكل سليمان".
عشية ثورة البراق، أعلن الزعيم اليهودي الصهيوني "كلوزنر" في مقالة نشرتها صحيفة "بالستاين
ويكلي" اليهودية: "إن المسجد القصى القائم على قدس القداس في الهيكل إنما هو يهودي واعتبر
"السير ألفرد موند" الزعيم اليهودي والوزير البريطاني السابق "أن اليوم الذي سيعاد فيه بناء الهيكل
أصبح قريبا جدا" وأعلن أنه سيكرس ما بقي من أيام حياته "لبناء هيكل سليمان مكان المسجد القصى".
ترافقت هذه الدعاءات والتوعدات، بمطالبات أيضا، جاء بعضها في قالب غريب، فقد كتب إبراهيم
روزنباخ، حاخام اليهود في رومانيا إلى الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، يلح عليه بضرورة إباحة
المسجد القصى لليهود ليقيموا فيه الشعائر الدينية اليهودية على اعتبار أنه مقام فوق الهيكل، حسب ما
كتب روزنباخ.
بعد قيام دولة العصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة، قال دافيد بن غوروين: "ل معنى لفلسطين
دون القدس، ول معنى للقدس دون الهيكل". كذلك صرح رئيس الحاخامية في الكيان الصهيوني بأن
"عاصمة الدولة اليهودية لن تكون تل أبيب، وإنما ستكون القدس لن فيها هيكل سليمان، ولن
الصهيونية حركة سياسية ودينية معا".
وعندما احتل الصهاينة الجزاء المتبقية من القدس في عدوان حزيران من عام سبعة وستين، أخذوا
يتصرفون كما لو أن قيامهم بإعادة بناء هيكلهم المزعوم، مسألة وقت فقط، حتى أن أحدهم، وهو
المؤرخ" إسرائيل الداد" سئل عن مصير المسجد القصى في حال قيام الصهاينة ببناء الهيكل فقال :"إنه
موضوع بحث، ولكن من يدري فلربما حدثت هزة أرضية".
وفي الوقت نفسه، أقام محام يهودي صهيوني، دعوى قضائية ضد حكومة كيانه، أمام ما تسمى محكمة
العدل العليا، يطالب فيها بإعادة الراضي التي يقوم عليها المسجد القصى ومسجد قبة الصخرة بدعوى
أنها الرض التي كان يقوم عليها هيكل سليمان، وذلك من أجل إعادة بنائه.
وعام تسعة وستين دعت صحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية، حكومة الكيان إلى إقامة الهيكل من
جديد، معتبرة أن بناءه هو الذي يلغي ما وصفته بألفي سنة من التشرد.
في تلك الثناء كانت قد برزت إلى الوجود الجماعة المسماة" أمناء جبل الهيكل" التي شكلت رأس الحربة
الصهيونية في الهجوم على المسجد القصى، والدعوة إلى إقامة الهيكل المزعوم مكانه، في حين كانت
أوساط صهيونية أخرى، توالي عمليات الحفر حول الحرم القدسي، وتحت أساسات المسجد بغية
تقويضه، وتسهيل مهمة الهيكليين ودعواهم.
يذكر هنا أن البروفيسور اليهودي" يشعياهو ليبوفتش" قد أكد أنه ل يوجد أساس ديني لمطالبة الجماعة
المسماة أمناء جبل الهيكل بإعادة بناء ما يسمونه جبل الهيكل، وقال:
هذا الهيكل غير قائم منذ ألف وتسعمائة وعشرين عاما، فيما المسجد القصى قائم منذ أكثر من ألف
وثلثمائة عام.
وأشار ليبوفيش إلى أن جبل الهيكل اصطلح تاريخي متعارف عليه في الديانة اليهودية واستعمال هذا
المصطلح ل يدل على أي شيء.
تصورات التسوية في برامج الحزاب الصهيونية
الكيان الصهيوني الذي قام على العدوان واستمر به، ول يزال دوما يتحدث عن أنه يريد السلم.
وفي تعاطيه مع اللفظ أو في القتراحات التي قدمها، وأطلق عليها تعبير مبادرات التسوية واظب على
اعتبار القدس خارج أي بحث.
بعد عدوان حزيران، وصدور قرار مجلس المن رقم مائتين واثنين وأربعين، أعيد الحديث عن التسوية
مجددا، فاعتبر ديفيد بن غوريون عام اثنين وسبعين، أن هناك احتمال نظريا لتوقيع معاهدة سلم بين
كيانه والدول العربية، وأن كيانه يمكن أن يعيد للعرب الراضي التي احتلها عدا القدس والجولن
والمناطق التي أنشئت فيها مستوطنات، وفي الوقت نفسه اعتبر موشيه دايان أنه بالمكان الوصول إلى
تسوية حول مدينة القدس، تمنح معها الماكن المقدسة وضعا خاصا، على أن تظل المدينة موحدة من
الناحيتين السياسية والقانونية، وعاصمة لكيانه.
في السنة التالية أقر حزب العمل الصهيوني، ما عرف بوثيقة غاليلي حول مستقبل الراضي المحتلة
عام سبعة وستين، وقد دعت الوثيقة إلى استمرار السكان والتنمية الصناعية في القدس وضواحيها
لتثبيت القدام فيما وراء مجالها، وفي عام ستة وسبعين طرح المبام الصهيوني خطوطا للتسوية من
وجهة نظره جاء فيها حول القدس: "إن القدس الموحدة ،هي عاصمة دولة إسرائيل ،وستضمن في
اتفاقات السلم الحقوق الخاصة للماكن المقدسة للسلم والمسيحية، وفي إطار المدينة الموحدة
ستضمن للسكان العرب في القدس ترتيبات إدارية ذاتية على الصعيد البلدي".
طرحت بعد ذلك تصورات صهيونية متعددة تدور في الجمال حول فكرة أن تبقى القدس موحدة عاصمة
للكيان الصهيوني، ويجري السماح بما دأب الصهاينة على وصفه بحرية الوصول إلى الماكن المقدسة
وضمان حرية العبادة، في حين طرح أكاديميون صهاينة تصورات اختيارية لنوع من التقاسم في البلدة
القديمة من القدس، جرى الرد عليها من المسؤولين الصهاينة، بمعاودة تأكيد مواقفهم المعلنة مع
اندلع النتفاضة الشعبية الفلسطينية سنة سبع وثمانين، تجدد طرح أفكار ومبادرات للتسوية فأعلن
شمعون بيريز سنة ثمان وثمانين، أن القدس ستبقى موحدة وعاصمة أبدية لكيانه ،وطرح بيريز في
العام التالي، خطة تسوية عرفت باسمه تضمنت الشارة إلى القدس على النحو التي: "تبقى المدينة
موحدة وعاصمة إسرائيل، بينما سيسمح بحرية الحركة والعبادة لكل الديانات السماوية".
في السنة نفسها، أعلن اسحق شامير عن مبادرة موازية لمبادرة وزير خارجيته قال فيها:"إن القدس
ليست جزءا من المبادرة، القدس عاصمة شعبنا البدية، وعاصمة دولتنا إلى البد، ول حق لعرب
القدس في التصويت في انتخابات الدارة الذاتية وتابع شامير، سنواصل صون القدس، وفق الخطوط
الساسية للحكومة، والتي تنص على أن القدس الكاملة عاصمة دولة إسرائيل البدية، ول تقبل
التجزئة، وستكون دائما لجميع أبناء الديانات ووصولهم الحر والمضمون إلى أماكنهم المقدسة".
وبدا مجددا أن الحزبين الرئيسين في الكيان الصهيوني متفقان تماما بشأن موضوع القدس، فبعد
انتخابه رئيسا للوزراء في الكيان الصهيوني، تبنى اسحق رابين ذات المواقف التي كان يعلن عنها
اسحق شامير، وفي خطاب له أمام الكنيست الصهيوني عشية التوقيع على اتفاقات أوسلو، قال رابين:
"إن هذه الحكومة مثل كل الحكومات التي سبقتها تؤمن بأنه ليس هناك أي خلف في المجلس فيما
يتعلق بالقدس باعتبارها عاصمة إسرائيل البدية، القدس الموحدة لن تطرح للمفاوضات، لقد كانت
وستظل دوما عاصمة الشعب اليهودي تحت سيادة إسرائيل".
قال رابين هذا الكلم، في مطلع أيلول من عام ثلثة وتسعين، بينما كان اتفاق أوسلو يطبخ سرا على
نار حامية، وليجيء محمل بالتصورات الصهيونية حول القدس.
عصابة مائير كهانا
ألقى الحاخام الرهابي مائير كهانا محاضرة في أتباعه سنة ألف وتسعمائة وثمانين، قال فيها: إن عدم
إزالة المسجد القصى من قبل الجيش السرائيلي عند احتلله عام سبعة وستين كان خطيئة العمر. وقد
كرس الرهابي كهانا كل جهده ونوازعه الجرامية، لصلح ما يصفه بالخطيئة.
أسس كهانا المولود في نيويورك عصابته الرهابية عام اثنين وسبعين، باسم عصبة الدفاع اليهودي،
التي حددت هدفا لها بطرد الفلسطينيين من فلسطين، وهدم المسجد القصى.
نفذ كهانا وعصابته الكثير من العمال الجرامية في أنحاء مختلفة من فلسطين المحتلة، ولكنه ركز
أنشطته الرهابية في مدينة القدس.
وبعد أن حوكم في الكيان الصهيوني عام أربعة وسبعين، بسبب نشاطاته الجرامية السابقة في الوليات
المتحدة، كوفىء عام أربعة وثمانين على جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، بنيل عضوية الكنيست
الصهيوني.
لم تقتصر أنشطة كهانا وعصابته على إطلق أكثر التصريحات عنصرية وعدائية للعرب والفلسطينيين،
بل أخذت طابعا عمليا بتهديد جدي للمسجد القصى، بدأ عام تسعة وسبعين، بإعلن الحاخام الرهابي،
عزمه أداء "صلة" في الحرم القدسي، فاحتشد نحو ألفين من أبناء القدس على أبواب الحرم لحمايته.
ويبدو أن الرهابي كهانا شرع منذ ذلك الوقت في التخطيط لنسف المسجد القصى، إذا اكتشفت كمية
كبيرة من المتفجرات في مخزن يتبع عصابة كهانا بالقرب من الحرم القدسي، وتبين بالتحقيق أن هذه
المتفجرات قد تسربت إلى أيدي العصابة من مخازن قوات الحتلل.
صعدت عصابة كهانا من أنشطتها الجرامية عام اثنين وثمانين فحاولت اقتحام المسجد القصى وعثر
على قنبلة وهمية عند أحد أبواب الحرم وهي تشتمل على جهاز توقيت وراديو ترانزستور، مع رسالة
تحذير بتوقيع كهانا نفسه، لمسؤولي الوقاف السلمية بنسف المسجد.
نفذ أحد أتباع كهانا عملية إطلق نار في الحرم في العام نفسه، وأدين آخر بالتخطيط لنسف قبة
الصخرة، وقد وكل كهانا محامين تولوا الدفاع عن أتباعه.
وعام ثلثة وثمانين، نظمت العصابة عملية تسلل إلى داخل الحرم عبر أحد الممرات الرضية، وجرى
اكتشاف المر في اللحظات الخيرة والتصدي لتلك المحاولة، وكشف النقاب عن أن المخطط كان يشمل
قيام أربعين من المتسللين، بزرع متفجرات في الممرات الرضية لنسف المسجد.
اعترف الذين تم اعتقالهم، وبضمنهم الحاخام يسرائيل أرئيل بالمخطط، وبأنه تم بإشراف كهانا، وفي
العام التالي، كان الخير عضوا في الكنيست الصهيوني، ويقوم بالتصريح، انه مقتنع بضرورة تدمير
المسجد القصى، وإقامة الهيكل مكانه.
أثناء عضويته في الكنيست الصهيوني، قام كهانا بقيادة عدد كبير من أتباعه، في حملة على المحال
العربية في البلدة القديمة من القدس، حيث تم تحطيم العديد منها، والعتداء على أصحابها بالضرب
المبرح.
ثم قاد تظاهرة أخرى بهدم رفع العلم الصهيوني فوق الحرم الشريف. وعندما تصدى له المواطنون
الفلسطينيون قمعتهم شرطة الحتلل، وعاد كهانا في السبوع التالي، لقيادة تظاهرة أكثر صخبا، هتف
المشاركون فيها: اذبحوا العرب.
وعام أربعة وثمانين، أشرف كهانا على ترتيب عملية لقصف المسجد القصى من الجو، بواسطة طائرة
حربية.
تم تدريب الطيار يعقوب هانيمان، على عملية القصف، لكنه أوضح في اللحظة الل خيرة، أنه ل يستطيع
تدمير المسجد، دون تدمير الحائط الغربي، أي حائط البراق، فجرى العدول عن الفكرة والبحث في خيار
آخر.
رغم كل هذه الممارسات الجرامية، فإن السلطات الصهيونية منحت كهانا موافقة على عقد مؤتمر
لحركة كاخ التي يتزعمها في القدس، سنة ست وثمانين، وغضت الطرف باستمرار عن أنشطته
الجرامية، ولم تعلن حظر حركته إل بعد مقتله في نيويورك على يد شاب مصري.
أسس بنيامين كهانا، ابن الحاخام القتيل، حركة عرفت باسم " كهانا حي" تبنت ذات المواقف التي كانت
تتبناها كاخ بزعامة كهانا الب، فيما ظلت حركة تحمل السم نفسه، ناشطة رغم حظرها رسميا، إلى
جانب حركة كهانا حي، المحظورة أيضا في العلن والناشطة عمليا.
مطلع العام ألفين وواحد، نفذ المقاومون الفلسطينيون عملية، أودت بحياة الرهابي بنيامين كهانا، فقام
أتباعه بالعتداء على المحال التجارية للمواطنين العرب في القدس، ول تزال حركة كهانا حي قائمة،
ويتلقى أفرادها، كما كان المر دوما، تدريبات في الوليات المتحدة المريكية، في معسكر يتبع الحركة،
التي مازالت تعتبر أن هدفها الساسي هو: هدم المسجد القصى.
أمناء جبل الهيكل
على رغم أن المطالبات اليهودية بإعادة بناء الهيكل المزعوم قديمة، إل أنها محط اختلف بين
الجماعات اليهودية، إذ يربطها البعض بعودة "المسيا" المخلص، فيما يرى آخرون ضرورة الشروع
بخطوات عملية لبناء الهيكل تبدأ بهدم المسجد القصى.
بعد احتلل القدس عام سبعة وستين، ظهرت هذه الخلفات جلية، واكتسبت طابعا عمليا بعد أن كانت
محصورة في إطار "جدل ديني" امتد الن، ليجد حل للسؤال: هل من المسموح دخول اليهود إلى منطقة
الحرم، بوصفها قدس القداس قبل عودة المسيا أم ل؟ جاءت الجابات مختلفة، وبعد ثلثة أيام من
احتلل شرق القدس أقام الحاخام شلومو غوريون شعائر صلة يهودية بالقرب من حائط البراق.
حاول شلومو غوريون بوصفه حاخاما أكبر، آنذاك، المسارعة لرساء وقائع جديدة، فقام في منتصف
حزيران من عام سبعة وستين، مع بعض أتباعه، بأداء طقوس صلة يهودية داخل ساحة الحرم
القدسي، وأعلن أن " بعض أقسام منطقة الحرم، ليست من أقسام جبل الهيكل، ولذلك فإن تحريم
الشريعة اليهودية ل يشمل تلك المناطق، وادعى أنه توصل إلى تحديد هذه القسام بعد القيام بقياسات
وشهادات تستند إلى علم الحفريات.
في هذه الجواء ولدت منظمات صهيونية أعلنت أن لها هدفا محددا، وهو العمل على إعادة بناء الهيكل،
بعد هدم المسجد القصى، وبرز من هذه المنظمات، جماعة أطلقت على نفسها اسم" أمناء جبل الهيكل"
ويتزعمها حاخام إرهابي يدعى غرشون سلمون، والذي يعتبر أن من الضروري القيام بتفكيك حجارة
المسجد القصى وقبة الصخرة، ونقلها إلى مكة، ثم بناء الهيكل مكانهما.
تعتبر جماعة " شلمون" أن ميدان عملها الساسي هو السعي لعادة بناء الهيكل، وتعمل من أجل ذلك
في أكثر من اتجاه، فهي تقوم بالتظاهرات وتنفذ اعتداءات على الحرم، وتسعى لستصدار قرارات
قضائية بالشروع في عمليتي الهدم والبناء، أو أقله استصدار قرار بتقاسم الحرم القدسي مع المسلمين.
كما تعمل الجماعة بقيادة شلمون على تزييف دراسات وأبحاث، تقول إنها قامت بها لتحديد المكان
الصلي للهيكل المزعوم.
في عام ستة وثمانين وتسعمائة وألف، دعا سلمون إلى اجتماع حضره أربعون حاخاما وترأسه الحاخام
شلومو غوريون، بالقرب من الحائط الغربي للحرم الشريف.
قدم سلمون بحثا إلى الجتماع، قال فيه إنه يسمح لليهود بالدخول إلى الحرم الشريف من باب المغاربة
باتجاه الشمال بعمق ثلثة وخمسين مترا باتجاه الغرب، وبعمق اثنين وخمسين مترا باتجاه الجنوب.
نجحت هذه الجماعة في إقامة تجمعات عند باب المغاربة، وسعت غير مرة إلى اقتحام الحرم القدسي أو
وضع حجر الساس للهيكل المزعوم، وهو ما أدى إلى مواجهات عنيفة سنة تسع وثمانين، وإلى
مجزرة سنة تسعين في الحرم القدسي.
عام ثلثة وتسعين وتسعمائة و ألف أصدرت ما تسمى محكمة العدل العليا في الكيان الصهيوني قرارا
باعتبار الحرم القدسي جزءا من مساحة دولة "إسرائيل" تسري عليه الحكام والتشريعات "السرائيلية"،
كما اعتبرته المحكمة مكانا مقدسا للشعب اليهودي حسب قولها.
شجع هذا القرار جماعة أمناء جبل الهيكل على تجديد مطالباتهم المستمرة، ولكن مستندين إلى هذا
القرار الجديد، وإلى تصريحات لحقة للرهابي نتنياهو قال فيها: يجب ترتيب صلة اليهود في جبل
المعبد، خصوصا أننا نسمح بحرية العبادة لكل الديان في القدس". وكذلك إلى دعوة أحد القضاة
الصهاينة: مناحيم آلون، إلى تقسيم الحرم القدسي.
ومن نفس المحكمة العليا حصلت جماعة سلمون على موافقة بوضع حجر الساس لبناء الهيكل الثالث
في القدس المحتلة على أن ل يكون البناء في الحرم القدسي الشريف.
كان القرار هو الول من نوعه من هذه المحكمة الصهيونية، وهو فجر ردود فعل غاضبة لحظة صدوره
أواخر تموز من عام ألفين وواحد، على أن ينفذ في نهاية الشهر نفسه.
تداعى الفلسطينيون للدفاع عن القدس في الموعد المحدد لوضع حجر الساس للهيكل المزعوم، ورغم
تدخل أعداد ضخمة من الجنود الصهاينة، فقد أفشل الشعب الفلسطيني المخطط الجديد، واضطروا
الجماعة الرهابية إلى أن تعيد حجرها إلى المكان الذي جاءت به منه، بعد مواجهات عنيفة بين
المصلين في الحرم القدسي والمحتشدين حوله، وبين جنود الحتلل.
بعد أشهر من ذلك، سمحت المحكمة الصهيوني لجماعة سلمون، بإقامة احتفال رمزي لوضع حجر
الساس وقامت شرطة العدو بإغلق القدس على أهلها لتيسير أمر هذا الحتفال، دون وضع الحجر
بشكل فعلي.
ول تزال تلك الجماعة مع ذلك، تواصل العلن عن نيتها، هدم المسجد وإقامة الهيكل.
القدس في كتابات زعماء الحركة الصهيونية الوائل
الطماع الصهيونية في بيت المقدس، هي جزء من المخطط الصهيوني الشامل، وإن كان الصهاينة
يمزجون هنا بين المقدس والسياسي.
فالحاخام حاييم لنداو يقول: "إن روح الشعب اليهودي ل تستطع التعبير عن نفسها إل إذا عادت الحياة
القومية إلى أرض اليهود من جديد. معتبرا أن القبس اللهي ل يؤثر في الشعب اليهودي إل وهو في
أرضه.
يظهر المزج المشار إليه في مثل هذا القول، وأيضا في أقوال كثيرة أخرى، فالصهاينة الذين يتحدثون
عن المكانة الدينية للقدس، يرونها أساسا في تحقيق ما يسمونه الوطن القومي، فتبرز أهميتها
العسكرية والجغرافية والقتصادية.
لقد نما في أوساط الجماعات اليهودية، حلم ديني فردي بالذهاب إلى القدس والرض المقدسة، وعملت
الصهيونية على تحويل هذا الحلم الفردي إلى مشروع سياسي استعماري، وثيق الرتباط بالمشروع
الستعماري الوروبي في الوطن العربي.
ويستقطب الجماعات اليهودية بالقول إن الهدف الصهيوني هو احتلل القدس، وجعلها عاصمة للدولة
اليهودية.
عام ألف وثمانمائة وأربعة وثلثين أصدر الحاخام يهودا القلعي كتابه "اسمعي يا إسرائيل" ودعا فيه إلى
الهجرة إلى فلسطين، التي اسماها أرض الميعاد، دون انتظار المسيح المخلص، حسب ما تقول
المعتقدات الدينية لليهود، وأنشأ القلعي عام ألف وثمانمئة وواحد وسبعين جمعية للستعمار في القدس،
داعيا أغنياء اليهود إلى دعمها.
ودار كتاب " تسفي هيرش كاليشر" الصادر عام اثنين وستين وثمانمئة وألف، حول الفكرة ذاتها، أي
البدء بالهجرة الى "أرض الميعاد" دون انتظار مجيء المسيح المخلص، ودعا الى تشكيل جماعات
مسلحة لطرد العرب من القدس وفلسطين.
ومن اللفت للنتباه أن زعماء صهيونيين، كانوا أعضاء في الحركات الشتراكية الوروبية، بدوا أكثر
حماسا لستيطان القدس، من كثير من الحاخامات، ومن هؤلء، موسى هس، صاحب كتاب "روما
والقدس" الذي أصدره عام ألف وثمانمائة واثنين وستين، ودعا فيه إلى قومية يهودية لستعمار القدس،
مطلقا على هذا الستعمار اسم: التحرير.
وكذلك فعل ليوينسكر، وسمولينسكين الذي دعا فقراء اليهود في أوروبا إلى رفض الندماج لنه خيانة،
والتوجه لستيطان القدس، حيث سينتقل الحكم إلى أيديهم تدريجيا. كما تكررت الدعوة إلى الفقراء
والمزارعين بالهجرة إلى فلسطين والقدس في كتابات موشيه ليلينعبلوم. أما اليعازر بن يهودا، الذي
سبق الكثير من المفكرين اليهود الروس، إلى تبني ما يسمى الحل القومي للمسألة اليهودية، فدعا إلى
إنشاء جمعية استيطانية لشراء الرض في فلسطين وانتقل إلى القدس لحقا ليكرس جهوده أواخر القرن
التاسع عشر لحياء اللغة العبرية، وكذلك فعل شاعر الصهيونية حاييم بياليك.
عام ستة وتسعين وثمانمائة وألف، كتب الصهيوني ثيودور هرتزل في مذاكراته: إذا حصلنا يوما على
القدس وكنت ل أزال حيا وقادرا على القيام بأي شيء، فإن أول ما سوف أبدأ به هو تنظيفها كامل.
وسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود، وأحرق الثار التي مرت عليها قرون.
أريد أن أنظفها دون أن أوذيها، وفقط خارج أسوارها سوف تقوم المدينة الجديدة، القدس الجديدة
تسيطر عليها، وتحميها السوار القديمة.
في مطلع القرن العشرين، وصف هرتزل القدس بكلمات قاسية، قائل: إن المدينة غارقة في أعماق
سحيقة، وعاد بعد ذلك ليتحدث عن مستقبلها، قائل: إنها يجب أن تكون ذات عبير متجدد من النشاط
والزراعة.
في مطلع القرن العشرين، تركزت كتابات الزعماء الصهاينة على زيادة سريعة في استيطان القدس فقد
نشر مناحيم يوشخين الصهيوني الروسي البارز، كتيبا دعا فيه إلى أن تحاط القدس بحلقة من
المستوطنات اليهودية ليس الزراعية فقط، ولكن الصناعية أيضا.
كما أطلق ديفيد بن غوريون دعوة مشابهة، اعتبر فيها أن القدس يجب أن تصبح المركز العلمي
والتعليمي والثقافي لليهود، الذين يجب أن يزدادوا فيها وحولها وأن يتقووا اقتصاديا.
وعلى الرغم من أن بن غوروين، ظل يجاهر بازدرائه للدين اليهودي والحاخامات، فإنه ظل يكرر: ل
معنى لل سرائيل بدون القدس، ول معنى للقدس بدون الهيكل.
القدس اليهودية العظمى
ثمة حقيقة معروفة بأن الهجوم الستيطاني الصهيوني، يتضاعف كلما دار الحديث عن تسوية سياسية،
أو جرى توقيع اتفاق تسوية فالهجمة الستيطانية الكبرى في الضفة والقطاع، وقعت بعد زيارة السادات
إلى القدس، وبعد توقيع معاهدة كامب ديفيد.
وتكرر المر نفسه، بعد توقيع اتفاق أوسلو عام ثلثة وتسعين، فعقب توقيع التفاق مباشرة صادر
الصهاينة مائتين وخمسة وسبعين دونما من أراضي قرية عناتا، مستكملين بذلك عمليات مصادرة
شملت ثلثي مساحة حيازة القرية البالغة أكثر من ثلثين ألف دونم، تمتد من الخان الحمر في الشرق،
إلى شعفاط في الغرب، ومن قرى حزما ودير دبوان في الشمال إلى العيساوية في الجنوب.
وفي تشرين الول من عام ثلثة وتسعين، صادر الصهاينة ثلثة آلف وخمسمائة دونم، من أراضي
أربع قرى شمال غرب القدس، باتجاه الرام، وهي قرى بير نبال، الجيب، بيت حنينا، النبي صموئيل،
وأعلن أن المصادرة تمت بهدف إقامة مناطق خضراء، ولكن سرعان ما بدء بتنفيذ مخططات استيطانية
نشطة فوق الراضي المصادرة كما جرى التمدد باتجاه الجنوب بمصادرة مساحات واسعة من الراضي
الواقعة بين القدس، وبيت لحم وبيت ساحور.
أعلنت حكومة رابين عن تجميد للستيطان، جاء شكليا من الناحية العملية، ولم يشمل المناطق الواقعة
داخل حدود القدس الدارية المعلنة صهيونيا، والتي تعتبر منطقة تطوير)أ( في المخططات الصهيونية،
ما عنى استمرار الستيطان فيها.
وضاعف الصهاينة من أسلوب المصادرة لقامة محميات طبيعية سرعان ما تحولت إلى مستوطنات،
وبعد اتفاق أوسلو، قام عمل مكثف في منطقة القدس الكبرى لتمويل مساحات واسعة إلى محميات
طبيعية لحرمان الفلسطينيين من البناء عليها أو التوسع فيها، وتمثلت أبرز المصادرات، في مصادرة
شملت منطقة النبي صموئيل، وأخرى في النبي يانون، ومحمية وادي تقوع، ومحمية غاب القوق،
ومحمية رانح، ومحمية الشيخ أبو لمون، وغيرها.
في أواسط كانون الثاني من عام خمسة وتسعين، صادق حزب العمل الصهيوني على تقرير ورد فيه
للمرة الولى تعبير "القدس العظمى" وهو يشمل مخططا ينص على توسيع "حدود بلدية القدس لتشمل
عددا من المستوطنات في الضفة".
واستنادا إلى التقرير الذي وضعه عشرات من الباحثين الصهاينة، فإن حدود القدس يجب أن تمتد جنوبا
إلى المستوطنات في قطاع "غوش عتسيون" بين بيت لحم والخليل، وشرقا حتى "معاليه أدوميم" في
الخان الحمر وشمال حتى حدود بلدتي رام ال والبيرة، وغربا حتى مستوطنة "بيت شيمش".
وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت خريطة جديدة للقدس العظمى، تتسع بموجبها حدود
المدينة، لتشمل دائرة قطرها ثلثة وعشرون كيلوا مترا، أي ما يعادل نحو خمسة عشر في المائة من
مساحة الضفة الفلسطينية كاملة، وقد جرى تثبيت عمل اللجنة المكلفة بداية بإقامة ثلثين ألف شقة
للمستوطنين في القدس وحولها، وأعلن عن الشروع في إقامة نحو ألفين وثلثمائة وحدة استيطانية في
"معاليه أدوميم" وألف وثلثمائة في "غفعات زائيف"، وألف وخمسمائة في "بيتار"، أربعمائة في "كريات
سيفر".
ما بين توقيع اتفاق أوسلو، ونشر خريطة القدس العظمى صادر الصهاينة نحو خمسة وثلثين ألف دونم
من الراضي المحيطة بالقدس، وقد حققت هذه المصادرات وحسب المصادر الصهيونية، سيطرة
الصهاينة على تسعة وسبعين في المائة من مساحة القدس العظمى الممتدة ما بين الخليل ورام ال
وبيت لحم.
وعندما جاءت حكومة نتياهو في الكيان الصهيوني شرعت في إنفاذ المخططات السابقة، مستهدفة
الوصول إلى مليون مستوطن في القدس، وإتمام مشروع القدس اليهودية العظمى، الذي عاد شارون
وتحدث عنه تحت عنوان جديد هو: تغليف القدس.
فالمناطق العازلة التي أعلن عنها الرهابي شارون سوف تكون مساحات جديدة تضاف إلى ما استولى
عليه الصهاينة في القدس وحولها، لتمام مشروعهم القديم الجديد، بتهويد القدس كاملة وتحويلها إلى
كتلة استيطانية هائلة تشطر الضفة إلى شطرين.
القرارات الصهيونية لضم القدس
استخدم الصهاينة القانون المسمى قانون أملك الغائبين للسيطرة على ممتلكات العرب الفلسطينيين في
الجزء المحتل عام ثمانية وأربعين من مدينة القدس، تماما كما فعلوا مع ممتلكات العرب في مناطق
أخرى من فلسطين، منذ عام خمسين.
وبعد عدوان حزيران سبعة وستين، أصدرت سلطات الحتلل سلسلة متلحقة من القوانين والوامر
الدارية لضم القدس إلى الكيان الصهيوني، فيوم السابع والعشرين من حزيران لعام سبعة وستين، قرر
الكنيست ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية، بإضافة فقرة إلى قانون صهيوني، اسمه "قانون
الدارة والنظام لعام ثمانية وأربعين".
الفقرة التي جرت إضافتها تقول: "تخول الحكومة تطبيق القانون على أية مساحة من الرض ترى
حكومة )إسرائيل( ضمها إلى أرض )إسرائيل(" وتتالى صدور القرارات، ففي اليوم التالي أصدر المسمى
سكرتير الحكومة، أمرا أطلق عليه اسم: أمر القانون والنظام رقم واحد، ليقضي بأن تضم إلى قضاء
وإدارة الدولة )السرائيلية( منطقة تنظيم أمانة القدس، ويقصد منطقة البلدية تحت الحكم الردني من
المنطار وقلنديا شمال، وبيت حنينا غربا، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوبا، وقرى الطور والعيزرية
وعناتا والرام شرقا.
وخلل اليومين التاليين أصدرت سلطات الحتلل بمؤسساتها المختلفة أربعة قرارات استهدفت بالتتابع
تهويد السيادة والدارة والبلدية في القدس.
كان التهويد وإلغاء الطابع العربي للمدينة هو المستهدف من وراء هذه القرارات والجراءات جميعا،
ففي آب من عام ثمانية وستين، أصدرت سلطات الحتلل، قانونا أسمته قانون "التنظيمات القانونية
والدارية" بغية إضفاء الطابع اليهودي على مختلف أوجه النشاط في المدينة.
في حيثيات القانون المذكور أنه يفرض على أصحاب المهن والحرف والطباء والمهندسين والمحامين
ومدققي الحسابات وأصحاب المتيازات والجمعيات التعاونية وغيرهم، القيام بإعادة التسجيل لدى
السلطات الصهيونية، والحصول على رخص جديدة، خلل فترة تنتهي مطلع عام تسعة وستين.
وقد أعتبر روحي الخطيب أمين القدس، أن هذا القانون المؤلف من اثنتين وعشرين مادة يهدد عرب
القدس بالتهويد التدريجي لهم، أو بالرحيل عن هذا البلد.
اعتمد الصهاينة سياسة إصدار القرارات المتلحقة والمتسارعة بهدف تحقيق غاياتهم في القدس، حيث
قرروا إلغاء البرامج التعليمية الردنية المطبقة في مدارس القدس، واستبدالها بالبرامج المعتمدة في
المدارس العربية بفلسطين المحتلة عام ثمانية وأربعين.
ولتنفيذ هذا القرار، وضعت السلطات الصهيونية يدها على جميع المدارس الحكومية، ومكاتب مدير
التربية والتعليم الردني، وطلبت منه ومن موظفي مكتبه، وجميع العاملين في الجهاز التعليمي اللتحاق
بأجهزة التعليم التابعة للسلطات الصهيونية إلى جانب ذلك بالطبع كانت تتسارع عمليات الهدم والمس
بالمقدسات السلمية والمسيحية، وإبعاد كل مؤسسة ذات طابع عربي عن المدينة المقدسة، وتعويض
المؤسسات التي لم يستطع الصهاينة إبعادها.
وكما هو معلوم فإن الصهاينة قد اتخذوا عام ألف وتسعمائة وثمانين قرارا باعتبار القدس موحدة
وعاصمة لهم، ورغم الستنكار العالمي لهذا القرار إل أن الصهاينة أصروا عليه وأسندوه بسلسلة
متلحقة من القرارات والقوانين الداعمة له.
المشاريع اليهودية لتقسيم القدس
ينطلق الخطاب الصهيوني حول القدس من شبه إجماع على رفض الحديث عن تسوية سياسية تنتقص
من "وحدة القدس وكونها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني" الذي صاغ هذه المقولت في ما سماه
القانون الساسي للقدس عام ثمانين، وهو جاء محصلة للخطاب الصهيوني حول المدينة منذ بدء الغزو
الصهيوني لفلسطين.
مع ذلك تظهر بين الفينة والخرى مشروعات صهيونية تطرح تصورات تتعلق بتقاسم المدينة في إطار
تسوية للصراع العربي الصهيوني.
عمليا فقد سبق الصهاينة إلى طرح هذه التصورات الوليات المتحدة المريكية، حيث اقترح رئيسها
نيكسون عام ثمانية وستين، عودة القدس الشرقية إلى الردن، مع وضع الماكن المقدسة كلها تحت
سلطة دينية دولية مشتركة، تتكون من ممثلين عن الديان صاحبة العلقة بالقدس.
وكررت الوليات المتحدة هذا القتراح عام تسعة وستين. دارت اقتراحات التسوية الصهيونية بعد ذلك
على بقاء القدس موحدة، مع ضمان حرية العبادة في الماكن المقدسة، كما طرحت اقتراحات تتحدث
عن ضمان أوضاع بلدية خاصة بالمواطنين العرب في القدس، فيما تحدثت اقتراحات أخرى عن بلديات
فرعية في المدينة يضمن للفلسطينيين في نطاقها استقلل ذاتي اجتماعي وثقافي وتربوي.
عام ثمانية وثمانين كشفت صحيفة هآرتس الصهيونية النقاب عن وجود مشروع صهيوني منذ العام
ثلثة وثمانين، يتضمن تقسيم مدينة القدس إلى أحياء تتمتع بالحكم الذاتي، لكل منها بلديته، ويمكن أن
تستخدم كأساس للمفاوضات حول وضع المدينة، التي تبقى بكل الحوال تحت السيادة الصهيونية.
وغالبا ما جرى إطلق بعض التصورات على ألسنة أكاديميين صهاينة، المر الذي يجعلها اختبارية
وغير ملزمة. ومن ذلك ما اقترحه أفيشاي مارجاليت الستاذ الجامعي في الجامعة العبرية، من أن تكون
القدس عاصمة مشتركة وعليها سيادة مشتركة بقوانين خاصة.
قدم مارجاليت اقتراحه سنة إحدى وتسعين، وعام أربعة و تسعين، قال يهوشفاط هركابي الذي قاد جهاز
الستخبارات الصهيونية في الخمسينات "إن )إسرائيل( لن تتمكن من السيطرة إلى البد على القسم
أن أتصور أن العرب وليس الفلسطينيين وحدهم، يمكن أن يقبلوا أل i الشرقي من القدس"." ويصعب علي
يكون لهم شيء في القدس".
صحيفة يديعوت أحرنوت، وجدت الحل عام ستة وتسعين، حين نشرت مقال قالت فيه:" إن )إسرائيل(
تفكر بأن تقترح على الفلسطينيين بناء "قدس ثانية" كعاصمة لكيانهم السياسي المستقل".
ينص القتراح على أن تبقى القدس بتقسيمها الغربي والشرقي عاصمة موحدة للكيان الصهيوني باسم
أورشليم، على أن تبقى خارج هذه الدائرة وخارج السيادة الصهيونية مدينة القدس التي ستعلن عاصمة
للفلسطينيين.
الصحيفة نفسها عادت وذكرت عام ألفين، أن فكرة تقاسم مدينة القدس بحثت خلل زيارة الملك عبد ال
الثاني ملك الردن إلى الكيان الصهيوني وإن البحث جرى حول إمكان وضع ثلثة أرباع المدينة القديمة
التي تضم الماكن المقدسة السلمية والمسيحية، وخصوصا المسجد القصى وكنيسة القيامة تحت
السيادة الفلسطينية، على أن يحتفظ الكيان الصهيوني بالسيطرة على الحياء اليهودية والرمنية وحائط
البراق.
مطلع شباط من عام ألفين وواحد عقدت اجتماعات في طابا بين وفدين فلسطيني وصهيوني، وذكر أنه
جرى التفاق على خطة تقضي بتأجيل بحث موضوع السيادة على الحرم القدسي الشريف لمدة خمس
سنوات يخضع خللها لل دارة مشتركة، تتم فيها المحافظة على الوضع القائم، ويدير الصهاينة حائط
البراق ويدير الفلسطينيون المساجد.
أعقبت ذلك دعوة أطلقها الرهابي موشيه كتساب المسمى رئيسا، للكيان الصهيوني بتقسيم الصلة في
الحرم القدسي على غرار ما حدث في الحرم البراهيمي في الخليل. وهو ما أعلن الفلسطينيون عن
رفضه تماما.
اقتراح كتساب أعلن بالتزامن مع الكشف عن مخطط صهيوني جديد لتهويد مناطق أخرى في القدس.
ومن ذلك: إقامة وحدات استيطانية جديدة على غرار أراضي سلوان، والسيطرة على قسم جديد من
الحي السلمي داخل السوار، وتحويل سطح أسوار القدس إلى متنزه للزوار والسياح.
المنظمات الستيطانية في القدس
تشكل مجموعة من المنظمات الدينية الصهيونية النواة الصلبة للستيطان الصهيوني في المدينة
المقدسة، ومع أن استيطان القدس المحتلة عام سبعة وستين محل إجماع صهيوني، وبدء العمل فيه بعد
عدوان حزيران من عام سبعة وستين مباشرة ،إل أن هذه المنظمات شكلت رأس الحربة في هذا
الستيطان وركزت جهودها على البلدة القديمة وأحياء المدينة التاريخية.
وأشهر هذه المنظمات
-عطارة ليوشنا: وهي المجموعة الدينية الهم التي برز وجودها على أرض الواقع عقب حرب سبعة
وستين مباشرة، ونشطت بشكل ملحوظ في الستيلء على منازل كثيرة داخل الحي السلمي من
المدينة، ضمن خطة تهدف إلى ربط الحي اليهودي الحالي بالتجمعات الستيطانية في باب السلسلة،
وعقبة الخالدية، وعقبة السرايا، وشارع الواد، وهو ما يفسر تركيز النشاط الستيطاني في هذه
المناطق، وإن وجدت نقاط استيطانية صغيرة في مناطق أخرى من الحي السلمي، خاصة في حارة
السعدية.
وكانت هذه المجموعة قد حددت أهدافها بالستيلء على العقارات العربية في القدس، وإسكانها
بمؤسسات توارتية، وبمستوطنين يهود.
-عطيرات كوهانيم: وهي مجموعة انشقت عن عطارة ليوشنا، ولها ذات الهداف، حيث وجهت
المجموعتان جهودهما إلى عقارات، تدعيان أنها كانت مسكونة من قبل يهود قبل عام ثمانية وأربعين،
وخاصة في عقبة الخالدية وعقبة السرايا.
وقد أصبحت هذه الملك بعد عدوان سبعة وستين تحت مسؤولية ما تسمى دائرة القيم العام
)السرائيلية( التابعة لما تسمى وزارة العدل، ودأبت الدائرة المذكورة على تسليم هذه العقارات إلى
الجماعتين المذكورتين إذا تم إخلؤهما، وفي نطاق ذلك تم الستيلء على مساكن إحدى عشرة عائلة
من عقبة الخالدية، من قبل عطارة ليوشنا.
-شوفو بنيم: "عودوا أيها البناء" وهي مجموعة تتألف ممن يوصفون بالتائبين، وهم شبان يهود
ينضوون في إطار ما يعرف بحركة التوبة، استولى العشرات من هؤلء عام اثنين وثمانين، على أملك
عربية في عقبة الخالدية، وأقاموا فيها مدرسة حملت اسم: شوفوبنيم وأعلن هؤلء أن هدفهم هو
ترحيل العائلت العربية التي بقيت في المنطقة.
يلجأ المستوطنون من أفراد هذه المنظمات إلى أساليب العنف والمضايقات للمواطنين الفلسطينيين، في
محيط تجمعاتهم الستيطانية، كأن يقوموا بأداء صلواتهم وطقوسهم الخاصة بعباداتهم بصوت عال مع
قفزات في الهواء، وتصفيق في اليدي، وخطابات ابتهالية عتابية، كما يقومون بالضرب على الصفائح
الفارغة.
إضافة لذلك فهم يلقون القمامة والقاذورات على المارة من المواطنين العرب، ويعمدون إلى سد شبكات
المجاري، وجعلها تتدفق إلى البيوت العربية الواقعة أسفل هذه التجمعات الستيطانية.
عام ستة وثمانين، صعدت هذه المجموعات من وتيرة عدوانها الستيطاني، مستغلة قيام شاب عربي
بطعن أحد أفراد مدرسة شوفو بنيم بسكين وقتله، في عقبة الخالدية.
قام أفراد الجماعة بإرغام تسع عائلت فلسطينية على مغادرة بيوتها بعد إضرام النار في قسم منها،
وفي حين هاجم أفراد مجموعتي عطارة ليوشنا وعطيرات كوهانيم العديد من البيوت العربية.
تتلقى هذه المنظمات دعما من المؤسسات اليهودية في الكيان الصهيوني والوليات المتحدة المريكية،
وبعض الدول الوربية، والتي تقدم لها دعما ماليا كبيرا، كما تلقى هذه المنظمات دعما كبيرا من بعض
المجموعات الصولية المسيحية المرتبطة بالصهيونية المسيحية، والتي تؤمن بضرورة نشوء حرب
نووية تؤدي إلى دمار العالم ليأتي بعدها السيد المسيح ويقيم مملكة الرب.
وتلقى هذه المجموعات دعما كبيرا ومباشرا من الرهابي أرئيل شارون، الذي استولى على منزل عربي
في شارع الواد، وهو قام بتحويل أراضي إلى هذه المجموعات كي تقيم مشاريع استيطانية فيها.
تعتمد هذه المجموعات والمنظمات الستيطانية، على أساليب الترغيب والترهيب، وفي الحالتين تلقى
دعما من المؤسسات الحكومية الصهيونية، فعام واحد وتسعين، سمحت ما تسمى محكمة البداية في
القدس لمستوطنين من "عطيرات كوهانيم" بالبقاء في منزلين أخلوهما في الحي السلمي، وطالب
أصحابهما بإخلئهم منها مثل هذه الحكاية تتكرر كثيرا ول زالت، حيث أن نشاط هذه المنظمات في
القدس، يوازي نشاط "غوش أيمونيم" في مناطق أخرى، مع وجود وصلت قوية بين المنظمات
المذكورة، وحركة كاخ، وغيرها من العصابات الرهابية الصهيونية.
اليهود واضطهاد السيد المسيح
في بيت لحم، مدينة المهد ولد السيد المسيح عليه السلم، وفي بيت المقدس كان مهد دعوته.
وبحسب المصادر التاريخية، ولد السيد المسيح سنة أربع قبل الميلد، وسبب هذا الذي يبدو خطأ يعود
إلى الذي وضع أسس التاريخ من ميلد المسيح، وهو ديونيسيوس أكسيغوسس، من أهل القرن
السادس الميلدي، وقد كان عالما رياضيا كبيرا ولهوتيا مرموقا، لكن ديونيسيوس، لما حسب تاريخ
ولدة المسيح ربطها بتاريخ إنشاء مدينة روما التقليدي، وهو سبعمائة وثلثة وخمسون قبل الميلد، إل
أنه أخطأ في حسابه بنحو أربع سنوات، ومن هنا جاء الفرق.
ل تلبي المصادر التاريخية على نحو واضح، معرفة كافية بالسنوات الولى للسيد المسيح، ولكن حسب
إنجيل برنابا، الذي ترجمه الدكتور خليل سعادة في القاهرة سنة ألف وتسعمائة وثمان، فإن هيرودس
الدومي، الذي استمر حاكما في فلسطين إلى السنة الرابعة قبل الميلد، وهي السنة التي شهدت ولدة
السيد المسيح، سعى إلى قتله وهو طفل، وأنه لهذه الغاية أمر بقتل جميع الولد الذين في بيت لحم،
تلك السنة.
يحفل النجيل المذكور بكثير من التفاصيل عن حياة السيد المسيح، فيذكر أنه ذهب إلى مصر مع السيدة
مريم العذراء ويوسف، حتى مات هيروس، فعادوا وقد بلغ السيد المسيح سبع سنين إلى القدس، ولكنهم
خافوا البقاء فيها فذهبوا إلى الناصرة، ليعودا مرة أخرى إلى القدس وقد بلغ السيد المسيح من العمر
اثنتي عشر عاما، وتلقى الرسالة على جبل الزيتون، حسب إنجيل برنابا، وكان له من العمر ثلثين
عاما.
ويسرد إنجيل برنابا مؤامرات اليهود على السيد المسيح ومحاولتهم لقتله، وما تعرض له من عسف
واضطهاد على أيديهم، وهو ماكان شأن تلميذه الذين عانوا كثيرا أيضا منذ بداية الدعوة ولقرون ثلثة،
حتى تبنى المبراطور الروماني الديانة المسيحية، ورفع الضطهاد عن المسيحيين.
يقول صابر طعمية في كتابه التاريخ اليهودي العام: "أدركت قوى الستغلل اليهودي أن دعوة السيد
المسيح إلى الحق والعدل تشكل خطرا عليها، فدخلوا مع هذه الدعوة في معركة كانت من أشد المعارك
التي خاضتها الدعوات إلى الحق والعدل".
وإزاء العجز عن مقاومة نهج السيد المسيح الذي كشف عوراتهم وسيئاتهم فقد قرروا قتله، وهو ما
يعبر عنه إنجيل متى بالقول "أن يضعوا للمعلم حدا للتخلص منه".
وفي الحرب التي شنها اليهود على السيد المسيح استخدموا كل أساليب الوقيعة والوشاية وأعمال
التجسس، وأعدوا اتباعا لهم لزموا السيد المسيح وتعرفوا على أخباره عن قرب، ومن هؤلء التباع
"يهوذا السخريوطي" الذي كان قويا للغاية عديم المشاعر، قاسي القلب.
وبتعبير "متى" في الصحاح السادس والعشرين: "ذهب واحد من الثني عشر الذي يدعى يهوذا
السخريوطي إلى رؤساء الكهنة، وقال "ماذا تريدون أن تعطوني، وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلثين
من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".
وبحسب إنجيل برنابا، فإن هذا الخائن دفع ثمنا قاسيا لقاء خيانته.
رغم القسوة التي تعرض لها السيد المسيح عليه السلم، فإنه لم ينثن، وواصل دعوته وتابع تلميذه
من بعده، حتى حققت الدعوة انتشارا واسعا جدا، انطلقا من بيت المقدس المركز الول للجماعة
المسيحية، هذا مع العلم بأن الماكن التي بشر فيها السيد المسيح أكثر أيامه وعمل فيها تلميذه، كانت
في الجليل.
وسوف نعود للحديث عن بدايات المسيحية في فلسطين في حلقة لحقة.
يعرض د.نقول زيادة، للظروف التي جاء فيها السيد المسيح لينشر دعوته، ملحظا أن اليهود كانوا
مصرين على أن ال اختار شعبا خاصا به هو الشعب اليهودي، وهو وحده الذي وجهت إليه الرسالة،
وهو يقبلها وينشرها داخليا بين أفراد هذا الشعب وأبنائه فقط. بحيث إن المر كله كان حكرا، وإذا كانت
السرة الحشمونية، قد فرضت التهود على الدوميين، فقد كانت وراء هذه الحركة دوافع سياسية ل
دينية.
إلى ذلك يعتقد اليهود أن مملكة، أو ملكوت السماوات، ستقوم على الرض، وأنها آتية ل ريب في ذلك،
وأن مجيئها أصبح وشيكا، وهذه المملكة اللهية المنتظرة هي يهودية بطبيعة الحال، وهذه المملكة
سيتحقق وجودها على يد مخلص منقذ"سيا"، كما أن العبادة الصحيحة ل يجب أن تتم خارج الهيكل.
كان الفريقان الساسيان في الجماعة الدينية اليهودية الفريسيين والصدوقيين.
كان الفريسيون يرون أن القيام بالطقوس الدينية بحرفيتها وبدقة يعطي المؤمن ما يشبه الرصيد
المستقبل، أما الصديقيون فقد كانوا أكثر اهتماما بالنفوذ السياسي والسلطة، في هذا الجو جاء السيد
المسيح، جاء برسالته التي تتلخص بأن ملكوت ال هو هبة ال للبشر أجمعين، وأنه يتم بإدارة ال،
والحصول عليه يتم بالتوبة، بالولدة الثانية، والتنازل عن متاع الدنيا.
والوصول إلى هذا الملكوت يصبح أمرا روحيا داخليا في نفس كل مؤمن، ول يكون النضمام إلى مملكة
على هذه الرض.
وحملت دعوة المسيح تحريرا للنسان من القيود والربطة التي لفتها الجماعة الدينية في بيت المقدس
حوله، فقيدت المجتمع أفرادا وجماعات.
ودعا المسيح إلى عبادة إله واحد لكنه بأقانيم ثلثة: الب والدين والروح القدس. بدت دعوة المسيح،
متناقضة مع إدعاء اليهود بالعهد اللهي الذي أعادوه تدريجيا إلى الوراء حتى أصبح يعود إلى عهد
الخليقة، بعد أن كان أول من عهد إبراهيم، ثم من عهد نوح، فالمسيحية اعتبرت الناس جميعا سواء.
فالمسيحية اهتمت بالطهارة القلبية واليمان بالروح أكثر من الهتمام بالطقوس، وقد رأى السيد المسيح
فيهم، بأن حالهم من الداخل من عند طوية النفس وسريتها، ومن خارجها عند مظاهر النفاق، والحس
المتبلد، بأنهم كالقبور المبيضة خارجها بطلء جميل وداخلها عظام نخرة.
كانت اليهودية تهتم بالهيكل، وبأنه المكان الوحيد الصالح للعبادة، بينما دعا السيد المسيح إلى تنقية
القلب وتطهيره، بحيث يصبح مكانا لئقا لن يعبد ال فيه في كل وقت ومكان بتعاليم السماحة والمحبة،
انطلق السيد المسيح من بيت المقدس لينشر دعوته، وإذا كان قد لقى العسف والضطهاد على يد
اليهود، وكان هذا حال تلميذه، فإن مهده في بيت لحم، ومهد دعوته في بيت المقدس، وأهلوهما
مازالوا يلقون جور من وصفهم بكلماته بالحيات أولد الفاعي.
تحرير بيت المقدس
حاول الفرنجة منع قيام الجبهة المصرية الشامية، فاستنجدوا بحملة جديدة وتحالفوا مع بيزنطة لهجوم
مشترك على مصر لقى فشل ذريعا. وحاولوا استغلل وفاة نور الدين لمهاجمة دمشق، ولم ينجحوا
أيضا.
بعد وفاة نور الدين أصبح صلح الدين اليوبي الحاكم الفعلي لمصر والشام فضل عن المواقع الرديفة
في برقة واليمن والجزيرة.
صرف صلح الدين وقتا ليس بالقصير في ترتيب الوضاع، وتحصين مصر والشام خشية من حملة
جديدة. ثم هاجم مملكة بيت المقدس في إغارة خاطفة سنة ألف ومائة وثمان وسبعين تناولت الداروم
وغزة التي حصنها الداوية، فتجاوزها نحو عسقلن، وضرب عليها الحصار بعد أن دخلها بفدوين الرابع
ملك القدس ليتولى الدفاع عنها.
بدت الفرصة سانحة لتحرير بيت المقدس، فقد كان الفرنجة في أسوأ أحوالهم. ووقع صلح الدين في
خطأ قاتل عندما ترك الجيش يتفرق في فلسطين بدل المهاجمة بكتلة واحدة.
احتل المسلمون اللد والرملة وهاجموا أرسوف ونابلس، لكن بفدوين الرابع ما لبث أن خرج من
عسقلن، وفاجأ صلح الدين قرب الرملة، وألحق به هزيمة نجا منها بصعوبة.
عادت الحرب سجال بين صلح الدين وفرنجة مملكة القدس، وكان خللها يسعى إلى تقوية جيشه، لكنه
لم يستطيع النتظار أمام محاولة أرناط الوصول إلى الماكن المقدسة، فحشد جيشا كثيفا للغارة على
فلسطين سنة ألف ومائة وثلث وثمانين.
دخل الجيش السلمي بيسان التي فر سكانها إلى طبريا وحصونها، واحتشد معظم أمراء الفرنجة في
صفورية بقيادة غي لوزينيان، وتوجهوا إلى سهل زرعين.
مد صلح الدين أجنحة جيشه حتى كادت تطوق الفرنجة، ولكن هؤلء اتخذوا موقف الدفاع السلبي، ولم
يشتبكوا مع الجيش السلمي. أعطت هذه المعركة العامة صورة عن قوة صلح الدين، وكان عليه أن
يتخلص من حصني الكرك والشوبك اللذين يسيطر عليهما أرناط، الذي واظب على مهاجمة الحجاج
والقوافل التجارية السلمية، رغم وجود هدنة بين مملكة القدس وصلح الدين.
رد صلح الدين على تحرشات أرناط بالغارة على طبريا والجليل وعكا وبيروت، وحصن الحبيس
وغزة، كما احتل بيسان.
لم تكن محاولة أرناط الوصول إلى الحرم المكي مما يمكن السكوت عنه، ومع أن حملته فشلت فشل
ذريعا ورد عليها صلح الدين بالغارة على فلسطين إل أن محاولته بالستيلء على حصن الكرك
فشلت، لن من فيه لم يخرجوا للقتال، وجاءتهم نجدة من ملك القدس.
وقعت الهدنة مجددا إلى أن خرقها أرناط سنة ألف ومائة وست وثمانين، وهو خرق لم يكن يريده ملك
القدس، ول الوصي ريموند الذي جمعته صلت حسنة مع صلح الدين، في حين شكل فرصة للمسلمين
الذين اكتملت قواهم. فحشدوا خمسة وعشرين ألف مقاتل في مواجهة عدد مماثل من الفرنجة.
نجح صلح الدين في استدراج الفرنجة إلى المكان الذي حدده للمنازلة، في سهل حطين، وهكذا وصلت
الجيوش الفرنجية منهكة من المسير والعطش، فألحق بها المسلمون هزيمة قاسية.
تعرف هذه المعركة الحاسمة باسم موقعة حطين وفيها قتل أرناط وأسر ملك القدس، وهي شكلت ضربة
قاصمة ضد أكبر حركة استعمارية شهدها العالم قبل العصور الحديثة. وهي فتحت الطريق أمام
المسلمين إلى بيت المقدس.
سيطرت جيوش المسلمين بسرعة على المارات الصليبية على الساحل ابتداء بعكا، كما سيطرت على
حصون الداخل، وفي العشرين من أيلول سنة ألف ومائة وسبع وثمانين، ضرب صلح الدين حصارا
على بيت المقدس. وكان توجهه منذ البداية أن يدفعها إلى الستسلم دون أن يضطر إلى مهاجمتها.
ويقول الكتاب المرافقون له آنذاك إن الفرنجة داخل المدينة هددوا بهدم المقدسات السلمية وقتل
السرى، إذا فكر صلح الدين بمهاجمة المدينة. لكنه عندما نقب السور، أذعنت المدينة للستسلم، ولم
تشهد أية مذابح على غرار تلك التي وقعت عند احتللها، بل تقرر أن يدفع الفرنجة فدية عن أنفسهم،
سدد منها صلح الدين وقادته عن الفقراء مبالغ كبيرة، في حين خرج بطريرك القدس من المدينة
بالحمال من ذهب الكنيسة وفضتها وذخائرها، مقابل عشرة دنانير.
وبقي أهل القدس المسيحيين فيها، وكانوا يجاهرون بأنهم يفضلون حكم المسلمين على حكم الفرنجة.
ويوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة خمسمائة وثلث وثمانين للهجرة الثاني من تشرين الول
لسنة ألف ومائة وسبع وثمانين أقيمت صلة الجمعة في القصى لول مرة منذ ثمانية وثمانين عاما.
تابعت الجيوش السلمية إسقاط الحاميات الفرنجية فاحتلت حصن الكرك بعد حصار طويل، ثم استسلم
حصن الشوبك، وقلعة صفد وقلعة كوكب الهوا التابعة للسبتارية، واحتل المسلمون جبلة اللذقية وقلعة
صهيون، ولم يبق لمارتي طرابلس وأنطاكية سوى الحاضرتين وقلعة الوطوس بيد الداوية، وقلعتي
مرقب وحصن الكراد بيد السبتارية.
ولكن الحروب الفرنجية لم تنته بعد، وسوف تحتاج نهايتها إلى مائة سنة أخرى.
تقديس الحج
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
بسم ال الرحمن الرحيم
. "ول على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيل" آل عمران/ 97
صدق ال العظيم
ويقول عز من قائل:
بسم ال الرحمن الرحيم
"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجال، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم
ويذكروا اسم ال في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة النعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير".
صدق ال العظيم
الحج ركن من أركان السلم، وفريضة من الفرائض التي فرضها ال على عباده المؤمنين، والحج هو
إلى البيت الحرام بمكة، ومناسكه ومشاهده إنما تتم هناك، فما هي الصلة بين الحج إلىالبيت الحرام
بمكة، وبين بيت المقدس؟
لقد أكد سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، الصلة التي ل تنفصم عراها، بين المكانين المقدسين، بين
المسجد الحرام والمسجد القصى في الرض المباركة.
وهذا الرابط اللهي المحكم، إنما جاء ليؤكد مكانة بيت المقدس، إلى جانب مكانة البيت الحرام، وليضفي
عليه طابع القدسية اللهية.
أما الصلة المباشرة بين الحج إلى البيت الحرام وبين بيت المقدس، فيوضحها الحديث النبوي الشريف.
قال رسول ال، صلى ال عليه وآله وسلم:" من أهل بحجة أو عمرة من المسجد القصى إلى المسجد
الحرام غفر ال ما تقدم من ذنبه"
وفي رواية أخرى: "وجبت له الجنة"
رواه أبو داوود.
إن الرسول الكريم، صلى ال عليه وآله وسلم، يؤكد في هذا الحديث مكانة بيت المقدس، من خلل
إعطائه موضعا خاصا بربطه بالحج إلى البيت الحرام بمكة المكرمة.
فالحرام للحج، يتم من مواضع معروفة، محددة ببعدها المكاني عن البيت الحرام، وللمر جوازات
وموجبات معروفة لدى المسلمين، ولكننا هنا أمام شيء مختلف، يجعل الحرام من المسجد القصى
مثابا عظيم الثواب، غفرانا للذنوب أو جزاءا بالجنة.
لم يكن الحديث الذي ذكرناه هو الوحيد الذي أكد فيه الرسول الكريم صلى ال عليه وآله وسلم، على
مكانة بيت المقدس، ولكن أهميته تكمن في ربطه بهذا الركن من أركان السلم، أي الحج وهو يكون
إلى البيت الحرام" أول بيت وضع للناس" وأن يكون للحرام من المسجد القصى، ذلك الثواب فهو من
باب تأكيد التلزم بين المكانين المقدسين.
من هذين الربط والتأكيد، جاء تعبير "حجة مقدسية" حيث دأب كثير من المسلمين على التوجه إلى بيت
المقدس، وعقد نية الحج، والقيام بالحرام من تلك الرقعة المباركة، فيما رأى آخرون، إتمام مناسك
الحج المعروفة بزيارة بيت المقدس، وهو ما عرف " بالتقديس" حيث كان المسلمون، وعند فراغهم من
أداء مناسك الحج في البيت الحرام، والمدينة المنورة يشدون الرحال إلى بيت المقدس، يمكثون فيه
بعض الوقت، مصلين في ربوع المسجد القصى المبارك.
وكان بعضهم يؤخذ بجلل المكان وقدسيته فيعقد العزم على البقاء فيه، ومن هنا نشأت زوايا وأحياء
المجاورين الذين قدموا إلى القدس وسكنوا المدينة، مواظبين على العبادة، أو طالبين للعلم، أو مجاورين
لتلك البقعة الطاهرة، وكثرت الوقفيات المخصصة لخدمتهم، وقاموا على عمارة القدس، وعمارة
مساجدها، ما يعطي دليل آخر على أهمية التوجيه النبوي الهادف إلى حث المسلمين على سكنى القدس
وعمارة مساجدها وأرضها المباركة، وخاصة المسجد القصى، مسرى الرسول الكريم صلى ال عليه
وآله وسلم، ومعراجه إلى السماء.
مما لشك فيه أن مكانة بيت المقدس الدينية قد تجلت في كثير من الحداث والمواقع والروايات وبات
غير مجد فصلها عن الحرم المكي الشريف، أو المسجد الحرام، والمسجد النبوي في المدينة المنورة،
وهي قبلة المسلمين الولى، أرض طاهرة مقدسة من ال عز وجل.
ولم تذكر المصادر التاريخية أن النبي صلى ال عليه و آله وسلم، أعطى أحدا من أهله أو من الصحابة
أرضا، إل ما أعطاه وقطعه "لتميم الداري" في أرض خليل الرحمن من أرض فلسطين الطاهرة، التي
يعتبر الحرم البراهيمي فيها من أقدس المساجد السلمية.
لقد أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك، أن يؤكد على قدسية أرض فلسطين، وعلى أنها البقعة
الطاهرة المقدسة التي ينبغي على المسلمين أن يتمسكوا بها أشد التمسك وإعطاء تميم الداري أرضا في
الخليل، إنما هو مصداق ذلك، وتبيان أيضا لمكانة الحرم البراهيمي الشريف.
لقد حل للبعض، إشاعة وهم بأنه يمكن الستعاضة عن الحج إلى البيت الحرام، بزيارة القدس، وهذا
ليس صحيحا، فمناسك الحج معروفة، وهو ل يكون إل إلى البيت الحرام، ولكن زيارة القدس، تنطوي
على المعاني التي ذكرنا، والحديث النبوي الشريف واضح، ول يترك أي مجال للبس في هذا المر،
فالمقصود من الحديث هو التوجه من المسجد القصى إلى البيت الحرام، ولو أراد رسول ال صلى ال
عليه وآله وسلم غير ذلك، لكان أوضحه وحث عليه بكلم صريح، ل يترك مجال للتأويلت.
المسلم هنا ليس مخيرا في الحج إلى البيت الحرام، أو زيارة المسجد القصى، بل الحج إلى البيت
الحرام، وإنما يثاب ثوابا عظيما على جعل وجهته إلى البيت الحرام، انطلقا من المسجد القصى
المبارك.
أما من أدوا في بيت المقدس مناسك مشابهة لمناسك الحج، فربما أرادوا زلفى إلى ال عز وجل،
وتعظيما لمكانة المسجد القصى الذي ذكره ال في كتابه العزيز، وحث رسوله الكريم صلى ال عليه
وسلم، على زيارته وعمارته. ولم يكونوا، ول هم يستطيعون، جعل المسجد القصى مكان البيت الحرام.
فالمكانان مقدسان، وفيهما بيتان ل عز وجل، ولكن التوزع فيما بينهما يضرب الوحدة السلمية،
ويقوض واحدة من أهم غايات الحج، وهي اجتماع المسلمين على صعيد واحد في وقت محدد.
لقد ظل جو العبادة والتقديس، يلزم بيت المقدس، ووصفها الشعراء المسلمون، وأجادوا القول فيها
متبعين نهج الربط بين البيت الحرام والمسجد القصى، فهذا المعري يقول:
وبعين سلوان التي في قدسها
طعم يوهم أنه من زمزم
ولو لم تكن عين سلوان التي يشرب منها أهل بيت المقدس، ترتبط بذهن المسلمين بعين زمزم، التي
يشرب منها أهل مكة وحجيجها، لما انعكس ذلك في شعر المسلمين الذين دأبوا على زيارة بيت
المقدس، وتأكيد فضله وقداسته.
وقال الشاهر المعلى بن طريف، مولى الخليفة المهدي:
يا صاح إني قد حججت وزرت بيت المقدس
لدا عامدا في غير مأوى سرخس ` وأتيت
وتذكر المصادر التاريخية، أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، قد زار بيت المقدس، بعد أدائه
فريضة الحج إلى مكة المكرمة، سنة مائة وأربعين للهجرة.
كما زارها الخليفة المهدي بعد أدائه فريضة الحج، سنة مائة وستين للهجرة، وعاد إلى زيارتها ثانية،
سنة مائة وثلث وستين للهجرة.
بيت المقدس أسير اليوم، وتحريره واجب على المسلمين، إنقاذا لبيت ال المقدس، وحبا في ثواب
الحرام للحج والعمرة، من البقعة الطاهرة.
ثورة 1920
شكل تحرك القدس ذروة أحداث أول ثورة فلسطينية ضد النتداب البريطاني والصهاينة سنة ألف
وتسعمائة وعشرين. في ذلك الوقت تكاملت عوامل تفجر الثورة، فحكومة النتداب كانت تعمل لنفاذ
وعد بلفور واللجنة الصهيونية التي اعترف بها الحلفاء تطلق تصريحات استفزازية وتكشف عن
مطامعها في فلسطين، بينما يمنع البريطانيون أي تحرك فلسطيني وبالقوة.
فمنعوا عقد المؤتمر الفلسطيني لدورته الثانية في القدس بينما أشرعوا أبواب فلسطين لهجرة اليهود
... وكان ل بد من المقاومة. انفجرت التظاهرات في معظم أنحاء فلسطين فما كان من حكومة النتداب
إل أن أصدرت أمرا بمنع كل التظاهرات، ومهما كان هدفها وشكلها.
عمد المقاومون إلى مهاجمة المستوطنات الصهيونية في الحولة وغور الردن، وكذلك الحاميات
البريطانية في سمخ وبيسان. واجهت سلطات النتداب المقاومين بالطائرات.
ومع حلول شهر نيسان من ذلك العام. جاء موسم النبي موسى. والموسم مناسبة اجتماعية دينية
ظهرت أثناء الحتلل الفرنجي وكان الهدف منها، التحريض على مقاومة الفرنجة.
ويتم الحتفال بالمناسبة عادة في موقع يبعد ثلثين كيلو مترا عن القدس باتجاه أريحا، ولكن الحتفال
يبدأ عمليا بالتجمع في ساحات الحرم القدسي، حيث يفد أبناء فلسطين من مدنها وقراها شاهرين
سيوفهم ورماحهم رافعين راياتهم، ومنشدين الناشيد الدينية والوطنية وبعد أن يكتمل التجمع يتجه
الحشد إلى مكان الحتفال.
يوم الرابع من نيسان منعت قوات الحتلل البريطاني أهل الخليل من دخول القدس للمشاركة في
الحتفال، وكان أهل القدس وأهل نابلس قد خرجوا لستقبالهم وشارك في الستقبال أبناء الطوائف
المسيحية كالعادة. هتف الجميع ضد الحتلل البريطاني والصهيونية وطالبوا بالوحدة العربية
والستقلل.
وتمكن أهل الخليل من دخول القدس عنوة، واتجهت الجموع إلى الساحة أمام باب الخليل، حيث خطب
فيها موسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس ورئيس الجمعية السلمية – المسيحية، وخليل بيدس،
وعارف العارف والحاج أمين الحسيني وغيرهم .. وكانت الكلمات حماسية أثارت الشعور القومي.
اندس بين الجموع المحتشدة صهيوني يدعى كريمر بن مندل محاول خطف العلم العربي وتمزيقه،
فانقض عليه الرجال وقتلوه، ثم جاء صهيوني آخر مع عدد من الجنود البريطانيين لنزال العلم فقتله
الرجال، واندلعت معركة بين الفلسطينيين وبين الجنود البريطانيين وأفراد العصابات اليهودية
الصهيونية.
استشهد فيها أربعة من الفلسطينيين وخمسة من اليهود، وسقط مائة واثنان وعشرون جريحا من
الطرفين. كانت هذه المعركة ضربة البداية لثورة استمرت خمسة أيام في القدس، قتل فيها تسعة من
اليهود وجرح مائتان وخمسون من الطرفين.
وقد فرضت القوات البريطانية حصارا كامل على بيت المقدس وفرضت الحكام العرفية لخماد الثورة.
وعزلت موسى كاظم باشا الحسيني عن رئاسة بلدية القدس، وشنت حملة اعتقالت واسعة، وفرضت
أحكاما بالسجن على ثلث وعشرين من الشخصيات المقدسة بالبارزة من بينها الحاج أمين الحسيني،
وعارف العارف، غير أنهما توجها إلى شرقي الردن.
لم تدم المواجهة طويل، ولكنها أشرت إلى جملة من الشياء المهمة. فهي نقلت الكفاح الفلسطيني ضد
الستعمار والصهيونية من مرحلة البدء بالوعي وإدراك المخاطر إلى مرحلة المقاومة الشعبية، وأسست
للثورات اللحقة التي استفادت من تجربتها القصيرة زمنيا، ولكن العميقة الدللة.
كما أنها كشفت أكثر فأكثر ألعيب بريطانيا ومدى تحالفها مع الحركة الصهيونية. فقد أميط اللثام عن
قيام الزعيم الصهيوني جابوتنسكي الذي كان يحارب في صفوف الجيش البريطاني خلل الحرب العالمية
الولى بتشكيل وحدات عسكرية صهيونية كانت تتدرب علنا وراء مدرسة ليمل وفوق قمة جبل الزيتون
في القدس.
ومع أن بريطانيا ظلت تزعم عدم موافقتها على تشكيل هذه الوحدات فقد زجت بها مع الصهاينة في
مواجهة الثوار الفلسطينيين في القدس.
ورغم أن تقرير لجنة بالين التي عينتها الحكومة البريطانية فضح اللعيب التي تقوم بها حكومة
النتداب، إل أن هذه لم تغير سياستها، بل اتبعت سياسات أكثر قمعية تجاه المواطنين الفلسطينيين،
وسهلت تدفق المهاجرين اليهود على فلسطين، ما كان سببا في اندلع ثورات فلسطينية متلحقة ..
ومن القدس أيضا.
ثورة البراق
مع تزايد تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين برعاية بريطانية، تصاعدت العتداءات الصهيونية على
حائط البراق الذي شكل بؤرة الستهداف اليهودي كما أوضحته في حلقات سابقة.
يعود تسلسل الحداث إلى عام خمسة وعشرين، عندما وقع أول صدام بين العرب واليهود، بسبب
تعديات هؤلء على حائط البراق، بعد عامين من ذلك حاول البريطانيون التحايل لتثبيت حقوق مزعومة
لليهود في الحائط، فقام حاكم مقاطعة القدس النجليزي، بإعلم رئيس المجلس السلمي العلى، أنه لن
يسمح بالذهاب إلى حائط البراق حفاظا على المن العام، وتحديدا في ساعات معينة، لن اليهود اعتادوا
أن يجتمعوا في تلك الوقات لجل الصلة.
رفض رئيس المجلس التحرك، في كتاب مفصل اعترض فيه على الذرائع التي ساقها الحاكم النجليزي
مبينا أن منع المسلمين من دخول الحرم والتوجه إلى حائط البراق يمنح اليهود حقوقا ليست لهم في
المكان، فضل عن أنه يثير عواطف المسلمين، وتم إحباط المسعى البريطاني.
لكن اليهود واصلوا الستفزازات والتجمع أمام الحائط، ووقعت صدامات محدودة جديدة سنة ثمان
وعشرين اضطرت بعدها الحكومة البريطانية إلى إصدار كتاب أبيض يدعو للحفاظ على الحالة الراهنة
لحائط البراق والعتراف للمسلمين بحقهم في ملكيته.
مع مطلع العام تسعة وعشرين، تصاعدت التحركات البريطانية لتنفيذ وعد بلفور بتسهيلت واسعة
لتدفق المهاجرين اليهود الصهاينة إلى فلسطين، وبمصادرة الراضي لصالح الستيطان اليهودي.
استشعر الصهاينة أنهم يملكون القوة والدعم البريطاني، فأطلقوا في آب أغسطس من العام المذكور
مظاهرة ضخمة في تل أبيب، خرج المشاركون فيها "الحائط حائطنا" ودعوا إلى التوجه نحو القدس في
اليوم التالي، وبالفعل انطلقت في الموعد المحدد مظاهرة كبيرة لليهود في بيت المقدس، وتوجهت نحو
حائط البراق، مع تكرار الهتاف: الحائط حائطنا، وقاموا بتركيز أدوات خاصة بهم قرب الحائط.
صادف اليوم التالي عيد المولد النبوي،الذي اعتاد المسلمون الحتفال به في الحرم القدسي الشريف،
وقد جاءت جموع كبيرة منهم للحتفال بالمناسبة.
بعد أداء صلة الظهر انطلق المصلون إلى حائط البراق، وهناك استمعوا إلى خطبة من الشيخ حسن أبو
السعود، تبين فيها الخطار التي تتهدد المقدسات السلمية، فقام المتظاهرون بتحطيم منضدة لليهود
أمام حائط البراق، وأخرجوا من فجواته الوراق التي وضعها اليهود فيها.
تجددت الصدامات الدامية في اليوم التالي، فسارعت قوات الحتلل البريطاني إلى التدخل لصالح
الصهاينة واعتقلت عددا من الشباب العرب، واستمرت الصدامات متفرقة، فيما تواترت النباء عن نية
الصهاينة الستيلء على حائط البراق، فاندفعت أعداد كبيرة من أهالي مدن وقرى فلسطينية إلى بيت
المقدس يوم الجمعة، الثالث والعشرين من الشهر الثامن لعام تسعة وعشرين، لداء الصلة في الحرم
القدسي، وحماية البراق.
تسلح الفلسطينيون بالعصي والهراوات، ولدى خروجهم من صلة الجمعة وجدوا تجمعا من الصهاينة
يتحداهم فاندلعت مواجهات عنيفة، تدخلت فيها القوات البريطانية مطلقة النار على العرب، ودفعت
بالمصفحات إلى المدينة، فيما حلقت الطائرات في الجو لرهاب المقدسيين، الذين تمترسوا في المدينة
والحرم للدفاع عنهما.
ومع وصول أبناء القدس، إلى بقية أنحاء فلسطين، اندلعت ثورة البراق، حيث هاجم الشبان
الفلسطينيون، المستعمرات الصهيونية ومراكز البوليس البريطاني، وتمكنوا من تدمير ست مستعمرات
تدميرا كامل.
مما صعد أوار الثورة مهاجمة اليهود لمسجد عكاشة القديم في القدس، وتدنيسه، وكذلك التدخل السافر
للقوات البريطانية ضد العرب، شملت أحداث الثورة معظم مدن فلسطين، وتركزت أعنف المواجهات في
الخليل ونابلس وبيسان وحيفا وصفد واستمرت فعاليات الثورة فيها نحو عام كامل.
قتل في أحداث ثورة البراق مئة وثلثة وثلثون صهيونيا، واستشهد مئة وستة عشر مواطنا فلسطينيا
واعتقلت سلطات النتداب تسعمائة مواطن فلسطيني، أصدرت أحكاما بالعدام على سبعة وعشرين
منهم، ونفذته في ثلثة منهم هم الشهداء: "محمد جمجوم، فؤاد حجازي، عطا الزير".
وطبقت السلطات البريطانية عقوبات جماعية على المدن والقرى الفلسطينية ما أظهر أن العرب في
فلسطين يواجهون عدوين متلحمين هما "النتداب البريطاني والعدو الصهيوني".
أكدت ثورة البراق أن الشعب الفلسطيني مستعد للدفاع عن أرضه، وبتأثير الثورة، جاءت لجنة )شو(
إلى فلسطين، وأوصت بعد مائة يوم من عملها بتخفيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأكدت أن البراق
ملكية إسلمية، ل حق لليهود فيه.
حائط البراق
يرتبط حائط البراق بمعجزة السراء والمعراج الخالدة في العقيدة السلمية والتاريخ السلمي كونه
يشكل مربطا للبراق الذي أقل الرسول الكريم صلى ال عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد
القصى، والذي امتطاه الرسول الكريم أثناء عودته بعد معراجه إلى السماء.
والبراق دابة كان يركبها النبياء عليهم السلم وجاء في الطبقات الكبرى لبن سعد: أن الرسول حمل
على البراق حتى انتهى إلى بيت المقدس، فانتهى البراق إلى موقفه الذي كان يقف في مربطه.
والمعروف عند أهل القدس بالتواتر والتوارث أنه يوجد محل يسمى البراق، وهو عند باب المسجد
القصى المسمى باب المغاربة، ويوجد مسجد يسمى "مسجد البراق" أيضا يلصق الجدار الغربي للمسجد
القصى، وقد هدمه الصهاينة حين احتللهم للقدس عام سبعة وستين، فيما هدموه من مساجد وآثار
وأبنية، وأغلب الظن أنه المكان الذي ربط فيه البراق.
يبلغ الطول الصلي للحائط، ثمانية وخمسين مترا، ويبلغ ارتفاعه عشرين مترا، ويضم خمسة وعشرين
مدماكا من الحجارة السفلية منها هي القدم.
ويبلغ عمق الحائط المدفون تحت سطح الرض نحو ثلث الحائط الظاهر فوقه، أما الرصيف الموجود
أمام الحائط حاليا فيرتفع عن مستوى سطح البحر نحو سبعمائة وثمانية أمتار، وهذا أخفض مكان من
أرض مدينة القدس القديمة حاليا.
بعد الحتلل الصهيوني لمدينة القدس عام سبعة وستين، تم إجراء حفريات في المنطقة المواجهة
للحائط، بهدف إظهار الجزء المخفي منه، وكشف طبقات الحجارة المطمورة.
أتضح أن الحائط القديم يتكون من سبع طبقات حجرية يعود تشكيلها إلى فترة حكم هيردوس الدومي ما
بين عامي سبعة وثلثين وأربعة قبل الميلد.
وهناك أربع طبقات حجرية يعود تشكيلها إلى العصر الروماني الول، في القرن الميلدي الثاني أما
الحجارة في القسم العلوي من الحائط، فقد أقيمت في العهد البيزنطي، فيما أقيمت أقسام أخرى بعد الفتح
العربي السلمي لبيت المقدس، استمرت الحفريات التي قام بها الصهاينة قرابة عامين، وتسببت في
هدم العشرات من العقارات والبنية الوقفية، بحجة كشف الساحة أمام الحائط، الذي أصبح طوله عند
الصهاينة نحو ثلثمائة وستين مترا، ويرون أن طوله الكلي يقع على امتداد الجدار الغربي للحرم
القدسي، والبالغ طوله نحو أربعمائة وواحد وتسعين مترا.
ويطلق الصهاينة على هذا الحائط اسم المبكى علما أن الحائط الذي كانت تطلق عليه هذه التسمية هو
جزء صغير من الجدار الغربي، اعتاد الصهاينة القدوم إلى زيارته وتأدية طقوس خاصة بالقرب منه،
بزعم أنه جزء من جدار هيكلهم القديم المزعوم.
فالموسوعة اليهودية تدعي أن حائط البراق هو جزء من جدار جبل الهيكل الذي ظل معطل منذ تدميره
الثاني في العام سبعين للميلد، وأنه أضحى من أكثر الماكن قدسية في العادات والشعائر اليهودية،
وتعترف الموسوعة اليهودية أن جميع بقايا المعبد قد محيت تماما عبر الزمن، فيما لم تكن واضحة
بالنسبة لليهود جهة العبادة، واستنادا إلى تفسيرات يهودية مختلفة يعتبر الجزء المجاور للبوابة الغربية
هو الجزء الكثر قداسة كونه لم يتعرض للهدم كباقي أجزاء الحائط الخرى.
وعموما تقدم الموسوعات التي يضعها اليهود والصهيونيين نصوصا متميزة تمتلئ بالدعاوى المغرضة
والتضليلية دون أن مبالة بوقائع التاريخ وحقائقه ومعطياته الثرية.
فالموسوعات والقواميس والكتب التي تعنى بالشؤون اليهودية تنفق على أن هيرودس باني المعبد
القصر في القدس لم يكن يهوديا، بل هو عربي أدومي، والدميون من ألد أعداء اليهود، الذين كانوا
يكرهون هيرودس الكبير كثيرا، وهو الذي قتل أفراد السرة الحشمونية الذين اعتبرهم خطرا على ملكه.
لقد أراد هيرودس بناء هيكل في القدس ليكسب رضا رعاياه، ويدهش العالم الروماني بفخامة بناءه
الذي تم في العام تسعة قبل الميلد، واستمر قائما حتى العام سبعين ميلدي، حيث دمره الرومان، وهو
الهيكل الذي زاره السيد المسيح.
هكذا يبدو جليا أن المزاعم اليهودية حول حائط البراق هي مزاعم تفتقر إلى أي منطق أو دليل، إذ ل
علقة لليهود ببناء هيرودس، وليس مؤكدا أنه أطلق عليه اسم الهيكل أصل.
معركة القسطل
القسطل قرية عربية تقع على مبعدة عشرة كيلومترات إلى الغرب من مدينة القدس، وتشرف على
طريق القدس يافا الرئيسية المعبدة من الجهة الجنوبية الغربية كانت الوظيفة العسكرية أهم وظائف
القرية لتميز موضعها بسهولة الحماية والدفاع، ومن هنا فقد سعى الصهاينة لحتللها في إطار خطتهم
لفتح الطريق إلى القدس، وهي الخطة المعروفة باسم خطة )نحشون(.
حتى آذار من عام ثمانية وأربعين كان الموقف العسكري في فلسطين يميل لصالح العرب، الذين حققوا
انتصارا ساحقا على الصهاينة في معركتين كبيرتين في منطقة القدس، خلل آذار، الولى معركة شعفاط
والثانية معركة الدهيشة.
حيث أدت المعركتان إلى تشديد الحصار على الصهاينة في القدس، وانقطع اتصالهم تماما مع تل أبيب،
بسيطرة المجاهدين على كافة طرق القدس.
انصبت كل جهود الصهاينة على فتح طريق إلى القدس قبل أن ينتهي البريطانيون انتدابهم في فلسطين،
لتحقيق مكاسب على الرض من ناحية، والفادة من الدعم البريطاني من ناحية ثانية ولمنع استسلم
المحاصرين في مستوطنات القدس من ناحية ثالثة.
خصص الصهاينة خمسة آلف من أفراد الهاغاناه والبالماخ والرغون وشتيرن لتنفيذ الخطة، وسلح
هؤلء بأسلحة حديثة وصلت للصهاينة من تشيكوسلوفاكيا.
حدد الصهاينة الموعد الول للهجوم في مطالع أيار، ثم وصلت معلومات إلى قيادة قوات الجهاد المقدس
بأنه قد جرى تقديم الموعد إلى نيسان، لذلك عقد كامل عريقات اجتماعا طارئا مع الشيخ حسن سلمة،
قائد الجهاد المقدس في يافا، ووضعا خطة لمجابهة الهجوم الصهيوني، ثم عقد عريقات اجتماعا مع
قادة جبهة القدس، وهم إبراهيم أبو دية، رشيد عريقات، عبد الحليم الجيلني، بهجت أبو غربية، خليل
منون، وفوزي القطب وغيرهم.
قرر المجتمعون بغياب عبد القادر الحسيني، حشد كل قوات الجهاد في المنطقة، وتعزيزها بشباب القرى
المسلحين، ووزعوهم بسرعة فائقة ليلة الول من نيسان على مراكز باب الواد دير محيسن، وساريس
والقسطل.
كما حشدوا قوات أخرى لصد أي هجوم يهودي باللتفاف على القدس عن طريق بيت لحم، بدأ الصهاينة
هجومهم يوم الثاني من نيسان، بعد أن قسموا قواتهم إلى قسمين، قسم اتجه نحو منطقة دير محيسن،
وقسم إلى ممر باب الواد لقتحامه والستيلء على القسطل.
تمكن الشيخ حسن سلمة من استيعاب الهجوم الصهيوني في دير محيسن، ورد الصهاينة على أعقابهم
وبينما كان يستعد للتوجه إلى القسطل لسناد المجاهدين هناك، تجدد الهجوم على منطقته واستمرت
المعركة حتى منتصف الليل وانتصر فيها المجاهدون.
استطاع القسم الثاني من المهاجمين الصهاينة وهو الكبر اقتحام ممر باب الواد في معركة عنيفة مع
المجاهدين ودخل الصهاينة القرية في منتصف الليل بعد أن تغلبوا على حاميتها المكونة من خمسين
مجاهدا نفذت ذخيرتهم.
كانت قيادة الجهاد المقدس تعرف أهمية القسطل فانطلقت عشرات النجدات من القدس والخليل لطرد
الصهاينة من القرية، وفجر الرابع من نيسان تمكن المجاهدون بقيادة كامل عريقات من احتلل مشارف
القرية، ثم محاصرتها، ومع وصول نجدات جديدة يوم الخامس من نيسان، شدد المجاهدون هجومهم،
وأطبقوا الحصار على الصهاينة، لكنهم افتقدوا الذخيرة الكافية لدحر المحتلين أو القضاء عليهم.
تدخلت مدفعية الصهاينة في محاولة لرد المجاهدين، لكنهم مع ذلك استطاعوا التغلغل في القرية،
وأصبحوا على بعد مائتي متر من وسطها، لكن إصابة كامل عريقات وذهاب إبراهيم أبو دية إلى إسعافه
خلخل صفوف المجاهدين، ووصلت نجدات للصهاينة، كما وصلت نجدات للمجاهدين من القدس، تمكنوا
معها من الحتفاظ بمشارف القرية من الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية، رغم تدخل الطائرات
والمدفعية الصهيونية بعنف شديد، بل وقام إبراهيم أبو دية بقيادة المجاهدين في عمليات اقتحام داخل
القرية حيث فجر عددا من مواقع المحتلين.
صباح السابع من نيسان وصل عبد القادر الحسيني من دمشق، وبعد ظهر اليوم نفسه توجه إلى قيادة
معركة القسطل التي أخذت طابعا أخر مع وصوله.
معركة القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني
ارتبطت معركة القسطل باسم شهيدها البرز المجاهد عبد القادر الحسيني.
ولد عبد القادر الحسيني في الثامن من نيسان عام ألف وتسعمائة وثمانية، واستشهد في اليوم نفسه
من عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.
قائد قوات الجهاد المقدس، مقدام وذكي ومصمم وشهيد القسطل.
كان عبد القادر الحسيني قد غادر القدس متوجها إلى دمشق نهاية آذار من عام ثمانية وأربعين، وذلك
بهدف الجتماع بقيادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية، والحصول على السلح
اللزم لتنفيذ القدس والمحافظة على التفوق الذي حققه المجاهدون في معاركها.
ومع وصول أخبار معركة القسطل إلى المجاهد الحسيني، فقد غادر دمشق على وجه السرعة متوجها
إلى القدس، وبدل نيل متطلباته الكثيرة والمتنوعة التي قدمها إلى اللجنة العربية العسكرية عاد بنصف
كيس من الرصاص فقط.
من القدس توجه الحسيني إلى القسطل بسرعة فوصلها ظهيرة السابع من نيسان، وعمد على الفور إلى
إعادة تنظيم صفوف المجاهدين، وعين على الميمنة في الجهة الشرقية، المجاهد حافظ بركات، وعلى
الميسرة من الجهة الغربية، الشيخ هارون بن جازي، وفي القلب فصيلتان بقيادة إبراهيم أبو دية، وفي
موقع القيادة كان الحسيني، وعبد ال العمري، وعلي الموسوس إضافة إلى فيصلي استناد في الجهة
المقابلة، وبدأ الهجوم وفق هذا الترتيب، لتتمكن قوات القلب والمسيرة من اكتساح مواقع العدو
واستحكاماته المامية، ولكن التقدم كان صعبا بسبب قلة الذخيرة، وأصيب إبراهيم أبو دية مع ستة
عشر من رجاله بجراح، هنا اندفع عبد القادر الحسيني لتنفيذ الموقف، فاقتحم القرية مع عدد من
المجاهدين تحت وابل من نيران الصهاينة ومع طلوع فجر الثامن من نيسان، وقع عبد القادر ومن معه
في طوق الصهاينة، فاندفعت نجدات كبيرة إلى القسطل، كان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف،
لكن هذه النجدات على كثرتها لم تكن منظمة.
عند الظهر، تمكن رشيد عريقات من المساك بزمام القيادة، فأمر بتوجيه نيران السلحة المتبقية
جميعها على القرية لقتحامها، وبالفعل تمكن المجاهدون بعد ثلث ساعات من الهجوم المركز من
اقتحام القرية وطرد الصهاينة منها حيث فر من تبقى منهم، بسيارات مصفحة باتجاه طريق يافا.
حاول قادة المجاهدين استثمار النصر، بمطاردة فلول الصهاينة، ولكن العثور على جثمان الشهيد عبد
القادر الحسيني، ترك في نفوس المجاهدين وقعا أليما، وساد صفوفهم الرتباك، وفقد القادة سيطرتهم
على الفراد، الذين شرعوا في مغادرة القسطل لتشييع عبد القادر الحسيني وعند المساء لم يعد داخل
القرية سوى رشيد عريقات وعبد الحليم الجيلني، مع عدد قليل من المجاهدين.
حاول القائدان استدعاء نجدات إلى القرية ولكن استشهاد الحسيني كان له وقع الزلزال فلم يستجب أحد،
وفي التاسع من نيسان، شيعت القدس في موكب مهيب جثمان شهيد القسطل، الذي روي الثرى في
الحرم القدسي.
وفي وقت متأخر من ليل اليوم نفسه، انسحب عبد الحليم الجيلني من القسطل، مع من بقي معه، فعاد
الصهاينة لحتللها في اليوم التالي ..
وبينما انشغل المجاهدون في وداع قائدهم الكبير، استغل الصهاينة الفرصة ليقترفوا المجزرة البشعة في
دير ياسين.
كانت معركة القسطل رغم الظروف غير المتكافئة مثل رائعا من أمثلة التضحية والحماسة والندفاع
ولكنها كانت أيضا انتصارا ضائعا نتيجة ضعف التسليح، والفتقار إلى التنظيم، وقلة الذخائر وسوء
الخدمات الطبية الميدانية، ووسائل التصال.
التدخلت الوروبية
مثلما استخدم الفرنجة شعارا دينيا لتسويغ عدوانهم على بيت المقدس، رأت الدول الوروبية في ما
أسمته حماية الطوائف المسيحية والماكن المقدسة وسيلة مناسبة لمد نفوذها إلى القدس وفلسطين،
حتى لو اقتضى ذلك أن تعمل على تأجيج الخلفات بين الطوائف المسيحية، وبث بذور الفرقة فيما
بينها.
سعت فرنسا بداية إلى أن تضمن البقاء على المكتسبات التي حققتها الكنيسة الكاثوليكية أثناء الحكم
الفرنجي.
وجرى عقد معاهدات في هذا الطار بين الفرنسيين وحكام ايطاليا من جهة وبين سلطين المماليك من
جهة أخرى، وهي شملت السماح لرسالية الفرنسيسكان بالقامة في المدينة المقدسة.
كانت حرية العبادة كاملة، عمل بقوله تعالى: "فليحكم أهل النجيل بما أنزل ال فيه". غير أن الوروبيين
سعوا إلى نقل الخلفات إلى بيت المقدس خدمة لهدافهم وغاياتهم البعيدة عن موضوع الدين والعبادة
فظهرت الخلفات بين الطوائف المسيحية في المدينة، وقام سلطين المماليك ثم العثمانيون بفضها، قبل
ظهورها أمام المؤتمرات الدولية.
وأصبحت هذه الختلفات من الشدة إلى درجة أن أصحابها من رؤساء الطوائف المسيحية أخذوا
يحتكمون فيها إلى السلطين وولة القدس المسلمين، وعندما لم تجد الطوائف المسيحية من تتوافق
عليه من بينها لحراسة كنيسة القيامة، ارتضت قيام المسلمين بحراستها وفتحها حتى تنتهي طقوس
العبادة ثم إغلقها وحمل مفاتيحها.
لعبت التدخلت الوروبية دورا في عدد من القرارات والحكام التي أصدرها السلطين المماليك، في
القضايا المرفوعة أمامهم من رؤساء الطوائف المسيحية ومن ذلك الفرمان الذي أصدره الظاهر برقوق
سلطان مصر، نهاية القرن الرابع عشر ، بصدد الخلف بين اللتين والروم، إذ أيد فيه حق اللتين
الكاثوليك في المساكن المتنازع عليها في القدس، كما منع الروم الرثوذكس من التعرض لهم.
وفي عهد السلطان الشرف قاتيباي اختصم الكرج واللتين على كنيسة الجلجلة فقام بتقسيمها بينهم.
استمر الحال على هذا المنوال، في عهد العثمانيين، وظهرت على مسرح النزاع طوائف أخرى، وفي كل
مرة، كان الفريق المغلوب يلجأ إلى الحاكم الذي بيده السلطة.
ويسعى إلى استثمار نفوذ دولة أوروبية تؤيده لدى الحاكم. ففي عام ألف وخمسمائة وواحد وأربعين،
اشتد الخلف بين المسيحيين الرثوذكس من أبناء البلد الصليين، وبين رئيس البطريركية اليوناني
جرمانوس، فرأى اللتين الفرصة مناسبة للستفادة من المتيازات التي قد منحها سليمان القانوني
لفرنسوا الول، وحصلوا بالفعل على أمر بأن يخلى الروم والرمن القباب الثلث في كنيسة القيامة وأن
يسلموا المفاتيح والشمعدانات والقناديل إلى الفرنسيسكان.
وصار لفرنسا وحدها حق حماية الكاثوليكية اللتينية ومصالحها في البلد المقدسة.
ولكن انشغال الدول الوروبية الكاثوليكية بالحروب الداخلية في أوروبا شجع الرثوذكس على المطالبة
بحقوقهم في كنيسة القيامة وحصلوا بالفعل على فرمانات من السلطان مراد الرابع في أواسط القرن
السابع عشر، ما أثار حفيظة اللتين وملك فرنسا، والبابا اوربانوس الثامن، فصدر فرمان جديد يؤيد
حقوق اللتين.
وبسبب هذه المواقف المتقلبة، بدت الفرصة سانحة لتدخل أوروبي أكبر أثرا، فسعت فرنسا بحكم
علقاتها الوثيقة مع الدولة العثمانية إلى الحصول على اعتراف الباب العالي بأن تكون فرنسة حامية
للمسيحية في بلد الدولة العثمانية، وأن تشمل الحماية الفرنسية أبناء الدولة العثمانية من المسيحيين
الكاثوليك والتخطيط لحقوق اللتين والروم والرثوذكس ولكن الدولة العثمانية رفضت.
استغلت فرنسة، ظروف الحرب التي شنتها روسيا والنمسا وبولندا والبندقية ضد السلطنة، لتجبرها على
تلبية المطالب الفرنسية، وسيطر الرهبان اللتين الكاثوليك على الماكن المقدسة في القدس، وتم تثبيت
هذه السيطرة في فرمان سلطاني، صدر سنة ألف وستمائة وتسعين.. وفي عام ألف وسبعمائة وأربعين،
عقدت فرنسا مع الدولة العثمانية أول معاهدة بالمعنى الصحيح للمتيازات الجنبية، اعترفت فيها الدولة
العثمانية بحماية فرنسا لجميع من يدينون بدينها في بلد الدولة العثمانية، أي جميع اللتين من الجانب
ورعايا الدولة.
وأكدت المعاهدة حقوق اللتين التي حصلوا عليها بموجب الفرمانات السابقة.
لم يكن هذا حل للمشكلة بل تأسيسا جديدا لتفاقمها، فسوف يعود الرثوذكس إلى الحصول على فرمانات
لصالحهم. وتتطور المور إلى حروب دموية.
فمع إطللة القرن الثامن عشر، أصبح التدخل الوروبي بدعوى حماية الطوائف المسيحية والماكن
المقدسة، إحدى قواعد العلقات الدولية السائدة، لكن في القرن التاسع عشر سوف تندلع حرب القرم،
ومعها بداية التقاسم الفعلي لراضي السلطنة العثمانية، وفيها القدس التي وقعت في أيدي البريطانيين
تمهيدا لتسليمها إلى الصهاينة.
الحسينيون في القدس
يرتبط اسم عائلة الحسيني ارتباطا وثيقا بالقدس، حتى لتبدو العائلة والمدينة وقد جمعت بينهما وشائج
ل تنفصم عراها.
يعود اسم عائلة الحسيني المقدسية إلى الحسين عليه السلم، سبط )رسول ال صلى ال عليه وآله
وسلم(، وقد كانت هذه الصلة ذات أهمية قصوى في الدور الديني والسياسي الذي لعبه الحسينيون في
بيت المقدس، والقضية الفلسطينية.
جد الحسينيين المقدسين هو السيد محمد بدر الدين الحسيني، الذي جاء إلى فلسطين قادما من الحجاز
في القرن الثاني عشر الميلدي، واستقر في وادي النسور جنوب غرب القدس.
ثم انتقلت العائلة إلى بيت المقدس سنة ألف وثلثمائة وثمانين، وباشرت دورا مؤثرا فيها مستندة إلى
ثقلها الديني العريق، وانتقل بعض فروع العائلة إلى غزة واللد.
لعبت العائلة دورا مؤثرا في بيت المقدس منذ أيام محمد بن بدر الدين، ثم برز هذا الدور بشكل أكبر مع
تولي عبد القادر بن كريم الدين الوفائي الحسيني منصب دار الفتاء في القدس، كان منصب نقيب
الشراف والمفتي من أهم المناصب المحلية في ظل الدارة العثمانية، وغالبا ما تولى بعض أفراد العائلة
الحسينية هذين المركزين منذ بداية القرن السابع عشر حتى بداية القرن العشرين.
ففي القرن السابع عشر، عين السيد عبد اللطيف الحسيني شيخا للحرم القدسي ونقيبا للشراف في
القدس، وبعد وفاته تولى ابنه عبد ال منصب نقيب الشراف، حتى وفاته سنة ألف وسبعمائة وإحدى
عشرة، تله عبد اللطيف الثاني، الذي يعتبر من أبرز الشخصيات الحسينية، فقد كان نقيبا للشراف
وشيخا للحرم القدسي، منذ سنة ألف وسبعمائة وخمس وأربعين، حتى سنة ألف وسبعمائة وأربع
وسبعين، وكان معروفا في القدس وخارجها، وفي زيارة له إلى دمشق عمت شهرته في جميع البلد
حتى أنها فاقت شهرة والي دمشق نفسه، وبسبب غيرة الوالي صدر حكم على الحسيني بالبقاء في
القدس، ونقل مناصبه إلى ابنه عبد ال.
تولى حسينيون منصب نقابة الشراف في يافا واللد إضافة إلى القدس، واحتفظت العائلة بمنصب الفتاء
من سنة ألف وسبعمائة وإحدى وتسعين حتى سنة ألف وتسعمائة وسبع وثلثين ما خل فترات قصيرة.
ومن أبرز المفتين من آل الحسيني حسن الحسيني، وطاهر الحسيني ،الذي نفي مع نقيب الشراف عمر
بن عبد السلم الحسيني إلى القاهرة إبان حكم إبراهيم باشا بسبب الثورة عليه، ولم يعودا إل بعد
خروجه من فلسطين، شهدت الفترة لحقا انحسارا جزئيا للنفوذ الحسيني في القدس، ولكنهم استعادوا
الفتاء سنة ألف وثمانمائة وست وخمسين، وتولى المنصب السيد مصطفى الحسيني ثم ابنه طاهر، ثم
الشيخ كامل وأخيرا الحاج أمين الحسيني، الذي أبعده البريطانيون خارج فلسطين، وخلل حكم السلطان
عبد الحميد تولى الحسينيون مناصب إدارية ودينية في استانبول كما في القدس وفي سنة ألف
وثمانمائة وخمسين كان موسى الحسيني زعيما للعائلة ومسئول لمحكمة الجنايات في القدس، وأخوه
سليم نقيبا للشراف وابنه إسماعيل مديرا للمعارف.
وتولى سليم الحسيني رئاسة البلدية وكذلك تبعه أبناؤه حسين وموسى وكاظم الذي أصبح من مقدمي
شخصيات العرب، وبرز في فن الدارة في الدولة العثمانية، وأصبح رئيسا لبلدية القدس منذ سنة ألف
وتسعمائة وعشرين حتى عزلته السلطات البريطانية بسبب مواقفه الوطنية.
هذه الشخصيات فضل عن شخصيات أخرى لعبت دورا في مجلس المبعوثان، وفي حكومة فيصل
العربية في دمشق.
عرف الحسينيون بمواقفهم الوطنية في مواجهة الغزوة الصهيونية والنتداب البريطاني فقد تولى موسى
كاظم باشا الحسيني رئاسة اللجنة التنفيذية العربية وأصيب أثناء مظاهرة ضد البريطانيين، وأدت
الصابة إلى استشهاده سنة ألف وتسعمائة وأربع وثلثين، وكان الحاج أمين الحسيني، زعيما للنضال
الفلسطيني ضد البريطانيين والصهاينة وتولى رئاسة الهيئة العربية في فلسطين، وكان عبد القادر قائدا
لجيش الجهاد المقدس، وبطل الدفاع عن القدس ومعركة القسطل حتى استشهاده، ولعب ابنه فيصل
الحسيني دورا لفتا في الدفاع عن عروبة القدس وأسلميتها وفي قيادة النتفاضة الولى، حتى وفاته
سنة ألفين وواحد، وقد تعرض للعتقال مرارا وأصيب في التظاهرات.
الكنائس العربية المشرقية
لم يكن الخلف بين كنيسة القدس وكنيسة روما طارئا في وقت من الوقات، بل لعله حكم دوما العلقة
بين الكنيستين.
وفي العصر الحديث، سعت الكنائس العربية دوما إلى إظهار تمايزها عن مواقف الكنائس الغربية،
وظهر هذا المر بوضوح كامل في قضية القدس، فبينما تبنى الفاتيكان فكرة التدويل، وضمان حرية
العبادة، سعت غالبية الكنائس العربية إن لم تكن كلها إلى تأكيد عروبة القدس.
لقد تحفظت الكنائس العربية على قرار تبرئة اليهود من دوم المسيح، وفي مطلع السبعينات، دعا
مطارنة الطوائف المسيحية في الردن، البابا بولس السادس، إلى التدخل للحفاظ على عروبة المدينة
المقدسة. كما وجهوا نداء إلى المسيحيين في العالم، بالضغط على الكيان الصهيوني لتنفيذ قرارات المم
المتحدة، ووقف إجراءات التهويد التي يقوم بها في مدينة القدس.
وفي الوقت نفسه تقريبا، دعا مجلس البطاركة والمطارنة الكاثوليك في لبنان إلى صيانة الطابع الذي
يميز القدس، ويكفل لها كيانا متحررا من أي تدبير تفرضه القوة. واعتبروا أن مصير القدس والماكن
المقدسة، رهن العتراف بالحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني، التي ل يجوز التصرف بها.
وفي مطلع الثمانينات، ومع تزايد العتداءات على المقدسات السلمية في المدينة، قال رؤساء الطوائف
المسيحية في الردن: سنكون ضمن المسيحيين العرب دوما مشاركين أوفياء، وبكل قوانا للدفاع عن
قدسنا ومقدساتنا السلمية والمسيحية فيها.
الكنائس المشرقية العربية، تحفظت أيضا على العلقات بين الفاتيكان والكيان الصهيوني، واعتبرت
الكنيسة الرثوذكسية في الردن أن "الفاتيكان وحده انخرط في حوارات مع )إسرائيل( مشيرة إلى طابع
القدس الخاص المتعلق بالعروبة التي كانت الدرع القوي لها منذ العهدة العمرية".
وقد شددت الكنيسة الرثوذكسية دوما على عروبة القدس، وقال الرشمندريت عطا ال حنا: إن القدس
هي قلب الصراع، ول يجوز فصل القدس عن قضية الشعب الفلسطيني، فهي مدينة عربية فلسطينية بكل
مقدساتها السلمية والمسيحية، ويجب أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية.
الب عطا ال حنا، أكد أن الشعب الفلسطيني، واحد بمسلميه ومسيحييه في مواجهة العدو الصهيوني،
وكما انتصر الجنوب وتحرر بفعل المقاومة فإن فلسطين ستنتصر وتتحرر وعاصمتها ستكون القدس
بفضل المقاومة الفلسطينية.
فيما يؤكد بطريرك الروم الرثوذكس في لبنان اغناطيوس الرابع هزيم، على أن القدس قلب كنيسة
العرب فالسيد المسيح ولد وعاش في القدس وفلسطين، وقدس القصى وكنيسة القيامة للعرب مسلمين
ومسيحيين.. ول يجوز أن تكون القدس يهودية بأي صورة من الصور.
وثابر البطريرك هزيم على القول إن القدس عاصمتنا في الدرجة الولى، وأننا مع كل من يصر على أن
القدس يجب أن تحافظ على كرامتها، وأن تكون بالفعل لنا ولخوتنا المسلمين، ونحن نشجع الذين
يقومون بالنتفاضة.
مع انطلق انتفاضة القصى، لم تعد هذه المواقف مقتصرة على الكنيسة الرثوذكسية، فمجلس البطاركة
الكاثوليك في لبنان، أيد في بياناته التي أصدرها في العام ألفين قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس،
منددا بالظلم الذي يحل بالشعب الفلسطيني.
وأكد البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك الروم الكاثوليك على أن القدس هي قلب العالم
العربي، وقلب العالم كله، هي أم الكنائس وهي تملكنا، ونحن كلنا أبناؤها.. والقدس هي عاصمة الدولة
الفلسطينية.
وفي نهاية العام نفسه، اعتبر البطريرك الماروني مار نصر ال بطرس صفير، ومطران القدس السابق
ايلريون كبوجي، أن ادعاء اليهود بأن عاصمتهم هي القدس، هو ضرب من الخيال.
في أيلول من عام ألفين وواحد، اختتم مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك أعمال مؤتمره الحادي عشر،
وأصدر بيانا أكد فيه أنه "لن يكون في منطقتنا سلم ول استقرار ول أمن من دون منح الشعب
الفلسطيني حقوقه الثابتة والمشروعة في دولته المستقلة وعاصمتها القدس، أما البطريرك
غريغوريوس الثالث لحام، فدعا إلى دعم النتفاضة، لوصول الشعب الفلسطيني إلى حقوقه المشروعة
في دولته، خصوصا أن تكون القدس هي العاصمة الروحية ليماننا كله، والعاصمة أيضا لفلسطين.
في أحاديث الرسول "ص"
منح ال سبحانه تعالى رسوله الكريم محمدا صلى ال عليه وآله وسلم، نبوة متكاملة، فكان خاتم الرسل
والنبياء وإمامهم.
ولما كانت صلة النبي الكريم بربه صلة خاصة خالصة، فإنه عليه الصلةو السلم، أدرك القرآن إدراكا
نبويا خاصا، فسورة السراء التي افتتحها ال سبحانه وتعالى بالربط بين المسجد الحرام والمسجد
القصى، جعلت النبي عليه الصلة والسلم، يوضح للمسلمين مكانة المسجد الحرام والمسجد القصى،
في أحاديث شريفة كثيرة، تحدث بعضها عن قدم المسجد القصى وأصل بنائه، وبعضها عن فضائل بيت
المقدس ومكانته، وبعضها الثالث تحدث عن نهاية أمره وصراع المسلمين مع اليهود من أجله. وعدا
عن الحاديث النبوية الشريفة، فإن في سيرته صلى ال عليه وآله وسلم ،الكثير من القضايا المرتبطة
ببيت المقدس، مثل رسالته إلى قيصر الروم هرقل، ومثل الحديث عن السرايا المجاهدة التي أرادها
رسول ال، أن تتجه صوب الرض المباركة فلسطين والمسجد القصى.
في الحديث الشريف:
روى المام علي بن أبي طالب عليه السلم، أن رسول ال "ص" قال: "سيد البقاع بيت المقدس، وسيد
الصخور صخرة بيت المقدس"
وعن ميمونة مولة النبي صلى ال عليه وآله وسلم، قالت يا نبي ال، أفتنا في بيت المقدس، فقال
أرض المنشر والمحشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلة فيه كألف صلة فيما سواه. قالت أرأيت من لم
يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإن من أهدى له، كان كمن صلى فيه "
رواه أحمد وابن ماجه
وجاء في الحديث:
"من أهل بحجة أو عمرة من المسجد القصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو
وجبت له الجنة "
رواه أبو داوود
وفي سنن ابن ماجه:
من أهل بعمرة من بيت المقدس، كانت كفارة لما قبلها من الذنوب
وعن جابر أن رجل قال: يا رسول ال أي الخلق أول دخول إلى الجنة؟ قال: النبياء، قال ثم من؟ قال
الشهداء. قال ثم من؟ قال: مؤذنو المسجد الحرام. قال ثم من؟ قال: مؤذنو بيت المقدس. قال ثم من؟
قال: مؤذنو مسجدي هذا. قال ثم من؟ قال سائر المؤذنين على قدر أعمالهم."
وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه الصلة في المسجد الحرام بمائة ألف صلة،
والصلة في مسجدي بألف صلة والصلة في المسجد القصى بخمسمائة صلة " قال البزار: إسناده
حسن.
وقال صلى ال عليه وآله وسلم: "ل تشد الرحال إل إلى ثلثة مساجد مسجد الحرام، ومسجد القصى،
ومسجدي."
والحديث من الحاديث المسندة الصحيحة بسندها ومتنها. وقد رواه ستة من أصحاب الرسول صلى ال
عليه وعلى آله وسلم ورواه عنهم اثنا عشر تابعيا.
والحديث يدل على مكانة المسجد القصى في نفوس المسلمين. بل مكانة المسجد القصى في الشرع
السلمي. وبالتالي يدل على منزلة المكان الذي بنى فيه المسجد القصى، ومكانه ما حول من الصقاع،
لن ال سبحانه وتعالى بارك فيها بنص القرآن الكريم.
وهو ثالث ثلثة مساجد يضاعف فيها ثواب المسلم، والقدس التي تضم المسجد القصى ثالثة ثلث مدن
هي أركان أمة السلم.
وفي حديث رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم عن السراء من الرشاد ما يكفينا من قول حول مكانة
القصى.
وهي أحاديث كثيرة،وزاخرة بالمعاني وأول ما يعنيها وأبرزها:
أن رسول ال عليه الصلة والسلم، أسري به إلى مكان مقدس، قدسه ال قبل خلق البشر.
كذلك، فإن بيت المقدس، الذي صلى فيه رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم إماما للنبياء، هو مكان
رباني، يريد ال أن تتم فيه النبوات وتختتم بمحمد صلى ال عليه وآله وسلم، وهذا هو التحدي الرباني
لكل من بعث ال لهم أنبياء، وجحدوهم وقتلوا بعضهم، وانحرفوا عن عقيدتهم. فبصلته عليه أفضل
الصلوات والتسليم إماما للنبياء، ما يعني أن ديانة التوحيد سيقودها هذا النبي، وأن المسجد القصى
الذي هو مقدس رباني أولى بمحمد صلى ال علية وآله وسلم، وبمن آمن معه من المسلمين
الموحدين، الذين أناط ال بهم مسؤولية حماية بيته المقدس.
قال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم:
"ل تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر
والشجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد ال .هذا يهودي خلفي تعال واقتله، إل الغرقد، فإنه
من شجر اليهود"
صحيح بخاري
ولرسول ال صلى ال عليه وآله وسلم، عدا عن هذه البشرى أحاديث كثيرة، تتحدث عن القدس
بوصفها أرض الرباط والجهاد. ما يبين مكانها وتحديدا مكانة مسجدها القصى في عقيدة السلم وهي
مكانة ل تقل أهمية عن مكانة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، دون أن ننسى للحظة أن
القدس، هو أول قبلة للمسلمين.
على أن الحديث عن كون القدس أرض الرباط، إنما يؤكد أيضا على حث الرسول صلى ال عليه وآله
وسلم المسلمين الدفاع عن المكان المقدس، والمستهدف من أعداء السلم
قال الرسول الكريم:
"ل تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، ل يضرهم من خالفهم، ول ما أصابهم من
البلء حتى يأتيهم أمر ال وهم كذلك. قالوا يا رسول ال وأين هم؟ قال في بيت المقدس، وأكناف بيت
المقدس"
مسند أحمد بن حنبل
لقد كتب الكثير عن فضائل بيت المقدس،حتى بلغ عدد المصنفات الموضوعة في هذه الفضائل نحو
ستين مصنفا، وربما وجدت في هذه المصنفات أحاديث موضوعة إلى جانب الصحيح من الحديث
الشريف، لكن وجود الحاديث الموضوعة، ل ينتقص من المكانة البينة التي أولها رسول ال صلى ال
علية وآله وسلم لبيت المقدس، وبشراه الولى بفتحها بعد سنوات قليلة من وفاته، وبشراه الثانية
بفتحها بعد أن تؤخذ من أيدي المسلمين.
روي عن أبي هريرة. قال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم:
"تقبل رايات سود من خراسان، فل يردها شيء حتى تنصب بإيلياء"
بولس السادس
في كانون الثاني من عام أربعة وستين وتسعمائة وألف، قام بولس السادس بزيارة تاريخية إلى
فلسطين.
اكتسبت الزيارة صفة التاريخية، لكونها الولى لبابا من روما إلى الراضي المقدسة، حيث شملت أماكن
مقدسة في مختلف أرجاء فلسطين.
لكن هذه ليست صفتها الوحيدة، ففوق قمة جبل الزيتون في مدينة القدس، التقى رأس الكنيسة
الكاثوليكية بولس السادس، مع بطريرك الرثوذكس، بطريرك القسطنطينية أثينا غوارس وتناول اللقاء
بين الزعمين الكنسيين العديد من المور الكنيسية والدينية، وأيضا الجتماعية والسياسية.
جاءت زيارة البابا بولس السادس إلى فلسطين قبل نحو عام من صدور وثيقة نوسترا ايتاني عن
المجمع المسكوني الثاني، وهي الوثيقة التي برأت اليهود من دم المسيح، وفتحت الباب أمام تطور
العلقات بين الفاتيكان والكيان الصهيوني.غير أن البابا تعمد في زيارته تلك نزع أي صفة سياسية
عنها، وقال أن ما يقوم به هو حج إلى الراضي المقدسة. وهو ركز طوال الوقت على دعوة المسيحيين
في فلسطين إلى التمسك بأرضهم وعدم الرحيل عنها.
ويشار إلى أن تلك الزيارة لعبت دورا كبيرا في زيادة دعم الفاتيكان لمؤسسات فلسطينية تساعد على
تثبيت الفلسطينيين في أرضهم، وعلى ولدة مؤسسات جديدة منها جامعة بيت لحم التي افتتحت أبوابها
عام ثلثة وسبعين وتسعمائة وألف، بدعم من الفاتيكان.
أغضب صدور وثيقة نوسترا ايتاني الكنائس العربية التي سجلت تحفظا واضحا عليها، غير أنه من
المتيسر لحظ الموقف العادل من الكفاح الفلسطيني الذي وقفه بولس السادس، ففي رسالته إلى رئيس
البعثة البابوية سنة اثنين وسبعين وتسعمائة وألف شدد البابا على أن شعب الراضي المقدسة يتمتع
بالحقوق نفسها في تقرير المصير لي سكان محليين. وقال: "أن الفلسطينيين شعب يحبه البابا، لنهم
كانوا ومازالوا يختبرون بشكل مأساوي، وهم يرمزون إلى نظريته حول تعزيز السلم بواسطة العدالة."
ثابر البابا على تبني الموقف المعلن من قضية القدس المتعلق بالتدويل، وابتداء من عام سبعة وستين
وتسعمائة وألف، تخلى البابا عن الدعوة إلى التدويل، واستبدالها بالدعوة إلى نظام خاص يتمتع بحماية
دولية، كما أنه انتقد الستيطان الصهيوني في القدس، والمحاولت المستمرة لحداث تغيرات على
الرض فيها، ففي عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، نشر البابا مقال في الصحيفة الرسمية الناطقة
باسم الفاتيكان "الوبسر فاتوري رومانو" قال فيها: هناك وضع خطير يجري إيجاده ضد الشرعية،
وعلى أساس منطق المر الواقع، إن الجراءات المصادرة تكفي لعطاء فكرة عن الشكل الجذري الذي
يفرض فيه على القدس وجه ل يلئم طبيعتها التاريخية والدينية ورسالتها العالمية.
إن من المستحيل تجنب الشعور بالخوف العظيم من هذه التغيرات الخطيرة التي تتسبب بها عمليات
الستيطان.
وانتقد البابا بوضوح رغبة الكيان الصهيوني في بسط سيطرته على المدينة، دون التفات لحقوق
الخرين فيها.
عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف عاد بولس السادس إلى التأكيد على أهمية بقاء المسيحيين في
القدس، والصمود في وجه محاولت الصهاينة السيطرة على المدينة وإنهاء هذا الوجود المسيحي فيها،
وقال البابا في عظة موجهة إلى الساقفة ورجال الدين والمؤمنين: "لو قيض للوجود المسيحي في
القدس أن ينتهي فإن المقامات المقدسة ستخلو من حرارة الشاهد الحي، وستصبح الماكن المقدسة
المسيحية والرض المقدسة كالمتاحف.
عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين توفي البابا بولس السادس، وخلفه لوقت قصير يوحنا بولس الول،
ثم توفي في ظروف غامضة، وجاء بعده يوحنا بولس الثاني، الذي شهد عهده إقامة علقات دبلوماسية
بين الكيان الصهيوني والفاتيكان.
بيت المقدس في القرآن الكريم
بسم ال الرحمن الرحيم
"سبحان الذي أسرى بعبده ليل من المسجد الحرام إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا
إنه هو السميع البصير"
صدق ال العظيم
مما ل شك فيه أن القدس، وهي المدينة المعروفة من أرض فلسطين، والتي يقع على أرضها المسجد
القصى وقبة الصخرة، هي من أهم المواطن العبادية المقدسة عند المسلمين. وقد ذكرها القرآن الكريم
في عدد من آياته، وهي قبلة المسلمين الولى، ومهبط الوحي وموطن النبياء والصالحين، ومنها عرج
نبي الرحمة محمد بن عبد ال إلى السماء، وهي ثالث الحرمين الشريفين.. وأيضا هي من أهم المواطن
الثرية في العالم. وارتباط المسلمين بها أعمق وأبعد من مجرد علقة بأرض. فهي ترتبط بعقيدتهم
السلمية، وتمثل عنوان عزتهم وكرامتهم. والتفريط بها تفريط بالمقدسات.
فإن كان السلم يحض الناس على بذل المهج من أجل حفظ الموال والعراض والوطان، فكيف
بالمقدسات التي تتأكد فيها مشروعية البذل والعطاء والتضحية من أجلها بالنفس والموال.
وليست فاتحة سورة السراء المكان الوحيد الذي جاء فيه ذكر المسجد القصى والقدس التي هي
الرض المباركة.
يقول تعالى في سورة النبياء
بسم ال الرحمن الرحيم
"ونجيناه ولوطا إلى الرض التي باركنا فيها للعالمين"
صدق ال العظيم
ويقول جل من قائل:
بسم ال الرحمن الرحيم
"ولسليمان الريح تجري عاصفة بأمره إلى الرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين"
صدق ال العظيم
والرض المباركة هي فلسطين، أي ما حول المسجد القصى بدءا بالقدس، وذلك باتفاق الراء
ويقول تعالى في سورة سبأ:
بسم ال الرحمن الرحيم
"وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير،سيروا فيها ليالي وأياما آمنين".
صدق ال العظيم
وهو ما كان بين مساكن سبأ في اليمن، وبين قرى الشام من العمارة القديمة، فباركنا فيها أي الشام،
ومنها القدس مركز البركة.
وقال تعالى في سورة التين:
بسم ال الرحمن الرحيم
"والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد المين "
صدق ال العظيم
ويقول ابن عباس: التين بلد الشام، والزيتون بلد فلسطين، وطور سنين: الجبل الذي كلم ال موسى
عليه السلم، والبلد المين مكة.
وقال تعالى :
بسم ال الرحمن الرحيم
"وجعلنا ابن مريم وأمه آيه، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين"
صدق ال العظيم
يقول ابن عباس :هي بيت المقدس.
وهناك آيات أخرى فسرها المفسرون على أنها تدل على بلد الشام بعامة، التي منها بيت المقدس.
ومن ذلك جاء في سورة النبياء:
بسم ال الرحمن الرحيم
" ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادي الصالحون "
صدق ال العظيم
وما جاء في سورة النور :
بسم ال الرحمن الرحيم
"في بيوت أذن ال أن ترفع ويذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والصال"
صدق ال العظيم
وما جاء في سورة الحديد :
بسم ال الرحمن الرحيم
"يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قلبه العذاب "
صدق ال العظيم
في اليات الكريمة التي عرضنا لها، تتضح المكانة الخاصة للمسجد القصى والرض المباركة حوله،
وهي مكانه تأتي من القداسة التي منحها ال للقصى والقدس.
لقد ربط القرآن الكريم بين المسجد الحرام والمسجد القصى، وهما مكانان خاصان ل عز وجل.
والمسجد هو ل وحده بحيث أن كل عمل يقوم به المسلم تقربا من ال سبحانه في هذا المسجد هو عمل
خاص بالعلقة بين المسلم وربه.
ولو خضنا في معرفة المعاني التي طرحتها واقعة السراء، وقفنا طويل متأملين لماذا اختار ال تعالى،
بيت المقدس ليكون المكان الذي يسري برسول ال إليه؟
لقد أراد سبحانه أن يكرم القصى والقدس بمجيء الرسول "ص" إليهما، ويؤكد قدسيتهما، ويشرفهما
بخاتم النبياء.
وقد اتفق العلماء أن من حكمة السراء تثبيت الديانة التوحيدية السماوية في القدس الشريف، أو إيحاء
بأن القدس ستبقى معقل التوحيد، ل تشوب فيها دين ال شائبة. والدين عند ال: السلم. وتبين سورة
السراء، التي جاء فيها الربط بين المسجد القصى والمسجد الحرام، أن الحرب بين السلم والكفر،
بين الحق وبين الباطل ستدور بعض فصولها المهمة على أرض فلسطين والقدس، وستكون الغلبة في
هذه الحرب للحق وللمسلمين في النهاية.
في كتابات رحالة غربيين
حظيت القدس بما لم تحظ به مدينة أخرى من كتابات الرحالة الغربيين، وتمل هذه الكتابات مجلدات
عديدة، نختار هنا فقرات صغيرة منها.
في القرن الخامس عشر الميلدي، زار الرحالة فيلكس فابري مدينة بيت المقدس، وكتب في وصف أحد
الكتاتيب فيها:
بينما كنت نازل من جبل صهيون في طريقي إلى الكنيسة للصلة، سمعت أولدا يقرءون بصوت مرتفع،
فاقتربت من باب المدرسة، ونظرت إليهم، فرأيت صبيانا جالسين على الرض في صفوف، وكانوا كلهم
يرددون مجتمعين نفس الكلمات بصوت واحد، ويهزون رؤؤسهم أماما وخلفا.
وقد استطعت أن أحفظ الكلمات التي رددوها مع موسيقاها، وهي أول ما يعلمون صبيانهم لنها أصول
عقيدتهم.
وفي القرن السادس عشر، زار عالم النبات الفرنسي بيربيلون مدينة القدس، وقال في وصفها: أصبح
لها منذ فترة قريبة أسوار عالية جديدة ولكنها ضعيفة البنية، والبيوت فيها مغطاة بشرفات على
السطح، والمخازن في السواق الرئيسية مقببة كالسكندرية، مع فارق أن قبب القدس، مبنية من
حجارة منحوتة، كما أن السواق فيها مقببة.
وفي الفترة نفسها تقريبا، زار القدس جان شزنو الفرنسي، وكتب يقول:
إن القدس محاطة بسور بناه التراك، ولكن ل يوجد لها خندق. والمدينة متوسطة الحجم، وليست
مكتظة بالسكان، وشوارعها ضيقة يصعب السير فيها بسبب مرتفعاتها.
لوران دارفيو، زار القدس في القرن السابع عشر، وكتب هذا الرحالة الفرنسي واصفا موقع القدس
الجبلي:" إن المرء يصعد باستمرار للوصول إليها، ثم ينحدر فيها بشدة حين مغادرتها، وأطرافها جرداء
باستثناء الجبهة المؤدية إلى بيت لحم حيث الرض خصبة.
والقدس أكثر طول من الشرق إلى الغرب، منها من الجنوب إلى الشمال، وتحيط بها أسوار قوية ذات
أبراج مربعة بناها السلطان العثماني سليمان القانوني. ويبلغ سمك السوار حوالي مترين، ومحيطها
أربعة آلف وخمسمائة خطوة، وحولها خندق دون مياه، يمتد من باب دمشق إلى باب بيت لحم حيث
القلعة.
وفي البراج، ثلثون مدفعا، وحامية من ثلثين انكشاريا بقيادة آغا، ويعيش هؤلء مع أسرهم في
القلعة.
ويذكر دارفيو أن معظم الدور في القدس تضم طابقا واحدا، يعلو الطابق الرضي، وهي معقودة بالحجر
المنحوت والمسوى، ولها شرفات وخزانات لحفظ مياه المطار الضرورية، لنه ل توجد في المدينة آبار
أو ينابيع..
وفي القرن الثامن عشر، زار الرحالة النكليزي ريشارد بوكوك بيت المقدس، ووصفها بأنها تقوم على
أربع تلل، ويبلغ محيطها ستة كليو مترات. وقال إنه سار في واد كثير الكروم وسط بساتين وأشجار
الزيتون والتين والمشمش واللوز لمسافة ثلثة كيلومترات، معتبرا أن هذا هو أجمل ما شاهده في
القدس.
وفي نهايات القرن الثامن عشر زار بين المقدس الرحالة المشهور المعروف بلقب كونت دوفولني. وقد
كتب فولني عن القدس آنذاك فأشار إلى تهدم أجزاء من أسوارها وامتلء خندقها بالنقاض حتى أن
المرء يكاد ل يعرف هذه المدينة ذات المجاد التي ناضلت ضد إمبراطوريات قوية.
يقدر فولني عدد سكان القدس آنذاك، بأربعة عشر ألف نسمة، ويذكر أن صناعة الدوات التذكارية
الدينية في المدينة تشكل الصناعة الهم، وهي تصدر إلى الخارج، ويعتاش منها معظم المسيحيين
والمسلمين على حد سواء، ومصدر الدخل الخر، هو ما ينفقه الحجاج في القدس.
عشية الحملة الفرنسية، زار الرحالة النكليزي بروان مدينة بيت المقدس، فلحظ على عكس فولني أن
أسوار القدس في حالة جيدة وهي مبنية من حجارة تميل إلى الحمرة. ودهش من إهمال كنيسة القيامة،
وسقوط الثلج داخلها بسبب انهيار بعض الجسور الخشبية المصنوعة من خشب الرز وتهدم السقف في
حين أن دير الرمن كان في أحسن بناء ويتسع للف حاج على ما يقول براون الذي قدر عدد سكان
القدس بنحو عشرين ألفا يتكلمون اللغة العربية، وأكد مثل سابقه على أن صناعة الدوات التذكارية
كانت ناشطة.
في كتب رحالة مسلمين
بيت المقدس، قبلة النظار، ومهوى الفئدة، كان مقصدا للرحالة المسلمين، في زيارات واجبة، لما
للمكان من قداسة، وإنفاذا لوصايا الرسول الكريم صلى ال عليه وآله وسلم، بزيارة بيت المقدس،
وأيضا لما للمكان من أبهة وجمال، يستهويان الناظر، ويأخذان بلبه.
وقد كتب الرحالة المسلمون عما شاهدوه في بيت المقدس واضعين، ومسجلين انطباعات عما لمسوه
في المدينة، من موقع جميل، وبناء حسن، وسكان كرام، ليجيء كل ذلك مشفوعا بما تضفيه قداسة
المدينة من إحساس عميق بالهيبة على زائريها.
وكدأبهم، فإن الرحالة المسلمين يقدمون وصفا عاما للمكان، ولكنهم في الن عينه، يتوخون الدقة في
الوصف، فل يهملون تفصيل ول واقعة، مهما كبرت أو صغرت.
ناصر خسرو من الرحالة الذين زاروا القدس سنة أربعمائة وثمانية وثلثين للهجرة، وكتب عن زيارته
هذه، واصفا المعالم الجغرافية للمدينة، فقال: "وقد ذهبنا صاعدين، وكنا نحسب أنا بعد صعود الجبل
سنهبط إلى المدينة في الطرف الخر، ولكنا وجدنا أمامنا بعد أن صعدنا قليل سهل واسعا بعضه
صخري، وبعضه كثير التراب، وهو رأس جبل تقع فيه مدينة القدس".
ويصف خسرو المدينة بالقول:" هي مدينة مشيدة على قمة جبل والمدينة محاطة بسور حصين، من
الحجر والجص، وليس بقربها أشجار قط، فإنها على رأس صخر، وهي مدينة أرضها مبلطة بالحجارة،
والجامع شرقي المدينة، وسوره هو سورها الشرقي، وبعد الجامع سهل كبير مستو يسمى الساهرة،
يقال إنه سيكون ساحة القيامة والحشر".
وفي وصفه لموقع القدس، كتب ياقوت الحموي المتوفى سنة ستمائة وستة وعشرين للهجرة، في معجم
البلدان: "إن أرضها وضياعها وقراها كلها جبال شامخة، وليس حولها، ول بالقرب منها أرض وطيئة،
وزرعها في الجبال، وأما نفس المدينة "أي القدس" فهي على فضاء في وسط تلك الجبال وأرضها كلها
من حجر من الجبال التي هي عليها".
ابن بطوطة، الرحالة الشهير، المتوفى سنة سبعمائة وتسع وسبعين للهجرة كتب بعد زيارته إلى القدس:
"والبلدة كبيرة مبنية بالصخر المنحوت، ومنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم، في شرقي البلد
على تل مرتفع هنا بنيه يقال أنها مصعد عيسى عليه السلم إلى السماء".
هذا الوصف الذي يكثر فيه ذكر الجبال والصخور، ربما يشي بمدينة متجهمة قاسية الملمح، ولكن
الحال غير هذا، فالمناخ معتدل والماء قريب، والمنظر فريد من نوعه، حتى أن الرحالة كان يطيب لهم
المقام، في واحدة من أقدس بقاع الرض، مجاورين للمسجد القصى المبارك.
وأسهب الرحالة في وصف اعتدال مناخ بيت المقدس وطيب القامة فيه، الشريف المقدسي المتوفى
سنة ثلثمائة وثمانين للهجرة، يقول في وصف مناخ بيت المقدس: "ل شديدة البرد، وليس بها حر،
وقلما يقع بها ثلج، سألني القاضي أبو القاسم، ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها فقلت سجسج ل حر
ول برد، فقال هذه صفة الجنة."
وقد سئل المقدسي يوما: أي بلد أطيب؟ فقال: بلدنا أي بيت المقدس فإنه لسم لبردها، ول أذى لحرها.
وقال المقدسي عن مياه المدينة: "قل دار ليس بها صهاريج وأكثر، ولها ثلث برك عظيمة بنى إحداها
عياض بن غنم الصحابي، وتسمى بركة عياض، عليها حماماتهم، لها دواع من الزقة "وفي المسجد
عشرون جبا متبحرة، وقل حارة إل وفيها جب".
وفي معجمه يتحدث ياقوت الحموي عن مياه القدس فقال: "ويشرب أهل المدينة من ماء المطر، وليس
فيها دار إل وفيها صهريج، وبها ثلث برك عظام، وعين سلوان في ظاهر المدينة في وادي جهنم
ملحية الماء".
وبيت المقدس بلد الخيرات ويقول ناصر خسرو: "وسواد بيت المقدس جبلية كلها، والزراعة وأشجار
الزيتون والتين، تنبت كلها بغير ماء أي ل تروى بفعل النسان والخيرات بها كثيرة ورخيصة، وفيها
أرباب عائلت يملك الواحد منهم خمسين ألفا من زيت الزيتون، يحفظونها في البار والحواض
ويصدرونها إلى أطراف العالم، ويقال أنه ل يحدث قحط في بلد الشام".
أما المقدسي، فيشمل فضائل المدينة وخيراتها في قوله: "فإن سأل سائل أي البلدان أطيب؟ نظر: فإن
كان ممن يطلب الدارين قيل له: بيت المقدس، إن قال أريد بلدا يجمع الدنيا والخرة والخيرات والرخص
والصلح، وطيب الهواء والفواكه المتضادة مثل الرطب والجوز والعنب الكبير والموز والماء البارد
والمعاش الواسع، قيل له:عليك ببيت المقدس".
وفي كتابه وصف مجير الدين الحنبلي القدس في نهاية القرن التاسع الهجري فقال: "وبظاهر مدينة
القدس الشريف من كل جهة كروم بها من أنواع الفواكه من العنب والتين والتفاح وغيره" وإلى جمال
الموقع، وكثرة الخيرات، جاء بنيان القدس رائعا، ول سيما المسجد القصى المبارك وقبة الصخرة
المشرفة، حيث أسهب الرحالة المسلمون وأجادوا في وصفها.
وكذلك في وصف سور المدينة وأبوابها وأسواقها وتكاياها وزواياها وأربطتها. ويقول مجير الدين
الحنبلي: "وأما مدينة القدس الشريف في عصرنا: فهي مدينة عظيمة محكمة البناء بين جبال وأودية،
وبعض بناء المدينة مرتفع على علو وبعضه منخفض في واد، وغالب البنية التي هي في الماكن
العالية المشرفة على ما دونها من الماكن المنخفضة، ومن وصف المكان والحديث عنه إلى وصف
ساكنيه، الذين قال عنهم المقدسي: ول أعز من أهل المقدس، لنك ل ترى بها بخسا ول تطفيفا، ول
شربا ظاهرا ول سكران، ول بها دور فسق سرا ول إعلنا مع تعبد وإخلص".
أما الرحالة المسلم التركي أوليا شبلي فيقول: "أنه وجد ثمانمائة إمام وواعظ يعملون في الحرم القدسي
الشريف، والمدارس المجاورة، كان هناك أيضا خمسون مؤذنا، وعدد كبير من مرتلي القرآن الكريم.
وقد وجد أن الزائرين المسلمين مازالوا يسيرون مواكبهم حول الحرم، ويؤدون الصلة في المواقع
المختلفة".
وقال هذا الرحالة: "أن الحرم مركز روحانية مكثفة فقد ازدحمت أروقته بالدراويش من الهند وفارس
وآسيا الصغرى، حيث كانوا يرتلون القرآن طوال الليل، ويعقدون حلقات الذكر ويتغنون بأسماء ال على
ضوء مصابيح الزيت الوامضة المتواجدة بطول الممرات ذات العمدة".
لقد أجمعت كتب الرحالة المسلمين، وحتى غير المسلمين على أن مدينة القدس الشريف عربية
إسلمية، بمبانيها المعمارية ومدارسها الدينية، وسكانها أيضا، فلم يذكر في معظم كتب الرحالة، ما
ينفي عن القدس عروبتها وإسلميتها، فالمدينة تضم المقدسات السلمية والمسيحية ول شيء غير
ذلك، وتحل القداسة في كل جنباتها وزواياها.
دخول الجنرال اللبني
مع دخول السير ادموند اللنبي قائد جيش الحلفاء إلى بيت المقدس، يوم الحادي عشر من كانون الول
عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، دخلت المدينة تحت الحكم البريطاني.
اللنبي وقف على درج القلعة في باب الخليل وأمامه راهب فرنسيسكاني، وأذاع على سكان القدس بيانا
قال فيه: "إن مدينتكم محترمة في نظر أتباع الديانات الثلث الكبرى وترابها مقدس في نظر الحجاج
والمتعبدين الكثيرين من أبناء الطوائف الثلث المذكورة منذ قرون وأجيال مضت، كما أود أن أحيطكم
علما بأن جميع المعابد والماكن المقدسة سوف تصان وفقا للطقوس المرعية وتقاليد الطوائف صاحبة
الحق فيها..
كان اللنبي الذي دخل إلى القدس سيرا على القدام يواصل سياسة الخداع البريطانية، ومع أن الرقابة
العسكرية البريطانية منعت نشر أي شيء يتعلق بوعد بلفور، فإن اللنبي تصرف، وكأن اليهود أصحاب
حق في فلسطين، وكانت بياناته في بيت المقدس تذاع بلغات ثلث هي العربية والنكليزية والعبرية، كما
أن الضابط البريطاني الذي عين حاكما عاما للقدس تصرف باعتبار اليهود الصهاينة، ورغم قلة عددهم،
أصحاب حق يجب أخذ مشورتهم، فضل عن العتراف باللجنة الصهيونية برئاسة حاييم وايزمن، والتي
كانت تطالب بتنفيذ فوري لوعد بلفور.
كان الضابط الذي اختير لمنصب الحاكم العام للقدس، هو العقيد رونالد ستورز، وهو صاحب خبرة تمتد
إلى عشر سنوات في الدارة البريطانية في مصر وعضو في مجلس الحرب في لندن، تسلم ستورز
منصبه في نهايات كانون الول من عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، وعقب وصوله إلى القدس، اجتمع
إلى المفتي كامل الحسيني نحو ساعة، واستمع منه إلى ما يأمله العرب الذين كانوا يتوقعون منحهم
استقلل ناجزا في إطار دولة عربية.
لكن في اليوم التالي لجتماعه مع المفتي كان ستورز يحضر اجتماعا للحاخامات من يهود الشكيناز
الذين كانوا قد اختلفوا سابقا مع زعماء الحركة الصهيونية، لدى محاولة هؤلء استباق وصول ستورز
بتشكيل ما أسموه مجلس مدينة ليهود القدس.
كان كل من الطرفين يحاول استمالة الحاكم البريطاني، لكنه تصرف وفق تعليمات حكومته بالتعاون مع
الصهيونيين، فعمد الحاخامات إلى تشكيل ما أسموه "مجلس مجموعة الشكيناز في مقابل تشكيل
الصهيونيين لما سموه مجلس المدينة.
عكست هذه الجراءات جميعا، مخالفة صريحة من الحكومة البريطانية، التي كان مطلوبا منها الحفاظ
على الوضاع الراهنة في القدس وفلسطين حتى تنظر عصبة المم في مستقبل الحكم فيها، وقد اعترف
ستورز نفسه بأن الدارة العسكرية أخلت على نحو واضح بالوضع الراهن فيما يتعلق بالصهيونية..
وبعد أن أشار إلى صدور بيانات اللنبي بالعبرية إلى جانب العربية والنكليزية، قال: طبعت اليصالت
الرسمية والبلدية بهذه اللغات أيضا، وكان في جهاز موظفينا عدد من الموظفين والكتبة والمترجمين
اليهود العاملين في مكاتبنا.
لم يكن كل هذا كافيا بنظر اللجنة الصهيونية التي طالبت بنشر تصريح بلفور والعمل بمقتضاه وتعامل
ستورز مع حاييم وايزمن بذات الحفاوة التي كان هذا قد لقيها من اللنبي، الذي استقبل وايزمن في مقر
قيادته في القدس عقب دخوله إليها. وقام بمنح أعضاء اللجنة الصهيونية امتيازات خاصة تتيح لهم
حرية التنقل والقامة والتقصي والتدخل الصريح في شؤون الدارة العامة، وتهيئة سبل الهجرة
اليهودية واستيطان الراضي، وإدخال العبرية كلغة رسمية، وإنشاء قضاء يهودي، في حين حظرت
على العرب التجول والتنقل بحرية، ومنعتهم من إبداء رأيهم في إدارة بلدهم وحالت دون وصول
أصواتهم خارج فلسطين لعزلهم سياسيا.
واصل ضابط اللنبي سياسته، التي كانت السياسة المعتمدة للحكومة البريطانية، وضاعت الصوات
المطالبة بسياسة متوازنة، ومن هؤلء أدوين مونتاجو، وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند الذي كتب
إلى حكومته: إن أي بريطاني يهودي المذهب ينظر إلى جبل الزيتون ويقصد القدس، على أنه موطنه
يجب أل يعامل كمواطن انجليزي.
مونتاجو نفى أن تكون لليهود علقة بفلسطين معتبرا أن إقامة دولة على أساس ديني نوع من التحيز
ضيق الفق، ويعني إعطاء مركز لليهود ليس لهم حق شرعي فيه.
ولكن السياسة التي كان يطبقها البريطانيون كانت تتجه رأسا نحو إنقاذ وعد بلفور وتسليم القدس
وفلسطين للصهاينة.
زيارة غليوم الثاني
خلفت زيارة القيصر اللماني غليوم الثاني إلى بيت المقدس، سنة ألف وثمانمائة وثمان وتسعين أثرا
على أسوار المدينة، فبرفضه الدخول من أحد البواب المعروفة، تم نقب السور، وفتح باب خاص له،
أصبح يعرف بالباب الجديد.
لكن الكرم العثماني مع القيصر اللماني لم يتوقف هنا فقد أهداه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني
قطعة أرض تبلغ مساحتها نحو دونمين، بنى عليها اللمان لحقا كنيسة سموها: كنيسة قيامة العذراء.
أعلن عن الهداء توفيق بك سفير الدولة العثمانية في برلين، وقدم متصرف القدس إلى غليوم الثاني
أوراقه الرسمية الواردة من الستانة الخاصة بالهداء.
وكان السلطان عبد العزيز أهدى فريدريك ويلهلم، ولي عهد بروسيا جزء من بيمارستان صلح الدين،
أنشأ عليه اللمان كنيسة المخلص. جاءت زيارة غليوم الثاني إلى فلسطين في سياق التحسن المتواصل
في العلقات اللمانية/العثمانية. وحصول اللمان على امتيازات كثيرة في السلطة.
ولكنه أعلن أن زيارته إلى بيت المقدس هي حج إلى الماكن المقدسة. ولم تكن المستعمرات اللمانية
في فلسطين بعيدة عن أهداف الزيارة. حتى وإن كانت ألمانيا حريصة على عدم إثارة مخاوف
العثمانيين.
كما أنها لم تر في فلسطين إقليما مهما من الناحية القتصادية، فل هي غنية بالمواد الولية .. ول هي
تشكل سوقا واسعة للمنتجات اللمانية.
وصل القيصر إلى حيفا بمظاهرة حربية، إذ نقلته هو وحاشيته ثلث بوارج ضخمة، وتجمع كافة أفراد
المستعمرة اللمانية في باحة القنصلية لستقباله وشكره على الدعم الذي يلقاه الهيكليون في مجال
التعليم فيما أعرب القيصر عن سعادته برؤية مستعمرة ألمانية في قلب الرض المقدسة، ومن حيفا
توجه إلى يافا، وزار المستعمرات اللمانية ثم توجه إلى بيت المقدس، ليدخل إليها على النحو الذي
أشرنا إليه من الباب الجديد.
حرص القيصر اللماني على إضفاء الطابع الديني على زيارته وفي التقرير الذي وزعته وزارة
الخارجية عن البعثات الدبلوماسية اللمانية مستندا إلى رسالة السفير اللماني في اسطنبول، ورد أن
القيصر إنما أراد الحج إلى الماكن المقدسة، ولم يأت التقرير المذكور على ذكر المستعمرات اللمانية
في فلسطين، فيما يجمع مؤرخو الفترة على أن الزيارة لم تنعكس على المستعمرات بشكل مباشر، لكنها
أثارت حمى استيطانية في ألمانيا، ففي أثناء الزيارة أصبحت فلسطين والمستوطنون اللمان الذين
يريدون إعادة بناء مملكة القدس فيها موضوع الساعة. وبتأثير من الجواء التي رافقت الزيارة تأسست
في شتوتغارت سنة ألف وثمانمائة وتسع وتسعين جمعية تطوير الستيطان اللماني في فلسطين تحت
رعاية البارون فون ايلريكس هاوزن، من أجل تزويد الجمعية بالتبرعات المالية لتوسيع نشاطها وشراء
المزيد من الراضي وتولى إدارة الجمعية المير " فون اوراخ " وتمكنت من جمع مبلغ ثلثمائة ألف
مارك حولت إلى جمعية الهيكل، فاشترت قطعة من الرض مساحتها ثمانية كيلومترات مربعة بالقرب
من اللد غير بعيد عن سكة حديد يافا/القدس، وأنشأت عليها مستعمرة ألمانية عرفت باسم فيلهلما.
وقد جرى منحها هذا السم، طمعا في مساهمات مالية من القيصر، لكنه لم يلق بال إلى الموضوع ثم
بدأ الحماس الشعبي نفسه يخفت ما دفع " جمعية الهيكل " إلى طلب قرض مقداره مائة ألف مارك من
الحكومة اللمانية، لتطوير المستعمرات، ولكن الطلب جوبه بالرفض، في حين أنفقت الحكومة مبلغا
يساوي عشرين ضعف هذا المبلغ على مؤسسة الملكة اوغستا فكتوريا، في القدس، والتي أقيمت تذكارا
لزيارة زوجة القيصر إلى المدينة المقدسة، وعلى الرض الممنوحة من السلطان العثماني.
تكشف هذه الوقائع عن أن المستعمرين الوروبيين عادوا إلى استخدام العامل الديني لتغطية أطماعهم
الستعمارية، كما تكشف عن أن ضعف السلطنة العثمانية قد أفسح في المجال واسعا أمام التدخلت
الوروبية التي لم تعد تأخذ بنظر العتبار مفهوم السيادة العثمانية.
فبعد وقت قصير من زيارة غليوم الثاني إلى بيت المقدس، والحفاوة التي لقيها من العثمانيين، كان
مسئولو دائرة المستعمرات في الخارجية اللمانية يعدون مشروعا بوضع فلسطين من الحدود المصرية
إلى رأس الناقورة شمال، وحتى سفوح جبل الشيخ شرقا، تحت حكم أمير أوروبي، وقال واضعو
القتراح أنه ل يتعارض والمصالح البريطانية والروسية في المنطقة، دون أن يأتي على ذكر مصالح
العرب أهل البلد، ول حتى العثمانيين الذين تشكل جزءا من سلطنتهم في حينه.
ضرائب الرنونا
أيام احتللهم لفلسطين وبيت المقدس، فرض الرومان على السكان ضريبة تسمى أنونا، يقول المؤرخون
أنها خلفت عبئا كبيرا على المواطنين، فهي كانت تطلب من السكان بشكل أمر يصدر لهم بأن يقدموا
بعض المواد الغذائية للجنود في طريقهم عبر الولية، ولم يكن لها وقت محدد، ول قيمة محددة، أي
أنها كانت تعسفية.
وضرائب الرنونا التي يفرضها الصهاينة في القدس لها وقت محدد لكن قيمتها متحركة، وهي تعسفية
إلى حد بعيد.
والرنونا هي ضريبة تجبيها البلدية الصهيونية في القدس، وتفرض على مواطني المدينة والمستوطنين
فيها، مقابل الخدمات، لكن بتقديرات مختلفة، إذ بينما يجري تحديد مبالغ بسيطة على المستوطنين، مع
تسهيلت كبيرة في الدفع وتقديم الكثير من الخدمات، فإن المبالغ التي تفرض على المواطنين
الفلسطينيين مرتفعة جدا، ول تقابلها خدمات تذكر، وباعتراف الصهاينة أنفسهم فإن الفارق بين
الخدمات التي تقدم للمستوطنين والحياء الستيطانية في القدس، وبين تلك التي يتلقاها المواطنون
العرب في الجزاء الشرقية من المدينة، هو فارق كبير جدا، ورغم الحديث عن عدد من المشاريع
لمساواة الخدمات، فإن الواقع قد بقي على حاله.
تفرض ضرائب عديدة على الفلسطينيين في بيت المقدس وبمعدلت عالية، فالحد الدنى لضريبة الدخل
هو خمسة وثلثين في المائة، وقد يصل إلى خمسة وستين في المائة، وتضاف إلى هذه النسبة غرامات
قد تصل إلى ستين في المائة من قيمة الضرائب.
أما الحد المتوسط لضريبة الرنونا المفروضة على المواطنين الفلسطينيين، فقد وصل عام تسعين على
سبيل المثال إلى عشرين ألف دولر، وهو مبلغ مرتفع جدا أيا كان نوع ومستوى العقار الذي يملكه
المكلف بهذه الضريبة، وذلك لقاء خدمات شبه معدومة، وتعطيل متعمد ومضجر لتقديم مثل هذه
الخدمات، إذ أن تركيب عدادات مياه لسكان مخيم سعفاط اقتضى مفاوضات ومعارك بين الونروا
والكيان الصهيوني، فقد جرى إيصال المياه إلى مستوطنة "بسغات زئيف" في وقت قصير جدا.
عمليا يدفع المواطن الفلسطيني في القدس ضرائب تفوق أربع مرات ما يدفعه المستوطن الصهيوني،
والهدف من ذلك هو توجيه المزيد من الضغوط والتضييقات على المقدسيين لدفعهم إلى هجرة المدينة،
أو إغلق مصالحهم التجارية فيها.
فالسلطات الصهيونية التي تفرض على أصحاب المحال التجارية ضرائب تفوق قيمة الدخل العام لهذه
المحال، تدفع أصحابها إلى إغلقها، ثم تقوم بمصادرتها ومحتوياتها، لحساب تسديد الضرائب وعن هذه
الطريق تسربت محال كثيرة للمستوطنين الصهاينة في البلدة.
وكثيرا ما وقع أصحاب البيوت في فخ ضريبة الرنونا، فالكثيرون ل يملكون قدرة على تسديدها، وتلجأ
السلطات الصهيونية إلى التسويف في جبايتها مع غراماتها التراكمية، حتى تصل إلى مبلغ يعادل ثمن
العقار تقريبا، وإذ ذاك تطالب بها، وتوقع حجزا على العقار، بهدف دفع صاحبه إلى بيعه، وقد تولت
لجان في القدس حماية بعض البيوت، بمبالغ وصلت إلى أرقام كبيرة، وتفوق قيمتها الفعلية لتسديد
الضريبة، والحيلولة دون تسرب العقار إلى الصهاينة، فيما كانت بعض المبالغ المترتبة على عقارات
أخرى فوق طاقة هذه اللجان، حيث بلغت قيمة الضرائب المفروضة على أصحاب المحلت التجارية في
القدس، والتي ل يستطيعون تسديدها سنة سبع وتسعين، نحو أربعمائة مليون دولر، وهدد الصهاينة
ببيعها في مزاد علني.
وفي نيسان من عام ألفين وواحد، كانت السلطات الصهيونية ل تزال تشن حملة واسعة تقتحم بموجبها
المحال التجارية، وتوقع حجوزات على محتوياتها بدعوى الضريبة.
بذل الفلسطينيون محاولت عدة للمتناع عن تسديد الضرائب، ففي عام ثمانية وستين، دعت اللجنة
العليا للتوجيه في القدس المواطنين إلى المتناع عن دفع الضرائب.
وعام ثمانية وثمانين، دعت القيادة الموحدة التجار إلى المتناع عن دفع الضرائب فعمد الصهاينة إلى
إغلق المحال التجارية واعتقال التجار، وهو ما تكرر عام واحد وتسعين.
ضريبة الرنونا، هي وسيلة أخرى من وسائل الحرب التي يعتمدها الصهاينة ضد المقدسيين المتشبثين
بأرضهم وقدسهم.
مقاومة حملت الفرنجة 1
لم يكن نجاح صلح الدين اليوبي في ضرب مملكة القدس الفرنجية، وتحرير بيت المقدس، وليد لحظته
بل محصلة عقود طويلة من المقاومة.
ل ريب في أن التمزق الذي كان يعانيه المسلمون قد لعب دورا أساسيا في نجاح الحملة الفرنجية، ول
يزال كثير من المؤرخين يناقشون موقف الوزير الفضل بن بدر الجمالي، صاحب القوة الكبر آنذاك.
فهل كان هذا الموقف ناتجا عن سوء فهم وتقدير، أم أنه كان متواطئا؟ إن الكثير من الوقائع تدل على
سوء التقدير، وعدم فهم أهداف الحملة التي عوملت كغارة سوف تنكفيء سريعا ثم يعود كل شيء إلى
حاله.
وساهمت في هذا الفهم ظروف التمزق السائدة آنذاك. ما يدفع إلى مثل هذا الستنتاج هو نشاط المقاومة
اللحق، بعد سقوط القدس.
لقد نشأت حالت استرضاء ناتجة عن الضعف في مواجهة حملة دموية شرسة، ولكن كان هناك
التصدي، الذي بدأ بأفراد يقتلون أفرادا، وبجهد إمارات صغيرة، ثم نجح في تحقيق أهدافه بتوحد
المسلمين، بعد أن كانت تقاتل جبهتان، جبهة مصرية وجبهة شامية.
يذكر المؤرخون أنه بعد سنة على الحملة الفرنجية الولى لم يبق في فلسطين سوى ثلثمائة فارس
وألفين من المشاة، لكن الرهبة والخوف اللذين شاعا بعد مذبحة القدس، وتفرق أمر المسلمين حال
دون استغلل الفرصة وتقويض تلك الحملة نهائيا.
بدأت المقاومة المصرية في ثلث هجمات متصلة اعتمد فيها الوزير الفضل على الساحل الفاطمي،
فسير حملة في أيلول عام ألف ومائة وواحد بقيادة سعد الدولة القواسي. متجهة إلى الرملة، لكنها
أضاعت وقتا طويل في عسقلن سمح للفرنجة بالتحضر لمواجهتها، وردها.
وعام ألف ومائة واثنين، كانت حملة أخرى بقيادة ابن الفضل شرف المعالي، الذي التقى الفرنجة عند
يا زور، وألحق بهم هزيمة قاسية، واحتل الرملة.
وصلت نجدة بحرية إلى بفدومين، في حين اختلف قادة الحملة بين محبذ لمهاجمة القدس ومحبذ
لمهاجمة يافا، مع أنهم كانوا يستطيعون القيام بالمرين معا نظرا لضعف الحاميات الفرنجية آنذاك،
وعندما استقر المر على مهاجمة يافا نجحت القوة الفرنجية القادمة بحرا في إلحاق هزيمة بالحملة.
عاد الفضل لعداد حملة مزدوجة بحرية وبرية، وصلت البرية إلى عسقلن لكن السطول تأخر كثيرا،
فانكفأت.
قلل استيلء الفرنجة على عكا من فعالية الحملت المصرية الفاطمية، فاستخدم الفضل عسقلن قاعدة
له، ومنها أطلق حملة جديدة بالتعاون مع دمشق، ولكنها فشلت أيضا، فاكتفى بشن غارات محدودة من
عسقلن جاءت نتائجها أفضل من الحملت الكبيرة.
فسنة ألف ومائة وستة نجحت غارة في ضرب قافلة فرنجية واحتلت الرملة، وهزمت الحامية الفرنجية
في يافا وأشرفت على القدس، وهدمت قلعة كانت تبنى بالقرب منها.
وتكررت الغارات على الحاميات الفرنجية، ونجحت إحداها في الوصول إلى القدس مجددا سنة ألف
ومائة وعشرة. وألحقت هزيمة بأسطول الفرنجة أمام صيدا لكن السطول المصري لم ينجح في رد
الهجوم عن بيروت، فنفذ الفرنجة فيها مذبحة مروعة.
حاول والي عسقلن مهادنة الفرنجة وإنزال حامية منهم في المدينة، فثار عليه أهلها وقتلوه مع
الحامية، ليتابع الوالي الجديد إغارته على القدس، فوصل إلى أسوارها سنة ألف ومائة وخمس عشرة.
تكررت الحملت المصرية الفاطمية الكبيرة في عهد الوزير المأمون سنة ألف ومائة وثلث وعشرين،
لكنها لم تلق نجاحا بسبب فشل الحلف مع أتابك دمشق، وحاول الطرفان مرة أخرى إنقاذ صور، فهاجم
الفاطميون أطراف القدس وبلغوا ضواحيها القريبة، في حين بعث أتابك دمشق بالمواد إلى صور لكن
المدينة سقطت ما أغرى الفرنجة بدمشق، ولكنهم هزموا، وشن الفاطميون غارة بحرية كبيرة موفقة
على يافا وعكا وصيدا وبيروت وطرابلس.
سنة ألف وثلث وخمسين سقطت عسقلن بدسية من عسكر البدل القادم إليها ولكن الغارات لم تتوقف
حتى أن مؤرخي تلك الفترة يتحدثون عن أعوام صعبة عاشتها مملكة القدس ما بين عامي ألف ومائة
وسبعة وخمسين وألف ومائة وتسعة وخمسين، نتيجة الغارات التي نظمها الوزير الفاطمي طلئع ابن
زريك، وطوفت مملكة القدس ما دفعها إلى طلب الهدنة التي كانت مقدمة للتدخل الفرنجي في مصر
باستثمار خلف الوزير شاور مع الحاجب ضرغام.
أنقدت حملت شامية مصر الفرنجية وفتحت الباب بذلك لتوحيد الجبهة التي ستلحق الهزيمة بالفرنجة
لحقا.
الحملت التي ذكرت ورغم أنها لم تؤد إلى نتيجة حاسمة بإنهاء وجود الفرنجة إل أنها جعلت منه
وجودا قلقا مستقرا وهي كانت تتم بالتوازي مع مقاومة الجبهة الشامية .
مقاومة الفرنجة 2
بموازاة المقاومة المصرية، نشأت مقاومة في الشام للحملت الفرنجية، كان مركزها دمشق، يعد أنها
اتسمت بالتقلب ما بين المقاومة والمهادنة تبعا لهواء أمراءها.
استندت دمشق إلى الشمال السلمي تارة، وإلى مصر الفاطمية تارة أخرى في مقاومتها للحتلل
الصليبي، لكنها حين تشعر بالخطر من المراء المسلمين في الشمال ل تتردد في مهادنة الفرنجة وحتى
محالفتهم. ما يؤكد صورة التمزق السائدة آنذاك في العالم السلمي.
وبرأي كثير من المؤرخين فإن حكام دمشق من الترك السلجقة كانوا محكومين لمصالحهم التجارية
وأنانيتهم الحذرة على أملكهم.
عند قيام الحملة الفرنجية الولى كان يحكم دمشق دقاق بن تتش ابن عم السلطان السلجوقي بركياروق،
وهو الذي قاد الحملة الولى ضد الفرنجة عند حصارهم إنطاكية سنة ألف وسبع وتسعين. ولكنه لم
يحارب وانكفأ سريعا ليحافظ على إمارته في دمشق. ودعم أميره على الواد ليتصدى لول الهجمات
الفرنجية.
استطاع دقاق ضمان الدفاع عن دمشق، كما حاول التصدي للفرنجة شمال بيروت. وبعد موته سنة ألف
ومائة وأربع، تولى السلطة مملوكه السابق وأتابكه طفتكين الذي أسس النظام التابكي، وبدأ سللة
حكمت دمشق ستين سنة.
شارك طفتكين مع الفضل الجمالي في مجابهة الفرنجة، وقد حشد لها عشرة آلف فارس، إل أنها
انتهت إلى الفشل، ثم هاجم حاميات الفرنجة في الجليل بعد أن ازدادت غاراتهم على الواد، وكان هجومه
سنة ألف ومائة وخمس موفقا، وأثناء تطويق الفاطميين للقدس سنة ألف ومائة وسبع، أوعز طفتكين
إلى والي صور بمهاجمة حصن تبنين وتخريبه.
بدأ من عام ألف وتسعمائة وثمانية، سوف تراوح علقة طفتكين مع الفرنجة بين المهادنة والغارات
العنيفة، التي كان أشهرها حملة مودود. وهو قائد سلجوقي أرسله السلطان بعد استغاثات طفتكين الذي
كان مستميتا في الدفاع عن صور، وهو البناء الوحيد لدمشق آنذاك.
بدت الحملة التي رتبها مودود وطفتكين، وكأنها مهيأة لتقويض مملكة القدس بجيش إنطاكية وطرابلس.
التقى الجيشان جنوب غرب طبريا في تشرين الثاني سنة ألف ومائة وثلث عشرة، وهزم الفرنجة
هزيمة ساحقة، حتى امتنع الناس أياما عن الشرب من مياه طبريا لكثرة الدماء.
وصل الجيش السلمي إلى أرض القدس ويافا ومكث شهرا حول بيت المقدس لكنه لم يدخلها. لسبب
غير معروف، فيما تميل بعض تفسيرات المؤرخين إلى توهم المسلمين بوجود حامية قوية فيها، فقرروا
العودة إلى دمشق، ومعاودة الهجوم في الربيع، المر الذي لم يحدث. فقد قتل مودود في دمشق، واتهم
طفتكين بقتله ما أثار عليه غضب السلطان السلجوقي وأيضا غضب الهالي. فعهد إلى توقيع هدنة مع
الفرنج.
وعندما كانت المقاومة العربية السلمية تحقق تقدما كبيرا وسط سورية، أصبح موقف طفتكين حرجا،
فقد احتار إلى أي جانب ينبغي أن يميل، ثم اختار استمرار العلقة مع الفرنجة.
وعندما ضمن عدم تقدم المسلمين باتجاهه، عاد لمقاتلة الفرنجة في معركة البقاع سنة ألف ومائة وست
عشرة وكانت حملة موفقة، ولكنه مرة أخرى لم يتقدم باتجاه مملكة القدس. فيما شارك الفاطميين في
حملة كبيرة عند عسقلن استمرت ثلثة أشهر دون قتال.
ثم ظلت الغارات متبادلة مع مملكة القدس والمارات الفرنجية، في حين انشغل الجانبان بالتطورات في
الشمال حين نجح المير الرتقي في قتل حاكم إنطاكية. ثم أسر المسلمين لحقا بغدوين الثاني.
تولى الحكم بعد طفتكين ابنه بهري، وتصدى لحملة فرنجية كان تريد دمشق، وتطورت المور بسرعة
بعد سيطرة عماد الدين زنكي صاحب الموصل على حلب، وشروعه في مقاومة منتظمة للفرنجة، تابعها
ابنه نور الدين.
لم يدم عهد بوري طويل، وورث السلطة من بعده ابنه إسماعيل الذي كان شديد الحيوية، وشن غارات
موجعة على الفرنجة منتزعا منهم بانياس، ثم أغار على عكا والناصرة وطبريا، ودفع الفرنجة إلى طلب
الهدنة. فيما كان زنكي يعرض عليه تسليم دمشق.
أراد زنكي المسارعة إلى تلبية هذا المطلب، لكن إسماعيل قتل، وتولى مملوك يدعى "أنر" التابكية،
ليعاود سياسة طفتكين، ولكن في الجانب المؤيد لمهادنة الفرنجة، دون سيطرة الزنكيين على دمشق.
المر الذي أغضب الطبقات الشعبية في المدينة، والتي كانت ترى في زنكي مخلصا. خاصة بعد نجاحه
في الشمال ضد الفرنجة وإيجاد نوعا من التوازن معهم. حتى أن كثيرا من المؤرخين يعتقدون أنه لو
تسلم زنكي دمشق في حينه لسقطت مملكة القدس الفرنجية في زمن سابق لما سقطت فيه فعل.
وهو إلى )عقبة أنر( في دمشق كان يواجه تدخل بيزنطيا لصالح الفرنجة في الشمال.
ذهب )أنر( بعيدا في تحالفه مع الفرنجة، ولكن هؤلء وبعد سقوط الرهابيد عماد الدين زنكي، جربوا
احتلل دمشق، فقاتلهم )أنر( حول بصرى، بعد أن استنجد بنور الدين زنكي الذي حل محل أبيه.
وعادوا مجددا مستغلين الحملة الصليبية الثانية لمهاجمة دمشق. طلب )أنر( مساعدة نور الدين، ودب
الخلف بعد حصار دام خمسة أيام فقط، فانفض الحصار، ولم تسقط دمشق، وربح نورالدين زنكي
صورة المنقذ مرة أخرى، ومع توالي انتصاراته في الشمال، بات دخوله إلى دمشق مسألة وقت، وهو
ما حدث في نفس العام الذي سقطت فيه عسقلن.
عقد نور الدين بداية هدنة مع الفرنجة لعامين حتى يتخلص من المشكلت مع السلجقة التراك في
الشمال. خرق الفرنجة الهدنة وهاجموا حوران وغنموا منها معظم خيراتها، ثم هددوا دمشق سنة ألف
ومائة وثمان وخمسين، عندما كان قائده شيركوا يهاجم صيدا.
تجددت الهدنة بعد هذه الغارة، وكان هم نور الدين إقامة الجبهة السلمية من الشام ومصر، لتطويق
مملكة القدس الفرنجية، فأرسل جيشه إلى مصر ثلث مرات، الولى بدعوة من القدير شاور، والثانية
والثالثة بدعوة الخليفة الفاطمي.
حقق وجود جيش نور الدين في مصر التوازن مع الفرنجة، وسرعان ما سينتقل المسلمون إلى مرحلة
الهجوم مع صلح الدين.
الفاتيكان والقدس 1
عام ألف خمسمائة وواحد وثمانين أصدر البابا غريغوري الثالث عشر حكما بإدانة اليهود نص على أن
خطيئة الشعب الذي رفض المسيح وعذبه، تزداد جيل بعد جيل، وتحكم على كل فرد من أفراده
بالعبودية الدائمة.
وقد التزم الباباوات الذين تعاقبوا بعد هذا الموقف، وفي الول من أيار عام ألف وثمانمائة وسبعة
وتسعين، عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني الول، صدر عن الفاتيكان بيان جاء فيه "لقد مرت ألف
وثمانمائة وسبع وعشرون سنة على تحقيق نبوءة المسيح بأن القدس سوف تدمر. أما فيما يتعلق
بإعادة بناء القدس، بحيث تصبح مركزا لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها فيتحتم علينا أن نضيف أن ذلك
يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه، عام ألف وتسعمائة وأربعة، توجه )هرتزل( برسالة إلى الفاتيكان
طالبا دعمه، فرد عليه البابا بيوس العاشر بالقول: "ل نستطيع أبدا أن نتعاطف مع هذه الحركة ويقصد
الصهيونية، فنحن ل نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس، ول يمكن أبدا أن نقره.
أنني بصفتي قيما على الكنيسة ل أستطع أن أجيبك في شكل آخر، لم يعترف اليهود بسيدنا، ولذلك ل
نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي، وتاليا فإذا جئتم إلى فلسطين، وأقام شعبكم هناك، فإننا سنكون
مستعدين كنائس ورهبانا لتعميدكم جميعا".
لحقا استقبل البابا بيوس العاشر تيودور )هرتزل( في حاضرة الفاتيكان، وقال له: "لن أقبل بأن تقع
القدس وفلسطين في أيدي اليهود وأنني أفضل أن أرى القدس تحت حكم المسلمين، على أن أراها تحت
حكم اليهود، لن اليهود لم يعترفوا بيسوع ابن مريم".
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر صاغ البابا بنديكتوس الخامس عشر شعار ل لسيادة اليهود على
الرض المقدسة، وأعلن الفاتيكان معارضته لوعد بلفور منذ صدوره واستقبل البابا البعثة العربية
الفلسطينية التي زارت الفاتيكان عام واحد وعشرين،وتبنى رفض منح اليهود، أي وضع مميز في
فلسطين.
وتميز موقف الفاتيكان خلل هذه الفترة، بدعم المسيحيين العرب، وتشجيعهم على المشاركة في النضال
الوطني العربي، ضد الحركة الصهيونية وانعكس هذا التشجيع بإعطاء زخم قوي للمؤتمرات السلمية
المسيحية.
وفي عام ستة وأربعين أرسل الفاتيكان مبعوثا إلى واشنطن ليبلغ الوليات المتحدة أن الكاثوليك في
العالم، ل يمكن إل أن يجرحوا في كرامتهم الدينية إذا سلمت فلسطين لليهود،أو وضعت عمليا تحت
السيطرة اليهودية.
تعرض الفاتيكان لضغوط قوية يعد الحرب العالمية الثانية واتهامه بمحاباة النازية وازدادت هذه الضغوط
بعد اتخاذ الجمعية العامة للمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين وتدويل القدس.
رفض الفاتيكان بداية قرار التقسيم، ولكن في عام ثمانية وأربعين، أيد الفاتيكان التدويل دون ذكره
صراحة، حيث دعا البابا بيوس الثاني عشر في رقيم له، إلى ضمانات دولية، لضمان حرية الوصول إلى
الماكن المقدسة المنتشرة في كل فلسطين وليس في القدس فقط وإلى حرية العبادة واحترام التقاليد
والعادات الدينية.
وجدد البابا موقفه في العام التالي، وبالتوازي مع ذلك، سعى الفاتيكان إلى تثبت العرب والمسيحيين
الفلسطينيين في أرضهم، فأسس البعثة البابوية لمساعدة اللجئين الفلسطينيين، مستبقا خطوة المم
المتحدة على هذا الصعيد، وثابر الفاتيكان في الوقت نفسه على رفض العتراف بقيام الكيان الصهيوني
وأبقى موافقته على تقسيم فلسطين، وتدويل القدس مواربة.
لكن الضغوط التي مورست على الفاتيكان سوف تؤدي إلى تغير هذا الموقف.
كنيسة القيامة
كنيسة القيامة من أعرق كنائس بيت المقدس، استغرق العمل في بنائها أحد عشر عاما إذ بدأ عام
ثلثمائة وخمسة وعشرين وانتهى عام ثلثمائة وستة وثلثين للميلد.
أشرفت على بنائها الملكة هيلنه والدة المبراطور قسطنطين.. ويتردد أن هيلنة عثرت أثناء زيارتها
إلى بيت المقدس على ما اعتقدت أنه خشبة الصليب الذي علق عليه السيد المسيح، وأرادت بناء كنيسة
في المكان.
لبى المبراطور رغبة والدته، ولم يوفر مال ول حرفيين أو خبراء في سبيل بناء كنيسة لئقة، وأشرف
على البناء بشكل مباشر مهندس سوري اسمه"زينو بيوس، ورجل دين من شيوخ الكنيسة اسمه
يوستاثيوس.
تم تكريس كنيسة القيامة سنة ثلثمائة وست وثلثين، وتوجه الساقفة الذين كانوا يحضرون مجمعا
محليا في صور إلى بيت المقدس للمشاركة في حفل التكريس الذي أعلنت فيه قدسية كنسية القيامة أو
الضريح المقدس.
يمكن تميز الكنيسة بوضوح في خارطة مأدبا الفسيفسائية، حيث كان يدخلها الناس من باب ثلثي ل
تزال أقسام منه قائمة حتى اليوم.
وبني فوق الضريح المقدس بناء مدور، وبنيت ما بين الباب والمبنى الدور باسيليكا كبيرة، وخمسة
أروقة بين العمدة مع جناح مدور بارز في ساحة متسعة، فبقي موضع الصليب منعزل على حدة
باعتباره مزارا قائما بذاته.
تميز البناء بجلل التصميم ووفرة الزينة، وأدخلت عليه تحسينات باستمرار منها التزينات التي قامت
بها المبراطورة يودقيا في منتصف القرن الخامس للميلد.
تمتعت كنيسة القيامة ول تزال بأهمية استثنائية وقد وصفها الرحالة المسلمون الذين زاروا بيت
المقدس ومنهم ناصر خسروا الذي يقول: "للنصارى في بيت المقدس كنيسة لها عندهم مكانة عظيمة
ويحج إليها كل سنة كثير من بلد الروم.
وهذه الكنيسة فسيحة، وهي عظيمة الزخزف من الرخام الملون والنقوش والصور. في كنيسة القيامة
دير للرهبان الفرنسيين الذين يخدمون في الكنيسة، وهم ينتسبون إلى القديس فرنسيس السيزي الذي
جاء إلى القدس سنة ألف ومائتين وتسع عشرة، ووافق البابا اكلمنطس السادس ببراءة بابوية سنة
ألف وثلثمائة واثنين وأربعين على وجود الفرنسيين في الكنيسة على أن يكونوا حراس الراضي
المقدسة باسم العالم الكاثوليكي وقد قاموا بترميم الكنيسة مرتين أخراهما سنة ألف وسبعمائة وتسع
عشرة، وأقاموا فيها بناء جديدا سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين.
وللرهبان الفرنسيسيين حصة وافرة في كنيسة القيامة، في كل يوم يقيمون الصلة إلى جانب طواف
يومي في مختلف ربوعها.
إلى جانب هذا الدير الكاثوليكي، هناك الديار الرثوذكسية وأولها دير الروم الرثوذكس، أسس بطريك
القدس اليوناني جرمانوس أخوية القبر المقدس، بعد الحتلل العثماني لفلسطين ويعد أعضاء هذه
الخوية حراس الراضي المقدسة باسم العالم الرثوذكسي.
للرهبان الذين يخدمون في الكنيسة مساكن في القيامة عينها وعند ساحة القيامة شرقا يقوم دير القديس
إبراهيم الذي اشتروه سنة ألف وستمائة وستين من الحباش.
منذ أيام البطريك جرمانوس، عمل الروم الرثوذكس اليونان على التوسيع في كنيسة القيامة وبعد
احتراقها سنة ألف وثمانمائة وثمان، توصلوا إلى النفراد بترميم أكبر قسم منها بموجب مخططاتهم،
ولهم اليوم أكبر حصة فيها، ومنها محور الكنيسة المعروف بنصف الدنيا، وفي كل يوم يقيمون الصلة
هناك.
وللرمن الرثوذكس بعض المساكن في كنيسة القيامة، ولهم الحصة الثالثة فيها ومنها قسم الرواق
الذي يشرف على القبر المقدس وكنيسة القديسة هيلنة، وهم بدأوا التوسع في الكنيسة منذ القرن
السابع عشر الميلدي، وفي كل يوم يقميون الصلة هناك.
أما القباط الرثوذكس، فلهم مكانة ثانوية في الكنيسة، يؤدون صلواتهم في معبد صغير بنوه ملصقا
للقبر المقدس، سنة ألف وخمسمائة وأربعين، ثم جدد بعد حريق سنة ألف وثمانمائة وثمان.
وأخيرا يقيم السريان الرثوذكس الصلة كل أحد في معبد للرمن يقوم حنيه القبر المقدس الغربية.
ول شك في أن أعظم احتفالت كنيسة القيامة عند جميع الطوائف المسيحية هي احتفالت السبوع
المقدس والفصح، التي تتم في أقدس مكان مسيحي في القدس.
الفاتيكان والقدس 2
بعد التأييد الموارب لقرار التقسيم وتدويل القدس أعلن الفاتيكان تأييده الصريح لتدويل المدينة.
ويبدو أن الفاتيكان وصل إلى هذا الموقف بعد الضغوط الهائلة التي تعرض لها وساهم فيها اليهود
مساهمة كبيرة بدعوى قيام البابا بيوس الثاني عشر بتأييد النازية.
تحت وطأة الضغوط، أعلن البابا يوحنا الثالث والعشرين عن الدعوة إلى عقد المجمع المسكوني الثاني
والذي قال أنه يريده دليل وعلى إرادة التقرب والتفاهم مع جميع الديان والطوائف الخرى.
وألغى البابا مقطعا من الصلة الكاثوليكية يتحدث عن اليهود الملعونين، فيما طالب اليهود بإعلن من
الفاتيكان يبرئ اليهود من دم المسيح.
صدرت عن المجمع وثيقة "نوسترا ايتاتي" وأعلن فيها "أن موت السيد المسيح ل يمكن أن يعزى
عشوائيا إلى جميع الذين عاشوا في عهده أو إلى يهود اليوم"، كما نصت الوثيقة على أن ل ينظر إلى
اليهود كمنبوذين من الرب وملعونين.
جاء صدور هذه الوثيقة عام خمسة وستين رغم اعتراض المسيحيين العرب على الكثير من فقراتها،
وسعى الصهاينة إلى استثمار سريع لها، ولكن قيامهم بعدوان حزيران عام سبعة وستين أوجد متغيرا
جديدا على الرض، انطلق الموقف الفاتيكاني فيه، من تجاوز الرفض المبدئي المبني على عقيدة دينية،
إلى التعامل مع الواقع المبني على معطيات سياسية.
بعد عدوان حزيران، ركز البابا على ضرورة تدويل القدس، وأظهر تعاطفا مع الكفاح الفلسطيني.
وضع البابا بولس السادس القدس ضمن اهتماماته واعتبر أن وضعها هو الساس في العلقة بين
الفاتيكان والكيان الصهيوني، وحدد في خطاب له عام سبعة وستين ثلث نقاط أساسية:
1. حماية الماكن المقدسة والطابع التاريخي والديني لمدينة القدس.
2. الطبيعة الدولية للقانون الذي يجب أن يطبق على الماكن المقدسة والقدس.
3. ضمانات خاصة بالحقوق المدنية والدينية للطوائف في فلسطين.
في هذه النقاط تخلى البابا عن دعوة تدويل القدس، وتحدث عن نظام خاص يتمتع بضمانة دولية،
وتمسك بموقفه الرافض للعتراف بالوضع القائم في المدينة المقدسة، أو للعتراف بالكيان الصهيوني،
رغم الضغوط المريكية الهائلة.
بدأ موقف الفاتيكان بالتغير مع مطلع الثمانيات، وفي منتصفها صدرت وثيقة فاتيكانية تتحدث للمرة
الولى عن )إسرائيل( ككيان معتبرة أن اليهود يتميزوا بأمرين:
تمسكهم بعبادة ال "يهوه" وبحب أرض الجداد )إسرائيل(، تضمنت الوثيقة تغيرا شامل في النظرة
الكاثوليكية إلى اليهود وانعكس هذا الموقف من القدس، ومن العتراف بالكيان الصهيوني، بل وتوقيع
اتفاقات معه تثبت الوضع القائم عامي ثلثة وتسعين، وأربعة وتسعين، وتقيم علقات دبلوماسية بين
الجانبين.
بدأ البابا يصف القدس بأنها ميراث مقدس تشترك فيه ديانات التوحيد الثلث، وأن يكفل هذا بضمان
قانوني مناسب ل يكون قاصرا على ما يريده طرف واحد من الطراف المعنية.
ثابر البابا على إعلن هذا الموقف، مؤكدا على خصوصية القدس، وضرورة أن تتمتع الطوائف الثلث
فيها بحرية فكرية ودينية حقيقية.
ودعا البابا إلى الحوار بغية الوصول إلى تحديد وضع خاص لمدينة القدس، مشيرا إلى أنه ل يمكن أن
يدعي أحد الملكية الحصرية للمدينة المقدسة، فالقدس أرث روحي للبشرية برمتها وينبغي أن يتمتع
الجميع بحرية زيارة الماكن المقدسة.
واقع الحال أن اتفاق إقامة العلقات الدبلوماسية بين الفاتيكان والكيان الصهيوني، قد عنى نوعا من
العتراف بالوضع القائم، الذي يسيطر فيه طرف على القدس، ويمنع حتى حرية العبادة فيها، خلفا
للدعوات التي يطلقها الكرسي الرسولي.
مملكة القدس الفرنجية الطور الثاني
اتسمت فتوحات المسلمين وتحريرهم بيت المقدس بالرحمة والتسامح وروح الفروسية، إل أن صلح
الدين أخطأ خطأ كبيرا بعدم فتحه مدينة صور. تركها. قويت وشكلت رأس جسر للحملة الفرنجية الثالثة.
التي انطلقت بعد حملة تهويل ودعاية ضخمة وشارك فيها أربعة ملوك: المبراطور اللماني، وملك
إنكلترا، وملك فرنسا، وملك صفلية. والمئات من كبار البارونات.
ومرة أخرى كان هدفها المعلن القدس، والقبر المقدس. كانت الحملة من الضخامة بحيث أثارت الرعب،
ولكن إمبراطور بيزنطة المتحالف مع صلح الدين، والراغب في تثبيت الكنيسة الرثوذكسية في القدس،
لم يكن يؤيدها تماما، وإن وافق على مرور كتلتها الضاربة اللمانية، والتي بلغت مئة ألف مقاتل،
تفرقوا بعد غرق ملكهم، ولم يصل منهم إلى الشام سوى ألف، تناوشهم المسلمون على الطرقات.
وسيطرت الخلفات على علقة ملكي فرنسا وبريطانيا اللذين غلبتهما الحماسة الدينية بداية، وواصلوا
الحملة، ولكن لمصالح تجارية، وكحرب استعمارية. فيما شارك بها كثيرون تهربا من الضرائب التي
فرضت في أوروبا وعرفت باسم "عشر صلح الدين" على كل من لم يساهم فيها.
كان ملك القدس غي دي لوزينان، قد منع من دخول صور فاتخذ قاعدة له حول عكا، جمع إليها فلول
الحملت الولى ورافقته الساطيل الجنوبية والبيزنطية. وضرب الحصار حول المدينة لمدة سنتين. كان
صلح الدين خللها قد أقام معسكرا في مواجهة الفرنجة، واستنجد بالزنكية والمغاربة، حتى تحولت
قصة الحصار إلى أسطورة، تصاعدت فصولها مع وصول الفرنسيين وريتشارد قلب السد البريطاني.
طالب الفرنجة بإعادة مملكة القدس ثمنا لعكا، وعقدت حامية المدينة المسلمة اتفاقا تخرج به من
المدينة لكن الفرنجة نقضوا التفاق وأسروا وقتلوا ألوف المسلمين. وسقطت المدينة في أيديهم، لتشكل
مع صور قاعدتين للفرنجة.
أيد ريتشارد قلب السد غي لوزينيان في طرحه مع مونتفرات على تاج مملكة القدس، واندفع في
حملت على مدن الساحل، يسانده أسطول من البحر، فاحتل حيفا وقيسارية، لكنه جرح في المعارك،
فطلب مفاوضة صلح الدين مطالبا بإعادة مملكة القدس.
رفض طلبه هذا، ووقعت معركة أرسوف سنة ألف ومائة وإحدى وتسعين، وكادت حطين تتكرر إلى أن
المعركة انتهت بكفتين متوازيتين.
بعد هذه المعركة ضرب صلح الدين أسوار عسقلن، ثم اتجه إلى القدس للدفاع عنها. أشار مونتفرات
على ريتشارد بالهجوم على القدس أثناء انشغال المسلمين بأرسوف، لكنه لم يكن يملك القوة الكافية
لذلك، فاكتفى بإعادة بناء يافا كمرفأ تجاري ثالث، ووجد الرملة واللد مخربتين.
وعند وصوله مشارف القدس كان منهكا وخشي الهزيمة. كانت المفاوضات تدور سرا آنذاك وجدد
ريتشارد مطالبته بالقدس، وجدد صلح الدين الرفض إلى أن توصل الطرفان إلى صلح الرملة سنة ألف
ومائة واثنين وتسعين، وقضى أن تكون للفرنجة المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها حيفا
وقيسارية وأرسوف وتكون عسقلن للمسلمين، أما الماكن المقدسة في القدس فقد نص التفاق على
منح الفرنجة حرية الحج إلى القبر المقدس دون مطالبتهم بأي ضريبة مقابل ذلك، على أن يكونوا في
جماعات محدودة، ومدة الصلح ثلث سنوات وثلثة أشهر تنتهي آخر سنة ألف ومائة وخمس وتسعين.
أطلق الفرنجة على الشريط الذي حازوه من الساحل الفلسطيني اسم مملكة القدس. وعين ريتشارد ملكا
عليه ابن أخته هنري دوشامباني.
استقرت الوضاع بعد هذا الصلح، وتوفى صلح الدين بعده بسنتين في دمشق. وتابع حكم السرة
اليوبية، الذي بدأ بخلف شرس على السلطة انتقلت خلله القدس من حكم الفضل بن صلح الدين،
إلى العزيز ملك مصر، ثم عادت إلى الفضل، فإلى العادل.
وسط هذه الخلفات كانت حملت الفرنجة تتواصل واستطاعوا احتلل بيروت، لتتوسع مملكة القدس
على طول الساحل الشامي تقريبا، ووقعوا صلحا مع العادل سنة ألف ومائة وثمان وتسعين.
حاول العادل توحيد المملكة اليوبية على خطى صلح الدين ولكنه فشل، وتقاتل مع أخوته وأبنائهم،
وثبت مع ذلك مساحة واسعة من البلد تحت سلطته التي شملت دمشق والقدس والقاهرة.
وتصدى لمحاولة الفرنجة استثمار الحملة الرابعة في مهاجمة بيت المقدس. لكنه عقد معهم صلحا تنازل
فيه عن المناصفات في صيدا والرملة وأعطى الناصرة ويافا للفرنجة.
وقبل أن تنتهي الهدنة سنة ألف ومائتين وعشرة سعى العادل إلى تجديدها، فيما كانت أوروبا تتهيأ
للحملة الخامسة التي عرفت بالهنغارية. ورغم أن كتلة الحملة توجهت إلى مصر، إل أنها زلزلت جيش
العادل، وقد شاركت مملكة القدس في الحملة على مصر.
حاول الفرنجة استثمار الوضع الناشئ فهاجموا الجليل ليتصدى لهم الدماشقة، ويأخذون أسرى منهم
إلى القدس وحاول المعظم شقيق الملك الكامل الذي خلف العادل مهاجمة فرنجة فلسطين لتخفيف الضغط
عن مصر إل أن حملته كانت محدودة، فلجأ إلى تدمير الحصون حتى ل تقع في يد الفرنجة، ومنها
حصون وأسوار القدس، إذ أظهر الكامل استعدادا لتسليم بيت المقدس مقابل فك الحصار عن دمياط.
أغرق النيل الجيوش الفرنجية، وعقد الكامل صلحا معهم، ولم يعد لتسليم القدس من معنى، لكنه قام
بذلك سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين فيما عرف باتفاقية يافا. إذ سلمها إلى فريدريك الثاني، الذي
كان البابا قد لعنه لنه لم يأخذ البلد بالسيف.
مع تسلمهم القدس، أصبحت مملكة الفرنجة التي تحمل هذا السم واقعا قائما، وظلت عملية التسليم
وصمة للكامل رغم كل ما بذله وأخوه من عمارة القدس والهتمام بها.
ولن تسترد القدس مرة أخرى إل بعد دعوة الصالح أيوب الخوارزمية إلى الشام، فدخلوا المدينة سنة
ألف ومائتين وأربع وأربعين، وطردوا الفرنجة منها. وفشلت محاولتهم اللحقة في إعادة احتللها في
الحملة التاسعة التي حاولت الستفادة من تقدم الخطر المغولي على الشرق السلمي، وظلت مملكة
القدس محصورة في عكا والشريط الساحلي الشامي، حتى نهاية المماليك.
أرفين موسكوفيتش واستيطان القدس
آرفين موسكوفيتش، متمول يهودي أمريكي يعمل بشكل دائم على استكمال تهويد القدس وإغراقها
بالمستوطنين.
يحاول موسكوفيتش التشبه بالمتمول اليهودي البريطاني موشيه مونتفيوري، الذي بدأ البناء الستيطاني
في مدينة القدس، وأقام حيا استيطانيا عرف باسمه.
ضخ موسكوفيتش أموال ضخمة من أجل الستيلء على بيوت عربية في البلدة القديمة وأحياء القدس
الخرى، كما أشرف على ترتيب عمليات احتيال كبيرة منها تلك التي أدت إلى دخول المستوطنين دير
مار يوحنا.
أولى موسكوفيتش اهتماما خاصا، ولوقت طويل للسيطرة على عقارات في البلدة القديمة، متعمدا
تحويلها إلى نواة بؤرة استيطانية ما تلبث أن تتوسع.
ويرتبط المتمول اليهودي المريكي، الذي يجمع تبرعات ضخمة من اليهود في الوليات المتحدة وكندا
لدعم الستيطان الصهيوني بصلة قوية مع الرهابي أرئيل شارون، وقد عمل سويا في دعم نشاط
الجماعات الستيطانية في البلدة القديمة من القدس، وفي الحياء العربية الخرى في المدينة.
وكانت آخر مشروعات موسكوفيتش المعلنة، في البلدة القديمة، خطة توسيع بناء المدرسة الدينية
لجماعة "عطيرات كوهانيم"، المقامة في الحي السلمي قرب باب الساهرة.
يتكون المبنى من طبقة واحدة وقبو، وحسب الخطة المعلنة في تشرين أول من عام ألفين وواحد
ستضاف طبقتان إلى المبنى، تستخدمان لسكان طلبة المدرسة الدينية المذكورة.
وكان موسكوفيتش، رعى إقامة بؤرة استيطانية مطلع العام ألفين وواحد، في الحي السلمي على بعد
مائتي متر من المنزل الذي استولى عليه الرهابي آرئيل شارون.
لم تقتصر نشاطات هذا المتمول الصهيوني المتحمس على البلدة القديمة، فعام سبعة وتسعين، أعلن أحد
أعضاء قيادة حزب موليدت الصهيوني عن أن المليونير اليهودي المريكي لديه مشاريع بناء جديدة في
شرقي القدس، ويعتزم بناء مساكن على أرض تبلغ مساحتها هكتارا بالقرب من المدرسة "التلمودية" في
"بيت أورون" إضافة إلى مشاريع أخرى.
أرجأت حكومة نتياهو في العام نفسه الشروع في تنفيذ مشروع بناء استيطاني، لصالح موسكوفيتش في
رأس العامود، وقال الناطق باسم رئيس الحكومة الصهيونية: علينا أل نغامر ببناء سبعين مسكنا إذا
كان هذا يمنعنا في وقت لحق من تنفيذ مشاريع أهم في قطاعات أخرى من القدس.
كانت الخشية الصهيونية من ردود الفعل على البناء في حي مأهول بالعرب بالقدس، ولكن في مطلع
العام ثمانية وتسعين، صادقت ما تسمى وزارة الداخلية في الكيان الصهيوني، على بناء مئة واثنتين
وثلثين وحدة استيطانية لصالح موسكوفيتش في حي رأس العامود.
آثار القرار والشروع في عمليات البناء ردود فعل حادة في القدس، وانطلقت تظاهرات، وتحركات
سياسية لوقف هذا المشروع.
عام تسعة وتسعين، وبينما كان المستوطنون يواصلون العمل في البناء في حي رأس العامود، تحدث
مسؤولون صهاينة عن أنهم يبحثون إمكانية وقف البناء.
هدد موسكوفيتش باللجوء إلى المحاكم ضد الحكومة معلنا أنه يملك تراخيص بناء، وتمكن بالفعل من
متابعة البناء في هذا الحي الستيطاني.
في هذه الثناء، تابع موسكوفيتش، تحويل عمليات الحتلل للستيلء على المنازل في القدس، وفي
العام من ألفين وواحد، صدر قرار عن مجلس البلدية الصهيونية في القدس، بالمصادفة على بناء حي
استيطاني في قرية "أبو ديس" باسم الحي اليهودي.
كان موسكوفيتش قد عرض هذا المشروع منذ سنوات، وعرض التبرع بكامل تكاليفه، حيث يشمل إقامة
مائتين وعشرين وحدة سكنية استيطانية على مساحة ثلثة وستين دونما تقع قبالة جامعة أبو ديس.
الكنيست الصهيوني وافق على المشروع الذي أصبح موسكوفيتش شريكا فيه، بدل التبرع بإقامته.
الرهاب الصهيوني في القدس
يحتل الرهاب الموجه إلى المواطنين الفلسطينيين مكانة مركزية في النشطة الصهيونية في بيت
المقدس، وهو يندرج في سياق السعي إلى تهويد المدينة، ودفع أهلها إلى الهجرة منها.
يأخذ الرهاب الصهيوني في المدينة أشكال متعددة، ويشترك في تنفيذه الجنود والمستوطنون الذين
شكلوا عصابات متخصصة في إرهاب المواطنين العرب الفلسطينيين.
وتغطي النشطة الرهابية الصهيونية مختلف أنحاء المدينة، سواء المكنة المقدسة أو الحياء السكنية
فيها.
في نيسان من عام اثنين وثمانين، اقتحم جندي صهيوني يدعى هاري غولدمان، ساحة الحرم القدسي
الشريف، وأخذ يطلق النار عشوائيا من بندقية رشاشة تجاه المصلين، ما أسفر عن استشهاد وجرح
العشرات منهم.
أثار العتداء موجة سخط عارمة في القدس، وأعلنت السلطات الصهيونية عن اعتقال غولدمان وادعت
كما هي العادة بأنه مختل.
الحاخام الرهابي مائير كهانا، بارك فعلة غولدمان الشنيعة، وكلف محامين بالدفاع عنه.
بعد عام كامل على هذه الجريمة البشعة، اقتحمت عصابة من اللصوص الصهاينة المتحف السلمي في
القدس، واستولت على مقتنيات تفوق قيمتها الربعة مليين دولر، وسجلت القضية ضد مجهول.
شهد عام أربعة وثمانين موجة أعمال إرهابية نفذها المستوطنون الصهاينة ضد مواطني القدس. فألقى
أفراد العصابات الصهيونية قنبلة على مواطنين فلسطينيين في ساحة البراق. وقاموا بتفجير مقهى
عربي في حي باب السلسلة ما أدى إلى إصابة أربعة مقدسيين بجراح.
وبعد أيام على هذه الجريمة، تم اقتراف جريمة أخرى تمثلت بضرب حافلة تقل مواطنين عرب بصاروخ
على طريق القدس الخليل وعلى بعد مائتي متر من السوار القديمة للمدينة المقدسة.
أسفر انفجار الصاروخ عن استشهاد مواطنين وإصابة آخرين بجراح، البعض منهم كانت جراحه بالغة
وخطيرة.
تجددت موجة العمال الرهابية عام ستة و ثمانين، فألقى المستوطنون قنبلة حارقة على منزل عربي،
ودمروا ثلث سيارات للمواطنين الفلسطينيين.
وهاجم نحو خمسمائة من المستوطنين الصهاينة المواطنين العرب في البلدة القديمة، وهم يهتفون
الموت للعرب.
حطم المستوطنون نوافذ المساجد والمنازل و أحرقوا أبوابا خشبية.
وقد اعترفت شرطة الحتلل في حينه أن تلميذ المدرسة الدينية الستيطانية "شوفوبنيم" يملكون ترسانة
ضخمة من السلحة، تشمل بنادق و قنابل يدوية وقاذفات صواريخ مضادة للدروع.
عام ثمانية وثمانين، وفي ذروة النتفاضة الفلسطينية، ومع تصاعد العتداءات التي يقوم بها
المستوطنون الصهاينة، شكل أهالي القدس لجان حراسة في حي السعدية وأحياء مجاورة لصد
المستوطنين.
وعام تسعين هاجم الجنود الصهاينة حي سلوان وأطلقوا الرصاص بشكل عشوائي مما أسفر عن
استشهاد ثلثة مواطنين، و إصابة العشرات بجراح.
عاود المستوطنون موجة إلقاء القنابل اليدوية عام اثنين وتسعين مستهدفين الحي السلمي في البلدة
القديمة، فألقوا قنبلة على محل تجاري مما أسفر عن استشهاد رجل مسن وجرح عشرة آخرين.
وهاجم المستوطنون الصهاينة بأعداد كبيرة منازل الفلسطينيين ومحالهم في ضاحية البريد، وفي
المنطقة الواقعة بين مستوطنتي "بسغات زئيف" "ونيفي ياكوف".
وصعدوا من اعتداءاتهم على المواطنين في البلدة القديمة حتى أنهم هاجموا بحراسة أفراد الشرطة،
منزل مواطن بقنابل المولوتوف والحجارة، ولم يشفع صراخ الطفال والنسوة في تدخل أفراد الشرطة
الصهاينة لوقف هذا العتداء.
كما ألقى المستوطنون الصهاينة قنبلة باتجاه حشد من المواطنين الفلسطينيين مما أدى إلى إصابة
خمسة منهم بجراح.
حظيت هذه العمليات الرهابية دوما بدعم شرطة الحتلل ومن يسمون بحرس الحدود الذين شاركوا
أيضا في تنفيذ العديد منها.
القدس ومشروع التدويل
في التاسع والعشرين من تشرين الثاني من عام سبعة وأربعين وتسع مئة وألف، اتخذت الجمعية العامة
للمم المتحدة، قرارا جائرا بتقسيم فلسطين بين الفلسطينيين أصحاب الرض، والصهاينة الغزاة،
وتضمن القرار بندا خاصا بتدويل القدس.
لم تكن هذه هي المرة الولى التي يجري فيها الحديث عن نظام خاص للقدس، أو تدويلها، فعقب انفجار
ثورة عام ستة وثلثين في فلسطين، أرسلت الحكومة البريطانية لجنة تحقيق إلى فلسطين عرفت باسم
لجنة )بيل(، أوصت في ختام أعمالها بتقسيم فلسطين وبوضع القدس وبيت لحم والناصرة تحت سلطة
النتداب، للبحث في نظام خاص لها.
جرى اتخاذ قرار التقسيم عام سبعة وأربعين رغما عن إرادة العرب الفلسطينيين والعرب، وفيما يتعلق
بالقدس نص القرار على أن يجعل للقدس وضعا أو كيانا منفصل خاضعا لنظام دولي تتولى المم
المتحدة إدارته.
على أن تشمل المدينة بلديتها القائمة والقرى والبلدات المجاورة، وأن يعين عليها مجلس وصاية يضع
ويقر دستورا منفصل للمدينة، يتضمن جوهره شروطا عدة منها حماية المصالح الروحية والدينية
الفريدة، بحيث يسود النظام والسلم الديني خاصة مدينة القدس.
كما نص القرار على أن يكون حاكم المدينة من غير مواطني الدولتين اللتين أقر قرار التقسيم قيامهما،
وأن تجرد المدينة من السلح، ويعلن حيادها. كما يكون لها مجلس تشريعي منتخب بالقتراع السري
على أساس تمثيل نسبي لسكان المدينة البالغين وبتغير تمييز من حيث الجنسية.
ول يجوز المساس بالحقوق الحالية للماكن المقدسة وضمان حرية الوصول إليها وصيانتها، وعدم
جباية أي ضريبة على مكان مقدس أو مبنى أو موقع ديني مقدس معفى منها.
رفض العرب قرار التقسيم الجائر الذي حمل الرقم مئة وواحد وثمانيين، بكليته لما رأوا فيه من انتقاص
لحقوقهم في فلسطين والقدس، وقام الصهاينة بتطبيقه انتقائيا، فأعلنوا قيام دولتهم على أساسه في
مساحة أكبر بكثير من تلك التي منحها القرار لهم، وواصلوا عدوانهم للسيطرة على القدس.
وفي كانون الول من عام ثمانية وأربعين، أصدرت الجمعية العامة للمم المتحدة قرارا حمل الرقم مئة
وأربعة وتسعين، الذي تضمن بندا يتعلق بتقرير وضع القدس في نظام دولي، وإنشاء لجنة توفيق
دولية.
جاءت معظم الفقرات في البند الخاص بالقدس، تكرارا وتوضيحا لما كان قد تضمنه قرار التقسيم من
مثل اتخاذ التدابير اللزمة لتأمين نزع السلح من المدينة، والطلب إلى لجنة التوفيق، تقديم اقتراحات
مفصلة بشأن نظام دولي دائم لمنطقة القدس، وتقرير منح سكان فلسطين جميعا أقصى الحرية في
الوصول إلى القدس، ووجوب حماية الماكن المقدسة والبنية الدينية في فلسطين.
رفض الصهاينة القرار مئة وأربعة وتسعين الذي تضمن أيضا النص على عودة اللجئين الفلسطينيين
إلى ديارهم، ومازالوا يرفضونه حتى الن، في حين رأى فيه العرب انتقاصا من حقهم في القدس
وفلسطين أيضا، لكونه يكرس قرار التقسيم، وتشريع الغتصاب الصهيوني لفلسطين.
كانت المم المتحدة قد أقرت عام سبعة وأربعين تشكيل مجلس وصاية، لتنفيذ مشروع التقسيم في
فلسطين والتدويل في القدس، وسوف تقع على عاتقه لحقا محاولة وضع المشروع موضع التنفيذ،
وهو أعلن في آذار من عام ثمانية وأربعين، أنه وضع تفاصيل مشروع النظام الدولي لمدينة القدس.
وقد كلف المجلس في مطلع أيار من عام ثمانية وأربعين من قبل الجمعية العامة، أن يدرس مع سلطة
النتداب، والطراف المعنية الجراءات الملئمة لحماية مدينة القدس وسكانها، وأن يرفع إلى الجمعية
العامة اقتراحات بهذا الشأن في أقرب وقت.
افتقر المجلس كما الجمعية العامة إلى أي فعالية على هذا الصعيد، وعاد بعد صدور القرار مئة وأربعة
وتسعين الذي سبقه إعلن الكيان الصهيوني على نحو يخالف قرار التقسيم عاد إلى العمل على استكمال
دستور القدس.
رفض الصهاينة مشروع التدويل، وأعلنوا القدس عاصمة لهم، واكتفى مجلس الوصاية بالحتجاج،
ليواصل طوال العام خمسين وتسع مئة وألف إصدار قرارات متلحقة، عن عزمه المضي فورا في إنهاء
إعداد نظام مدينة القدس وتنفيذه.
انضمت هذه القرارات إلى جانب قرارات لجنة التوفيق، وعندما أعلن المجلس عن توصله إلى إنهاء
النظام، داعيا الكيان الصهيوني والردن إلى تطبيقه كان الصهاينة قد قطعوا شوطا واسعا في فرض
وقائع مستجدة في مدينة القدس.
ولعله من اللفت للنتباه أن الحديث عن مشروع التدويل قد استمر، وتبنته الدول الكبرى، لكن أحدا لم
يتحرك لتنفيذه، حتى ليبدو وكأنه منذ البداية، نوع من التسويف، يتيح للصهاينة استكمال مشروعهم،
وإعلن كيانهم بقرار دولي جائر.
المدرسة التنكزية
المدرسة التنكزية في بيت المقدس، واحدة من أشهر المدارس المقدسية وأحلها، بناها المير تنكز
الناصري، سنة سبعمائة وتسع وعشرين للهجرة.
سيف الدين تنكز الناصري كان نائب الشام. والبناء في بيت المقدس كان مزيجا من الواجب الديني،
والرغبة في احتلل مكان في التاريخ، ولذلك كان هناك تسابق على الشادة والبناء اللذين توجها بشكل
أساسي نحو دور العلم والمدارس، على يمين الداخل إلى الحرم الشريف من باب السلسلة تقع المدرسة
التنكزية التي تحمل اسم بانيها وواقفها.
وهي مدرسة عظيمة متقنة البناء، على ما يصفها مجير الدين الحنبلي قائل "أنها مدرسة عظيمة ليس
في المدارس أتقن من بنائها". لكن الحنبلي يتوقف هنا، ول يسهب في وصف هذه التحفة المعمارية التي
ل تزال قائمة حتى اليوم.
الستاذ كامل العسلي الذي صرف وقتا طويل من حياته "يرحمه ال" باحثا في سجلت المحكمة الشرعية
في القدس، عثر على وصف مفصل دقيق للمدرسة التنكزية في السجل رقم اثنين وتسعين، لسنة ألف
وعشرين للهجرة، من سجلت المحكمة المذكورة، وهو يحتوي على النص الكامل لوقفية المير تنكز
على مدرسته.
وفي الوقفية معلومات كثيرة هامة عن كل النواحي المتصلة بالمدرسة، حيث يتضح أن الصرح الذي
شيده سيف الدين تنكز كان مجمعا مؤلفا من عدة أجنحة ويشتمل على مدرسة ودار حديث، وخانقاه
للصوفية، ورباطا للعجائز من النساء.
المدرسة كانت تشغل الطابق الرضي من المبنى، أما الخانقاه فكانت فوق رواق الحرم. وكان في علو
المدرسة أحد عشر بيتا للصوفية، كما كان فوق سطح المدرسة بيت كبير طوله خمسة وأربعون ذراعا
وعرضه عشرون ذراعا مخصصا لرباط النساء.
تقول الوقفية في وصف المبنى:
"...ويغلق على هذه المدرسة ..باب خاص مكبر بمصراعين من خشب الجوز بصفائح نحاس أصفر
ببوابة معقودة بالحجر النحيت البيض والسود والصفر، وبها طرز مذهب مكتوب فيه اسم الواقف
..وتشتمل هذه المدرسة المذكورة على أربعة اوواين معقودة بالكلس والحجر، في واحد منها شباك
حديد مطل على حارة المغاربة، ولكل واحد من الشبابيك المذكورة والمجلسين المشار إليهما باب
بمصراعين مطعم بالعاج والنبوس، وجميع هذه المدرسة المذكورة مؤزر بالرخام الملون، وأرضها
مفروشة بالرخام الملون أيضا ولها عراقية ..ورفرف مدهون.
وفي وسط هذه المدرسة المذكورة بركة مثمنة يجري بها الماء من قناة العروب، بحق واجب معلوم من
مقسم مشترك ينقسم ماؤه بين جهات الحرم الشريف وبين هذه المدرسة المذكورة من الفرع السابق من
قناة العروب بحق واجب معلوم، وبهذه المدرسة مطبخ برسم المرتبين بهذه المدرسة.. ولهذه المدرسة
طهارة تشمل على خمسة بيوت مبنية بالحجارة النحيت والكلس وأحدها مستحم. وفي كل بيت منها
جرن حجر، يجري إليه الماء من قناة العروب المذكورة، بمقسم خاص بها بحق واجب معلوم.
وجميع أواوين هذه المدرسة المذكورة مبلطة بالبلط البيض، وحائط هذه المدرسة القلبي، مبني على
أقباء رومية، تعرف قديما بإسطبلت الدوابة، وهي من حقوق هذه المدرسة المذكورة، ويتطرق إلى هذه
القباء من حارة المغاربة بباب خاص وتحت الجانب الشرقي من هذه المدرسة المذكورة قبو سليماني
قديم جدده الواقف"
الوقفية، لم تقتصر بالطبع على وصف البناء ومشتملته كما تقدم، بل أنها أيضا تحدثت عن شروط
للعاملين والمدرسين والطلبة الدارسين فيها.
ضمت التنكزية عددا كبيرا من المدرسين والمحدثين والصوفيين، بوصفها مدرسة ودار حديث وخانقاه
وقد حددت وقفيتها مهام العاملين فيها، كما حددت شروط المدرس وشيخ الحديث وشيخ الصوفية،
وكذلك شروط الطلبة.
كان من شروط المدرس أن يكون حافظا لكتاب ال تعالى، عالما بمذهب المام أبي حنفية، وأن يكون
إماما في الصلوات الخمس ومن شروط شيخ الحديث، أن يكون عالي الرواية مقصودا بالسماع عليه
حسن الضبط ..أما الطلب، فاشترطت المدرسة أن يكون طلبها من أهل الخير، وقسمتهم إلى ثلث
طبقات: مبتدئون، متوسطون ومنتهون، وأن يواظبوا على دروسهم.
وكان على قراء الحديث، أن يجتمعوا بعد صلة العصر، ويقرأ كل واحد منهم ما تيسر من كتاب ال،
وأن يختموا القرآن.
ومن شروط الطالب في دار الحديث، وهو أحد أقسام المدرسة، أن يقرأ في الدرس الديني من صحيح
البخاري، ثم من صحيح مسلم وأن يحفظ كل يوم حديثا واحدا، ويعرضه على الشيخ. وأما الصوفية،
فكان عليهم أن يجتمعوا في صبيحة كل يوم قبل طلوع الشمس، ويقرأ كل واحد منهم، ما تيسر له من
القرآن، وكانوا يرددون الدعوات ويقرأون من رسالة المام القشيري.
وحددت الوقفية عدد الطلبة بالمدرسة بخمسة عشر طالبا موزعين إلى مبتدئين ومتوسطين ومنتهين،
وعدد الطلبة في دار الحديث بعشرين طالبا، وعدد الصوفية بخمسة عشر صوفيا.
كانت مدة المدرسة التنكزية، أربع سنوات، وكان من بين موظفي المدرسة معمار خاص بها للشراف
على صيانة مبناها.
ويتقاضى العاملون فيها رواتب شهرية حددتها الوقفية كالتي:
المدرس: ستون درهما فضيا شهريا وثلثا رطل من الخبز يوميا
المعيد: ثلثون درهما فضيا شهريا، وثلثا رطل من الخبز يوميا
الفقهاء: وهم ثلث طبقات يتقاضون بالترتيب عشرين، خمسة عشر، وعشرة دراهم، شهريا مع ثلث
رطل من الخبز يوميا.
شيخ المحدثين: أربعون درهما فضيا شهريا، ورطل من الخبز يوميا.
طلبة الحديث: سبعة دراهم ونصف درهم شهريا وثلث رطل من الخبز يوميا.
شيخ الصوفية: ستون درهما شهريا، وثلث رطل من زيت الزيتون، وثلث رطل من الصابون ورطل من
الخبز يوما.
الصوفي: عشرة دراهم شهريا، وسدس رطل من الزيتون، وسدس رطل من الصابون ونصف رطل من
الخبز يوميا.
الوقفية تشير إلى شروط خاصة للخانقاه، حيث أن المستفيدين منها هم من السادة المشايخ الصوفية.
الشيوخ والكهول والشباب البالغين المتأهلين والمجردين من العرب والعجم "وكان السكن فيها
للمتجردين دون المتزوجين، وكذلك للواردين من الصوفية، من خارج القدس"
وتشترط عليهم الوقفية "أن يجتمع الجماعة المذكورون بأسرهم في كل يوم يقرأون ما تيسر من القرآن
العظيم في ربعات شريفة، وأن يجتمعوا مع شيخهم بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة ويقرأون بحضور
شيخهم ما تيسر من كلم الئمة الصوفية"
التنكزية نموذج للمدارس المقدسية المشابهة، التي كانت تطبق نظما قريبة مما عرضناه، وفيها تخرج
عدد كبير من العلماء في بيت المقدس.
في العهد العثماني، تحولت المدرسة إلى محكمة شرعية، ومن هنا صارت تعرف باسم المحكمة، وبقيت
كذلك حتى أوائل عهد النتداب البريطاني، فاتخذها المجلس السلمي العلى دارا للسكن، ثم عادت بعد
ذلك مدرسة لتعليم الفقه السلمي. في أواسط حزيران من عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين، أصدرت
السلطات الصهيونية، قرارا بمصادرة سبعة عشر عقارا إسلميا في أنحاء مختلفة من القدس، بينها
المدرسة التنكزية على مدخل باب السلسلة.
وقبل نهاية الشهر المذكور، دخلت قوات الحتلل إلى المبنى، وحولته إلى موقع عسكري لفراد حرس
الحدود.
بيت المقدس
موقعها وبناؤها
تقع القدس في جبال فلسطين الداخلية وسط فلسطين، على بعد اثنين وخمسين كيلو مترا من البحر
المتوسط، واثنين وعشرين كيلوا مترا من البحر الميت.عند تقاطع خط الطول 35.13 شرقا، وخط
العرض 31.52 شمال.
وترتفع نحو سبعمائة وخمسين مترا عن سطح البحر البيض المتوسط، ونحو ألف ومائة وخمسين مترا
عن سطح البحر الميت. وقد أقيمت نواة المدينة الولى، فوق هضبة من آكام مستديرة، في قلب
السلسلة الجبلية الوسطى، التي تشكل العمود الفقري للرض الفلسطينية، في موقع جغرافي استراتيجي
هام، يتيح لها ميزة النفتاح والنغلق معا.
ومن موقعها هذا، يمكن تأمين المراقبة على كل فلسطين. فالموقع يسيطر على الطرق الرئيسية في تلك
الفترة، فمن القدس تمكن السيطرة على طريق السهل الساحلي ووادي الردن. كما يتم تأمين التحكم
المباشر بالطريق الساحلي، وطريق الملك، الممتدة من العقبة إلى دمشق عبر الكرك وعمان وهي
محاور التجارة القديمة.
إن ميزة النفتاح، هي التي تتيح للقدس التصال بجميع الجهات شرقا وغربا وشمال وجنوبا.إذ تقع في
قلب المسافة بين دمشق القاهرة وبيروت وعمان، ومصر والعراق والحجاز والشام.
أما ميزة النغلق، فهي التي تؤمن للقدس إمكانية الدفاع عنها، لنها محمية بجبال ووديان عميقة.
تحيط بالقدس القديمة مجموعة من الجبال، وهي: رأس أبو عمار قرب قرية بتير في الجنوب.
وجبل الزيتون أو الطور من جهة الشرق، وجبل سكوبس أو المشارف من الشمال، وجبل المنطار من
الجنوب الشرقي، وجبل صموئيل إلى الشمال الغربي قرب قرية بيت حنينا.
وإذ ل توجد حدود طبيعية حقيقية بين جبال القدس وجبال نابلس، فإن ارتفاعها يزداد كلما اتجهنا
جنوبا، أي نحو الخليل، وتصبح أكثر وعورة، خاصة جهة شرق الخليل.
وإلى الجبال، تحيط بالقدس أودية عميقة، منها: وادي جهنم الذي يمتد على طول المدينة من الجنوب،
ووادي الجوز الذي يبدأ من الشمال الشرقي متجها إلى الجنوب، ووادي القلط في الشمال. والوادي
الكبير الذي يبدأ من شمال اللطرون، متجها إلى الغرب باتجاه اللد.
ووادي النار الذي يبدأ من الجنوب الشرقي، ويتجه نحو البحر الميت.
الجبال المحيطة بالقدس، والواديان الرئيسيان اللذان يلتقيان في طرفهما الجنوبي، ويتركان الجهة
الشمالية مفتوحة، كل هذا جعل القدس منيعة وسهل الدفاع عنها .
ومما يعطي لموقعها ميزة إضافية. وجود نبع ماء دائم في الجهة الشرقية منها، وهذه ميزة نادرة في
فلسطين.
في هذا الموقع المميز، أقيمت مدينة القدس حوالي العام 3200 قبل الميلد، وذلك بحسب مكتشفات
أثرية عثر عليها جنوب الجدران الحالية للمدينة القديمة، وقدر المؤرخون وعلماء الثار أنها تعود للعام
المذكور.
وثمة اتفاق واسع بين معظم المصادر على أن القدس بنيت أول ما بنيت حوالي ثلثة آلف قبل الميلد،
وأن أول من بنى المدينة هم العموريون تلهم اليبوسيون، وأطلقوا أول اسم عليها وهو "يبوس" فيما
سماها العموريون قبلهم أورشليم.
واليبوسيون هم بطن من بطون العرب الذين نشئوا وترعرعوا في الجزيرة العربية،ثم هاجروا مع
غيرهم من القبائل الكنعانية، واستوطنوا المنطقة الشرقية لساحل البحر المتوسط "سوريا الطبيعية"
وخاصة ما يعرف اليوم بفلسطين.
وأصبح اليبوسيون هم أصحاب فلسطين وملوك القدس، ويقال إن أهم ملوكهم "ملكي صادق هو أول من
خططها وبناها، وكان وديعا ومحبا للسلم، ومن هنا جاء أسمها "سالم" وعرفت فيما بعد بالسم الكنعاني
"أور سالم" أي مدينة السلم.
التوافق على هذا التحديد، ربما كان يخص مرحلة تاريخية معينة، هي أقصى ما استطاع الباحثون في
التاريخ، والعاملون في الثار والتنقيب إدراكه، ذلك أن هناك من يعيد النشأة الولى للقدس، إلى زمن
مختلف، وتاريخ آخر، هو وفق الرادة البشرية، ويرتبط بالرادة اللهية التي منحت المكان قداسة
خاصة، أي أن القدس أقيمت بالرادة اللهية
جاء في صحيح البخاري:
سئل رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم: أي مسجد وضع في الرض أول؟ قال المسجد الحرام قال
السائل: ثم أي؟ قال: المسجد القصى. قال كم بينهما؟ قال أربعون سنة.
وقد روى الحديث ابن ماجه في سننه، والمام أحمد في مسنده.
ومما جاء في كتاب: النس الجليل بتاريخ القدس والخليل للقاضي مجير الدين الحنبلي: قال المام أبو
العباس القرطبي: يجوز أن يكون بناه، ويعني مسجد بيت المقدس، الملئكة بعد بنائها البيت الحرام بإذن
ال تعالى، وظاهر الحديث يدل على ذلك.
وفي موضع آخر من كتابه، ينقل الحنبلي عن رواة التاريخ، أن آدم عليه السلم، شارك في عمارة
القدس، ثم من بعده نوح عليه السلم، وينقل رواية ابن نوح، سام، جدد البناء القديم،لنه جاء ملكا
على قومه.
إن التقديس الذي منحه ال سبحانه وتعالى للقدس، وذكرها في القرآن الكريم، ثم ما جاء من أحاديث
مسندة عن الرسول الكريم، من فضائل بيت المقدس، يؤكد الرادة اللهية في إقامة المكان المقدس.
ولعل الهمية العظيمة التي يعنيها هذا التقديس هي التي دفعت الخباريين والرواة، إلى الحديث عن
مشاركة كل من آدم ونوح عليهما السلم في بناء مدينة القدس، ومسجدها.
ثم أنهم سعوا إلى التوفيق بين ما هو في علم الغيب، ول يعلمه إل ال، وما تناهى إليه إدراكهم من
وقائع، وهكذا نجد أن مجير الدين الحنبلي، ينقل لنا رواية، تدمج بين سام بن نوح، وملكي صادق،
الملك اليبوسي، وتجعلهما شخصا واحدا.
يقول الحنبلي: "ومما حكي في أمر بناء القدس في تواريخ المم السالفة: أن ملكي صادق –وهو سام بن
نوح ملك اليبوسيين – نزل بأرض بيت القدس، وقطن بكهف من جبالها، يتعبد فيه واشتهر أمره حتى
بلغ ملوك الرض الذين هم بالقرب من أرض بيت المقدس بالشام وسدوهم، وغيرهما، وعدتهم اثنا
عشر ملكا، فحضروا إليه، فلما رأوه وسمعوا كلمه اعتقدوه، وأحبوه حبا شديدا، ودفعوا له مال، ليعمر
به مدينة القدس، فاختطها أي: كما علم ذلك من أبيه نوح عليه السلم وعمرها. وسميت ورشلم ..فلما
انتهت عمارتها، اتفقت الملوك كلهم، أن يكون ملكي صادق، ملكا عليها، وكنوه بأبي الملوك، وكانوا
بأجمعهم تحت طاعته. واستمر حتى مات بها.
أيا كان أمر هذا النص، من حيث الدقة العلمية، وانسجامه مع وقائع التاريخ، وهما أمران ل بد أن
ينفيهما انعدام القدرة على إثبات صلة ملكي صادق بسام بن نوح، إل أنه من جانب أخر، يثبت واقعة أن
ملك اليبوسيين، هو من بنى القدس، في التاريخ المعروف والمدرك والمثبت بالحفريات حتى وقتنا
الحاضر.
بعد ملكي صادق، واليبوسيين، سوف يأتي من يبني القدس مرارا، فقد أعيد بناء المدينة ثماني عشر
مرة في التاريخ، وذلك لما توالت على هذا البلد المقدس من أحداث وأهوال حيث كان على مر الدهور
مطمع أنظار المم والشعوب، وهدفا من أهداف الغزاة والفاتحين، فحوصر مرارا، وهدم تكرارا، وأعيد
البناء من جديد في ذات الموقع المقدس، بإرادة إلهية.
مشروع برنادوت واغتياله
عشية انتهاء النتداب البريطاني على فلسطين اتخذت المم المتحدة قرارا بتعيين الكونت فولك برنادوت
وسيطا دوليا لضمان سلمة سكان فلسطين وحماية الماكن المقدسة.
وبعد شهور قليلة من هذا القرار قامت العصابات الصهيونية باغتيال برناودت في واحدة من جرائمها
الكثيرة في أرض فلسطين.
لم يبد الصهاينة منذ البداية ارتياحا لمهمة برناودت الهادفة أساسا السعي إلى تطبيق قرار التقسيم رقم
مئة وواحد وثمانين، ففي نفس اليوم الذي اتخذت فيه المنظمة الدولية القرار بتعيينه، بدأت الهاغاناه
في تطبيق ما يعرف بالخطة داليت، الرامية إلى تحقيق مكتسبات على الرض تمنع من قيام دولة
فلسطينية بحسب القرار مئة وواحد وثمانين، وتجهض فكرة تدويل القدس وفق منطوق القرار نفسه.
وحسب الخطة المذكورة كان على العصابات الصهيونية أن تحتل المناطق الواقعة بين تل أبيب والقدس
وطرد المواطنين العرب منها.
وفي يوم تعيين برنادوت في مهمته أيضا، احتل الصهاينة دير القديس جاورجيوس للروم الرثوذكس
في القدس، ويوم العشرين من أيار سنة ألف وتسعمائة وثمان وأربعين أضاف مجلس المن الدولي
مهمة جديدة لبرنادوت، وهي التفاوض من أجل الحفاظ على الهدنة في القدس.
بذل الوسيط الدولي مجهودا كبيرا لتنفيذ مهمته وتوسط من أجل مد الصهاينة في القدس بمياه رأس
العين، التي استشهد في الدفاع عنها الشيخ حسن سلمة.
في تموز من عام ثمانية وأربعين، رفع برنادوت تقريرا إلى مجلس المن حول مهمته قال فيه: إن
مدينة القدس تقع وسط القليم العربي، وإن أية محاولة لعزلها سياسيا أو غير ذلك عن القليم العربي
المحيط بها تنطوي على صعاب جمة، ول يعني إدخال القدس ضمن القليم العربي بحال، سيطرة العرب
على اليهود أو غيرهم من الشعوب غير العربية أصحاب المصالح في تلك المدينة.
لم يلق تقرير برنادوت آذانا صاغية، وفي آب من عام ثمانية وأربعين، تلقى الوسيط الدولي من غلوب
باشا، قائد الجيش الردني مشروعا من اثني عشر بندا لتجريد القدس من السلح، وافق عليه بحراره،
ولكن الصهاينة رفضوه، فرفع برنادوت تقريرا آخر إلى مجلس المن، قيل أنه عجل في اغتياله، ففي
تقريره هذا شكك في المكان تنفيذ نزع السلح في القدس وتجريدها من السلح بصفة مؤقتة.
وقال: "حتى لو وافق الطرفان على اعتبارها منطقة منزوعة السلح، فل يتيسر تطبيق هذا الجراء
عمليا ما لم تشكل فورا قوة دولية تابعة للمم المتحدة للقيام بهذه المهمة".
كان الصهاينة يسعون إلى تعزيز مواقعهم في القدس ويرون أن من شأن تطبيق مقترحات الوسيط
الدولي إعاقة هذا المسعى، بعد أقل من شهر رفع تقريره، اغتيل برنادوت في حي القطمون في القدس
على يد مجموعة من أفراد العصابات الصهيونية كانوا يرتدون الزي العسكري.
وقع الغتيال في أيلول من عام ثمانية وأربعين، وبعد أربعين عاما تبين أن الفريق الذي خطط وقاد
الجريمة، يتألف من: "اسحق شامير، وناتان بالين مور، وإسرائيل ألداد".
وفي آونة الكشف عن هذه الحقائق كان اسحق شامير رئيسا للوزراء في الكيان الصهيوني، لكن أحدا لم
يتحرك لعقابه على جريمة موصوفة.
مما كشف عنه أيضا، أن القرار بالغتيال اتخذ في اجتماع للحكومة الصهيونية، ناقش ما سمي يومها
بمقترحات برنادوت 2 وهي المشار إليها في تقريره إلى المم المتحدة.
يوشو زيتلر زعيم عصابة شتيرن، قال بعد مقتل برنادوت: "لم نعد اليوم قادرين على قتل أحد ولكنني
ينبغي عليه العالم أن يتذكر أننا معشر اليهود نقرر مصيرنا بأنفسنا، لقد أراد برنادوت أن يعطي الجليل
والقدس والنقب إلى العرب، إن ما جرى لبرنادوت كان عملية تصفية، وليس اغتيال، وأنا لست نادما
على ما فعلت".
هذا كما ترى اعتراف صريح، والقتل ما يزال مستمرا.
عملية تزييف جديدة القدس 3000 عام
في عملية تزييف جديدة لوقائع التاريخ، أطلق الصهاينة عام خمسة وتسعين، سلسلة احتفالت ضخمة،
لمناسبة ما أسموه، مرور ثلثة آلف عام على قيام مملكة داوود في القدس.
وفي أيلول من العام المذكور، أطلق الرهابي اسحق رابين هذه الحتفالت، بخطاب مليء بالتزييف
التاريخي، ومحتشد بالعبارات العنصرية، وبالصرار على اغتصاب القدس، حيث قال الرهابي: "القدس
هي مجد الشعب اليهودي على صورة ال". وأضاف "ل إسرائيل من دون القدس الموحدة التي هي قلب
الشعب اليهودي".
صرف الصهاينة وقتا طويل في التحضير للخدعة التاريخية الجديدة، لكنها لم تحقق النتائج التي
توقعوها، باعتراف الرهابي تيدي كوليك، صاحب الفكرة، فقد كانت الحتفالت فاشلة، وهو قال: "إن
الحتفال لن يكون حدثا دوليا كما كنت أحلم".
لم تفلح اللعاب النارية، والرقصات الصاخبة في تغطية الخيبة اليهودية من فشل الخدعة، فقد قاطعت
دول التحاد الوربي هذه الحتفالت، موضحة أنها تجاهلت المسلمين والمسيحيين وصلتهم بالمدينة
المقدسة، وحتى السفير المريكي لدى الكيان الصهيوني مارتن انديك قاطع هذه الحتفالت، وإن قام
بتبرير غيابه بارتباطه بمواعيد سابقة، وليس ترجمة لموقف رافض منها.
عمليا فإن الحتفالت التي أرادها الصهاينة محاولة لتثبيت ادعائهم حول القدس، شكلت مناسبة لنشر
العديد من البحاث والدراسات التي تفضح المزاعم الصهيونية وتكشف عن محاولة جديدة لتدعيم فكرة
الحق التاريخي اليهودي في مدينة القدس عن طريق تحويل الساطير إلى حقائق تاريخية كما تفضح
حجم الضافات إلى العهد القديم، والتي كتبت في فترات زمنية متفرقة، لتعطي صفة شرعية لستيلء
اليهود على القدس.
عدنان الحسيني مدير الوقاف السلمية في القدس اعتبر أن الحتفالت التي يقوم بها الصهاينة ليست
سوى خدعة وقال: "صحيح نحن نشكل الطرف الضعف الن لكن موقفنا واضح، فالقدس عربية منذ
خمسة آلف سنة، ومسلمة منذ أربعة عشر قرنا.
بأمر الهي ل يستطيع أي قانون بشري أن يلغيه. ووجد حتى بين الصهاينة من لم يحتمل ثقل الخدعة
التي تقوم بها الحكومة الصهيونية، فقال يوري افنيري: "أن هذه الحتفالت تزور التاريخ وتعتدي على
الحق التاريخي السلمي والمسيحي في المدينة، داعيا المجتمع الدولي إلى مقاطعتها.
بالمقابل، كشف هذا النشاط التزييفي عن مدى النحياز المريكي إلى الكيان الصهيوني، فبعد تغيب
مارتن انديك عن الحتفالت بداعي الرتباط المسبق، شن الصهاينة حملة تحريض وصلت إلى حد
مطالبة المواطنين المريكيين بالتحرك ضد حكومتهم، وما لبث الكونغرس المريكي، أن نظم في الشهر
الثاني من الحتفالت التي تقرر أن تستمر لخمسة عشر شهرا أن نظم احتفال كبيرا في مبنى الكابيتول،
حضره حشد من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، بحضور الرهابي اسحق رابين، والذي تسلم قرارا
من الكونغرس بنقل السفارة المريكية إلى القدس بتوقيع ثلثة وتسعين عضوا من مجلس الشيوخ
المريكي.
وفي الكلمات التي ألقاها النواب المريكيون كشف الكثيرون منهم عن مغالة في المعتقدات الصهيونية
تتجاوز ما هو لدى بعض اليهود، وأمعن كثيرون منهم في الفتراء على حقائق التاريخ، وكأنه يصنعه
بيديه، كي يؤكد تلك الصلة المفتعلة والقسرية، بين اليهود والقدس،والتي بدأت ول زالت بهدف إقامة
المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
مع إطلق الصهاينة احتفالتهم المذكورة في القدس كان الطفال الفلسطينيون يطيرون بالونات ملونه
بالعلم الفلسطيني في سماء المدينة، ويقفون في اعتصام صامت مقابل صخب الراقصين الصهاينة، غير
أن هذا الصمت لن يلبث أن يتفجر محرقا في وجه مغتصبي القدس.
قضية دير مار يوحنا
تعتبر قضية دير ما يوحنا من ممتلكات الكنيسة الرثوذكسية في القدس نموذجا بارزا من العتداءات
الصهيونية على الوقاف والممتلكات والمقدسات المسيحية في المدينة.
وهي كذلك نموذج على طرق الحتيال والتدليس التي يمارسها اليهود في سعيهم إلى تهويد كل شيء
في المدينة المقدسة، ففي نيسان من عام ألف وتسعمائة وتسعين قام مائة وخمسون مستوطنا يهوديا
بالعتداء على دار الضيافة التي تملكها كنيسة الرثوذكس والمعروفة بدير مار يوحنا، وتجاور كنيسة
القيامة.
المستوطنون اعتدوا بالضرب على بطريرك القدس للروم الرثوذكس تيودور الول، وعلى عدد من
رجال الدين المسيحي الذين حالوا منعهم من دخول المكان، ثم قاموا بتعليق نجمة سداسية على باب
البناء المؤلف من أربع وستين غرفة ، وتمترسوا داخله مع أسلحتهم، ثم عمدوا إلى نقل أمتعة تخصهم
إلى داخله.
وبسبب هذا العتداء، أعلن رجال الدين المسيحي من كافة الطوائف إغلق جميع الماكن المسيحية في
فلسطين لمدة يومين، وذلك للمرة الولى منذ نحو ثمانمائة عام.
وفي اليوم التالي للعتداء، قام رجال دين من المسيحيين والمسلمين، وشخصيات وطنية بمسيرة
احتجاجية إلى دير مار يوحنا، ونزع البطريرك تيودروس النجمة السداسية التي علقها المستوطنون
على مدخل البناء.
حاول المشاركون في المسيرة إخراج المستوطنين من الدير، إل أن شرطة الحتلل أطلقت تجاههم
القنابل المسيلة للدموع والعيارات النارية، وفرقت المشاركين بشكل عنيف.
قامت شرطة الحتلل بهذا الجراء، برغم إصدار محكمة يهودية في القدس أمرا بإخلء المستوطنين
من البناء، ولكنها بدل من تنفيذ هذا المر قمعت تظاهرة المقدسين مما يوضح تواطؤ المؤسسات
الصهيونية مع المستوطنين وأساليبهم.
العتداء الصهيوني على الممتلكات الكنسية الرثوذكسية أثار ردود فعل كبيرة مسيحية وإسلمية، ودعا
المؤتمر السلمي العام لبيت المقدس، إلى عقد لقاء إسلمي مسيحي موسع في العاصمة الردنية
للبحث في العتداءات الصهيونية على الملك المسيحية في القدس المحتلة.
ومع إصرار المقدسين على إخلء الصهاينة من الدير، ادعى هؤلء بان استيلءهم عليه تم بصفقة
عقارية ما نفته مصادر الكنيسة الرثوذكسية نفيا قاطعا، في حين ذهب رئيس الكيان الصهيوني حاييم
هرتروغ إلى اتهام رجال الدين المسيحي بالعودة إلى ما سماه: العداء التقليدي لليهود ووجه رسالة إلى
كبير أساقفة كنيسة الروم الرثوذكس مليئة بالسباب والشتائم.
ورغم ما آثاره العتداء الصهيوني من احتجاجات واسعة وتدخلت من الكنائس الرثوذكسية والحكومة
اليونانية، واستمرار التظاهرات الحتجاجية من قبل المقدسيين، استمر الصهاينة في احتللهم للدير نحو
عام كامل، حين باشرت محكمة صهيونية أخرى النظر في شكوى الكنسية المتضمنة مطالبتها بإخلء
فوري للمستوطنين من أملك الكنيسة.
وتبين من مجريات المحاكمة أن وكيل الدير وهو محام أرمني، قام بترتيب صفقة عبر التحايل بتحرير
عقد إيجار لليهود يتيح لهم السيطرة على الدير.
وحرر عقد اليجار لشركة وهمية مسجلة في بنما، ويملكها مستوطنون صهاينة.. ومع دخول هؤلء إلى
الدير اختفى الوكيل.
البطركية أكدت أن هذا الوكيل ل يملك الحق باليجار، ولكن العقد الذي حرره أصبح ورقة قوية بيد
الصهاينة، حيث تذرعوا خلل جلسات المحاكمة التي استغرقت وقتا طويل بأنهم يملكون عقد إيجار
وصفوه بالقانوني.
كانت المحاكمة مناسبة للكشف عن التلعبات التي يقوم بها سماسرة ومشبوهون، على نحو يؤدي إلى
نقل ممتلكات وأوقاف كنسية إلى المستوطنين الصهاينة.
وأدى هذا الكشف إلى التنبه لمثل هذه اللعيب وإفشال العديد منها، رغم أن الصهاينة مازالوا يدعون
بأنهم حصلوا على ما يصفونه بالعقود القانونية للسيطرة على ممتلكات عديدة في المدينة المقدسة.
ورغم أن المحكمة الصهيونية، قد أصدرت قرارا بإخلء المستوطنين إل أن هؤلء استأنفوا الحكم مرارا
في محاولة للسيطرة على الدير، وتابعوا تحصنهم فيه وقتا طويل، قبل أن تنتهي محاولتهم إلى الفشل.
مؤسسة القدس ومؤتمر القدس الول .بيروت
مع استمرار انتفاضة القصى المجيدة، عقد في قصر الونيسكو ببيروت، مؤتمر القدس الول بحضور
أكثر من أربعمائة شخصية من أكثر من أربعين دولة عربية وإسلمية.
بادر إلى هذا المؤتمر، حزب ال، الذي تحدث أمينه العام سماحة السيد حسن نصر ال، مخاطبا
المؤتمرين، يوم الفتتاح في الثامن والعشرين من كانون الثاني عام ألفين وواحد قائل: "إن النتفاضة
هي الطريق إلى القدس، وإذا كنا نريد أن نبحث كيف نفيد القدس ونحمي المقدسات، علينا أن نركز
بشكل جدي على النخراط الكامل في خيار المقاومة والنتفاضة أما التسوية فل مستقبل لها على
الطلق.
أما خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس فقال: "إن القدس ليست موضوعا للتفاوض علينا
أن نجعل منها بوابة لوحدة المة وحشد طاقاتها في وجه المخاطر التي تحدق بها.
وتناول عبد ال الحمر، المين العام المساعد لحزب البعث العربي الشتراكي في كلمته البعاد والمعاني
الشمولية لقضية القدس عربيا وإسلميا ومسيحيا وإنسانيا وقال إن القدس يجب أن تبقى على صعيد
الصراع مع العدو خطا أحمر.
عضو مجس الشورى اليراني علي أكبر محتشمي قال: "إن جميع الراضي المحتلة بما فيها القدس
الشريف هي جزء ل يتجزأ من العالم السلمي ول يحق لي طرف كان أن يتنازل عن شبر واحد منها.
وتحدث أمام المؤتمر على مدى يومين عدد كبير من الشخصيات من بينها الوزير اللبناني السابق مشيال
أده ومحمد عبد المتوكل المنسق العام للمؤتمر القومي/السلمي والشيخ يوسف القرضاوي الذي قال ل
يجوز لنا أن نفرط بالقدس ول بشبر منها.
كما تحدث أحمد صدقي الدجاني والدكتور رمضان عبد ال الذي رأى في الصراع على القدس، صراعا
على امتلك التاريخ والمستقبل.
كما تحدث كلوفيبس مقصود، مطالبا أن تبقى القدس في قمة الولويات، ومحمد عمارة داعيا لنفي
الصلة بين اليهودية والقدس تاريخيا.
بعد يومين من بدء أعماله انتخب مؤتمر القدس هيئة مكتب أمناء مؤسسة القدس التي تشكلت من:
-الشيخ يوسف القرضاوي رئيسا
-الشيخ عبد ال بن حسين الحمر
-الشيخ علي أكبر محتشمي
-الوزير السابق ميشال أده نوابا للرئيس والدكتور مسعود الشابي أمينا للسر.
وتحولت اللجنة التحضيرية للمؤتمر إلى لجنة تأسيسية كلفت بتولي مهام مجلس الدارة لفترة انتقالية
مدتها ستة أشهر برئاسة د.موسى أبو مرزوق للعمل على إنجاز وترتيب الوضع القانوني للمؤسسة
والحصول على ترخيص رسمي لها من الحكومة اللبنانية حيث سيكون مقرها في بيروت.
وفي اليوم التالي أعلن البيان الختامي للمؤتمر الذي دعا إلى دعم انتفاضة القصى المباركة ودعم
الوحدة الوطنية الفلسطينية كما أكد على ضرورة نبد الخلفات العربية والسلمية والتوحد على القضية
المركزية للمة وتوحيد كل الجهود والبنادق نحو العدو الصهيوني، وتبني خيار الجهاد والمقاومة ووقف
كل أشكال التطبيع مع العدو الغاصب، وإذكاء روح المقاطعة للمنتجات الصهيونية والمريكية.
وأكد المؤتمر أن قضية القدس هي قضية المة جمعاء مما يوجب التنسيق المستمر بين المسيحيين
والمسلمين للدفاع عن القدس وسائر المقدسات في فلسطين مشددا على ضرورة وضع خطة إعلمية
لتعبئة المة العربية والسلمية وأخرى للتوجه إلى الرأي العام العالمي وإعداد الدراسات وتهيئة
الملفات وتحريك المتابعات ضد قادة الجرام الصهيوني، بوصفهم مجرمي حرب وأعداء للبشرية وحث
الحكومات العربية على تبني هذا القرار
.
في آذار من العام نفسه عقدت هيئة أمناء مؤسسة القدس اجتماعا في العاصمة اليمنية صنعاء دعت في
ختامه إلى توحيد الرؤى والتفاهم السلمي المسيحي حول القدس.
ثم عقدت الهيئة اجتماعا موسعا لها في بيروت مطلع العام ألفين واثنين، قيمت فيه تحركاتها وناقشت
خطة عملها المستقبلية المرتكزة إلى ثوابت التمسك بعروبة القدس والدفاع عنها.
مجلس كنائس الشرق الوسط
يعتبر مجلس كنائس الشرق الوسط، جزءا من المجلس العالمي للكنائس الذي تأسس عام ألف
وتسعمائة وعشرة من الكنائس الرثوذكسية والبروتستانتية، فيما اكتفت الكنيسة الكاثوليكية بالمشاركة
في بعض أعماله التعاونية وبعض لجانه.
ويضم مجلس كنائس الشرق الوسط، ممثلين عن معظم الكنائس في المنطقة العربية، وهو كان يحمل
سابقا اسم: المجلس المسيحي للشرق الدنى ويتكون من بعثات الكنائس الرثوذكسية في مصر والبلقان
وإثيوبيا وإيران والعراق والجزيرة العربية ولبنان وشمال أفريقيا، وفلسطين والسودان وسورية والردن
وتركيا، ثم أصبح يعرف ابتداء من عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين، باسم مجلس الكنائس للشرق
الدنى، ثم مجلس كنائس الشرق الوسط.
أبدى المجلس المسيحي للشرق الدنى، اهتماما بقضية القدس، وعبر عن مواقف تجاهها، لم تتجاوز
كثيرا الموقف المعلن من الفاتيكان في حينه، ففي عام تسعة وأربعين وتسعمائة وألف، اعتبر المجلس
بأنه من الضروري لحفظ السلم أن تخضع منطقة القدس كلها لدارة وإشراف المم المتحدة حتى يمكن
الحتفاظ بها مركزا لحرية العقائد.
إلى هذا الموقف المعلن، صرف المجلس اهتماما واسعا إلى قضية اللجئين التي كانت أيضا محط اهتمام
المجمع العالمي للكنائس. وقد دعم مجلس الكنائس للشرق الدنى عقد مؤتمرين في بيروت عامي واحد
وخمسين، وستة وخمسين وتسعمائة وألف، للمجمع العالمي للكنائس ركزا على أعمال الغاثة للجئين،
وكذلك على ضرورة إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية بعد عدوان حزيران من عام سبعة
وستين، لم يعد الهتمام مقتصرا على قضية اللجئين، ففضل عن الوقائع المستجدة، فإن الكنائس
المشرقية العربية، أصبحت أكثر تأثيرا في المجلس العالمي للكنائس، من ذي قبل، وإن لم تصبح بعد
قادرة على دفعه إلى اتخاذ القرارات التي تتلءم وتطلعاتها.
مع ذلك نجحت الكنائس العربية، في دفع المجمع نحو بحث قضية فلسطين كقضية مستقلة قائمة بذاتها
وبدل من التركيز على قضايا اللجئين، فرضت على المجمع التوجه إلى بحث النواحي الخرى من
القضية، والقرار في بيان صادر عام سبعة وستين، بأن إنشاء دولة إسرائيل دون ضمان حقوق الشعب
الفلسطيني يمثل إجحافا بحق الفلسطينيين.
وفي المؤتمر الذي عقده المجمع عام تسعة وستين، بناء على طلب مجلس كنائس الشرق الوسط في
قبرص، جرى اتخاذ موقف سياسي بالشارة إلى حقيقة وجود الكيان الفلسطيني الذي تجسد في حركة
التحرر الوطني الفلسطيني.
ولكن المواقف التي كان يتبناها مجلس كنائس الشرق الوسط، لم تكن هي ذات المواقف التي يتبناها
المجلس العالمي للكنائس، إذ ظلت الكنائس المريكية والوروبية تظهر موقفا منحازا إلى الكيان
الصهيوني، وبالنسبة إلى القدس، فقد اعتمدت موقفا شبه ثابت، يدعو إلى ضمان الحرية الدينية
واعتبار القدس مدينة مفتوحة أمام المؤمنين من جميع الديان.
كما دعت إلى أن يكون اتخاذ القرار بشأن وضع القدس ضمن إطار حل شامل في "الشرق الوسط".
عمليا ظل الموقف داخل مجمع المجلس العالمي للكنائس مقسوما بين مؤيدي الصهيونية، وبين
مناوئيها، أما مواقف مجلس كنائس الشرق الوسط، فقد ظلت متمايزة، وهو تبنى دوما الدعوة إلى
إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.
وفي بيان صدر عن اجتماعاته في بيروت عام ألفين قال:
لقد بينت الحداث الخيرة أن القدس ل يكمن أن تسلخ عن الجسم الفلسطيني فهي منه بمنزلة القلب.
وفي العام التالي، أيد بيان اجتماعاته في برلين، موقف رؤساء الكنائس في القدس، الذي أعلن تمسكه
بحق الشعب الخاضع للظلم والحتلل في المقاومة والنضال من أجل الحرية، على رغم أن الكنيسة
تؤمن بقوة وفاعلية الوسائل السلمية.
منظمة المؤتمر السلمي
أدت جريمة إحراق المسجد القصى المبارك على يد الصهاينة سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين إلى
انبثاق منظمة المؤتمر السلمي إلى حيز الوجود، بحيث يكون مدار جهدها وعملها إنقاذ القدس والحرم
القدسي الشريف مما يتعرضان له من تدنيس وتهويد على يد الصهاينة.
انعقد الجتماع الول في العاصمة المغربية الرباط، بعد نحو شهر على جريمة إحراق القصى، وذلك
على مستوى القمة، بيد أن الحتجاج لم يسفر عن آلية محددة للعمل، ونتج عنه موقف يقول: "أن
رؤساء الدول والحكومات والممثلين يعلنون أن حكوماتهم وشعوبهم عقدت العزم على رفض إي حل
للقضية الفلسطينية ل يكفل لمدينة القدس وضعها السابق على عدوان حزيران."
اتخذت منظمة المؤتمر السلمي، طابع إطار منتظم يعقد اجتماعه عادة، إما على مستوى وزراء
خارجية الدول السلمية، وإما على مستوى القمة، وبحسب القرار المتخذ في الجتماع الول، ينبغي أن
تتسم اجتماعات القمة بالدورية، مرة كل سنة.
انعقد المؤتمر الثاني في كراتشي بالباكستان سنة ألف وتسعمائة وسبعين، فأدان عمليات تدنيس المسجد
القصى واعتبر يوم الحادي والعشرين من آب لسنة إحدى وسبعين، يوم المسجد القصى المبارك، وعند
انعقاده في هذا التاريخ بجدة، اعتبر مؤتمر منظمة المؤتمر السلمي، أنه ل سبيل لعادة السلم والمن
إلى الشرق الوسط إل بتحرير بيت المقدس والنسحاب الكامل من الراضي العربية المحتلة وإعادة
الحقوق المغتصبة لشعب فلسطين.
كرر المؤتمر سنة اثنين وسبعين قراراته السابقة، وسنة ثلث وسبعين جرت المطالبة ببذل مزيد من
الجهد لوقف تهويد القدس.
عاد المؤتمر ليلتئم على مستوى القمة في لهور بالباكستان سنة أربع وسبعين، وظهرت دعوات لعلن
الجهاد المقدس لتحرير بيت المقدس، فيما نص البيان الختامي على أن الدول السلمية لن تقبل بأي
اتفاق يتضمن استمرار احتلل الصهاينة للقدس أو وضعها تحت سيادة غير عربية.
تم تأكيد هذا الموقف في اجتماعات لحقة على مستوى وزراء الخارجية، الذين رفضوا في اجتماع لهم
في فاس بالمغرب سنة تسع وسبعين اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والصهاينة مؤكدين على الحق
السلمي في القدس.
انعقدت اجتماعات وزراء الخارجية بشكل عادي سنة ثمانين في إسلم أباد، ثم عادت لجتماع طارئ في
عمان بسبب الحفريات التي يقوم بها الصهاينة.
وعادت للنعقاد مجددا في العام نفسه في مدينة فاس، عقب إعلن الصهاينة القدس عاصمة أبدية لهم
ومما جاء في مقررات مؤتمر فاس: "تعلن الدول السلمية التزامها بالجهاد المقدس، بما يتضمنه من
أبعاد إنسانية على اعتبار أنه صمود ومجابهة ضد العدو الصهيوني في جميع الجبهات عسكريا وسياسيا
واقتصاديا وإعلميا وثقافيا."
وقرر وزراء الخارجية تصعيد أنشطتهم في المم المتحدة والمحافل الدولية لمجابهة القرار الصهيوني
الجديد.
حملت دورة انعقاد مؤتمر المنظمة سنة إحدى وثمانين اسم دورة القدس وفلسطين، وتوزعت جلساتها
ما بين مكة والطائف في السعودية، لتصدر بيانا ختاميا يؤكد اللتزام بتحرير القدس لتكون عاصمة
للدولة الفلسطينية، ويشدد على رفض اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، مطالبا بعدم نقل أي
سفارة إليها، ومهددا بقطع العلقات مع أي دولة تنقل سفارتها إلى المدينة المقدسة.
جرى التأكيد على هذه القرارات في دورات الجتماع اللحقة لوزراء الخارجية، وكذلك في القمة السابعة
في الدار البيضاء سنة أربع وتسعين وسنة سبع وتسعين صدر إعلن طهران عن القمة الثامنة وفيه،
تأكيد العزم والتصميم على استعادة مدينة القدس الشريف وحرم المسجد القصى، ورفض نقل السفارات
الدول الجنبية إلى القدس، ورفض كل التغيرات التي أجراها الصهاينة في المدينة المقدسة.
أطلقت على دورة النعقاد في الدوحة سنة ألفين تسمية دورة انتفاضة القصى، وفي قرارات المؤتمر
دعم للنتفاضة ورفض للقرارات الصادرة عن الكونغرس المريكي بالعتراف بالقدس عاصمة للكيان
الصهيوني وتمسك باستعادة القدس عربية مسلمة.
الحفريات تحت المسجد القصى
ألحقت الحفريات التي قام بها الصهاينة تحت أساسات المسجد القصى ضررا بالغا ببنيانه، حتى أن
بعض الوساط السلمية في القدس، تحذر من أن قيام طائرات صهيونية بخرق جدار الصوت فوق
منطقة الحرم بشكل متكرر، قد يؤدي إلى انهيار بناء المسجد القصى.
وقد لحقت هذه الضرار بالمسجد بسبب فتح أنفاق مغلقة والقيام بالحفر تحت الساسات إلى أعماق
كبيرة.
وضع الصهاينة عنوانين لما قاموا به من حفريات، الول يتعلق بالكشف عن حائط البراق وإظهاره كامل
ما يعني إزالة جميع البنية الملصقة له، والحفر إلى جانبه لتبيان حجارته الساسية.
أما الثاني، فيتعلق بالبحث عن بقايا الهيكل الذي يزعم الصهاينة أن المسجد القصى يقوم فوقها.
كان الحجم الظاهر من حائط البراق عندما احتل الصهاينة القدس ل يتعدى الثلثين ياردة، أما الهدف
الذي أعلن عنه عام تسعة وستين، فهو كشف مائتي ياردة وأكثر، علما أن حجم ما كان قد كشف آنذاك
بلغ ثمانين ياردة، وهو ما أنجزته الحفريات التي تمت عند الحائط الغربي، أما عند الحائط الجنوبي،
فجرت حفريات أشرف عليها البروفسور بنيامين مزار، وتابعها موشيه دايان وزير الحرب في كيان
العدو آنذاك، وهو صرح عام واحد وسبعين بأنه يجب استمرار الحفر حتى الكشف الكامل عن الهيكل
الثاني، وإعادة ترميمه على حد قوله.
هذا التصريح جاء مترافقا مع مزاعم صهيونية عن العثور على بقايا قصر هيروس، وجزء من السور
الول للقدس، حيث عثر في بقايا القصر على جدران استنادية.
لم تمر هذه الحفريات دون التسبب بإتلف العديد من البنية التاريخية، وهو ما دفع د. كاثلين كاينون،
مديرة مدرسة الثار البريطانية في القدس إلى القول: "إن إتلف مثل هذه البنية يعتبر جريمة كبرى ول
يعقل أن يتم تشويه الثار القديمة بمثل هذه الحفريات".
أثارت الحفريات التي قام بها الصهاينة ردود فعل واسعة، مستنكرة لهذه الجريمة التي تتم بحق المكان
المقدس، والبنية القريبة منه، ولكن الصهاينة ضربوا عرض الحائط بهذه العتراضات، وقاموا عام
واحد وثمانين بفتح نفق كان قد اكتشفه الكولونيل وارين سنة سبع وستين وثمانمائة وألف، وتابعوا
الحفر على امتداد النفق الذي يقود إلى أسفل مسجد الصخرة المشرفة، وفي العام نفسه جرى الكشف
عن قيام المسمى حاخام المبكى، بفتح سرداب أسفل الحرم القدسي يبدأ من حائط البراق، وأنه عمل
لشهر بسرية تامة في حفره، وبدعم مما تسمى وزارة الديان.
سارعت دائرة الوقاف السلمية إلى إغلق هذا السرداب بالخرسانة المسلحة، ولكن بعد أن تسبب في
تشققات في الرواق الغربي للمسجد القصى، وهو ما دفع عالم آثار صهيوني إلى التحذير من خطورة
الحفريات على بنيان المسجد.
تكرر فتح أنفاق وسراديب تحت الحرم القدسي، وتكرر تصدي المقدسيين لهذه الجراءات الصهيونية ما
تسبب في مواجهات عنيفة عام ستة وثمانين، وعام تسعة وثمانين، وكذلك عام خمسة وتسعين،
وبانتفاضة عام ستة و تسعين، عرفت باسم انتفاضة النفق.
بعد إغلق النفق الذي تسبب بانتفاضة عام ستة وتسعين، قام الصهاينة في العام التالي بحفريات في
الجهة الجنوبية الغربية من المسجد القصى باتجاه الغرب، وبعمق تسعة أمتار ما يشكل تهديدا إضافيا
لساسات المسجد وبالتوازي مع ذلك، استغل الصهاينة إجراء إصلحات في شبكة الصرف الصحي
بالقدس للقيام بحفريات جديدة قرب حائط البراق.
وأعلن عن الشروع في حفريات جديدة لتوسيع ساحة البراق الصغير في حي الواد، والذي يحاذي
الحائط الغربي للقصى، وعن مشاريع حفر أخرى تهدد بهدم القصور الموية المحاذية للحرم القدسي.
في كل هذه الحفريات لم يعثر على أي آثر يشير إلى هيكل سليمان المزعوم، حتى أن علماء آثار
صهاينة اعترفوا بأن نتائج الحفريات التي قاموا بها لم تسفر عن كشف أي آثر للهيكل، ومع ذلك فإن
سلطات الحتلل مازالت مصرة على متابعة الحفريات، ما يظهر أن هدفها الحقيقي هو العمل على
تقويض المسجد القصى.
انتفاضة 1933
تعتبر سنة ألف وتسعمائة وثلث وثلثين من أبرز سنوات النضال الشعبي الفلسطيني، وهي تعد من
سنوات المخاض لنطلق الثورة الفلسطينية الكبرى.
بدأ التحرك الشعبي بانعقاد مؤتمر الشباب في يافا، في آذار من السنة المذكورة، وفي شهر تشرين الول
اجتمعت اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني، وتبنت أفكار مؤتمر الشباب بتوجيه المقاومة ضد
الستعمار البريطاني، ودعت إلى سلسلة تظاهرات، وإضراب عام والمتناع عن دفع الضرائب.
بعد أيام من اجتماع اللجنة التنفيذية، انطلقت تظاهرة حاشدة في القدس، صاحبها إضراب عام في جميع
أنحاء فلسطين، واشترك في تظاهرة القدس جميع أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني،
الذين جاءوا من جميع أنحاء البلد، حتى فاق عدد المشاركين فيها الثلثين ألفا.
سار على رأس التظاهرة رئيس اللجنة التنفيذية موسى كاظم باشا الحسيني، وانطلقت من المسجد
القصى بعد صلة الجمعة متجهة إلى باب السلسلة، ثم باب الخليل متحدية أوامر رجال البوليس
المسلحين بالهروات، وخلفهم سيارات محملة بالجنود المسلحين بالبنادق، وبدا أن السلطات البريطانية
كانت عازمة على منع امتداد التظاهرة خارج أسوار البلدة القديمة ولكن المتظاهرين حولوا سيرها من
باب الخليل إلى باب الحديد ومن ثم انطلقت خارج السور فاصطدمت بقوات الجيش البريطاني التي قمعت
المتظاهرين بعنف.
بعد مظاهرة حاشدة في يافا، انطلقت تظاهرة ثانية في القدس، أواخر شهر تشرين الول من عام ثلثة
وثلثين. نظم هذه التظاهرة أعضاء النادي العربي، والنادي السلمي وهما ناديان رياضيان ناشطان في
القدس.
وانطلقت من المسجد القصى بعد صلة العصر متجهة إلى حي باب السلسلة وعند وصولها إلى القرب
من مقهى الباشورة اصطدمت بقوات الحتلل البريطاني، لتختلط أصوات طلقات الرصاص بنشيد
الجماهير:
نحن جند ال شبان البلد
نكره الذل ونأبى الضطهاد
فارفعوا العلم وامشوا للجهاد
حيث أعدائنا تمادوا في الغرور
وجه البريطانيون الرصاص إلى صدور المتظاهرين واندلعت اشتباكات بين الشبان الذين يحملون العصي
والسكاكين، وبين رجال البوليس البريطاني في غير حي من أحياء القدس، فيما كان جنود الجيش
البريطاني يطلقون الرصاص على المصلين الخارجين من المسجد القصى، وعلى المتظاهرين في باب
الساهرة، ما أسفر عن استشهاد تسعة من الشبان الفلسطينيين، وجرح عدد آخر، بلغ نحو خمسين في
الشتباكات مع البريطانيين.
في اليام التالية شهدت مدينة القدس إضرابا عاما أغلقت فيه المحال التجارية أبوابها، وشهدت الحركة
في المدينة خفوتا كبيرا جدا قياسا إلى اليام العادية، وعمدت سلطات النتداب البريطاني إلى عزل
المدينة عن العالم، بعد أن طوقتها بشكل كامل ومنعت الدخول إليها والخروج منها.
لم تكن هذه نهاية النتفاضة عام ألف وتسعمائة وثلثة وثلثين، فقد جرت مظاهرات أخرى في الخليل
ونابلس، وامتد إضراب الموظفين لسابيع، فيما قامت بريطانيا المحتلة، بمحاكمة أعضاء اللجنة
التنفيذية وفرضت عليهم غرامات قاسية.
وكانت هذه النتفاضة أشبه بمقدمة للثورة الفلسطينية الكبرى.
معارك 48 الطور الول
ركز الصهاينة محاولتهم للستيلء على القدس قبل انتهاء الحتلل البريطاني، ولكنهم واجهوا مقاومة
ضارية من المجاهدين الفلسطينيين، الذين نسفوا مطلع عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، أنابيب
المياه التي تغذي المستوطنات اليهودية في القدس، وبعد صدور قرار التقسيم بوقت قصير، استأنف
القتال في القدس، فقصف العصابات الصهيونية ساحة الحرم الشريف، ورد المجاهدون بقصف
المستوطنات. وفي مطلع ثمانية وأربعين، حاول الصهاينة نسف عمارة الوقاف التي كانت تشكل موقعا
حصينا للمجاهدين، الذين أفشلوا المحاولة، وأحكموا الحصار على الحي اليهودي، من خلل نصب
الكمائن المزودة بالرشاشات على المعبرين اللذين تسلكهما قوافل المداد اليهودية من باب الخليل وباب
النبي داوود.
لجأ الصهاينة إلى العمال الرهابية لثني المقاومة، فأخذوا بدحرجة براميل المتفجرات على الحشود
المقدسية في المدينة، ومهاجمة الحياء مع تركيز على حي الشيخ جراح، ورد المجاهدون بنسف أبنية
استراتيجية في الحي اليهودي، وأحكموا الحصار بشكل نهائي على الحي اليهودي، حتى استسلم فيما
بعد.
وفي مطلع شباط، نفذ المجاهدون واحدة من أجرأ عملياتهم حين قاموا بنسف شارع هاسوليل
الستيطاني ودمروا ثماني بنايات ضخمة، وصدعوا ما يزيد عن أربعين بناء مجاورا كان أحدها يضم
مطبعة جريدة البالستاين بوست الناطقة بلسان الوكالة اليهودية، كما اقتحم المجاهدون حي المونتفيوري
الذي كان اليهود يشلون بواسطته المواصلت مع أحياء جنوبي القدس.
سيطر المجاهدون على الحي إلى أن تدخلت القوات البريطانية فأجبرتهم على التراجع.
نظم المجاهدون دفاعاتهم في القدس، واستطاعوا حماية قوافل المداد العربية التي تعتبر المدينة متجهة
من حنينا إلى بيت لحم.
حاول الصهاينة في الشهر ذاته السيطرة على قرية صور باهر المحاطة بثلث مستوطنات ولكن نجدات
المجاهدين ردتهم على أعقابهم تم لحقتهم إلى شارع بن يهوذا ونسفته.
احتلت عملية نسف الشارع مكانة هامة في حرب 48 في القدس، فقد جهز القائد عبد القادر الحسيني
ثلث شاحنات مملوءة بالمتفجرات وفجرها الثوار وسط الشارع، وقد ساهمت هذه العملية في رفع
معنويات المقدسين، وأوقفت رحيلهم عن القدس، بسبب ازدياد الضغوط الصهيونية على المدينة.
هاجم الصهاينة بعد هذه العملية حي وادي لحوز انطلقا من مشفى هداسا والجامعة العبرية، لكنهم
صدموا بمقاومة حامية، وقتل عدد كبير من المهاجمين ،قبل أن ينكفئوا مجددا.
في آذار استطاع خمسمائة مجاهد السيطرة على موقع رأس العين الذي يؤمن المدادات بالمياه إلى
القدس ما وضع الحياء الستيطانية اليهودية وإمداداتها من المياه تحت سيطرة المجاهدين، وقد فشلت
المحاولت البريطانية واليهودية في احتلل هذا الموقع، في ذات الوقت الذي وضعت فيه عصابات
الهاغاناه الخطة دالت لحتلل المناطق الواقعة بين مستوطنة تل أبيب والقدس ولطرد العرب من المدينة
المقدسة.
بدأ الصهاينة تطبيق الخطة فورا بمحاصرة حي القطون وعزله عن باقي أحياء المدينة ولكن المجاهدين
وجهوا ضربة أخرى للصهاينة بنسف مبنى الوكالة اليهودية وقاد عبد القادر المجاهدين في هجوم كبير
على مستوطنة )ميكور هاييم( لحتللها، ولكن تدخل البريطانيين أحبط استكمال الهجوم، فأعد الحسيني
كمينا لقافلة مصفحات يهودية في شعفاط ونجح مع قواته في تدميرها.
في نهاية آذار، غادر عبد القادر القدس إلى دمشق للجتماع بقيادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة
لجامعة الدول العربية، وذلك للحصول على أسلحة للحفاظ على التفوق الذي حققه المجاهدون في
القدس، والذين قاموا في الوقت نفسه وردا على قصف حي المصراره، بتوجيه قذائفهم إلى حي )مئية
شعاريم( الستيطاني، وإيقاع خسائر كبيرة في صفوف الصهاينة، كما أحبط المجاهدون قوافل المداد
اليهودية بنجاح كبير.
وضع الصهاينة خطة جديدة، عرفت باسم )نحشون( لفتح الطريق إلى القدس، لكنها فشلت فشل ذريعا،
ما نشر حالة من الحباط في صفوف الصهاينة، فأعادوا وضع خطط جديدة في نيسان، ولكن المجاهدين،
نصبوا كمينا كبيرا لقافلة إمداد يهودية كان يحرسها مائتان وخمسون عنصرا من الهاغاناه.
نجح الكمين نجاحا كبيرا وكاد يقضي على القافلة وحاميتها تماما لول تدخل البريطانيين الذين أنقذوا
العديدين من الصهاينة، وفي الثناء سهل البريطانيون دخول قافلة صهيونية إلى القدس، للمرة الولى
منذ بدء المعارك.
هاجم المجاهدون مستوطنة يعقوب، وكادوا يحكمون السيطرة عليها، فتدخل البريطانيون لحباط العملية
وساعدوا الصهاينة في احتلل قريتي بدو وبيت سوريك، لكن نجدة من المجاهدين بقيادة ميشيل العيسى،
نجحت في طرد الصهاينة من القريتين كما نجحوا في نسف حي )المونتفيوري(.
في نهاية نيسان وضع خطة يبوس لحتلل المدينة، محاولين استغلل استشهاد القائد الحسيني، الذي
عاد دون سلح، واستشهد في القسطل.
صد المجاهدون الهجمات اليهودية لكن الصهاينة حفظوا تقدما في القطمون، واحتلوا بعض البنايات، ولم
تنجح الهجمات الشجاعة التي قادها المجاهد إبراهيم أبو دية في استرداد حي القطمون، بسبب تدخل
النجليز أساسا.
في أيار، مع العلن عن انتهاء النتداب، ودخول الجيش الردني إلى المدينة، سوف تأخذ المعارك طابعا
جديدا.
ثورة 1936
يطلق على الثورة التي شهدتها فلسطين في السنوات مابين ألف وتسعمائة وست وثلثين، وتسع وثلثين
اسم الثورة الفلسطينية الكبرى، لشموليتها، واتساع نطاقها، وطول مداها الزمني قياسا إلى الثورات
والنتفاضات التي سبقتها. وهي مرت في مراحل عدة، بعد أن انطلقت في العشرين من نيسان عام ستة
وثلثين، بإعلن الضراب العام الكبير، والذي استمر ستة أشهر.
بعد خمسة أيام من إعلن الضراب ترأس الحاج أمين الحسيني احتجاجا لرؤساء الحزاب الفلسطينية في
بيت بحي المصرارة في القدس، نتج عنه تشكيل قيادة عامة لشعب فلسطين عرفت باسم اللجنة العليا،
وهي أصبحت لحقا تعمل باسم الهيئة العربية العليا.
ضمت اللجنة المفتي الحاج أمين الحسيني رئيسا، وراغب النشاشيي، وأحمد حلمي عبد الباقي والدكتور
فخري الخالدي، ويعقوب فراج، وألفرد روك، وعوني عبد الهادي، وعبد اللطيف صلح، والحاج يعقوب
الغصين، وجمال الحسيني، وفؤاد سابا أعضاء.
وقرر المجتمعون استمرار الضراب إلى أن تبدل الحكومة البريطانية سياستها المتبعة في البلد تبديل
أساسيا تظهر بوادره في وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
سرعان ما انطلقت العمليات المسلحة مترافقة مع الضراب، ومن أبرز عمليات الثوار في القدس، في
المرحلة الولى من الثورة معركة باب الواد على طريق القدس يافا، والهجوم على سينما أديسون في
القدس، والهجوم على سيارة مفتش البوليس البريطاني في المدينة، وعلى اثنين من ضباط الطيران
البريطانيين.
بعد ستة أشهر ووساطة من الملوك والمراء العرب، جرى العلن عن وقف الضراب، ونهاية المرحلة
الولى من الثورة التي ما لبث أن تفجرت بعد تبين كذب الوعود البريطانية.
واجه البريطانيون المرحلة الولى من الثورة بقمع شديد وتعزز هذا القمع عشية انطلق المرحلة الثانية
منها، بمحاولة اعتقال الحاج أمين الحسيني ونفيه لكنه استطاع الفلت من طوق البريطانيين الذين
دهموا مقر اللجنة العربية العليا، والتجأ إلى المسجد القصى ثم غادره إلى خارج فلسطين.
ومن القدس انطلقت المرحلة الثانية من الثورة عبر سلسلة كبيرة من الهجمات التي نفذها الثوار ضد
دوريات الجيش والبوليس البريطاني بلغت فعاليات الثورة في القدس ذروتها في أيلول من عام ثمانية
وثلثين، وذلك حين تمكن الثوار الفلسطينيون من تحرير البلدة القديمة في القدس، من سيطرة قوات
الحتلل البريطاني، واستمرت البلدة محررة لكثر من أسبوع رغم قيام الطائرات البريطانية بإلقاء
منشورات على القدس وضواحيها، موقعة من القائد العسكري البريطاني، لمنطقة القدس، ويدعو فيها
جميع السكان في البلدة القديمة إلى إلقاء السلح والتزام منازلهم ضد الثوار هجمات عديدة لقوات
الحتلل البريطاني التي حاصرت البلدة، وأحكمت الطوق عليها، ولكن البريطانيين الذين اقتحموا البلدة
بعد ذلك اضطروا إلى الخروج منها مجددا لثلثة أيام، قبل أن يقوموا بشن هجوم كبير عليها ومعاودة
احتللها.
استخدم البريطانيون في هجماتهم على الثوار في القدس الطائرات بقنابلها ومدافعها الرشاشة، وقاوم
الثوار الهجوم البريطاني شبرا شبرا، حتى أن وصول البريطانيين إلى سوق العطارين قد استغرق ثلثة
أيام، وجرى استخدام السكان، عبر خدعة بريطانية، كدروع بشرية لحماية تقدم البريطانيين.
معركة البلدة القديمة، هي واحدة من المعارك الكبرى التي شهدتها الثورة، في ذروتها سنة ألف
وتسعمائة وثمان وثلثين، وحيث تمكن الثوار من السيطرة على أكثر من مدينة على غرار ما شهدته
البلدة القديمة من القدس، غير أن الثورة ولسباب عديدة انحسرت عام تسعة وثلثين.
حرب حزيران 1967
شكل احتلل الجزاء المتبقية من القدس أحد أهم أهداف العدوان الصهيوني في حزيران من عام سبعة
وستين، على ما يعرف بالجبهة الردنية.
خطط الصهاينة لمعركة القدس على أساس توجيه ضربة رئيسية إلى شمالي القدس للسيطرة على
مجموعة من التلل الحيوية التي تسهل عملية تطويق المدينة، اتخذت هذه الضربة شكل التقدم على
ثلثة محاور الول من منطقة الشيخ عبد العزيز نحو النبي صموئيل، والثاني من تل الرادار نحو النبي
صموئيل حيث تلتقي القوتان وتتوجهان شرقا إلى بيت حنينا، لقطع طريق القدس –رام ال، ثم تفترق
القوتان لتتوجه إحداهما جنوبا نحو شمال القدس، والخرى تتجه شمال نحو رام ال، أما المحور الثالث
فيتقدم من اللطرون نحو رام ال.
كانت القوات الردنية التي تتولى الدفاع عن القدس تتألف من لواء مشاة، يحمل اسم المام علي بن أبي
طالب عليه السلم، ولواء المشاة 27 الموزع ما بين القدس وأريحا.
حدثت معارك دامية وعنيفة جدا في القدس بين المدافعين عن المدينة ولواءي المظليين الصهاينة اللذين
هاجما المدينة، يومي الخامس والسادس من حزيران، وبينما المعارك محتدمة في القدس، تمكن لواء
مشاة صهيوني من مهاجمة ممر باب الواد الضيق مدعوما بالدبابات، ويحتله مع مركز شرطة اللطرون
المحصن.
استمر القتال حتى السابع من حزيران داخل المدينة وتركز أعنفه حول المتحف الفلسطيني، وفي البلدة
القديمة، وفي هذا اليوم استولى الصهاينة على الجزاء الشرقية من القدس.
كان الصهاينة قد شكلوا مع بدء العدوان إدارة عسكرية للقدس ومعها مدن الضفة الخرى، برئاسة
الجنرال حاييم هرتسوغ، الذي اتخذ من فندق المبسادور مقرا له، وكان من بين أعضاء الدارة
العسكرية شلومو لهط.
استولى الصهاينة على القدس في اليوم الثالث للحرب، وقام الرهابي الجنرال مردخاي غور بدخول
الحرم القدسي الشريف، بسيارة نصف مجنزرة، فيما وقف وزير الحرب الصهيوني موشيه دايان أمام
الحائط الغربي للمسجد القصى، يخطب أمام مجموعة من جنوده المبتهجين قائل: "صباح الخير هذا
اليوم حرر جيش إسرائيل القدس، لقد أعدنا توحيد المدينة، وعدنا إلى أقدس الماكن عندنا، وسوف لن
نتركها أبدا".
أما ليفي أشكول فاعتبر احتلل القدس: أعظم يوم في التاريخ اليهودي.
لم تكن الحرب قد انتهت عمليا بعد حين سارع الصهاينة يوم السابع من حزيران إلى تكريس سيطرتهم
على المدينة، فأصدروا منشورا حمل الرقم واحد ونص على أن الجيش )السرائيلي( تقلد زمام الحكم
لقرار المن والنظام في المنطقة، فيما نص المنشور رقم 2 على استيلء الجيش على صلحيات الحكم
والتشريع والدارة، وتضمن المنشور رقم 3 إلغاء المحاكم العربية في القدس.
فرض الصهاينة حظر التجول على المدينة، واقترفوا الكثير من الفظائع داخلها، والتي بدأت بالسطو على
محتويات المتحف الفلسطيني، ثم بالسطو على البيوت.
وقد وصف توفيق حسن وصفي مدير مكتب جامعة الدول العربية في القدس، والذي اعتقلته قوات
الحتلل مع عدد من القناصل العرب من مقر القنصلية البلجيكية، وصف ما رآه من فظائع فقال: "كانوا
ينسفون أي بيت تنطلق منه رصاصة، ويسلبون ويسرقون بل حساب، وكانت كل مجموعة من الجنود،
تحمل ثلثة أكياس: الول للساعات والثاني للنقود والثالث للذهب والمجوهرات كما وصف حسن عمليات
نسف البيوت حول حائط البراق.
قام الصهاينة باعتقالت واسعة، وهدموا قرى وأحياء بكاملها لتهجير سكانها.. ومنذ ذلك الوقت الذي
احتلوا فيه القدس، وهم يعملون على إلغاء ونفي كل ما هو عربي في المدينة المقدسة.
محاولت نسف المسجد القصى
منذ أن نفذ الصهاينة جريمة إحراق المسجد القصى عام تسعة ستين وتسعمائة وألف ومحاولتهم لنسفه
أو تقويضه تتواصل دون توقف.. وفيما عول الصهاينة على تتابع الحفريات في خلخلة أساسات
المسجد، استمروا في محاولت النسف المباشر أو الحراق.
ففي عام ثمانين اكتشفت كمية كبيرة من المتفجرات والقنابل والسلحة على سطح أحد المعابد اليهودية
المقاومة قريبا من الحرم القدسي، وبالتحقيق عرف أن الهدف من وجود المتفجرات في هذا المكان، هو
نقلها إلى المسجد القصى في محاولة لنسفه.
وبعد عامين من ذلك كانت حركة كاخ الرهابية، بزعامة الرهابي مائير كهانا قد قطعت شوطا بعيدا في
تهيئة خطة لنسف مسجد الصخرة، ويبدو أن حكومة العدو التي كانت مطلعة على هذه الخطة وتعرف
المشاركين فيها خشيت ردود الفعل التي يمكن أن يثيرها هذا العمل، فعمدت إلى اعتقال يوئيل لعيرز أحد
المشاركين من أعضاء كاخ، والذي قدم اعترافات كاملة، أبقاها الصهاينة طي الكتمان.
بعد أقل من عام على هذه الواقعة، اكتشف حراس الحرم وبالمصادفة، عبوة ناسفة ضخمة جدا، جرى
زرعها بجوار حائط المسجد القصى وتم تفكيكها.
اكتشاف هذه العبوة في آذار من عام ثلثة وثمانين، جاء عقب سلسلة من التصريحات التي أطلقها
زعماء صهاينة عن نيتهم تدمير المسجد.
وفي الفحص الذي قام به مهندسو الوقاف، جرى اكتشاف عدة فتحات تحت الحائط الجنوبي للمسجد،
أعدها الصهاينة لزرع عبوات ناسفة فيها.
مطلع عام أربعة وثمانين، عثر حراس المسجد القصى على حقيبة تضم مائة وخمسين كيلو غراما من
المتفجرات داخل المسجد، وبعد إخراجها وفحص المكان، تم اكتشاف عدد من القنابل اليدوية مخبأة في
حقائب بجوار المسجد القصى ويبدو أنها وضعت في المكان تحضيرا لشن هجوم بها على المسجد.
وفي اليوم التالي فاجأ حارس فلسطيني من حراس الحرم القدسي مجموعة من الصهاينة قرب جدار
الحرم، وعندما لذت المجموعة بالفرار جرى اكتشاف ثلثين باوندا من المتفجرات والصواعق واثنتين
وعشرين قنبلة يدوية.
غير أن الخطة الخطر، هي تلك التي جرى الكشف عنها في أيار من عام أربعة وثمانين واستغرق
العداد لها سنتين، وتتمثل بقصف المسجد القصى ومسجد قبة الصخرة من الجو بالقنابل والصواريخ.
لم يكن التحقيق في هذه الجريمة المنوي تنفيذها قد انتهى، حتى حاول مستوطن صهيوني اقتحام الحرم
القدسي بسيارة ملغومة في نية لنسفه وعند اعتقاله من قبل السلطات الصهيونية ادعت أنه مختل عقليا.
وفي آب من عام سبعة وثمانين، حاصر حراس المسجد القصى ثلثة إرهابيين صهاينة، حاولوا إدخال
متفجرات إلى المسجد.
وفي عام ثمانية وثمانين، وبذريعة قمع حشود داخل الحرم ألقى الجنود الصهاينة كمية من القنابل
الحارقة والخانقة داخل المسجد، ما أدى إلى استشهاد وجرح عدد من المصلين، واحتراق كمية من
السجاد.
وبعد أسبوع من هذه الواقعة ألقى إرهابيون صهاينة قنابل حارقة داخل المسجد بغية إحراقه، وعام
ثمانية وتسعين، جرى توقيف متطرف صهيوني مسلح، يحاول التسلل إلى باحة المسجد القصى من
الجهة الجنوبية.
وفي مطلع عام تسعة وتسعين، تم كشف النقاب عن قيام الصهيوني المتطرف دميان فاكوبيتش بالتخطيط
لتنفيذ عملية تفجير كبيرة تؤدي إلى نسف المسجد القصى. وعمليا فإن نحو خمس وعشرين منظمة
صهيونية تعمل على نسف المسجد القصى.
المؤتمر السلمي العام
في المسجد القصى المبارك عقد عام ألف وتسعمائة وواحد وثلثين المؤتمر السلمي العام الذي يعتبر
الكثر من نوعه حتى حينه دفاعا عن إسلمية بيت المقدس وعروبتها.
حمل المؤتمر اسم "مؤتمر العالم السلمي الثاني" حيث أن المؤتمر الول كان قد عقد في مكة المكرمة
سنة ألف وتسعمائة وست وعشرين.
ظلت فكرة حشد المسلمين للدفاع عن بيت المقدس قائمة لدى الحاج أمين الحسيني، منذ عقد المؤتمر
السلمي الكبير في القدس سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف، ومع تزايد التهديدات الصهيونية
لفلسطين والقدس تحرك لتنفيذ الفكرة، التي لقيت معارضة بريطانية شرسة، وحملة صهيونية كبيرة.
نجح الحاج أمين، ومعه عبد العزيز الثعالبي من تونس، وشوكت علي من الهند في جمع مائة وخمس
وأربعين شخصية إسلمية من اثنين وعشرين بلدا في المسجد القصى المبارك، وفي ليلة السراء
والمعراج المباركة.
ومن أبرز الشخصيات التي حضرت المؤتمر العلمة الشيخ رشيد رضا، وشيخ الزهر محمد الحسين آل
كاشف الغطاء الذي أم المسلمين في الصلة في المسجد القصى، والسيد محسن المين، والشيخ أحمد
رضا، والشيخ أحمد عارف الزين، من علماء جبل عامل، وشاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال ..
وغيرهم كثيرون.
بدأ المؤتمر بتلوة قصة المولد النبوي الشريف، ثم افتتحه الحاج أمين الحسيني بكلمة ترحيب، وتم
انتخاب موسى كاظم باشا الحسيني رئيسا مؤقتا لدارة جلسات المؤتمر.
ثم تحدث المجتهد العلمة محمد الحسين آل كاشف الغطاء بكلمة فسر فيها معنى قوله تعالى في الية
الكريمة )باركنا حوله( مشددا على موضوع الوحدة السلمية.
تم تتالى إلقاء الكلمات وعقد الجلسات، على مدى عشرة أيام، استغرقها انعقاد المؤتمر، موزعا على
عدد من اللجان، التي صاغت التوصيات والقرارات.
وخلل انعقاد جلسات المؤتمر، قام وفد يمثل العرب المسيحيين في فلسطين بزيارته، وأعلن تأييده لما
يصدر عنه من مقررات.
كان طبيعيا بوجود مثل هذا الحشد من الشخصيات الفاعلة في العالم السلمي، أن يتحول المؤتمر في
بيت المقدس، إلى بحث الحالة العامة للمسلمين في مختلف بقاع العالم السلمي، وهذا ما انعكس في
مداولت المؤتمرين وقراراتهم.
إذ تقرر عقد مؤتمر دوري عام لجميع المسلمين في بقاع الرض يسمى المؤتمر السلمي العام. كما
قرر المؤتمر تنمية التعاون بين المسلمين، وحماية المصالح السلمية وصيانة المقدسات والبقاع
المشرفة من كل تدخل أو سيطرة.
وتقرر تأسيس مكتب رئيس للدعاية غايته نشر الدعاية لمقاصد المؤتمر السلمي العام في جميع أنحاء
العالم. على أن يقيم هذا المكتب، مكاتب فرعية للدعاية، ويتوسل إلى غرضه بالمجلت والخطب
والمحاضرات والكتب والمدارس والتمثيل والسينما والتصوير.
فيما يتعلق ببت المقدس، قرر المؤتمر انتخاب لجنة خاصة تطوف على جميع الملوك والمراء والثرياء
المسلمين لجمع التبرعات، ويسمى الذين يتبرعون بمبالغ وافية :"حماة المسجد القصى"، وتنقش
أسماؤهم في لوحات تعلق في المسجد.
وكذلك، إنشاء جامعة إسلمية عليا في القدس تفي بحاجة المسلمين في دينهم ودنياهم، وتسمى جامعة
المسجد القصى السلمية.
يذكر أن تبرعات وصلت إلى الحاج أمين، بهدف إنشاء الجامعة المذكورة، إل أن سلطات الحتلل
البريطاني عطلت المشروع، وضغطت على العديد من قادة الدول السلمية، لوقف التبرعات لهذا
المشروع.
وقرر المؤتمرون كذلك مقاطعة جميع المصنوعات الصهيونية في جميع القطار السلمية، وتأسيس
شركة زراعية كبرى في فلسطين، يشترك فيها العالم السلمي، وتكون غايتها إنقاذ أراضي المسلمين
في فلسطين.
وقرر تنبيه علماء المسلمين ورؤساء حكوماتهم، وذوي الرأي منهم إلى خطر الصهيونية على فلسطين،
ومقدسات المسلمين فيها، وعلى البلد السلمية التي تجاورها.
استنكر المؤتمر قرار لجنة البراق الدولية، السماح لليهود بأداء الطقوس أمام الحائط في العياد
اليهودية، مؤكدا الستمرار في الحتجاجات ضد الهجرة الصهيونية، وضد السماح ببيع الراضي لليهود
مع احتفاظ فلسطين بحق تقرير مصيرها بنفسها.
انتخب المؤتمر لجنة تنفيذية له، ترأسها الحاج محمد أمين الحسيني، كما انتخب مكتبا دائما مؤلفا من
ثلثين عضوا من زعماء العالم السلمي وسمي صلح الدين الطباطبائي، أمينا عاما له، واتخذ المؤتمر
القدس مقرا دائما له.
المؤتمر السلمي الكبير
تزايدت العتداءات الصهيونية على حائط البراق سنة ألف وتسعمائة وثمان وعشرين، فدعت لجنة
الدفاع عن البراق مسلمي فلسطين ولبنان وسورية وشرق الردن، إلى عقد مؤتمر إسلمي عام للتصدي
للخطر الصهيوني المتزايد، والدفاع عن الماكن المقدسة.
عقد المؤتمر في القدس في أول تشرين الثاني /نوفمبر من عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين،
وأطلق عليه أسم المؤتمر السلمي الكبير. وقد حضرت المؤتمر سبعمائة شخصية من جميع أنحاء
فلسطين وبلد الشام، وانتخب الجميع الحاج أمين الحسيني رئيسا له.
كذلك تم انتخاب وفد من اثني عشر عضوا، لمقابلة المندوب السامي بالوكالة "لوك" لطلب تصريح رسمي
من حكومة النتداب يبين موقفها وتعهداتها بحفظ حقوق المسلمين بحائط البراق.
ضم الوفد المذكور ثلثة من أعضاء الوفد اللبناني إلى المؤتمر هم: عبد الكريم أبو النصر، عبد القادر
مصطفى الغندور، ومصطفى الغليني، وذلك بهدف إظهار التضامن في الدفاع عن البراق الشريف.
في ختام أعماله اتخذ المؤتمر جملة من القرارات من بينها:
"الحتجاج بكل قوة على أي عمل، أو محاولة ترمي إلى إحداث أي حق لليهود في مكان البراق الشريف
المقدس، واستنكار هذا كله أشد الستنكار والحتجاج على كل تساهل أو تغاضي أو تأجيل يمكن أن يبدو
من الحكومة في هذا العمل".
كما قرر المؤتمر أن يطلب من الحكومة منع اليهود حال منعا باتا مستمرا من وضع أية أداة من أدوات
الجلوس والنارة والعبادة والقراءة وضعا مؤقتا أو دائما في ذلك المكان، في أي حال من الحوال، وأي
ظرف من الظروف، وأن تمنعهم أيضا من رفع الصوات وإظهار المقالت، حيث يكون المنع في كل هذا
متكفل لئل يضطر المسلمون إلى أن يباشروا منعه ودفعه بأنفسهم مهما كلفهم المر دفاعا عن هذا
المكان السلمي المحض، المقدس، وعن حقوقهم الثابتة فيه.
وألقى المؤتمر على الحكومة، تبعة ما قد ينتج من إقدام المسلمين على الدفاع عن البراق الشريف، إن
هي توانت في منع أي اعتداء يصدر من اليهود لنها متكفلة بحفظ المن، ومطالبة بالمحافظة على
الماكن الدينية السلمية من كل اعتداء، وقد قرر المؤتمر أيضا تشكيل جمعية تعرف بجمعية حراسة
الماكن المقدسة.
وكرر المؤتمر السلمي الكبير، المطالب المعروفة بحق تقرير المصير، والحصول على الستقلل،
ووقف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الراضي لليهود، ومساندة الشركات الوطنية لشراء الراضي.
وهكذا نجح المؤتمر في تحويل قضية البراق إلى قضية وطنية هامة. وحقق نقلة باشراك المسلمين في
الدفاع عن المقدس السلمي في القدس، إذ تقرر إنشاء فروع لجمعية حراسة المسجد القصى في جميع
أنحاء العالم السلمي، وحيث توجد الجاليات السلمية في المهاجر.
وأرسل الحاج أمين الحسيني بنسخة عن قرارات المؤتمر إلى عصبة المم، كما أبرق إلى المير شكيب
أرسلن، وحسان الجابري ورياض الصلح في جنيف، يوكلهم نيابة عن المؤتمر بالدفاع عن قضية
البراق أمام عصبة المم والرأي العام الوروبي.
وفعل سارع أرسلن بتقديم مذكرة إلى المركيز تيودلي رئيس لجنة النتداب في العصبة، يقول فيها: بأن
المسلمين بالنسبة إلى قضية البراق يريدون أن يبقى الحال على قدمه، وإذا حصل أي تغيير في الماكن
المقدسة فسيكون لذلك عواقب وآثار وخيمة للمم.
تلمس الحتلل البريطاني، المعاني الكامنة، وراء نجاح الحاج أمين الحسيني، رئيس المجلس السلمي
العلى، بعقد المؤتمر، ونجاح المؤتمر نفسه، في نقل القضية من إطار خلف ديني محدود، كما حاولت
الحكومة البريطانية تصوير المر، إلى قضية سياسية وطنية عامة، تتناول المشروع الصهيوني كله على
أرض فلسطين والمسعى البريطاني لقراره.
لذلك فقد أصدرت تصريحا على شكل كتاب أبيض، أقر بملكية المسلمين لحائط البراق، ويمنع اليهود من
تركيز أدوات أو حواجز في المكان.
بيد أن هذا التصريح، كان مثلما هو شأن السياسة البريطانية، يستهدف تهدئة الخواطر، فيما ظل
المحتلون البريطانيون يعملون من أجل إنفاذ وعد بلفور، وهو ما اقتضى ردودا فلسطينية مختلفة في
مرحلة لحقة.
المؤتمر العربي الفلسطيني
عقد المؤتمر العربي الفلسطيني أولى دوراته في بيت المقدس سنة ألف وتسعمائة وتسع عشرة.
والمؤتمر العربي الفلسطيني، هو مؤتمر تمثيلي عقد باسم عرب فلسطين سبع دورات ما بين عامي ألف
وتسعمائة وتسعة عشر، وألف وتسعمائة وثمانية وعشرين.
وهو مؤسسة وطنية تشبه المجلس النيابي، ولها أهدافها الواضحة وبرامجها المحددة.
تم اختيار المندوبين إلى دورات هذا المؤتمر من خلل الجمعيات السلمية – المسيحية، والهيئات
الخرى، أو بعرائض ومضابط انتخابية تقدمها المؤسسات والمدن والقرى.
وراوح عدد المندوبين تبعا لذلك بين سبعة وعشرين ومائتين وسبعة وعشرين مندوبا من مختلف مدن
فلسطين وأقضيتها.
كان هدف المؤتمر وضع الخطوط الساسية لحركة النضال الوطني وبث الدعاية لها في الخارج وانبثقت
عن كل مؤتمر نخبة تنفيذية اتفق على أن تكون الناطقة باسم عرب فلسطين، وتتولى الشراف على
تنفيذ قراءات المؤتمر وقيادة الحركة الوطنية وتوجيهها.
انعقدت الدورة الولى في القدس، بدعوة من الجمعية السلمية المسيحية في المدينة، وذلك بحضور
سبعة وعشرين مندوبا انتخبوا عارف بكر الدجاني رئيسا للمؤتمر ومحمد عزت دروزة سكرتيرا عاما.
استمرت أعمال المؤتمر ثلثة عشر يوما، تقرر في نهايتها اقتراح تسمية فلسطين: سورية الجنوبية،
وإرسال برقية احتجاج إلى مؤتمر باريس.
ووضع المؤتمر ثلثة تقارير، كان الول في تفنيد مزاعم الصهيونية، والثاني عن أخطار فصل فلسطين
عن سورية العربية، والثالث عن الراضي المدورة والميرية.
حدد المؤتمر العربي الفلسطيني في القدس مبادئ الحركة الوطنية في سياق قومي، رفض فيه و"عد
بلفور"، والهجرة الصهيونية والنتداب النكليزي، وطالب بالستقلل التام ضمن الوحدة العربية.
أرسل المؤتمر وفدا إلى مؤتمر الصلح في باريس لشرح مطالب عرب فلسطين، وآخر إلى دمشق لبلغ
الوطنيين العرب مضمون القرار الذي يدعو إلى تسمية فلسطين، سورية الجنوبية، وتوحيدها مع سورية
الشمالية وقد تبنى المؤتمر السوري العام سنة ألف وتسعمائة وتسع عشرة الميثاق الذي وضعه المؤتمر
العربي الفلسطيني، وضمه إلى قراراته التي قدمها إلى لجنة كنغ – كرين وإلى قرار إعلن الستقلل
وملكية فيصل.
حالت سلطات الحتلل البريطاني دون عقد دورة ثانية للمؤتمر في القدس. فعقدت في دمشق، ثم في
حيفا. وعاد ليعقد دورته الرابعة في القدس عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين، برئاسة موسى كاظم
باشا الحسيني، وبحضور مائة مندوب من مختلف أنحاء فلسطين.
عقد المؤتمر تسع جلسات على مدى خمسة أيام أكد فيها على المبادئ التي وضعها المؤتمر الول وبنود
الميثاق القومي، ما خل الفقرة الخاصة بالوحدة، ما عنى مسارا جديدا للحركة الوطنية.
شكل المؤتمر نخبة لدراسة ثورة يافا، وتقديم تقرير عنها إلى العالم، كما اختار وفدا برئاسة موسى
الحسيني للتوجه إلى أوروبا.
عقد المؤتمر دورته الخامسة في نابلس، والسادسة في يافا. على أن يعقد دورته السابعة في القدس
مجددا.
عقد اجتماع تمهيدي في أيار، في القدس، لعداد وثائق المؤتمر المقرر عقده في حزيران من عام ألف
وتسعمائة وأربعة وعشرين، ولكن الخلفات بين النخبة التنفيذية ومعارضيها من الحزب الوطني بزعامة
النشاشيبي، أجلت عقده أربع سنوات شهدت خللها فلسطين أحداثا جسام، حاولت اللجنة التنفيذية
التصدي لها، كما حاولت رأب الصداع وعقد المؤتمر المؤجل.
عكست قرارات المؤتمر السابع في القدس، حالة الضعف التي تعاني منها هذه الهيئة، وعدم قدرتها على
دفع النضال الوطني بما ينسجم مع التحديات التي يواجهها شعب فلسطين.
فقد قرر المؤتمر المطالبة بحكومة برلمانية، والحتجاج على كثرة الموظفين النكليز في الدوائر
الرسمية في فلسطين، والحتجاج على تفضيل العمال اليهود على العمال العرب.
سوف تفرض أحداث هيئة البراق تطورات جديدة على الوضع الفلسطيني، وإن كانت اللجنة التنفيذية
المنبثقة عن المؤتمر السابع قد بقيت تقود النضال الوطني حتى وفاة رئيسها موسى كاظم الحسيني سنة
ألف وتسعمائة وأربع وثلثين.
الهيئة السلمية العليا
تشكل المجلس السلمي العلى، أول مرة في فلسطين عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين وترأسه
عام لفلسطين. u الحاج أمين الحسيني، إضافة إلى منصبه كمفت
تولى المجلس الشراف على الوقاف السلمية، وتحول إلى هيئة قيادية ليس في القدس وحسب ولكن
في معظم أنحاء فلسطين إلى أن تلشى وجوده تدريجيا لصالح هيئات أخرى بدءا من عام سبعة
وثلثين، مع إقالة الحسيني من رئاسته.
وبعد عدوان حزيران من عام سبعة وستين قامت أربع وعشرون شخصية مقدسية، بتشكيل هيئة
إسلمية لتولي الشؤون السلمية في الضفة وبضمنها القدس، وأطلق على هذه الهيئة اسم المجلس
السلمي العلى، ولكن الذي غلب عليها هو تسمية: الهيئة السلمية العليا.
لعبت الهيئة دورا كبيرا في تنظيم شؤون الوقاف السلمية في القدس، ومدن الضفة الفلسطينية كما
لعبت دورا هاما في حماية المقدسات السلمية في بيت المقدس من التعديات الصهيونية المتكررة
عليها.
رفضت السلطات الصهيونية العتراف بالمجلس، ولكنه كرس وجوده بالمر الواقع كهيئة إسلمية
تشرف على الوقاف والمقدسات السلمية.
لجأت الهيئة في عملها بداية، إلى العتراض على التعديات الصهيونية، بواسطة رفع العرائض
والمذكرات إلى السلطات المحتلة، على غرار ما قام به الشيخ حلمي المحتسب سنة ثمان وستين، برفع
مذكرة إلى ليفي أشكول رئيس الحكومة الصهيونية، يحتج فيها على الحفريات التي يقوم بها الصهاينة
في القدس.
ومع تزايد الضغوط الصهيونية، نوعت في أساليب عملها، وأعلنت أواخر عام ثمانية وستين، أنها
ترفض بشدة التعديات الصهيونية وترفض تدخل الصهاينة في إدارة شؤون المسلمين بالقدس، المر
الذي يخالف أحكام اتفاقيات جنيف والقرارات الدولية.
تفاعلت الهيئة مع المواقف العربية والسلمية والدولية بشأن القدس والقضية الفلسطينية ففي عام
ثلثة وسبعين، وبعد صدور قرارات القمة العربية في الجزائر التي أكدت على تحرير القدس ورفض
النتقاص من الحق العربي فيها، أعلنت الهيئة السلمية في القدس أن عروبة المدينة حقيقة تاريخية ل
تستطيع كل التصريحات والمواقف التي تحاول النيل منها أو تغير طبيعتها أن تدحضها ودعت إلى
التحرك الجاد للوقوف في وجه العتداءات الصهيونية على المقدسات السلمية في المدينة.
من عام واحد وثمانين، لعبت الهيئة دورا في تنظيم التصدي لمحاولة الجماعة المسماة أمناء جيل t بدءا
الهيكل، والجماعات الرهابية الصهيونية الخرى اقتحام الحرم القدسي الشريف، وفضحت في بيانات
متلحقة طبيعة الدعم الذي تلقاه هذه الجماعات من الوساط الحاكمة في الكيان الصهيوني.
كما وقفت في وجه افتتاح النفاق تحت أساسات الحرم القدسي الشريف، على غرار ما حدث عام واحد
وثمانين، وفي سنوات لحقة أيضا، وذلك رغم تلقيها تهديدات من زعماء الحركات الرهابية الصهيونية،
بالتعرض لعضائها وقياداتها الفاعلة مثل الشيخ سعد الدين العلمي.
وعام أربعة وثمانين، دعت الهيئة إلى سلسلة اضرابات متلحقة، احتجاجا على قيام الصهاينة بتدنيس
الحرم القدسي، واقتحام مسجد قبة الصخرة.
وفي مواجهة سماح الوساط القضائية الصهيونية والشرطة للصهاينة باقتحام الحرم، أعلنت الهيئة أن
المسلمين سوف يتصدون لمن يحاول العتداء على مساجدهم أو تدنيسها، وقالت إن المقدسيين سوف
يعتصمون في مسجدي القصى وقبة الصخرة، لحمايته من التعديات الصهيونية.
ويمكن القول إن الهيئة لعبت دورا قياديا في رعاية شؤون المقدسات السلمية في القدس وحمايتها،
وبدأ تأثيرها يتلشى تدريجيا بعد أن شكلت السلطة الفلسطينية إدارة للوقاف في القدس، أخذت على
عاتقها الكثير من مهمات الهيئة السلمية العليا.
هدم حارة المغاربة
بعد عدوان حزيران عام سبعة وستين، لم تنتظر قوات الحتلل الصهيوني طويل، حتى تبدأ بجرائمها
الوحشية في المدينة المقدسة، ومع مضي أقل من أربعة أيام على الحتلل، شرعت جرافات المحتلين
بهدم حي المغاربة التاريخي في القدس بأكمله، مزيلة من الوجود مسجدين، احدهما مسجد البراق
الشريف، ومائة وخمسا وثلثين دارا للسكن، ومخازن ومحلت كانت تؤلف الحي المذكور.
الذريعة لهذا الجراء الوحشي هي توسعة مكان لظهار الجزاء المخفية من حائط البراق الذي يسميه
الصهاينة حائط المبكى، وهو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف الذي كان حي المغاربة يلصقه
تماما.
أدعى الصهاينة أنهم اشتروا البيوت من أصحابها قبل هدمها، لكن جثث الفلسطينيين التي دفنت تحت
النقاض تبين كذب هذا الدعاء، الذي يضيف جريمة إلى الجريمة الصلية.
ظل الصهاينة ينفون وجود سكان الحي أثناء عمليات الهدم الوحشية، ورغم أن متولي الوقف في الحارة
التي تعتبر كاملة وقفا إسلميا، أوضح بأدلة واسعة أن عمليات الهدم تمت بوجود سكان داخل منازلهم،
واصل الصهاينة الكذب والفتراء إلى أن اعترف الضباط الصهاينة الذين شاركوا في الجريمة بحقيقة ما
وقع عام سبعة وستين.
ففي عام تسعة وستين، نقلت صحيفة يروشاليم الصهيونية عن ضابط في سلح الهندسة التابع لقوات
الحتلل قوله:
أنه في مساء السبت العاشر من حزيران شرعت الجرافات تحت قيادة إيتان بن موشيه، بهدم البيوت في
حارة المغاربة لتسوية الساحة الواقعة بجانب حائط البراق، وذلك بعد أن أعطيت مهلة ربع ساعة
للسكان للقيام بإخلء منازلهم.
الضابط الصهيوني يقول: أنه اكتشف جثثا بين النقاض، ولدى سؤاله عما فعله آنذاك قال: "أنه ألقى إلى
السفل، أو تحت التراب"، ضابط أخر يدعى اليكس غور قال:"أن ابن موشيه خرج من الخطة الصلية
لهدم الحي، وتجاوزها حيث هدم المزيد من البيوت".
أما بن موشيه نفسه فيقول: "تيدي كوليك ويقصد رئيس البلدية الصهيونية في القدس، تيدي كوليك
ورفاقه خططوا للقيام بعمل صغير هناك من دون المس بالماكن المقدسة، كان في باحة البراق على
مسافة عدة أمتار منها مسجد البراق، حيث صعد رسول العرب على البراق إلى السماء، وأنا قلت مادام
البراق قد صعد إلى السماء، فلماذا ل يصعد المسجد أيضا، وقمت بطعنه بشكل جيد جدا، بحيث لم يبق
منه أثر يذكر" .
يكشف هذا العتراف الصهيوني حقيقة ما جرى ويقدم دليل إضافيا على شكل الجريمة التي ارتكبها
الصهاينة بحق هذا الحي الذي ظل لقرون عديدة وقفا إسلميا، يقطنه أحفاد المجاهدين الذين جاؤوا في
نجدة من المغرب العربي، لدفع عدوان الفرنجة عن القدس.
والحي يضم إلى المسجدين، زوايا للمتصوفة والمتعبدين، ودورا للسكن، ونزل للمجاورين، ومخازن
ومحلت تجارية.
الستهداف الصهيوني لهذا الحي قديم، وهو مرتبط بالطماع اليهودية الصهيونية للسيطرة على حائط
البراق، وقد حاول الصهاينة مرارا شراءه أو السيطرة عليه مع بدايات الستيطان الصهيوني في بيت
المقدس.
يذكر أن قوات الحتلل الصهيوني، قامت مع احتلل القدس مباشرة بمصادرة مفاتيح باب المغاربة ولم
تعدها.
كما أن قوات الحتلل أقامت في آب مركزا للشرطة في باب المغاربة، ل يزال قائما حتى الن رغم
العتراضات المتكررة من الوقاف السلمية.
وتستهدف الجماعة المسماة أمناء جبل الهيكل هذه المنطقة باعتداءات متكررة، بزعم أنها تشكل جزءا
من الهيكل المزعوم.
اتفاق أوسلو
أجل اتفاق أوسلو بحث قضية القدس إلى ما سمي مفاوضات الوضع النهائي، وبعد توقيعه مباشرة أعلن
الصهاينة أن القدس خارج التسوية، وكرروا مواقفهم المعروفة بأن القدس عاصمتهم البدية، وقاموا
بتسريع الستيطان والتهويد في المدينة وضواحيها على نحو غير مسبوق، لفرض الوقائع على الرض.
ولما كان لبد من مناقشة المر أخيرا في المفاوضات المسماة "مفاوضات الوضع النهائي"، بدأت تبرز
التصورات الصهيونية حول القدس في الحل المذكور.
عام ستة وتسعين قالت زعيمة حركة ميرتس، السابقة شولميت آلوني: "أنا أعارض إقامة سور في
القدس، وأفضل مجلسا بلديا مشتركا يضم أحياء القدس، وأفضل مجلسا بلديا مشتركا يضم أحياء ذات
إدارة ذاتية، ويجب أن تجري المفاوضات فقط حول المستوطنات.
أما ميشولم عميت، عضو مجلس البلدية الصهيونية في القدس، عن حركة موليدت فقال: "أن الحل
الدائم الوحيد هو ما سماه أرض )إسرائيل الكبرى( تحت السيادة اليهودية.
يهوشع بهورات من حزب الطريق الثالث، اعتبر أن المقرر لدى حزبه هو أن كيانه الستراتيجي ما
يتطلب من وجهة نظره الحتفاظ بوادي الردن والمنطقة المدنية التي تقيمها حول القدس، في إشارة إلى
المستوطنات حول المدينة.
ة لكيانه وتحت سيادته. t ودعا مخيائيل ايتان، من الليكود، إلى التوحد حول القدس عاصم
وقال أحد زعماء حزب العمل، إفرايم سنيه، أن القدس لن يتم تقسيمها في مشروع الحل الدائم، ولن
تقام مؤسسات سلطة فلسطينية ضمن حدودها. إن ما ينبغي التفاق حوله هنا هو وضع الماكن
المقدسة، وشكل إدارة الحياء العربية.
مع طرح هذه التصورات الصهيونية، برز إلى الوجود، اقتراح يقول: أبو ديس عاصمة الدولة
الفلسطينية في الحل النهائي.
تم إنضاج هذا القتراح في وثيقة باسم وثيقة أبو مازن - بيلن، وهي حصيلة اجتماعات بين محمود
عباس أحد المفاوضين الفلسطينيين والوزير الصهيوني يوسي بيلبن. وأبو ديس هي من ضواحي القدس
التي جرى ضمها إلى المدينة في إطار مشروع القدس الكبرى.
الوزير الصهيوني يوسي بيلن، أوضح لحقا تصوره التفصيلي لهذا القتراح فقال: "أبو ديس عاصمة
للدولة الفلسطينية على أن تكون منزوعة السلح، وأن تكون الماكن المقدسة داخل أسوار البلدة القديمة
خارج السيطرة )السرائيلية(، فيما يعتبر جميع المقدسين العرب مواطنين في الدولة الفلسطينية، ويكون
لهم حكم ذاتي داخل القدس التي ستبقى موحدة ومفتوحة وعاصمة )إسرائيل(".
عام سبعة وتسعين وبعد وقت قصير من توضيحات بيلين، أصدر الحزبان الصهيونيان الكبيران العمل
والليكود، وثيقة بشأن تصورهما للتسوية النهائية، تضمن حديثا عن القدس فحواه:
* القدس عاصمة للكيان الصهيوني بحدودها البلدية القائمة، هي مدينة واحدة تحت سيادة الكيان.
* يعترف الفلسطينيون بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني فيما يعترف الصهاينة بمركز الحكم للكيان
الفلسطيني، وهو يقع داخل حدود الكيان، وخارج الحدود الحالية لبلدية القدس.
* تمنح الماكن المقدسة السلمية والمسيحية في القدس وضعا خاصا.
* في إطار الحكم البلدي يعطى فلسطينيو الحياء العربية المقيمون في القدس وضعا خاصا يسمح لهم
بالمشاركة في مسؤولية إدارة حياتهم.
سوف تشكل هذه الوثيقة لحقا أساسا لما سيليها من تصورات صهيونية، فمنذ عام تسعة وتسعين، أخذ
الصهاينة يتحدثون عن أن الحل في القدس ليس في تقسيمها، وإنما في توسيعها، لتكون للفلسطينيين
عاصمة تسمى القدس، هي غير القدس المعروفة.
في كامب ديفيد الثاني جرى تداول الكثير من التصورات وانتهت الجتماعات إلى الفشل، ليعاود
الصهاينة الحديث عن قدس موحدة عاصمة أبدية لكيانهم ويسرعون وتيرة التهويد مجددا.
التحاد البرلماني العربي
لم تخرج قرارات التحاد البرلماني العربي، عن كونها تأكيدا جديدا للمواقف العربية الرسمية المعلنة
بشأن القدس.
ومثلما هو حال المؤسسات العربية الرسمية الخرى، عانى التحاد البرلماني العربي أيضا من إصدار
قرارات ل تملك آلية للتنفيذ.
ففي مؤتمره الثاني المنعقد في الجزائر العاصمة أعلن التحاد رفضه كل الجراءات الستيطانية
والتهويدية التي تقوم بها سلطات الحتلل الصهيوني في الراضي العربية المحتلة، ومقاومة أي وضع
من شأنه المساس بالسيادة العربية الفلسطينية على القدس الشريف.
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعين، ناقش مجلس التحاد المنعقد في بغداد، قرار مجلس الشيوخ المريكي
القاضي باعتبار القدس موحدة عاصمة للكيان الصهيوني ودعا مجلس الشيوخ لعادة النظر في قراره،
لن القرار يساهم في زيادة التوتر، ويبعد فرص السلم عن المنطقة فضل عن أنه يتناقض مع قرارات
المم المتحدة.
وفي العام التالي انعقد مجلس التحاد في طرابلس الغرب، وأكد في بيانه الختامي، على أن أية تسوية
للصراع العربي الصهيوني يجب أن تتضمن انسحابا صهيونيا كامل من الراضي العربية المحتلة عام
سبعة وستين، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
من اللفت للنتباه غياب قرارات خاصة بالقدس، عن العديد من دورات التحاد، أو اجتماعات مجلسه.
وفي عام خمسة وتسعين أكد المؤتمر السادس للتحاد المنعقد في الرباط، على عروبة القدس، وأدان
جميع العمال المؤدية إلى تغيير معالمها العمرانية وتركبيها الديمغرافي، وهويتها السلمية.
لكن مجلس التحاد، عقد دورة استثنائية في العام التالي، وبعد وقت قصير من إصدار الكونغرس
المريكي قرارا بنقل السفارة المريكية لدى الكيان الصهيوني من تل أبيب إلى القدس، وفي هذه الدورة،
أعلن مجلس التحاد رفضه قرار الكونغرس المريكي، باعتباره متناقضا مع قرارات الشرعية الدولية،
ومتعارضا مع مواقف الدارة المريكية المعلنة بشأن القدس ودعا مجلس التحاد إلى قيام البرلمانات
العربية والتحاد البرلماني، بالتصال بالكونغرس ،من أجل إقناعه بالعدول عن قراره بنقل السفارة،
ومناشدة جميع برلمانات العالم، القيام بإجراءات مماثلة.
في العام نفسه، أي عام ستة وتسعين عقد مجلس التحاد البرلماني، دورته السابعة والعشرين في
دمشق، فأكد في بيانه الختامي، على تمسكه بالهوية العربية لمدينة القدس، وأدان جميع الجراءات
الرامية إلى تغيير معالمها الدينية السلمية والمسيحية، وتركبيها السكاني واعتبر قرار الكيان
الصهيوني بضم القدس باطل وغير شرعي.
المجلس، دعا الحكومات في البلدان العربية والسلمية إلى تجنيد إمكانياتها دفاعا عن القدس الشريف
ومكانتها المقدسة.
وفي العام التالي عقد التحاد دورة جديدة له هي السابعة في القاهرة معيدا التأكيد على مواقفه المعروفة
ا الجراءات الصهيونية المتمثلة في مصادرة الراضي وبناء المستوطنات، خاصة في t بشأن القدس ومدين
محيط القدس على جبل أبو غنيم، وكذلك مصادرة هويات المواطنين الفلسطينيين المقدسين وإغلق
المؤسسات الشعبية والوطنية الفلسطينية في الديار المقدسة؛
وطالب المجتمع الدولي بالتدخل لوقف هذه الجراءات وإلغاء مفعولها حفاظا على عروبة القدس ودعا
الدول العربية إلى تقديم الموال اللزمة لحماية الوجود العربي في المدينة، وحماية مقدساتها.
وفي عام ألفين عقد التحاد ندوة برلمانية في عمان، اعتبر في ختامها أن مسألة القدس هي لب
الصراع. ول يمكن تحقيق سلم في غياب السيادة الفلسطينية على القدس كعاصمة لدولة فلسطين.
أبرز العمليات الستشهادية
في إطار مقاومة الشعب العربي الفلسطيني للغزاة الصهاينة، كانت القدس ومازالت، ساحة للشهادة
والستشهادين.
بعد استكمال الصهاينة احتلل القدس عام سبعة وستين، وقعت أولى العمليات الستشهادية عام ثمانية
وستين، نفذها الفتى رياض أمين جابر، البالغ من العمر ثلثة عشر عاما، داخل مقر القيادة العسكرية
الصهيونية في فندق المبسادور بالقدس، حيث فجر لغما كان يحمله داخل حقيبته، فاستشهد وأوقع عددا
كبيرا من الجنود والضباط الصهاينة بين قتلى وجرحى.
شهد العام ثلثة وتسعين تنفيذ ثلث عمليات استشهادية، أدت الولى في مستوطنة "محيول" شمال
القدس إلى إصابة ثمانية جنود صهاينة والثانية، التي وقعت بالغرب من مقر قيادة شرطة الحتلل في
الشيخ جراح أدت إلى قتل مستوطنة وإصابة العشرات، فيما أوقع تسعة وعشرون جنديا صهيونيا بين
قتيل وجريح في العملية الثالثة شمال المدينة.
عام أربعة وتسعين، هاجم الستشهادي أحمد عبد الوهاب بالسكين أربعة جنود صهاينة، وتمكن من
الستيلء على سلح أحدهم، وشرع في إطلق النار حتى استشهاده وتكتمت قوات الحتلل على حجم
خسائرها.
أما العملية الستشهادية الكبيرة التي وقعت في الحافلة العاملة على الخط رقم ثمانية عشر في القدس
عام خمسة وتسعين فأسفرت عن مصرع خمسة وعشرين جنديا صهيونيا.
ونفذ استشهادي بطل عملية استشهادية ثأرا للشهيد يحيى عياش في القدس، أدت إلى مقتل ثمانية عشر
جنديا صهيونيا.
وقعت العملية في شباط من عام ستة وتسعين، وفي آذار وقعت عملية ضخمة، أدت إلى سقوط أربعة
عشر قتيل صهيونيا.
ونفذ المجاهدون عملية أخرى في سوق محينة يهودا عام سبعة وتسعين أسفرت عن سقوط خمسة قتلى
من الصهاينة.
شهدت القدس مع انفجار انتفاضة القصى عددا كبيرا من العمليات الستشهادية، من أبرزها العملية
التي أوقعت ثلثين إصابة في صفوف الصهاينة في حافلة "بالتلة الفرنسية" في القدس، في آذار من عام
ألفين وواحد.
وفي تموز من العام نفسه، نفذ الستشهادي نضال شادوف، عملية أوقعت عددا كبيرا من القتلى
والجرحى الصهاينة قرب "استاد تيدي" في الجزء الغربي من القدس المحتلة.
الستشهادي عز الدين المصري، اخترق في آب كل إجراءات المن الصهيونية، ونفذ عملية في مطعم
للبيتزا في الجزء الغربي من القدس المحتلة، أسفرت عن مقتل أربعة عشر صهيونيا، وجرح مئة وثلثة
وثلثين آخرين.
وفي أيلول ضرب الستشهاديون مرة أخرى الصهاينة في القدس، في عملية أسفرت عن خمس عشرة
إصابة بين قتيل وجريح.
ثم كانت في مطلع كانون الول، عملية مزدوجة غطت ثلثة أماكن في القدس دفعة واحدة فيما وقعت بعد
أيام قليلة عملية في مدخل فندق الهيلتون في المدينة المقدسة ما أدى إلى إصابة خمسة مستوطنين
صهاينة بجروح خطيرة، حسب ادعاء الناطق الصهيوني الذي دأب على إخفاء الخسائر الحقيقية في
صفوف الصهاينة.
في كانون الثاني من العام ألفين واثنين، افتتحت الستشهادية وفاء إدريس موجة عمليات الستشهاديات
البطولية في القدس، إذ تلتها الستشهادية آيات الخرس، ثم الستشهادية عندليب طقاطقة، بعد عدوان
السور الواقي الشاروني في العام نفسه.
وخلل العام ألفين واثنين أيضا نفذ الستشهاديون البطال، سلسلة من العمليات النوعية الجرئية حيث
تمكنوا من الدخول مع أسلحتهم الرشاشة إلى بيت المقدس، وهاجموا الجنود والمستوطنين الصهاينة
ودبوا في قلوبهم الرعب.
خلل شهري شباط وآذار من العام نفسه ضرب الستشهايون بقوة في القدس.
ففي آذار، وردا على جرائم الحتلل المتصاعدة نجح الستشهادي فؤاد الحوراني في الوصول إلى مبعدة
ستين مترا من مقر الرهابي شارون ونفذ عملية استشهادية جرئية أوقعت العديد من القتلى والجرحى
في صفوف الصهاينة.
وفي نيسان من العام نفسه وبينما كان مسئولون صهاينة يتشدقون بأنهم استطاعوا القضاء على بنى
المقاومة الفلسطينية، تمكن الستشهاديون من الوصول مرة أخرى إلى قلب القدس، فجاءت عملية
الستشهادية عندليب طقاطقة، لتسقط واحدا من أهداف العدوان الصهيوني المعلنة بالقضاء على
النتفاضة والمقاومة.
أبرز العمليات الفدائية في القدس
لم تتوقف المقاومة في القدس، منذ أن وطأتها أقدام الغزاة، وبعد استكمال احتللها عام سبعة وستين،
كان الوجود الصهيوني الغاضب فيها، هدفا لعمليات رجال المقاومة، الذين قاموا عام ثمانية وستين،
بسلسلة من العمليات الفدائية الجريئة. كان أبرزها تفجير عبوة ناسفة أمام مبنى الذاعة الصهيونية في
القدس، وأخرى بالقرب من محطة السكك الحديدية. كما نسف رجال المقاومة معدات مخصصة للبناء
الستيطاني في المدينة. واستهدفوا بالعبوات الناسفة المكتب الصحفي الصهيوني في القدس.
العملية الفدائية البارزة في العام المذكور شهدها سوق تجاري مزدحم بالجنود والمستوطنين الصهاينة
في القدس.
أطلق الفدائيون نيران أسلحتهم تجاه الصهاينة فأردوا اثني عشر قتيل، وجرحوا خمسين من
المستوطنين، وشكل سوق محينه يهودا، هدفا لهجمات الفدائيين، الذين استهدفوا في آب، حشدا من
الشبيبة العسكرية الصهيونية، "الجدناع"، حيث أسفر تفجير عبوة ناسفة عن مقتل وجرح نحو خمسة
وعشرين من هؤلء.
شهد العام تسعة وستين تصاعدا في العمليات الفدائية في القدس، والتي استهدفت مباني إذاعة
وتلفزيون العدو، ومكاتب ما تسمى وزراء الداخلية، ومواقع تجمع الجنود الصهاينة في المقاهي وأماكن
الترفيه في المدينة، فيما نفذ الفدائيون في آب من العام المذكور عملية نوعية تمثلت بقصف
المستوطنات الصهيونية في "القطمون"، و"جعفات مردخاي" بالصواريخ.
وفي الشهر التالي استخدم الفدائيون عبوات ناسفة شديدة النفجار ضد مباني الجامعة العبرية في القدس
ومستودعات لمعدات الستيطان على الطريق بين القدس والخليل.
وتميزت عمليات هذا العام بإلقاء القنابل اليدوية على مراكز ومؤسسات صهيونية في المدينة.
عام خمسة وسبعين، وضع رجال المقاومة ثلجة مفخخة في ساحة "صهيون"، أسفر انفجارها عن
سقوط خمسة عشر قتيل، وجرح ثلثة وستين من المستوطنين والجنود الصهاينة.
وعام ثمانية وسبعين، فجر رجال المقاومة عبوة ناسفة في سوق "محنية يهودا"، أسفر انفجارها عن
سقوط عدد من الجرحى والقتلى الصهاينة.
العام ستة وثمانين، شهد تصاعدا نوعيا في عمليات رجال المقاومة في القدس، الذين فجروا عددا كبيرا
من العبوات الناسفة في "التلة الفرنسية"، و"حي راموت" حيث أحرقوا محطتين للحافلت، وشارع
"هرتزل" في القدس وحي "رامات أشكول" الستيطاني، ومخازن شركة الكوكاكول وشارع "رحمون"
بالطور غربي القدس، وشارع و"ايزمن" ومحطة الباصات المركزية في المنطقة الصناعية.
وفجر المقاومون سيارة كانت تقل اثنين من كبار أعضاء الموساد، وأخرى كانت تقل مدير مكتب
استشارات لما يسمى الضمان الوطني في القدس، والمتورط في عمليات تزييف ملكية عقارات في
المدينة لصالح اليهود.
عام تسعة وثمانين، وفي ذروة النتفاضة الفلسطينية استخدم عبد الهادي غانم، يديه العاريتين في تنفيذ
عملية فدائية جريئة، حيث حرف حافلة تقل عددا كبيرا من الصهاينة عن خط سيرها وأسقطها في واد
على طريق القدس تل أبيب.
العملية أسفرت عن مقتل أربعة عشر مستوطنا، وجرح سبعة وعشرين آخرين.
طور المقاومون عام واحد وتسعين، حرب السكاكين، ضد الجنود والمستوطنين، حيث طعن فدائي أربعة
من المستوطنين بسكين فأرداهم قتلى، وعام اثنين و تسعين، قتل فدائي شرطيا بسكين، وأصاب آخر
بجراح.
عام أربعة وتسعين نفذ الفدائيون عمليات إطلق نار على جنود الحتلل، قتلوا وأصابوا خللها عددا
منهم، وهو ما تكرر عام ستة وتسعين.
مع انفجار انتفاضة القصى، شهدت القدس عددا كبيرا من العمليات الفدائية، منها تفجير سيارة مفخخة
في "تل بيوت" في آذار عام ألفين وواحد، كما انفجرت عبوة ناسفة في نيسان، في سوق "محنيه يهودا"،
وأخرى قرب برقان على طريق القدس.
وإلى عمليات القصف وإطلق النار على مستوطنة "جيلو"، جرى تفجير عبوات ناسفة داخل المستوطنة،
وتفجير عبوات أخرى في مستوطنة "التلة الفرنسية".
وتمكن الفدائيون في عملية جريئة من قتل الرهابي رحبعام زئيفي في فندق حياة في القدس.
واستهدف فدائي بسلحه الرشاش حشدا من المستوطنين في "تل بيوت"، في تشرين الول من عام ألفين
وواحد، وفي الشهر التالي، استهدف الفدائي حاتم الشويكي، بسلحه الرشاش المستوطنين الصهاينة في
مستوطنة "التلة الفرنسية"، موقعا عددا من القتلى والجرحى في صفوفهم.
العتداء على الشيخ سعد الدين العلمي
كان الشيخ سعد الدين العلمي، مفتي القدس، ورئيس الهيئة السلمية العليا فيها، يبلغ الثمانين من
العمر، حين انهال عليه جنود الحتلل الصهيوني، ضربا بأعقاب البنادق والهروات.
لم يكن هذا السلوك الوحشي غريبا على المجرمين الصهاينة.. كما أن الشيخ الثمانيني، قد خبر كثيرا
مسلكهم الجرامي.
وقع العتداء على الشيخ العلمي في نيسان من عام ثمانية وثمانين وتسعمائة وألف، أثناء خروجه من
أداء صلة الجمعة في المسجد القصى المبارك وقيادته تظاهرة احتجاجية على الممارسات الصهيونية
في المدينة المقدسة، وعلى تزايد العتداءات على المقدسات السلمية فيها، وإغلقها بدعوى امتداد
النتفاضة الشعبية الفلسطينية إليها.
ومن على سرير المشفى الذي نقل إليه على عجل، صرح الشيخ العلمي بعد ثلثة أيام من العتداء
عليه، بأن الجنود الصهاينة يعاملون الفلسطينيين معاملة وحشية، وقال: "حتى في جنوب إفريقيا ل
يعامل رجال الدين بمثل هذه الفظاظة"." إن الجنود الصهاينة ينشرون الرعب ويريدون قتلي منذ سنوات".
الشيخ العلمي قال: "إن الشعب الفلسطيني مستعد للتضحية في سبيل كرامته، والنتفاضة ستستمر حتى
النصر أو الشهادة".
كان الشيخ سعد الدين العلمي، ابن العائلة المقدسية العريقة، يملك أسبابا كافية للقول إن الصهاينة
يحاولون قتله، ذلك أن مواقفه في مواجهتهم منذ الحتلل الثاني للقدس سنة سبع وستين، اتسمت
بمقاومة أي تفريط بحقوق العرب والمسلمين في المدينة المقدسة، كما أنه ورغم تقدمه في السن كان
حريصا على المشاركة في كل الفعاليات الوطنية المناهضة للحتلل وممارساته وتعدياته في القدس.
وعرف عنه، قدرته على مخاطبة وسائل العلم والرأي العام، بلغة واضحة وبسيطة، يوصل من خللها
الرسالة التي يريد المر الذي سبب انزعاجا للصهاينة.
عام ثمانية وستين، فضح العلمي الكثير من إجراءات الصهاينة في القدس، وأعلن أن قرارات الستملك
التي أصدروها آنذاك سوف تخلف خمسة عشر ألف فلسطيني دون مأوى وتزيد في عدد اللجئين، وقاد
عام أربعة وسبعين حملة للتنبيه إلى خطر الحفريات التي يجريها الصهاينة في القدس على المسجد
القصى، والمقدسات السلمية في المدينة عموما.
لكنه لم يكن يكتفي بالعلن والحديث، بل كان يشارك في التصدي لمحاولت الصهاينة تدنيس الحرم
القدسي كما حدث عام ستة وثمانين، عندما وقف مع جموع المصلين في وجه أعضاء كنيست صهاينة
اقتحموا ساحة الحرم، وعمل على إخراجهم من المكان وقال يومها: المساجد مساجدنا ويجب أل يكونوا
هنا.
أثار الصهاينة ضجة كبيرة في تلك الونة، إذ تزايدت مطالباتهم بدخول الحرم، ولكن الشيخ العلمي أكد
أنه لن يسمح لي يهودي بدخول المسجد الحرام وإنه سيتصدى لتلك المحاولت، مطالبا العرب
والمسلمين بالتحرك الجدي، والعمل الحقيقي بعيدا عن الستنكارات والتنديد، حيث ل يفل الحديد إل
الحديد.
اعتقد الصهاينة أن قيامهم بالعتداء على الشيخ العلمي، سوف يثنيه عن مواقفه، ويدفعه إلى التراجع،
لكن ما حدث كان العكس، فقد ثابر الشيخ على مواقفه وكشف عن أن الرهابي مائير كهانا، بعث إليه
برسالة يهدد فيها بأنه سيهدم قبة الصخرة، وأنه قال للشيخ العلمي في تلك الرسالة: إما أن تبيعني
القصى أو سأغتالك.
الشيخ العلمي تعرض لعدة محاولت اغتيال، فقد جرى في وقت سابق حرق سيارته، كما أضرم
الصهاينة النار في بيته، وهاجمه مرة ضابط صهيوني محاول ضربه، فالتف المواطنون حوله لحمايته.
ظل العلمي على مواقفه، حتى وافته المنية في القدس وهو يتطلع إلى النتفاضة الفلسطينية بأن تنجز
تحرير القصى من قبضة المعتدين.
النتفاضة الشعبية الولى 1987
عندما اندلعت النتفاضة الشعبية الفلسطينية، في كانون الول من عام سبعة وثمانين، في مدن الضفة
والقطاع، قال رئيس البلدية الصهيونية في القدس، تيدي كوليك: "إن الفلسطينيين في القدس لن يشاركوا
في النتفاضة. وإن طريقته البوية في الحكم ستبرهن أنها أفضل الطرق".
بعد عشرة أيام من هذا التصريح، قال كوليك وهو يرى النتفاضة تمتد لتشعل القدس: "إن المدينة لم تعد
موحدة، وقد انتهى التعايش بين اليهود والعرب إلى غير رجعة".
اشتعلت النتفاضة في القدس، فانضمت زهرة المدائن إلى المدن الفلسطينية الخرى حيث شهدت وتائر
متقدمة من فعاليات النتفاضة الفلسطينية وفي مطلع عام ثمانية وثمانين، وزعت لول مرة في أحياء
القدس الشرقية والشمالية، منشورات بتوقيع اللجنة الشعبية للعصيان المدني وتضمن كل منشور سبعة
عشر بندا يدعو كل منها إلى نوع مختلف من وسائل المقاطعة ورفض النصياع والعصيان.
دعت المنشورات موظفي الدارة إلى الستقالة من مناصبهم، ومقاطعة المنتجات الصهيونية، وعدم دفع
الضرائب، وعدم احترام أوامر حظر التجول، وعدم السماح لفراد الشرطة بدخول المنازل.
لقيت الدعوة استجابة واسعة في المدينة، وشن الصهاينة حملت اعتقال ومداهمة واسعة النطاق شملت
خصوصا المؤسسات والمحال التجارية، واعتقل الصهاينة عددا من الشخصيات المقدسية التي دعت إلى
العصيان.
واعتدى الصهاينة على المقدسات السلمية في المدينة، وإزاء تصاعد القمع الصهيوني، انطلقت
تظاهرة فلسطينية حاشدة ضمت نحو سبعة آلف مواطن فلسطيني من سكان جبل المكبر وصور وباهر
متجهة إلى حي "أرمون هنتسيف" الستيطاني.
المتظاهرون اصطدموا بشرطة الحتلل، في مجابهات لم تشهدها مدينة القدس من قبل، وقد استدعت
شرطة العدو اللف من أفراد الشرطة في محاولة للسيطرة على الجماهير الفلسطينية الغاضبة،
والوضاع المتفجرة في المدينة.
عام تسعة وثمانين، اتخذ الصهاينة خطوة إضافية في سعيهم لتهويد القصى حيث أصدر المستشار
القضائي للحكومة الصهيونية قرارا يقضي باعتبار المسجد القصى ضمن حدود مدينة القدس، وتحت
تصرف بلديتها.
الهيئة السلمية العليا دعت إلى مواجهة القرار الصهيوني الجديد، فاشتدت وتائر النتفاضة في مدينة
القدس، وحاول الصهاينة الحد من تزايد المقاومة في المدينة باقتراف مجازر بشعة فيها، فارتكبوا
مجزرة مروعة في سلوان في حزيران من عام تسعين، أسفرت عن سقوط ثلثة شهداء وعشرات
الجرحى.
لقت القوات الصهيونية مقاومة عنيفة من أهالي البلدة الذين هاجموا مركز شرطة الحتلل وحطموه،
واضطرت قوات الحتلل إلى استدعاء تعزيزات كبيرة للسيطرة على البلدة، ثم اقترف الصهاينة مجزرة
بشعة في الحرم القدسي الشريف في العام نفسه، أسفرت عن سقوط اثنين وعشرين شهيدا وعشرات
الجرحى.
اندلعت النتفاضة في القدس، بشكل فاجأ الصهاينة فهي بدأت في المدينة، في اليوم الذي فرض فيه
الصهاينة إجراءات أمنية مشددة جدا بسبب زيارة كان يقوم بها الرئيس اليطالي فرنشيسكو كوسيجا إلى
البلدة القديمة.
ومما فاجأ الصهاينة أن فعاليات النتفاضة انطلقت في توقيت واحد، ولكن في أماكن متعددة متباعدة، ما
أربك الصهاينة الذين حاولوا جهدهم تأمين زيارة الرئيس اليطالي، ولكن في اليام التالية، كان عليهم
مواجهة انتفاضة متصاعدة في مختلف أنحاء المدينة وقراها، وعجزت قوات الحتلل في أوقات كثيرة
عن احتلل قرى أصبحت بمثابة المحررة حول القدس.
ابتكر المقدسيون حرب السكاكين في مواجهة الصهاينة، وكذلك حرب الحرائق، وتميزت القدس
بالضرابات التجارية المتكررة.
كما أنها كانت المركز العلمي للنتفاضة، رغم أن الصهاينة شنوا حملت قمعية ضد الصحافيين
والمكاتب الصحفية في المدينة، التي واصلت عمليها في نقل صورة النتفاضة إلى العالم، ونقل فظائع
الصهاينة..
وخلل ثلث سنوات من النتفاضة، أحرق المقدسيون ستمائة سيارة وثمانين حافلة للمستوطنين
الصهاينة كما هاجموا ألفا وخمسمائة وأربعين حافلة، وتمكنوا من قتل ثلثة عشر صهيونيا، وإصابة
أربعمائة وتسعين بجروح. وقدمت القدس في الوقت نفسه اثنين وسبعين شهيدا ومئات من الجرحى،
فضل عن آلف المعتقلين، ارتفعت هذه الرقام في السنوات اللحقة وأثبت المقدسيون أن ما يتحدث به
الصهاينة عن قدس موحدة، هو وهم بوهم.
الدعوات لهدم المسجد القصى
يقول كثير من المسئولين الصهاينة، أن جيشهم أخطأ حين لم يستغل ظروف الحرب عام سبعة وستين،
ويقوم بتدمير المسجد القصى وقبة الصخرة.
وإذا كان الصهاينة في الواقع لم يوفروا طريقة إل واعتمدوها للتسبب بانهيار المسجد القصى ومن ذلك
المحاولت بنسفه، فإن الدعوات والتحرك لتحقيق هذا الهدف لم تتوقف أيضا.
عام سبعة وستين، وفي اليوم الرابع لعدوان حزيران جرى تعطيل صلة الجمعة في الحرم القدسي لول
مرة منذ تحريرها من الحتلل الفرنجي، عام سبعة وثمانين ومائة وألف.
كان هذا التعطيل مؤشرا لما سيقوم به الصهاينة لحقا، أو ما ينوون القيام به، ففي آب من العام نفسه،
دخل البريجادير شلومو غورين، حاخام جيش الحرب الصهيوني، ساحة الحرم الشريف، وأقام صلوات
مع أتباعه وجنوده هناك، وأعلن أنه سوف يبني كنيسا في المكان، وهو ما استبطن دعوة لهدم القصى
عاد وكررها على النحو نفسه، نائب رئيس الحكومة الصهيونية الجنرال إيغال آلون عام تسعة وستين
ومن داخل ساحات الحرم الشريف.
تكررت مثل هذه الدعوات على نحو متواتر، وعام سبعة وسبعين، ادعى الحاخام الكبر في الكيان
الصهيوني، اسحق نسيم، أن ما سماه حائط المبكى الصغير يقع داخل رباط الكرد، وأن الكشف عنه
واجب ديني كبير.
وتحدث يومها عن ضرورة هدم كل المباني التي تحول دون الكشف عن الحائط المذكور، حيث قال:
"نريد تنظيف المنطقة من جميع المباني التي ألصقت بقصد، وبإقرار رؤساء الدين المسلمين المتعاقبين.
حدثت حفريات ضارة جدا في المكان الذي حدده نسيم، ولجعل الضرر دائما ومؤثرا على المدى البعد
ببنيان المسجد القصى، تقدم أعضاء كنيست صهاينة بطلبات متلحقة لفرض حظر على أعمال البناء
والترميم في الحرم بمسجديه، وهو ما استخدم وسيلة لتدنيس المسجد عبر اقتحامات متكررة للجان
الفحص والتحقق من طبيعة عمليات الترميم والصلح التي تقوم بها الوقاف السلمية.
مع مطلع عام ثلثة وثمانين، اتخذت الدعوات الصهيونية شكل العدوان المسلح والمباشر والعلني، حيث
قام ستة عشر مسلحا صهيونيا بدخول الحرم، وهددوا بنسفه بمتفجرات يحملونها، إذا لم يسمح لهم
بإقامة مركز للدراسات الدينية في المسجد القصى.
وما أن وصفت حكومة الحتلل هذا المر بأنه سلوك متطرفين، حتى صرخ حاخام صهيوني وبصراحة
"أن اليهود سوف يواصلون جهودهم ويعملون من أجل هدم المسجد القصى".
بعد أشهر قليلة على هذا التصريح، حظرت سلطات الحتلل على المسلمين أداء الصلة في مساحات
واسعة من مساحات المسجد القصى والحرم القدسي، بدعوى السماح لليهود بأداء صلواتهم في تلك
الجزاء. وكانت هذه محاولة جديدة لفرض تقاسم في الحرم القدسي يمثل خطوة أولى لتقويضه بعد
تقاسمه.
دافع المقدسيون ببسالة عن مسجدهم وأفشلوا المحاولة الصهيونية الجديدة التي جاءت من ضمن
محاولت متعاقبة.
شهد عام ستة وثمانين، تصعيدا كبيرا في العدوان الصهيوني على الحرم القدسي بمسجديه، ففي مطلع
العام، أعلن الحاخام الرئيسي الشرقي مردخاي الياهو، أنه مازال مصرا على وجوب إقامة كنيس يهودي
في الزاوية الجنوبية الشرقية من الحرم الشريف خلف المسجد القصى، ويبدو أن خلفات داخل
الحاخامية، عوقت الشروع في تنفيذ هذا العدوان، إذ أعلن حاخامون آخرون أنه يحظر على اليهود
دخول المكان حتى عودة المسيح المنتظر.
لكن الحكومة الصهيونية، وإزاء تصدي المسلمين لمحاولت صهاينة اقتحام الحرم، أعلنت وعلى لسان
رئيسها آنذاك شمعون بيريز، "أن الحرم يخضع للسيادة )السرائيلية(" وأن هذا المر ليس بحاجة إلى
اختبار أو برهان إضافي.
بعد أيام من هذا التصريح حاول المستوطنون اقتحام ساحات الحرم، وهم يحملون لفتات: جبل الهيكل
لنا، اخرجوا العرب، واتخذ مجلس بلدية القدس الصهيوني قرارا بفرض سيادة الكيان على الحرم
القدسي واعتبارها من قبيل تحصيل الحاصل.
هدأت محاولت المستوطنين لبعض الوقت بعد التصدي الكبير الذي أبداه المقدسيون لمحاولتهم، ثم
قاموا بتحريك كبير في حزيران من عام ستة وثمانين، كان شعاره: تذكير الحكومة بأن استمرار سيطرة
المسلمين على الحرم وبقاؤهم فيه أمر ل يمكن السكوت عنه.
وتكررت في السنوات اللحقة الدعوات المباشرة لهدم المسجد، لسيما بعد قرار للكنيست باعتماد حائط
البراق موقعا دينيا له مكانة كنيس يهودي.
وتجددت الدعوات عام تسعة وتسعين لتقاسم الحرم القدسي، وعام ألفين وواحد قدمت لجنة صهيونية،
خطة للرهابي شارون، لبناء كنيس يهودي داخل الحرم القدسي، وقال معد الخطة إنه تلقى المر بذلك
من الحاخام )إسرائيل أرئيل( رئيس معهد الهيكل.
الصحافة العربية في القدس
ظهرت أولى الصحف في القدس عام ألف وثمانمائة وستة وسبعين، حين أصدرت الحكومة العثمانية
جريدتين رسميتين هما القدس الشريف، باللغة العربية وبالتركية، والغزال باللغة العربية فقط، وتولى
تحرير القسم العربي الشيخ علي الريماوي.
لم تصدر الصحيفتان بانتظام لسباب عديدة، وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية، ولدت الصحافة
الفلسطينية المحلية مع انتشار المطابع، وإعلن الدستور العثماني الذي نص على جواز إصدار الصحف،
وأطلق بعض الحريات، فصدرت في القدس اثنتا عشرة صحيفة ومجلة، اضطلعت السياسة منها بدور
هام في كشف أهداف الحركة الصهيونية لتهويد فلسطين، وقامت بحملت مكثفة ضد الهجرة الصهيونية
والستيلء على الراضي العربية.
من أبرز الصحف التي صدرت في القدس تلك السنة: الصمعي، القدس، والنصاف والنجاح والنفير.
ثم صدرت عام ألف وتسعمائة واثني عشر، المنادي التي أسسها سعيد جار ال، ومحمد موسى المغربي،
وأصدر المغربي لحقا مجلة المنهل الدبية.
في مطلع الحرب العالمية الولى عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، توقفت جميع الصحف الفلسطينية،
لتعاود الصدور بعد الحتلل البريطاني لفلسطين. ولتشهد انتشارا واسعا وارتفاعا كبيرا في عدد الصحف
والمجلت، رغم أن معظمها كان يعيش حياة قصيرة، بسبب الظروف القتصادية السيئة التي عاشتها
البلد.
سنة تسع عشرة وتسعمائة وألف، أصدر عارف العارف صحيفة "سورية الجنوبية" في القدس، بالتعاون
مع محمد حسن البديري، وأسس بولس شحادة جريدة مرآة الشرق.
كانت معظم الصحف السياسية في العشرينيات إما مؤيدة لكتلة الحاج أمين الحسيني )المجلسين( وإما
لكتلة راغب النشاشيبي )المعارضين( والقليل منها كان مستقل.
أهم صحف المجلسين، هي القصى والصباح التي كانت تنطق بلسان اللجان التنفيذية للمؤتمر العربي
الفلسطيني، وجريدة الجامعة العربية التي حررها منيف الحسيني وطاهر الفتياني، وكانت الجريدة
الرسمية للمجلسين، واستمرت لتصبح لسان حال الحزب العربي الفلسطيني في الثلثينيات. وكانت
سياسة هذه الصحف الطعن في النتداب البريطاني، والمطالبة بإلغاء وعد بلفور، والوطن القومي
لليهود.
وأهم صحف المعارضين، مرآة الشرق، وفلسطين، التي أصبحت جريدة الكتلة الرسمية، واستمرت لتكون
جريدة حزب الدفاع في الثلثينيات، وكانت صحف: القدس الشريف لحسن صدقي الدجاني، والنفير
مؤيدة للكتلة التي تطالب بإلغاء وعد بلفور، لكنها دعت إلى التعاون مع سلطات النتداب.
شهدت الثلثينيات ظهور الصحافة الحزبية، في القدس وغيرها، كما استمر صدور المجلت الدبية وكان
أشهرها في القدس: الروايات العربية. كما صدرت صحافة اقتصادية.
توقفت هذه الصحف جميعا في الحرب العالمية الثانية، ثم عادت للصدور لتتوقف ثانية مع حلول النكبة.
صارت القدس بعد النكبة تحت الحكم الردني وفها صدرت صحيفتا الدفاع وفلسطين، ثم الشعب
والمساء، كما صدرت الجهاد لسليم الشريف، والمنار لكامل الشريف والقدس، ثم البلد لبندلي داوود
العيسى.
مطلع عام سبعة وستين، صدر قانون جديد للمطبوعات في الردن، جرى بموجبه دمج العديد من
الصحف بعضها في البعض الخر. فحلت جريدة القدس محل الدفاع والجهاد.
وبرزت في هذه الفترة مجلة الهدف السبوعية لبرهان الدجاني ثم ليحيى حمودة، وعالجت موضوعات
سياسية و أدبية مركزة على الحفاظ على الشخصية الفلسطينية.
بعد الحتلل توقفت الصحف، ولكن الصهاينة، ولليهام بوجود الديمقراطية، شجعت الصحف على
معاودة الصدور، فعادت القدس إلى الصدور سنة ثمان وستين، والشعب سنة اثنين وسبعين، وصوت
الجماهير سنة ثلث وسبعين.
كما صدرت صحيفة الفجر عام واحد وسبعين وأصدر الصهاينة صحيفة يومية ناطقة باسمهم هي النباء
قاطعها الفلسطينيون فتوقفت عن الصدور.
أخضع الصهاينة الصحف العربية لرقابة صارمة، حيث كانت تخضع للرقيب العسكري.
كانت هذه الصحف تواجه مصاعب مالية أيضا، وخصصت لها أموال من لجنة دعم الصمود، لكن
معظمها توقف، واستمرت القدس فقط في الصدور حتى الن، بعد أن صدرت النهار لفترة ثم توقفت،
وكانت الصحف تواجه مصاعب أثناء النتفاضة الولى، جراء سياسة المصادرة وسحب التراخيص،
والمنع من الصدور.
إلى جانب الصحافة اليومية، ظهرت العديد من المجلت الدبية و السياسية و الفكرية، وأخرى
متخصصة.
وبعد قيام السلطة الفلسطينية، صدرت في الضفة صحيفتان يوميتان هما: الحياة الجديدة، واليام.
الكلية العربية في القدس
الكلية العربية في القدس.. هي أعلى المؤسسات التربوية الحكومية التي تم إنشاؤها خلل فترة الحكم
البريطاني.
تأسست في القدس عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر، وعرفت بدار المعلمين، لن غايتها كانت إعداد
المعلمين للعمل في المدارس البتدائية، وبعض الصفوف الثانوية.
ويذكر وليد راغب الخالدي، أنه تم وضع أساس مدرسة المعلمين في زمن الدارة العسكرية البريطانية
التي سبقت تحقيق حكومة النتداب، بواسطة ضباط عسكريين إنكليز، استعانوا بنخبة من الساتذة
المصريين وهم الذين وضعوا البذور الساسية للمشروع الذي عين له المربي خليل السكاكيني، أول
مدير معروف له، في أيلول من عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر.
ورغم مكانة السكاكيني كمربي، له فضل، إل أن الكلية نمت وتطورت، بوجود مديرها: أحمد سامح
الخالدي، أحد رجالت فلسطين المشهورين، والذي أعطى الكلية طابعا عربيا، بعيدا عن خدمة أهداف
السياسات النكليزية من وراء إنشائها. وتشير مصادر متعددة إلى أن الصداقة التي ربطت الخالدي،
بمدير المعارف في فلسطين، اليرلندي "جيروم فرل" كان لها أثر بالغ في النهوض بالكلية، مستفيدا من
حب فرل لفلسطين، وانعدام ميله لليهود.
، تولى الخالدي إدارة الكلية، وكانت ل تزال تعرف بدار المعلمين خلفا لسلفه خليل طوطح سنة 1925
الذي اتهمته سلطات النتداب بالعجز عن ضبط الطلب الذين قاموا بإضراب في ذكرى وعد بلفور.
وسنة ألف وتسعمائة وثمان وعشرين أصبحت الدار تحمل اسم " الكلية العربية الحكومية" وتحت إدارة
الخالدي الحازمة والعلمية تحولت إلى واحدة من أهم المؤسسات التعليمية، ليس في فلسطين وحسب، بل
في الوطن العربي حتى عام 1948 ، وكانت ذروة نظام التعليم العربي في فلسطين في الفترة من عام
ألف وتسعمائة وعشرين، حتى عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.
وإلى نظامها التعليمي المتميز، فإن طريقة اختيار الطلب، كانت ميزة أخرى لهذه المؤسسة.
نشأ نظام اختيار الطلب حسب ما يوضح وليد راغب الخالدي، من الجابة على سؤال: كيف يمكن أن
ينفق المال المخصص للتعليم لدى العرب على أحسن وجه، خصوصا وهو قليل، كما أن اليهود يزاحمون
عليه؟
في الجابة على السؤال وضعت إدارة المعارف مبدأ مهما جدا هو: "أن المال يجب أن ينفق على من هم
أهل للتعليم، ل فارق في ذلك بين غني وفقير، ول بين قروي ومدني".
هذا المبدأ يعني أن ينفق المال على الذكياء من الولد، ممن يتفوقون على غيرهم في تحصيل العلم.
يختارون، على أساس أفضل طالبين أو ثلثة ممن أنهوا الصف الثاني الثانوي في كل _ وهكذا كان طلبها
مدرسة حكومية بفلسطين، أي النخبة بين الطلب العرب في كل أنحاء فلسطين.
وفي الكلية يكمل الطالب دراسته الثانوية، ثم يتقدم لمتحان" المترك" الفلسطيني، وقد يقضي الطالب في
بعض أحوال خاصة سنة أخرى في صف تدريب المعلمين.
سنة ألف وتسعمائة وأربعة و ثلثين، انتقلت الكلية من مقرها المستأجر في حي باب الساهرة، إلى مبنى
جعل لها شعار، هو صقر عربي _ خاص بها على جبل المكبر إلى الجنوب الشرقي من مدينة القدس و
موشح باللوان الرئيسية الثلثة للعلم الفلسطيني.
لم يكن هذا النتقال، مجرد تغيير في المكان وحسب، بل عنى طورا جديدا في عمل الكلية، وبداية مرحلة
جديدة في التعليم عند العرب للتعليم الجامعي، ثم للتدريب على التعليم في المدارس الثانوية الولى.
في عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلثين أضيف إلى صفوف الكلية، الصف السادس الثانوي، حتى إذا
أنهى الطالب دراسته فيه، حصل على شهادة " النترميديت" في الداب أو العلوم بالضافة إلى دبلوم
التربية والتعليم النظري والعملي.
كان جميع طلب الكلية في الصفين الخامس والسادس الثانويين، يقدمون في نهاية المرحلة امتحانين،
أحدهما لنيل دبلوم الكلية العربية الذي يؤهلهم للتعليم، والثاني أكاديمي لنيل شهادة " النترميديت".
ويشترك طلب الفرعين العلمي والدبي في دراسة اللغتين العربية والنكليزية، عند تحضير
"النترميديت" فيما يختص طلب الفرع العلمي بدراسة الرياضيات بفروعها والكيمياء والفيزياء، في حين
يختص طلب القسم الدبي بدراسة الفلسفة والمنطق واللغة اللتينية أو اليونانية.
وكان الطلب يقومون بالتطبيق للدروس العملية في المدرسة العمرية في القدس.
شرعت الكلية قبيل النكبة في التحضير لمنح شهادة البكالوريوس الفلسطيني، إذ أن طلبها كانوا
يتوجهون لمتابعة التعليم في جامعات خارج فلسطين بشهادة المترك التي تؤهلهم لدخول الصف الول
الجامعي حسب النظام البريطاني، والثاني الجامعي حسب النظام الميركي، وكانت شهادة النترميديت
تعادل الصف الثاني الجامعي، ولكن وقوع النكبة أحبط الكلية، التي توقفت عن العمل مع انتهاء النتداب
البريطاني، ووقوع نكبة فلسطين.
امتازت الكلية بمكتبتها القيمة التي ضمت عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين نحو سبعة آلف كتاب.
إلى ذلك، فقد ارتبطت أسماء الكثير من المشاهير ورجال الفكر بهذه الكلية، فمن الذين علموا فيها:
اسحق موسى الحسيني، جميل علي، درويش المقدادي، سليم كاتول، عبد الرحمن بشناق، علي حسن
عودة، محمود الغول، مصطفى مراد الدباغ، معروف الرصافي، نقول زيادة، وصفي العنبتاوي، أحمد
طوقان، ضياء الدين الخطيب، وجورج خميس.
ومن طلبها الذين كانت لهم مساهمات فكرية وأدبية: نقول زيادة، أحمد سعيدان، إحسان عباس، أنيس
القاسم، توفيق صايغ، جبرا إبراهيم جبرا، خيري حماد، ذوقان الهنداوي، عبد اللطيف الطيباوي، عبد
ال الريحاوي، عرفان قعوار، محمد يوسف نجم، ناصر الدين السد، هاشم وعبد الرحمن ياغي.
ومن الذين آثروا في مجالت اخرى:
أسعد نصر، سالم خميس، منير صايغ، موسى بشوتي، قاسم حمد، عبد الرزاق اليحيى.
ويجدر القول مع وليد راغب الخالدي، أن خريجي المدرسة، قد صنعوا بعد النكبة، وبكفاحهم سدا منيعا
أمام العاصير التي واجهت الشعب الفلسطيني، وأسهموا إسهاما كبيرا في حفظ هويته.
الكلية التي تبلغ مساحتها سبعة وأربعين دونما وثلثة أرباع الدونم في جبل المكبر بالقدس، هي تحت
سيطرة الحتلل الصهيوني الن.
وتوجد لجنة تربوية فلسطينية، تعمل بإشراف بيت الشرق الفلسطيني، ومكونة من أساتذة وخريجي
الكلية العربية الصليين برئاسة سميح دروزه.
هذه اللجنة مكلفة على الصعيد الوطني المشاركة في استعادة أرض الكلية، ومن ثم تشغيلها
للفلسطينيين.
تحظى اللجنة بدعم طيف واسع من الممولين الفلسطينيين، وفي مقدمتهم عبد المجيد شومان، الذي
اشترط على ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، استعادة الموقع.
منذ أكثر من نصف قرن توقفت الكلية العربية، هذا الصرح التعليمي الكبير عن العمل، ومازال الكثيرون
من خريجيها يقدمون إسهامات كبيرة في الواقع الفلسطيني، ويحنون إلى عودتها، كي تكون محضنا
لجيال جديدة من الشعب الفلسطيني، الذي ل يزال يقاوم غزاة استهدفوا وجوده منذ البداية.
المنظمات المريكية لبناء الهيكل
حظيت المحاولت اليهودية لعادة بناء الهيكل المزعوم، بدعم جماعات الصهيونية المسيحية، كما تبنت
بعض هذه الجماعات، الدعوة إلى بناء الهيكل بما يفوق تطلع بعض التجاهات اليهودية إلى هذا المر.
عام ثمانية وثلثين وثمانمائة وألف، قام المبشر النكليزي نيكوليسون، بشراء قطعة ارض على جبل
الزيتون، بغية بناء هيكل انكليكاني في المكان.
ودعم البريطانيون المتحمسون للمشروع الصهيوني توجهات اليهود الصهاينة الداعية إلى هدم المسجد
القصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، غير أن أكثر التحركات كثافة في هذا التجاه، إنما جاءت من
الصهاينة المسيحيين في الوليات المتحدة، حيث يسيطر اتجاه أصولي يربط بين دعم المشروع
الصهيوني في فلسطين، ومجيء المخلص.
عام سبعة وستين قدمت مؤسسة ماسونية أمريكية طلبا لمحكمة الستئناف الشرعية السلمية، من أجل
الموافقة على بناء الهيكل في منطقة الحرم بكلفة مئة مليون دولر.
وفي اليوم التالي، تقدم مواطن أمريكي يدعى " غرايدي تيدي" بعرض للمجلس البلدي في القدس، لجمع
مئة مليون دولر من أمريكا لبناء هيكل سليمان إلى جانب مسجد قبة الصخرة.
وعام ثلثة وثمانين وتسعمائة وألف، أعلن في الكيان الصهيوني وفي الوليات المتحدة المريكية عن
تشكيل حركة تطلق على نفسها اسم: كيرن هارهابيت ومهمتها إعادة بناء الهيكل في موقع المسجد
القصى المبارك.
وبدأ في الوقت نفسه أمريكيون يهود حملة تمويل لبناء الهيكل. فيما كشف الشيخ سعد الدين العلمي،
مفتي القدس، في وقت لحق، عن أن طوائف يهودية متعصبة تساندها جمعيات مسيحية أمريكية تخطط
وتمهد لنسف المسجد القصى وقبة الصخرة.
ليست كيرن هارهيبت، سوى واحدة من المنظمات المريكية العاملة من أجل بناء الهيكل، فهناك جماعة
تطلق على نفسها اسم: المخلصون للهيكل، وجماعة أخرى تسمي نفسها " حركة مخلصي الهيكل" ولها
فروع في الوليات المتحدة المريكية، وفي فلسطين المحتلة، وقد أعدت تصاميم كاملة للبناء المفترض،
وتجمع بشكل متواصل التبرعات لجل تنفيذ المشروع.
وتتحرك على نطاق واسع، منظمة تسمي نفسها" مؤسسة الهيكل" وهي أعلنت في واشنطن سنة ست
وتسعين وتسعمائة و ألف، عن أنها جمعت ما يكفي من الموال، من مواطنين أمريكيين وكنديين، كي
تشرع في بناء الهيكل، وهي لم توضح، فيما إذا كانت قد جمعت هذه الموال من اليهود أم من غير
اليهود.
ل تكمن خطورة هذه الجماعات والمنظمات في الدعوات المستمرة لبناء الهيكل، ول في جمع الموال
لهذه الغاية وحسب، لكن أيضا في ما تخطط له وتقوم به من محاولت لنسف المسجد القصى أو إلحاق
الضرر البالغ به، على غرار ما قام به السترالي مايكل روهان من إحراق المسجد سنة تسع وستين،
ففي عام ثلثة وثمانين حاول الفرنسي البروتستانتي دان بيري نسف المسجد القصى، وهو أعلن أنه
مصر على تحقيق هذا الهدف.. وعلى غرار مائير كهانا يقول بيري إن القوات )السرائيلية( أخطأت
حين لم تهدم المساجد على جبل الهيكل سنة سبع وستين، وتقوم بتسليم حجارتها إلى العرب.
وعام ثمانية وتسعين، حذر الباحث في معهد القدس للبحاث " أمنون رامون" من قيام جماعات مسيحية
متطرفة بهدم مسجدي الحرم في الذكرى اللفية لميلد المسيح.
وقال رامون: "إن هؤلء أناس يؤمنون أن شروط عودة المسيح، هي إقامة مملكة يهودا وبناء الهيكل،
لذا فهم على استعداد لمساعدة الشعب اليهودي على هدم المساجد في الحرم القدسي".
يتحدث بعض أعضاء هذه الجماعات ومنهم أستاذ الفيزياء" أشير كوفمان" عن أنه أعد مخططا متكامل
لبناء الهيكل دون المس بالمساجد، وعندما سئل عن كيفية تحقيق ذلك، قال: إن المشروع قابل للتنفيذ
لن هذه إرادة ال.
أما دوغلس كرايجر، زعيم مؤسسة الهيكل المريكية فيقول: "إن عودة اليهود إلى جبل الهيكل، هي
جزء من مخطط الهي لن يستطيع المسلمون مقاومته أبدا" على حد قوله.
ويقول الشيخ رائد صلح، رئيس الحركة السلمية في الراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 ، "إن مئة
وعشرين جماعة متطرفة تبذل جهودا حثيثة لبناء الهيكل، من بينها خمس وعشرون منظمة متخصصة
بالعمل لهدم المسجد القصى".
تحت الحكم الردني
بعد حرب ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ونكبة فلسطين استولى الصهاينة على أكثر من ستة وستين
في المائة من المساحة الكلية لمدينة القدس، ولكن البلدة القديمة، وما فيها من مقدسات، وبعض الحياء
الخرى، ظلت بيد العرب، حيث كانت تتواجد في وحدات من الجيش العربي الردني، ورسمت اتفاقيات
خطوطا فاصلة بين الجانبين.
بعد مؤتمري عمان وأريحا التي ضمت بموجبها الضفة الغربية إلى المملكة الردنية، أصبحت القدس
العاصمة الروحية للردن ومركزا لمحافظة القدس.
أطلق على هذا الجزء من القدس اسم العربية، وسماها البعض القدس الشرقية، وقد اتخذت الحكومة
الردنية قرارا بعقد جلسات للحكومة فيها لتكريسها عاصمة، والحفاظ على عروبتها، بيد أن تنفيذ هذا
القرار لم يأخذ طابعا منتظما، وظل النشاط الحكومي متمركزا في العاصمة عمان، مع القيام بنشاطات
حكومية في القدس، على غرار قيام الملك حسين يترأس اجتماع للحكومة الردنية عقد في القدس سنة
ثلث وخمسين تأكيدا لتصريحاته باعتبار القدس العاصمة الثانية للردن.
وقيامه بعد ذلك بسنتين لزيارة المدينة، ولقاءه مع عدد كبير من شخصياتها في فندق المبسادور،
وترأسه اجتماعا آخر للحكومة.
وفي عام تسعة وخمسين، قام حسين بافتتاح دار الذاعة في المدينة المقدسة، وترأس أيضا اجتماعا
للحكومة فيها، وتكرر في العام التالي.
في أوسط ستينيات القرن الماضي، بدأ التفكير العربي يتجه نحو جعل القدس مقرا لجتماعات إتحادات
ومنظمات قومية، وبالفعل فقد عقد الطباء العرب مؤتمرا لهم في المدينة سنة تسعة وأربعين ثم عقد
المحامون مؤتمرهم العام الثاني في القدس أيضا تلهم الصيادلة العرب في العام التالي، وأعلن الدكتور
محمد مطاوع، رئيس مؤتمر الصيادلة عن اتخاذ القدس مدينة للمؤتمرات العربية لقدسيتها، ولتقوية
الدفاع عن عروبتها.
اعتبرت الحكومة الردنية القدس واحدة من المحافظات التي تشكل الممكلة الردنية الهاشمية وتكن على
غرار عمان، تم تشكيل أمانة للمدينة إلى جانب البلدية، وذلك لبراز مكانتها الموازية للعاصمة.
وجرى إيلء الوقاف وتنظيمها اهتماما خاصا يتناسب مع طبيعة الوقاف السلمية الموجودة في
القدس. كما أولت الحكومة اهتماما في عمليات إصلح وترميم الحرم القدسي، بمسجديه القصى وقبة
الصخرة.
بعد قيام الصهاينة باحتلل القدس سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، اعتبر الردن القدس مثل باقي
مدن الضفة الغربية، من ضمن الراضي الردنية المحتلة، كما اعتبر أنه المسئول عن الراضي، مع
إشارات بين الفينة والخرى، إلى أن القدس سوف تكون عاصمة القطر الفلسطيني، على غرار
تصريحات الملك حسين عام اثنين وسبعين، بيد أن الردن، قد تحفظ على القرار الماضي باعتبار منظمة
التحرير ممثل شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني سنة ثلثة وسبعين، ثم أزيل هذا التحفظ لحقا.
ومع اندلع النتفاضة الشعبية أعلن الردن عن فك الروابط القانونية والدارية مع الضفة الفلسطينية،
باستثناء الوقاف السلمية، والشراف على المقدسات ما عنى تمسكا بإبقاء الروابط مع القدس.
وعند توقيع معاهدة وادي عربة مع الصهاينة أصر الردن على تضمينها فقرة تنص على تولي الردن
رعاية الماكن المقدسة في المدينة، ما أثار تحفظا فلسطينيا، رد الردن عليه باستعداده نقل الوصاية
الردنية إلى السلطة الفلسطينية، عندما يتوصل الطرفان الفلسطيني والصهيوني إلى اتفاق نهائي حول
المدينة وفي وقت من الوقات عين الردن مفتيا للقدس كما عينت السلطة مفتيا آخر إلى أن بدأت
الحكومة الردنية تفك ارتباطها تدريجيا بالوقاف السلمية في المدينة.
تدنيس الحرم القدسي
بدأ الصهاينة عدوانهم على الحرم القدسي عام سبعة وستين باستهداف حائط البراق وسرعان ما نقلوا
هذا العدوان إلى الحرم القدسي مستهدفين اقتحامه عشرات المرات، والتي كانت أولها في آب من عام
سبعة وستين عندما وقعت مواجهات عنيفة بين الشبان المقدسيين وقوات الحتلل بسبب دخول
صهيونيات إلى الحرم بصورة خليعة.
عقب هذه الحادثة وضعت الحاخامية اليهودية إشارات خارج منطقة الحرم، تحدد المناطق التي يحظر
على اليهود دخولها وفق تعاليم الشريعة اليهودية، لكن الصهاينة تخطوا باستمرار هذه الحدود لن
هدفهم هو السيطرة على الحرم، وقام الحاخام شلومو غورين بقيادة مجموعة من الجنود إلى داخل
الحرم وأداء الصلوات هناك مع النفخ بالبوق والرقص.
مع تصاعد الحتجاجات والعتراضات الفلسطينية، ظهرت أصوات في الوساط الصهيونية تذكر بالحظر
على اليهود دخول منطقة الحرم لسباب تتعلق بالشريعة اليهودية، ولكن زعماء صهاينة منهم موشيه
دايان قادوا جموعا يهودية في عملية اقتحام للحرم القدسي سنة تسع وستين.
بعد ذلك تولت جماعات صهيونية مثل "بيتار وغوش ايمونيم وكاخ وأستاذ جبل الهيكل" عمليات القتحام
للحرم القدسي، وقاد تحركات بعض هذه الجماعات أعضاء كنيست صهاينة.
حدثت محاولت اقتحام الحرم على فترات متباعدة حتى النصف الثاني من السبعينات، عندما أعلنت دوث
أود، وهي قاضية في المحكمة المركزية الصهيونية في القدس أن من حق اليهود آداء صلواتهم داخل
الحرم.
شهدت الفترة من نهاية السبعينات وحتى أواسط الثمانينات، نشاطا مكثفا جدا من محاولت اقتحام
الحرم، والدخول إليه أحيانا، على يد الجماعة المسماة أمناء جيل الهيكل، وعادة ما تصدى المواطنون
الفلسطينيون لهذه المحاولت، وتدخلت الشرطة الصهيونية مطلقة النار عليهم، في حوادث متكررة أسفر
أحدها عام تسعة وسبعين إلى إصابة العشرات من المواطنين الفلسطينيين بالرصاص.
وشهد عاما ثمانين وواحد وثمانين، اشتباكات شبه أسبوعية بين المواطنين الفلسطينيين والصهاينة
الذين يريدون دخول الحرم القدسي الشريف.
واستخدم الصهاينة هذه الفترة، سياسة توجيه رسائل تهديد إلى مسئولين عن الوقف السلمي بالقتل إن
هم استمروا في الحض على منع اليهود من دخول الحرم.
بلغت العتداءات الصهيونية على الحرم عام ستة وثمانين حدا غير مسبوق، بدأه وزير الصناعة
والتجارة في الحكومة الصهيونية، آرئيل شارون، باقتحام ساحة الحرم مع اثنين من مساعديه، وفي
اليوم الثاني قام أعضاء كنيست صهاينة بالدخول إلى الحرم وتصدى لهم المواطنون الفلسطينيون، ما
فجر مواجهات عنيفة مع قوات الحتلل، وأصدر الحاخامون الرئيسيون في الكيان الصهيوني، فتوى
أكدوا فيها أنهم ل يمانعون قيام أعضاء كنيست بدخول منطقة الحرم. كما أصدر شلومو غورين، فتوى
خاصة داعمة لفتوى الحاخامات قال فيها: "انه بسبب سيطرة السماعيليين، ويقصد العرب، الذين
يتصرفون في الحرم وكأنهم في بيوتهم، فإنه يسمح لليهود بدخول المنطقة رغم بعض التحفظات الدينية.
وهكذا شهد العام ستة وثمانين، موجة كبيرة من عمليات اقتحام الحرم، تزعمها بشكل أساسي أعضاء
الكنيست الصهاينة، والذين طالبوا بقرار حكومي يجعل الدخول إلى الحرم مباحا لكل اليهود.
وسقط خلل العام المذكور مئات من الجرحى الفلسطينيين وعدد من الشهداء، وهم يدافعون عن الحرم
القدسي في وجه محاولت النتهاك المتكررة، وسعي شرطة الحتلل لحباط مقاومة المواطنين لتلك
المحاولت.
وفي حادثة واحدة عام سبعة وثمانين، سقط خمسون جريحا فلسطينيا دفعة واحدة في وجه حشود
صهيونية حاولت اقتحام الحرم، وتمكن المقدسيون من حماية الحرم ومنعوا الصهاينة من دخوله.
عام تسعة وثمانين، بدأت شرطة الحتلل تمنح موافقات رسمية للجماعات الصهيونية التي تريد دخول
الحرم، ما عنى أنها مستعدة لحماية دخولهم، ولكن المواطنين استمروا في تصديهم لهذه المحاولت،
حتى أنهم قدموا اثنين وعشرين شهيدا عام تسعين في تصديهم للصهاينة الذين أرادوا انتهاك حرمة
القصى والحرم الشريف.
ومع الوقت استمرت المحاولت، واستمر التصدي وازداد عدد الشهداء.. وفي العام خمسة وتسعين
منحت المحكمة العليا في الكيان الصهيوني موافقات لجماعات يهودية بدخول الحرم، وتكرر المشهد مرة
أخرى من العتداءات والتصدي، حتى أن الشبان أمضوا في أوقات كثيرة من عام خمسة وتسعين الليل
داخل المسجد لحمايته.
عام ستة وتسعين، أصدر المستشار القضائي للحكومة قرارا يسمح بموجبه للصهاينة أداء صلوات داخل
الحرم، وتصدى المقدسيون للمحاولت الجديدة إذ ليس الصهاينة هم من يقرر السماح لحد بالصلة
داخل الحرم.
ومع فشل المحاولت المتكررة في ثني المقدسيين عن تصديهم، عاد الصهاينة إلى الدعوة لتقاسم الحرم،
وجاءت الدعوة المتجددة عام ألفين وواحد على لسان الرهابي موشيه كتساب رئيس الكيان الصهيوني
ومرة أخرى أعلن المقدسيون رفضهم لي تدنيس لحرمة الحرم القدسي الشريف..
ترميم كنيسة القيامة
شهدت كنيسة القيامة العديد من عمليات إعادة البناء والترميم أما بسبب ما خلفته الظروف الطبيعية
على بنائها الصلي، أو بسبب التقادم وعمليات التوسعة غير ذلك.
وغالبا ما اصطدمت عمليات الترميم والتوسعة والضافات، بخلفات الطوائف المسيحية التي تملك
حصصا في الكنيسة، وذلك تأثرا بخلفات كانت تنشأ في أوروبا أساسا، فسنة ألف وثمانمائة واثنين
وخمسين تصاعد الخلف الروسي/الفرنسي حول ما أطلق عليه حماية طائفتي اللتين من قبل فرنسا
والرثوذكس من قبل روسيا، ووقع اصطدام بالصلبان والقنابل بين رهبان الطائفتين، فأصدرت الحكومة
العثمانية فرمانا موجها إلى والي القدس بوجوب المحافظة على ما أطلق عليه الوضع الراهن في كنيسة
القيامة وكانت التوسعات وعمليات التزيين تتم في إطار الوضع الراهن الذي تمتلك فيه كل طائفة حصة
في الكنيسة.
ومنذ بداية القرن الماضي، برزت الحاجة إلى إجراء إصلحات ملحة في الكنيسة، بعد أن تعرضت
لحريق سنة ألف وتسعمائة وثمان، وبعد الزلزال الذي شهدته فلسطين سنة ألف وتسعمائة وسبع
وعشرين.
نصبت السقالت على جدران الكنيسة سنة ألف وتسعمائة وخمس وثلثين، وعطلت خلفات رجال الدين
إتمام الصلحات المطلوبة، فقامت حكومة النتداب البريطاني بإجراء ترميم عاجل خشية انهيار الكنيسة
متجاهلة خلفات الطوائف المسيحية.
ولكن حريقا أخر شب في الكنيسة في عام تسعة وأربعين ما أوجب القيام بالترميم من جديد، ولكن
السقالت ظلت قائمة دون قيام العمل بسبب الخلفات، واحتاج المر إلى أحد عشر عاما قبل التفاق سنة
ألف وتسعمائة وستين على إجراء إصلحات محدودة في البناء، وبعد تسعة عشر عاما أخرى، تم
التفاق على إجراء إصلحات في القبة التي يبلغ قطرها خمسة وثلثين مترا.
وفقط في العام ألف وتسعمائة وخمسة وتسعين توصلت الطوائف المسيحية إلى اتفاق تاريخي لتخطيط
أعمال الترميم وتنفيذها، بعد خلف استمر عشرات السنين بين الروم الرثوذكس والروم الكاثوليك،
وانطلقت عمليات الترميم التي تتضمن تزين القبة التي غطتها طبقة سوداء على مر السنين باثني عشر
شعاعا ذهبيا، كل منها ثلثي تمثل الرسل والثالوث القدس، على خلفية من الحساب بلون اللؤلؤ ورفض
الكاثوليك رغبة الرثوذكس بتزين القبة بالفسيفساء القرب إلى روح الشرق.
الصهاينة الذين استهدفوا كنيسة القيامة بأكثر من اعتداء أبرزها كان التي وقعت عام ألف وتسعمائة
وواحد وسبعين، وألف وتسعمائة وثلثة وسبعين، حاولوا الدخول على خط أعمال الترميم الجارية في
الكنيسة لتحقيق أهداف خاصة بهم.
ففي عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين عينت الحكومة الصهيونية لجنة وزارية خاصة للتخطيط لما
سمته فتح باب طوارئ في كنيسة القيامة يعمل في حال وقوع حادث ما داخل الكنيسة.
وقد باشرت اللجنة الصهيونية اجتماعات مع ممثلي الطوائف المسيحية في بيت المقدس للغرض المعلن،
ولكن الذي تبين هو أن السلطات الصهيونية، تحاول نزع مفاتيح كنيسة القيامة من أيدي المسلمين،
وهي موجودة بحوزتهم منذ ثمانمائة سنة حيث أودعتها لديهم الكنيسة القبطية الثيوبية مع ما ينطوي
عليهم هذا المر من إعادة الخلفات على نقطة أخرى، كانت قد أصبحت عرفا توافق عليه الجميع.
جيش الجهاد المقدس
مر تشكيل جيش الجهاد المقدس في القدس بمرحلتين، الولى عام ألف وتسعمائة وستة وثلثين، حيث
تنادى قادة المنظمات العسكرية السرية في فلسطين إلى اجتماع في القدس، وقرروا جمع صفوفهم في
جيش واحد، أطلقوا عليه اسم جيش الجهاد المقدس وعهدوا بقيادته إلى المجاهد عبد القادر الحسيني.
وفي أيار من العام نفسه، اندفعت فصائل الجيش إلى أماكن جبلية اختيرت لتكون مراكز انطلقها وأطلق
عبد القادر الرصاصة الولى إيذانا بالثورة وذلك في قرية سوريك شمال غرب القدس.
خاض الجيش على مدى سنوات الثورة، مع من انضم إليه من المجاهدين العرب، معارك مشرفة ضد
قوات الحتلل البريطاني، والصهاينة، لعل أبرزها معركة الخضر، في سنة النطلقة، فضل عن مهاجمة
الحتلل البريطاني وعن نشاط فرقة التدمير، بقيادة فوزي القطب، التي نسفت الجسور والعيارات
وخطوط السكك الحديدية وبعض طرق المواصلت وعطلت خطوط الهاتف وأنبوب نفط العراق الواصل
إلى حيفا.
في عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلثين، استطاع جيش الجهاد المقدس أن يسيطر على الريف الفلسطيني
وعلى الكثير من المدن الرئيسية، ومنها القدس القديمة، وفي العام التالي، خاض معركة كبيرة شملت
احتلل مستوطنات يهودية ومراكز بريطانية.
جند البريطانيون قوات كبيرة لمهاجمة المجاهدين الذين جابهوا البريطانيين في معارك عدة، وأوقعوا
بهم خسائر كبيرة، فظل الحال كذلك إلى أن انتهت الثورة عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلثين، أما في
المرحلة الثانية من تشكيل الجيش فكانت في عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، حيث بدأ عبد القادر
الحسيني، إعادة تنظيم صفوف الجيش في قربة صوريف بالخليل، وعقب ذلك اجتماع في القدس، تم فيه
العلن عن تشكيل قوات الجهاد المقدس، كقوة ضاربة لتحرير فلسطين والمحافظة على وحدة أراضيها
والبقاء على عروبتها، وتتبع هذه القوة الهئية العربية العليا لفلسطين.
تشكلت القيادة من عبد القادر الحسيني رئيسا وكامل عريقات نائبا للرئيس، وقاسم الريحاوي أمينا
للسر، ومفتشين للشؤون العسكرية والدارية.
وقد عين لكل قطاع قائد يتلقى أوامره من القيادة، ومن القادة البارزين حسن سلمة وإبراهيم أبو دية،
إضافة إلى عدد من الضباط السوريين والعراقيين واللبنانيين.
توزعت قوات الجهاد المقدس ما بين مجندين مقاتلين وهم الذين يقع عليهم عبء العمل الحادي اليومي،
ومجندين مرابطين، وهم الموكلين حماية القرى، وفصيل التدمير، وفصيل الغتيال المكلف متابعة
العملء والسماسرة والعناصر النكليزية التي تسهل الستيطان الصهيوني وتعادي عروبة فلسطين.
بذلت قوات الجهاد المقدس جهودا هائلة للحصول على السلحة، ومن ذلك أنها أرسلت بعثات لجميع
السلحة المتخلفة عن معركة العلمين في الصحراء المصرية، وكذلك إلى ليبيا، لصلحها ووضعها
بالستعمال.
وعقدت صفقة تسلح مع المصانع التشيكية باسم الحكومة السورية، لكن الصهاينة أحبطوا هذه الصفقة.
مع اشتداد المعارك في فلسطين، أعيد تنظيم قوات الجهاد المقدس، وتوزيعها على سبع مناطق تغطي كل
فلسطين.
تولى قيادة منطقة القدس المجاهد عبد القادر الحسيني، الذي برع في تنظيم الدفاع عن القدس وفي شن
الهجمات الموفقة على الصهاينة ومراكز البوليس البريطاني في المدينة.
وقد بلغ من شدة الضغط الذي مارسه على المستوطنين الصهاينة في أحياء القدس أن خرج هؤلء في
مظاهرات يطالبون قادتهم بالستسلم وبالعتراف بفشل إقامة دولة يهودية في فلسطين وهو خاض
ببسالة منقطة النظير معركة القسطل التي استشهد فيها.
بعد استشهاد الحسيني اجتمع قادة سرايا قوات الجهاد المقدس في القدس مجددا وأسندت القيادة إلى
المجاهد خالد الحسيني.
في كانون أول من عام ثمانية وأربعين، أصدرت السلطات الردنية أمرا بحل قوات الجهاد المقدس، لكن
القوات ظلت قائمة في مراكزها إلى أن أصدرت الهيئة العربية العليا، قرارا بحلها في عام تسعة
وأربعين..
في قرارات الجمعية العامة للمم المتحدة
مثلما كان الحال مع القرارات المتكررة من مجلس المن، بشأن القدس والقضية الفلسطينية، فإن
الجمعية العامة للمم المتحدة قد أصدرت قدرا ل يستهان به من القرارات أيضا. وإذا كان الفيتو
المريكي قد عرقل الكثير من قرارات مجلس المن، فإن الجمعية العامة افتقدت إلى اللية التنفيذية
المناسبة لقراراتها أيضا.
عدا عن قراراتها الشهيرة مثل القرار مئة وواحد وثمانين، لعام سبعة وأربعين، ومائة وأربعة وتسعين
لعام ثمانية وأربعين، وتلك الخاصة بمجلس الوصاية، فقد أصدرت الجمعية العامة عددا كبيرا من
القرارات الخاصة بالقدس.
ففي عام ثمانية وأربعين، خولت الجمعية العامة في قرارها رقم مئة وستة وثمانين، وسيطا تختاره لجنة
من الجمعية العامة، تخوله سلطة القيام بعدد من المهمات من بينها تأمين حماية الماكن المقدسة،
والمباني والمواقع الدينية في فلسطين ونص قراراها رقم مئة وأربعة وتسعين على تشكيل لجنة توفيق،
لنفاذ قرار التقسيم رقم مئة وواحد وثمانين الذي نص أيضا على نظام دولي خاص في القدس. عام
تسعة وأربعين تبنت الجمعية العامة قرارا بفتح اعتماد لوضع نظام دولي دائم للقدس، قامت بإلغائه في
العام التالي.
حرصت الجمعية العامة لحقا على تثبيت الهدنة في القدس، وتعاملت مع الشكاوى الردنية والصهيونية
حول خرق الهدنة على الحدود التي اعتمدت في اتفاقية الهدنة.
استمر المر كذلك حتى عام سبعة وستين، حين اتخذت الجمعية العامة قرارا يطلب إلى الكيان
الصهيوني، المتناع فورا عن اتيان أي عمل من شأنه تغيير مركز القدس وطبيعتها. وهو ما كررته في
العام نفسه، لتعرب لحقا عن السف، إزاء عدم التزام الكيان الصهيوني بدعوة المم المتحدة في
قراريها، اللذين حمل رقمي ألفين ومائتين وثلثة وخمسين، وألفين ومائتين وأربعة وخمسين على
التوالي.
كلف المين العام للمم المتحدة مبعوثا خاصا بالتحقق مما يجري في القدس، وقدم تقريرا يفيد بأن
الكيان الصهيوني يعمل على ضم القدس، وأنه أبلغ مبعوث المين العام، أن ل رجعة عن هذا القرار،
وهو ما أبلغه المين العام إلى مجلس المن ولم يملك الطرفان سوى العراب عن السف والطلب إلى
الكيان عام ثمانية وستين عدم إجراء عرض عسكري في القدس. المر الذي رفضه الكيان الصهيوني،
ولم تملك الجمعية العامة، ما تقوله غير السف واللوم.
ثابرت الجمعية العامة، على تجديد قراراتها التي تدعو الصهاينة إلى عدم إجراء تغييرات في القدس،
وعلى اعتبار تلك الجراءات باطلة وغير مقبولة، وهو ما حدث أيضا عام ثمانين عندما سن الصهاينة
ما أسموه "قانونا أساسيا للقدس" اعتبروا فيه القدس موحدة وعاصمة للكيان الصهيوني.
طلبت الجمعية العامة في قرارها الذي أصدرته عام ثمانين، إلغاء الجراءات الصهيونية فورا، وجوبهت
بالرفض، لكنها ثبتت عدم اعترافها بما اسماه الصهاينة القانون الساسي للقدس.
كررت الجمعية العامة طلبها بإلغاء هذه الجراءات مرارا عام واحد وثمانين وعام اثنين وثمانين، الذي
شهد أيضا إصدار قرار يطالب الكيان الصهيوني بالموافقة على القرار الخاص بإنشاء جامعة القدس،
وإلغاء الجراءات التي وضعها في طريق تنفيذ هذا القرار، وجددت الجمعية العامة طلبها هذا عام ثلثة
وثمانين لمرتين متتاليتين، وعام أربعة وثمانين أيضا.
عام خمسة وثمانين، حاولت المجموعة العربية ومجموعة من الدول السلمية، أن تنقل الجمعية العامة
إلى مرحلة ما من الفعل، حين طلبت من رئيس الجمعية العامة عدم قبول أوراق تفويض المندوب
الصهيوني إلى المم المتحدة، لكونها صادرة في القدس، التي يعتبرها الصهاينة عاصمة لهم في مخالفة
صريحة لقرارات الجمعية العامة.
وافقت ثمانون دولة على هذا الطلب، لكن تدخل أمريكيا أحبطه. ثابرت الجمعية العامة عام خمسة
وثمانين أيضا على مطالبة الصهاينة بالموافقة على تنفيذ القرار الخاص بجامعة القدس للجئين وكذلك
عام تسعة وثمانين وفي العوام التي تلته حتى عام تسعة وتسعين دون أن يستجيب الصهاينة.
وهو ما كان أيضا شأن المطالبة بإلغاء القانون الساسي للقدس، ووقف التغييرات التي يقوم بها
الصهاينة في المدينة.
الجمعية العامة طالبت الدول العضاء في المنظمة الدولية بعدم نقل بعثاتها الدبلوماسية لدى الكيان
الصهيوني إلى القدس، وهو ما حققت فيه الجمعية العامة نجاحا جزئيا، وإن كانت عادت لتعرب عن
السف لوجود بعض البعثات الدبلوماسية في القدس مطالبة بسحبها.
عام ألفين صوتت الجمعية العامة بأغلبية مئة وخمسة وأربعين صوتا مقابل صوت واحد هو صوت
الكيان الصهيوني على قرار يعتبر محاولت الكيان الصهيوني فرض قانون وإدارته ووليته القضائية
على القدس باطلة.
وهي دانت في العام نفسه تعديات الصهاينة على الفلسطينيين .. وبقيت القرارات قرارات.
منظمة المؤتمر السلمي
أدت جريمة إحراق المسجد القصى المبارك على يد الصهاينة سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين إلى
انبثاق منظمة المؤتمر السلمي إلى حيز الوجود، بحيث يكون مدار جهدها وعملها إنقاذ القدس والحرم
القدسي الشريف مما يتعرضان له من تدنيس وتهويد على يد الصهاينة.
انعقد الجتماع الول في العاصمة المغربية الرباط، بعد نحو شهر على جريمة إحراق القصى، وذلك
على مستوى القمة، بيد أن الحتجاج لم يسفر عن آلية محددة للعمل، ونتج عنه موقف يقول: "أن
رؤساء الدول والحكومات والممثلين يعلنون أن حكوماتهم وشعوبهم عقدت العزم على رفض أي حل
للقضية الفلسطينية ل يكفل لمدينة القدس وضعها السابق" على عدوان حزيران.
اتخذت منظمة المؤتمر السلمي طابع إطار منتظم يعقد اجتماعه عادة إما على مستوى وزراء خارجية
الدول السلمية وإما على مستوى القمة، وبحسب القرار المتخذ في الجتماع الول، ينبغي أن تتسم
اجتماعات القمة بالدورية ،مرة كل سنة.
انعقد المؤتمر الثاني في كراتشي بالباكستان سنة ألف وتسعمائة وسبعين، فدان عمليات تدنيس المسجد
القصى واعتبر يوم الحادي والعشرين من آب لسنة أحدى وسبعين، يوم المسجد القصى المبارك، وعند
انعقاده في هذا التاريخ بجدة، اعتبر مؤتمر منظمة المؤتمر السلمي، أنه ل سبيل لعادة السلم والمن
إلى الشرق الوسط إل بتحرير بيت المقدس والنسحاب الكامل من الراضي العربية المحتلة وإعادة
الحقوق المغتصبة لشعب فلسطين.
كرر المؤتمر سنة اثنين وسبعين قراراته السابقة، وسنة ثلث وسبعين جرت المطالبة ببذل مزيد من
الجهد لوقف تهويد القدس.
عاد المؤتمر ليلتئم على مستوى القمة في لهور بالباكستان سنة أربع وسبعين، وظهرت دعوات لعلن
الجهاد المقدس لتحرير بيت المقدس، فيما نص البيان الختامي على أن الدول السلمية لن تقبل بأي
اتفاق يتضمن استمرار احتلل الصهاينة للقدس أو وضعها تحت سيادة غير عربية.
تم تأكيد هذا الموقف في اجتماعات لحقة على مستوى وزراء الخارجية، الذين رفضوا في اجتماع لهم
في فاس بالمغرب سنة تسع وسبعين اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والصهاينة مؤكدين على الحق
السلمي في القدس.
انعقدت اجتماعات وزراء الخارجية بشكل عادي سنة ثمانين في إسلم أباد، ثم عادت لجتماع طارئ في
عمان بسبب الحفريات التي يقوم بها الصهاينة.
وعادت للنعقاد مجددا في العام نفسه في مدينة فاس، عقب إعلن الصهاينة القدس عاصمة أبدية لهم
ومما جاء في مقررات مؤتمر فاس: "تعلن الدول السلمية التزامها بالجهاد المقدس، بما يتضمنه من
أبعاد إنسانية على اعتبار أنه صمود ومجابهة ضد العدو الصهيوني في جميع الجبهات عسكريا وسياسيا
واقتصاديا وإعلميا وثقافيا."
وقرر وزراء الخارجية تصعيد أنشطتهم في المم المتحدة والمحافل الدولية لمجابهة القرار الصهيوني
الجديد.
حملت دورة انعقاد مؤتمر المنظمة سنة إحدى وثمانين اسم دورة القدس وفلسطين، وتوزعت جلساتها
مابين مكة والطائف في السعودية، لتصدر بيانا ختاميا يؤكد اللتزام بتحرير القدس لتكون عاصمة للدولة
الفلسطينية، ويشدد على رفض اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، مطالبا بعدم نقل أي سفارة
إليها، ومهددا بقطع العلقات مع أي دولة تنقل سفارتها إلى المدينة المقدسة.
جرى التأكيد على هذه القرارات في دورات الجتماع اللحقة لوزراء الخارجية، وكذلك في القمة السابعة
في الدار البيضاء سنة أربع وتسعين. وسنة سبع وتسعين صدر إعلن طهران عن القمة الثامنة وفيه
تأكيد العزم والتصميم على استعادة مدينة القدس الشريف وحرم المسجد القصى، ورفض نقل السفارات
الدول لجنبية إلى القدس، ورفض كل التغييرات التي أجراها الصهاينة في المدينة المقدسة.
أطلقت على دورة النعقاد في الدوحة سنة ألفين تسمية دورة انتفاضة القصى، وفي قرارات المؤتمر
دعم للنتفاضة ورفض للقرارات الصادرة عن الكونغرس المريكي بالعتراف بالقدس عاصمة للكيان
الصهيوني وتمسك باستعادة القدس عربية مسلمة.
موقف التحاد الوربي
لم يكن موقف الدول الوربية موحدا دوما إزاء القدس، وإن كانت تنظمه عناوين عامة مثل رفض
العتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، والميل إلى إيجاد حل عبر التفاوض في المدينة.
وإذا كانت فرنسا في مواقف عديدة، تمثل تعبيرا جديا عن الموقف الوربي بعناوينه تلك، فإن بريطانيا
تعبر عن انحياز واضح للموقف الصهيوني.
ففي عام ثلثة وخمسين تسلح الكيان الصهيوني بموقف بريطاني ليعلن أنه لن يقبل سفراء أو وزراء
مفوضين ل يقدمون أوراق اعتمادهم في القدس، وذلك بعد أن صرح الناطق الرسمي البريطاني آنذاك
بأن تقديم أوراق العتماد إلى السلطات )السرائيلية( في القدس ليس معناه حتما العتراف بالقدس
عاصمة )لسرائيل(.
وفي العام التالي قدم السفير البريطاني الجديد أوراق اعتماده إلى الصهاينة في مدينة القدس.
طرأت تغيرات تدريجية على الموقف الوربي من مدينة القدس، مع انطلق الحوار العربي الوربي بعد
حرب سنة ثلثة وسبعين. ففي عام ثمانية وسبعين، صدر بيان مشترك عن اللجنة العامة للحوار طالب
الكيان الصهيوني بالقلع فورا عن القيام بأي عمل من شأنه أن يؤدي إلى تغير في الوضع القانوني أو
الصيغة الجغرافية أو التركيب السكاني للراضي المحتلة عام سبعة وستين بما في ذلك القدس.
وعام ثمانين، صدر ما يعرف بالعلن الوربي الذي اعتبر أن ما أسماه السلم العادل يقضي بانسحاب
الصهاينة من الراضي التي احتلت عام سبعة وستين. وأعلن رفض دول التحاد الوربي الجراءات
الصهيونية في القدس المحتلة ورفضها أيضا إقامة المستوطنات.
اعتبرت بعض الطراف العربية الموقف الوروبي تطورا كبيرا، فيما نظر إليه آخرون على أنه غير
كاف، خاصة فيما يتعلق بالقدس.
أدت النتفاضة الشعبية الفلسطينية عام سبعة وثمانين إلى أحداث تأثير واسع في الرأي العام الوربي،
وصاعدت من اهتمامه بقضية فلسطين وتبين حقائقها. لكن التحولت المتلئمة مع هذا التأثير ظلت على
وتيرتها البطيئة السابقة.
ومع ذلك ازدادت النتقادات الصهيونية للدول الوربية التي ل تظهر انحيازا كامل للكيان الصهيوني.
وبقيام عدد من المبعوثين الوربيين والسفراء بالجتماع إلى فيصل الحسيني، ومسئولين فلسطينيين
آخرين في بيت الشرق، أرسلت الحكومة الصهيونية، بمذكرة إلى الرئاسة اللمانية للتحاد الوربي،
اعتبرت فيها القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني وطالبت بعدم قيام شخصيات أوربية بالجتماع إلى
فلسطينيين في بيت الشرق.
رفض الوربيون مضمون هذه المذكرة، وأدانوا استمرار مصادرة الراضي في القدس، فهدد الصهاينة
باتخاذ إجراءات عقابية ضد الوربيين الذين يزورون بيت الشرق.
وفي عام خمسة وتسعين رفض الوربيون المشاركة في احتفالت "القدس ثلثة آلف عام" التي أقامها
الصهاينة، وقال ممثلو التحاد الوربي إن المشاركة الوربية في الحتفالت قد تفسر على أنها دعم
لسياسة الصهاينة تجاه المدينة.
ومع اتخاذ الكونغرس المريكي قرارا بنقل السفارة إلى القدس اعتبر الوربيون أن القرار يعرض ما
سموها عملية السلم إلى الخطر وأعلنت دول أوربية أنها لن تحذو حذو الوليات المتحدة.
عاود الصهاينة إثارة موضوع زيارة مسئولين أوربيين إلى بيت الشرق، حتى أن الرئيس الفرنسي جاك
شيراك تعرض لتحرشات رجال المن الصهاينة لدى جولة له في شرقي القدس، عقب وصف وزيره
"هيرف غيمارد" القدس الشرقية بأنها أرض محتلة. وفي تصريحات له شدد شيراك على أن القدس
الشرقية يجب أن تصبح عاصمة للدولة الفلسطينية وفي رد جديد على المطالبات الصهيونية للوربيين
عدم الجتماع مع مسئولين فلسطينيين في القدس، قالت الرئاسة الوروبية سنة تسع وتسعين "أن
للقدس وضعا خاصا، وأن التحاد الوربي يعتبر هذا الوضع خاصا من جهة القانون الدولي، وبالتالي ل
يقر بالقدس عاصمة موحدة )لسرائيل(.
رغم هذا الموقف المعلن، فإن الوزراء الوروبيين رضخوا للضغوط الصهيونية، وسنة تسع وتسعين
اجتمع وزير الخارجية الفرنسي "هوبير فدرين"، إلى فيصل الحسيني، في المشفى الفرنسي في القدس
بدل بيت الشرق.
ثابر الموقف الوروبي على انتقاد بناء المستوطنات في القدس، ورفض العتراف بها عاصمة للكيان
الصهيوني، لكنه لم ينتقل إلى ترجمة عملية لرؤياه، إذ ظل في الجانب العملي يرضخ للضغوطات
الصهيونية.
موقف البابا شنودة الثالث
سجل البابا شنودة الثالث، بابا السكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية، على الدوام موقفا ثابتا رافضا
لتهويد القدس، أو القبول بالسيادة الصهيونية عليها، وكان للبابا شنودة موقف تاريخي من التسوية مع
العدو في كامب ديفيد، تعرض بسببها لحقا إلى مضايقات من السادات، ومع ذلك أعلن ومازال رفضه
للتطبيع مع العدو وحرم على رعاياه القباط الذهاب إلى القدس وهي تحت الحتلل الصهيوني، وقال:
"لن ندخل القدس إل مع إخواننا المسلمين بعد تحريرها."
ولراعي الكنيسة القبطية، آراء متقدمة في إدارة الصراع مع العدو، إذ يدعو العرب إلى الوحدة لنقاذ
القدس مؤكدا أن قرارات المم المتحدة ليس لها سوى تأثير أدبي، وأن الحل العملي هو بأيدي أصحاب
القضية.
يرفض البابا شنودة أي تنازل للصهاينة في القدس، مذكرا أنها وقعت تحت الحتلل الفرنجي تسعين
عاما ثم حررت، ويمكن استعادتها بعد هذه السنوات القليلة من حكم اليهود، بمعنى أنه ل يجوز التنازل
عنها.
غير أن قوله هذا ل يعني وقف العمل المستمر من أجل استعادة القدس، فقد انتقد إحالة قضية القدس
إلى ما تسمى مفاوضات الوضع النهائي في اتفاق أوسلو، وقال: "ما أخشاه من إرجاء قضية القدس إلى
نهاية المطاف، هو أن تتمكن الصهيونية من القضاء على كل وجود عربي فيها، وليس مستبعدا بعد ذلك
أن تلجأ إلى خدعة، بإجراء استفتاء في القدس، بين غالبية من اليهود، وأقلية ضئيلة من العرب بحيث
تأتي نتيجته في صالح الصهاينة".
ورأى البابا أن عملية التأجيل، إنما أريد منها إعطاء الوقت الكافي للصهاينة بحيث يحسمون القضية
لصالحهم، وما يفعلونه اليوم هو تهيئة النفوس العربية لستقبال الكوارث المقبلة، ومن ضمن وسائل
التهيئة النفسية إغراقهم في اليأس إلى درجة ل يجدون فيها منفذا لحل مشاكلهم، وكذلك استعمال
التهديد والتخويف لطرد العرب واستئصال أراضيهم.
مع انطلق انتفاضة القصى المباركة، أكد البابا شنودة موقفه الرافض لتدويل القدس، واصفا هذا المر
بالخطوة الخطرة، وقال: "من السهل تحويل التدويل إلى تهويد ..إن الصهاينة يريدون القدس عاصمة
لهم، وهذا أمر ستقاومه. المسألة تحتاج إلى جهاد، بحيث ترجع القدس إلى فلسطين". يؤكد البابا دوما
أنه ليست لليهود حقوق في القدس، ل تاريخية ول غير تاريخية، مبينا أنه ل يوجد في الكتاب المقدس،
إشارة أو دليل على حقوق لليهود في القدس، أو وجود هيكل سليمان المزعوم.
كما أنه يثابر على تجديد تحريم ذهاب القباط إلى القدس قبل تحريرها، وفي محاضرة له في السكندرية
يوم الثالث والعشرين من حزيران، عام ألفين وواحد، اعتبر أن قيام أي قبطي بزيارة بيت المقدس وهي
تحت الحتلل، بمثابة خيانة، وقال: "أن التطبيع مرفوض، وزيارة القدس ل تكون إل بعد تحريرها، ولن
ندخلها إل مع العرب جميعا والمسلمين.
ويردد البابا شنودة دائما، في تصريحاته ومحاضراته، أنه يدعم بل أي تحفظ، الكفاح الفلسطيني
المشروع، في سبيل تحرير فلسطين والقدس التي هي لب الصراع العربي/الصهيوني، معتبرا أنه ل
يمكن الحديث عن أي حل أو إنهاء الصراع، ما لم تعد القدس إلى أصحابها.
أسهمت مواقف الباب في كبح التدفق التطبيعي بعد اتفاقيات كامب ديفيد، ورغم تعمد الصهاينة تسريب
مزاعم عن قيام أعداد من العرب المصريين، رعايا الكنيسة القبطية، بزيارة التقديس إلى بيت المقدس،
إل أن مصادر الكنيسة القبطية تؤكد أن المر يتعلق بأفراد، وأن الصهاينة يبالغون كثيرا جدا في الرقام
التي يعلنونها، وتقول :"أن القباط لديهم رغبة عارمة بزيارة القدس، لو أن البابا يسمح بالزيارة لرأيتم
ربع مليون قبطي يزرون القدس".
نزع هويات المقدسيين
بعد احتلل الجزاء الشرقية من القدس عام سبعة وستين، مباشرة، عمدت سلطات الحتلل الصهيوني
إلى إصدار سلسلة متلحقة من القرارات بضم القدس إلى الكيان الصهيوني، ثم شرعت على الفور في
عملية تهويد للمدينة، لم تقتصر في الواقع على السعي لزالة كل معلم يدل على عروبة المدينة
واسلميتها، بل طالت المقدسيين أهل البلد وأصحابه. فكانت سياسة هدم القرى في ضواحي القدس،
وهدم أحياء بكاملها داخل المدينة، وترحيل أصحابها، أو دفعهم إلى الترحيل، وجرى اتباع مختلف أشكال
الخنق والتضييق، بهدف إجبار الناس على ترك مدينتهم.
ومن جملة الساليب القهرية التي طبقت على المقدسيين لتحقيق تلك الغاية، أسلوب نزع الهويات وحق
القامة الدائمة في القدس.
لقد ظل الصهاينة وبرغم إغراق القدس بالمستوطنين يتحدثون عن الخشية من تحول الميزان الديمغرافي
في المدينة لصالح المواطنين الفلسطينيين، ويبتدعون كل ما من شأنه إحباط الزيادة العددية للفلسطينيين
في القدس.
وفي هذا السياق بدأوا في عهد حكومة رابين بيريز، عام خمسة وتسعين تطبيق سياسة سحب
الهويات.
طبق الصهاينة هذا الجراء في أربع حالت واضحة وهي:
إلغاء حق القامة للشخاص الذين يقطنون في ضواحي القدس الواقعة خارج حدود البلدية، وفي
المحافظات المجاورة، وكذلك الذين يقيمون خارج فلسطين.
كما اعتمدوا الحتيال في قضايا جمع الشمل: فالزوجات اللواتي يقمن بتقديم طلب جمع شمل لزواجهن،
تقبل طلباتهم بداية، ثم يجري إلغاء حقهن في القامة مع أطفالهن بحجة أن الزوج يقيم خارج القدس،
وهكذا فإن الزوجة ل تفشل في جمع الشمل فقط، بل تفقد حقها في القامة أيضا.
ومن المعلوم أن الصهاينة طبقوا أسلوب البعاد منذ مطلع السبعينات، وعندما تقدمت عائلت المبعدين
بطلب تصريح لزيارتهم، جرى منح العائلة المتقدمة بالطلب، تصريح خروج دون عودة، وتمكن
الصهاينة عبر هذه الطريقة من إبعاد ثمان وعشرين عائلة مقدسية، اضطرت لللتحاق بالب أو الزوج
الذي أبعد قسرا.
وجرى تطبيق أسلوب قهري مع الطلبة الذين يدرسون خارج القدس، إذ فرض عليهم القيام بتجديد
بطاقات هوياتهم على نحو يعطل دراستهم، ثم جرى إلغاء الحق في القامة لمن أمضى سبع سنوات
خارج القدس بسبب التعليم، وتعاونت ما تسمى وزارة الداخلية في كيان العدو مع شرطة المعابر
والحدود التي عرقلت دخول البعض لتجديد هوياتهم، ما تسبب في فقدانهم حق القامة وسحب هوياتهم.
مع مجيء حكومة نتنياهو عام ستة وتسعين، جرى اعتماد أسلوب جديد، لزيادة أعداد المقدسيين
المعرضين لسحب هوياتهم وإلغاء حقهم في القامة.
فعادة ما كان يجري منح المقدسي الذي ينوي السفر، وثيقة مرور / ليسيه باسيه/ يسمح لحاملها
بتجديدها لمدة سنة والسفر ثانية، وعندما تقدم مقدسيون بطلبات لتجديد هذه الوثائق، وضع عليها ختم
يقضي بالخروج دون عودة لمدة ثلثة أشهر.
ثم اتخذ قرار بعد تجديد تأشيرات العودة للمقدسيين الذين يحملون جنسيات أجنبية علما أن الغالبية
العظمى من أبناء المدينة تحمل جوازات سفر أردنية، فيما حصل البعض على جنسيات أخرى.
إلى هذه الحالت الواضحة، ثمة الكثير من حالت وأساليب الحتيال. فبعض المقدسيين يتقدم إلى ما
تسمى مكاتب الداخلية، لتجديد تصاريح عودة لبنائهم الغائبين للدراسة أو للعمل، يجري أول قبول
الطلب، ومن ثم الموافقة عليه لمدة شهر، ثم تبدأ المماطلة في تسليم نسخ التصريح التي تخول الممنوح
له المرور، وهكذا تنتهي مهلة الشهر دون تسليم التصريح، فيفقد الغائب حقه في القامة، بحجة تأخره
عن العودة لتجديد هويته.. وهكذا.
سحبت هويات المئات من أبناء القدس نتيجة الجراءات المذكورة، وفقد اللف حقهم في القامة من
وجهة نظر المحتلين الصهاينة، ورغم العتراضات التي أبداها المقدسيون على هذه السياسة إل أن
الصهاينة واصلوا تطبيقها، فأخذ المقدسيون يحجمون عن التردد على ما تسمى مكاتب الداخلية، فأعلن
الصهاينة عام تسعة وتسعين، عن وقف العمل بسحب الهويات ولكنه كان وقفا مؤقتا وقصيرا، إذ تابع
الصهاينة مجددا إجراءات سحب الهويات بوتائر أقل من السابق دون التوقف عنها أو إلغائها.
نقل السفارة المريكية
ارتبط الموقف المريكي من قضية القدس، بقرار التقسيم رقم مئة وواحد وثمانين الصادر عن الجمعية
العامة للمم المتحدة، سنة سبعة وأربعين، وهو القرار الذي يتحدث عن نظام دولي خاص لمدينة
القدس.
وبعد النكبة أيدت الوليات المتحدة الوضع القائم من السيطرة الردنية الصهيونية المشتركة على المدينة
ولم تعترف الوليات المتحدة بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني رغم تأييدها المطلق له.
بعد عدوان حزيران سبعة وستين، عرض الرئيس المريكي جونسون على السوفيات أن تتولى واشنطن
حماية الماكن المقدسة في القدس، مع ضمانات دولية بحرية الوصول إليها، إل أن القتراح لم ينفذ.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الموقف المريكي يتجه نحو تأييد متزايد للنظرة الصهيونية إلى المدينة المقدسة؛
ففي العام التالي لعدوان حزيران أعلن جونسون نية الوليات المتحدة المحافظة على وحدة مدينة القدس
وقال: "أن أحدا ل يرغب في أن يرى المدينة المقدسة مقسمة مرة أخرى، وعلى الطراف أن يفكروا في
حل يضمن مصالحهم ومصالح العالم في القدس.
وفي عام واحد وثمانين، أعلن الرئيس المريكي رونالد ريغان أن القدس يجب أن تظل دون تقسيم، وأن
يتقرر مركزها النهائي عن طريق المفاوضات. وقبل انتهاء وليته بيوم واحد سنة تسع وثمانين، وقع
ريغان اتفاقا مع الصهاينة. هو كناية، عن عقد إيجار لربعة عشر فدانا من أراضي الوقف السلمي في
المدينة لقامة السفارة المريكية عليها.
ينص القرار على إيجار الرض لمدة تسعة وتسعين عاما، مقابل دولر واحد في السنة.
وفي الكونغرس المريكي، كانت الخطوات تتسارع لتنفيذ مشروع نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس،
ففي عام أربعة وثمانين، أدلى السناتور دانيال موينيهان بشهادة أمام لجنة العلقات الخارجية في مجلس
الشيوخ، طالب فيها بنقل السفارة المريكية من تل أبيب إلى القدس، معتبرا أن المصلحة المريكية
تقتضي هذا الجراء.
أصبحت قضية نقل السفارة مجال للمزايدة بين السياسيين المريكيين من الحزبين الديمقراطي
والجمهوري، إذ تسابق كل منهما إلى إعلن نقل السفارة إلى المدينة المقدسة.
ففي عام تسعين أعلن الرئيس جورج بوش حق الصهاينة في استيطان القدس في حين اعترض
السناتور بوب دول على فكرة نقل السفارة خوفا من الساءة إلى مشاعر العرب، ومشيرا إلى أن أعضاء
مجلس الشيوخ أجبروا على توقيع القرار الذي يعتبر القدس عاصمة للكيان الصهيوني دون السماح لهم
بقراءته. ولحقا سوف يصبح بوب دول من أشد مؤيدي نقل السفارة. مع انتخابه رئيسا للوليات
المتحدة، أعلن بيل كلينون أنه يعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وأن عملية نقل السفارة هي
مسألة وقت فقط.
وفي آذار من عام خمسة وتسعين، أبلغ ثلثة وتسعون عضوا في مجلس الشيوخ المريكي من أصل مئة
هم كامل أعضاء المجلس أبلغوا وزير الخارجية المريكي وارن كريستوفر، ضرورة أن تبدأ الوليات
المتحدة بالتخطيط لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.
ووقع هؤلء رسالة سلموها إلى الوزير فقال: "نؤمن أن سفارة الوليات المتحدة مكانها القدس وسيكون
من الملئم جدا البدء بالتخطيط الن لضمان مثل هذا التحرك في أيار سنة تسع وتسعين، عندما يبدأ
سريان اتفاقات سيجري التفاوض حولها بشأن الوضع النهائي للقدس.
أثار قرار الكونغرس ردود فعل واسعة مستنكرة عربية وإسلمية ودولية، فيما أعلن أعضاء في المجلس
المريكي أنهم سيتولون نقل السفارة حجرا، حجرا في حال عدم تنفيذ الرادة لقرارهم. الذي تضمن نصا
بأن يرجى الرئيس التنفيذ وفق مقتضيات المصلحة المريكية.
عام ألفين تسابق بوش البن، وألبرت غور في إطلق التصريحات المؤيدة لنقل السفارة، واعدين بوضع
قرار الكونغرس موضع التنفيذ.
وفي حزيران من عام ألفين وواحد، وقع جورج بوش مذكرة تسمح للخارجية المريكية بنقل السفارة
إلى القدس مع إرجاء التنفيذ ستة أشهر، على غرار ما كان يفعل بيل كلينتون.
يوم القدس العالمي
يوم السابع من آب سنة تسعة وسبعين وتسعمائة وألف، أعلن سماحة آية ال العظمى، المام الخميني
)قدس ال سره( يوم القدس العالمي، حيث قال:
أدعو جميع مسلمي العالم إلى اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، التي هي من أيام القدر،
ويمكن أن تكون حاسمة أيضا، في تعيين مصير الشعب الفلسطيني، يوما للقدس. وأن يعلنوا من خلل
مراسيم التحاد العالمي للمسلمين، دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم".
جاءت هذه الدعوة، حضا للمسلمين، على القيام بخطوة عملية تجاه القدس، وتوجيها لعملهم وأفئدتهم
نحو بيت المقدس، لتتحول الجمعة الخيرة من شهر رمضان المبارك، إلى يوم عالمي للقدس، هو في
الوقت نفسه، وكما بين سماحة آية ال العظمى المام الخميني ) قدس سره(، يوم مواجهة المستضعفين
مع المستكبرين، ففي عام تسعة وسبعين، قال سماحته:
"يوم القدس يوم عالمي، ليس فقط يوما خاصا بالقدس، إنه يوم مواجهة المستضعفين مع المستكبرين.
انه يوم مواجهة الشعوب التي عانت من ظلم أمريكا وغيرها، للقوى الكبرى، وانه اليوم الذي سيكون
مميزا بين المنافقين والملتزمين، فالملتزمون يعتبرون هذا اليوم، يوما للقدس، ويعملون ما ينبغي
عليهم، أما المنافقون، هؤلء الذين يقيمون العلقات مع القوى الكبرى خلف الكواليس، والذين هم
أصدقاء )لسرائيل(، فإنهم في هذا اليوم غير آبهين، أو أنهم يمنعون الشعوب من إقامة التظاهرات.
لقد بين سماحة المام الخميني، )قدس سره( موقع الجهاد من أجل القدس، في تحديد معالم المعركة بين
المستضعفين والمستكبرين، وهو ما تتكشف معانيه في يوم القدس، الذي اعتبره، يوما يجب أن تتحدد
فيه مصائر الشعوب المستضعفة، يوما يجب أن تعلن فيه الشعوب المستضعفة عن وجودها في مقابل
المستكبرين.
وهو كما رآه سماحته أيضا: يوم إحياء السلم ويوم حياة السلم، حيث يجب أن يصحوا المسلمون،
وأن يدركوا مدى القدرة التي يتملكونها سواء المادية منها أم المعنوية. فهم كما قال سماحة آية ال
ا، والسلم سندهم، واليمان سندهم، فمن أي شيء t العظمى: مليار مسلم وهم يملكون دعما إلهي
يخافون؟
لقد أكد المام الخميني )قدس سره( على متابعة إحياء يوم القدس، لما رآه فيه من معان عظيمة تتعلق
بالوحدة السلمية التي دعا إليها على الدوام، وبالجهاد من أجل القدس، التي احتلت حيزا واسعا من
تفكيره واهتمامه. وهو الذي كان يقول دائما: القدس ملك المسلمين ويجب أن تعود إليهم. معتبرا أن
واجب المسلمين أن يهبوا لتحرير القدس، والقضاء على شر جرثومة الفساد هذه عن بلد المسلمين.
وهو قال عام ألف وتسعمائة وثمانين: نسأل ال أن يوفقنا يوما للذهاب إلى القدس، والصلة فيها إن
شاء ال. وآمل أن يعتبر المسلمون يوم القدس، يوما كبيرا، وأن يقيموا المظاهرات في كل الدول
السلمية، في يوم القدس، وأن يعقدوا المجالس والمحافل، ويرددوا النداء في المساجد. وعندما يصرخ
مليار مسلم، فإن إسرائيل ستشعر بالعجز، وتخاف من مجرد ذلك النداء".
لقد استجاب عشرات المليين في مختلف أنحاء العالم السلمي لدعوة آية ال العظمى، سماحة المام
الخميني )قدس سره( لحياء يوم القدس، وتشهد الجمعة الخيرة من شهر رمضان المبارك، في كل عام
تظاهرات حاشدة تهتف للقدس وتدعو لتحريرها في مشهد يكرس الوحدة السلمية التي أرادها سماحته،
ويبقي القدس حاضرة في عقول المسلمين وفي توجهاتهم، وتطلعهم إلى تحريرها، وهو أيضا ما رمى
إليه المام العظيم من خلل الدعوة إلى يوم القدس العالمي.
وتأكيدا على المكانة التي أرادها المام الخميني )قدس سره( ليوم القدس العالمي، فإن المام القائد
سماحة أية ال علي الخامنئي، يشدد دوما على إحياء يوم القدس العالمي، وتكريس معانيه، وهو خاطب
المسلمين في العام ألفين قائل: إن واجب الدول السلمية تقديم المعونات لهذا الشعب، ومؤكدا انه
عاجل أو آجل ستعود فلسطين إلى الفلسطينيين مكرسا بذلك ما كان يقوله، سماحة آية ال العظمى،
المام الخميني: حين يتعرض السلم والماكن المقدسة للتهديد بالعتداء ، فل يمكن لي فرد مسلم أن
يقف موقف المتفرج إزاء ذلك.
محاولة شارون تدنيس الحرم، وانتفاضة القصى
كانت محاولة الرهابي شارون تدنيس الحرم القدسي الشريف، هي السبب المباشر والعامل المفجر
لنتفاضة القصى.
لكن كل العوامل كانت قد تكاملت لندلع النتفاضة، وبالحرى تجددها، فالحتلل الذي واصل إجراءته
القمعية والذللية ضد الشعب الفلسطيني، وتابع تهويد القدس وإغراق الراضي المحتلة عام سبعة
وستين بالمستوطنات، رافضا القرار بأي من الحقوق الفلسطينية، شكل الظروف الموضوعية لنفجار
النتفاضة، ويضاف إلى كل العوامل السابقة توق الفلسطينيين إلى حرية أرضهم، ودحر الحتلل عنها،
بعد أن تبين وهم السلم مع العدو الذي أراده كسبا للوقت لستكمال مشاريعه التهويدية والستيطانية.
كانت كل المؤشرات تؤكد قرب اندلع النتفاضة ويوم السابع والعشرين من أيلول عام ألفين، أعلن
الرهابي شارون عزمه التوجه إلى الحرم القدسي الشريف في اليوم التالي.
تداعت القوى الفلسطينية، إلى التحشد لمواجهة محاولة شارون تدنيس الحرم، ودعت الشعب الفلسطيني
إلى التوجه إلى بيت المقدس لحماية الحرم، فيما اندلعت تظاهرات واسعة في المدينة، وأحرق المواطنون
إطارات السيارات احتجاجا على الزيارة المزمعة.
وطالبت السلطة الفلسطينية حكومة باراك بمنع الزيارة التي اعتبرتها تحريضية، وتشكل تحرشا واضحا،
وحذرت أوساط فلسطينية من مجزرة يخطط لها الصهاينة على غرار مجزرة عام ألف وتسعمائة
وتسعين.
صبيحة يوم الثامن والعشرين من أيلول، انتشر آلف من أفراد شرطة الحتلل ومن يسمون حرس
الحدود في القدس، لحماية الرهابي شارون، بينما كان اللف من أبناء الشعب الفلسطيني من الراضي
المحتلة عام سبعة وستين، والراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين، قد تجمعوا في الحرم القدسي
وحواليه لحمايته من العدوان الشاروني الصهيوني الجديد، ومع اقتراب الرهابي شارون من منطقة
الحرم اندلعت المواجهات العنيفة بين الشبان البواسل وجنود الحتلل، وغطى الدخان وقنابل الغاز
ساحات الحرم.
تمكن أبناء الشعب الفلسطيني البواسل من منع الرهابي شارون من دخول الحرم، وتصدوا بصدورهم
العارية لرصاص قوات الحتلل الصهيوني، وسقط العشرات جرحى برصاص المحتلين.
شكلت هذه المواجهات دفاعا عن الحرم القدسي ضربة البداية في انتفاضة القصى، ففي اليوم التالي
هاجمت شرطة الحتلل عشرات آلف المصلين في الحرم، في خطة مبيته لرتكاب مجزرة تحبط
النتفاضة في مهدها.
تمترس جنود العدو وراء الدروع، وأطلقوا الرصاص المعدني والمطاطي تجاه الشبان المصلين، الذين
ردوا بإلقاء الحجارة على الجنود الصهاينة.
تصاعدت صيحات ال أكبر، واندفع آلف الشبان في مواجهة الصهاينة، الذين أطلقوا النار بغزارة، ما
أسفر عن استشهاد خمسة من المصلين وإصابة أكثر من مائتين بجراح، فيما أصيب أربعة وأربعون من
الجنود الصهاينة، وأربعة عشر من المستوطنين بحجارة الشبان البواسل.
ومع انتقال خبر المواجهات في المسجد القصى والحرم القدسي إلى المدن الفلسطينية، اندلعت
المواجهات في كل مكان.
يوم الثلثين من أيلول، ووسط موجة غضب عارم، لفت كل أنحاء فلسطين، شيعت القدس شهداء يوم
الجمعة، وقد تحولت جنازات التشييع إلى مواجهات عنيفة مع قوات الحتلل التي أطلقت النار على
المشيعين فردوا بإلقاء الحجارة، وانتقلت المواجهات لتشمل كافة أنحاء البلدة القديمة، وضواحي شرقي
القدس.
أعلنت قوات الحتلل عن إغلق القدس في وجه المواطنين الفلسطينيين من الضفة، في حين كان
الفلسطينيون في الراضي المحتلة عام 48 قد انخرطوا في معركة الدفاع عن الحرم، وفي شوارع
القدس بالذات، قبل أن تتحول النتفاضة، إلى فعالية كفاحية تغطي كل مكان من فلسطين.
فما أن حل يوم الول من تشرين الول عام ألفين حتى كانت فلسطين بأكملها تنتفض في وجه المحتلين،
وتشرع في كتابة صفحة مجيدة جديدة، في سجل كفاحها المديد ضد الغزاة.
مستوطنة جبل أبو غنيم
يرتبط بناء المستوطنة الصهيونية المسماة )هارحوما( في جبل أبو غنيم، بسياسة الصهاينة في تطويق
القدس بحزام من المستوطنات، ويعود التخطيط لبنائها إلى أواخر الثمانينات بغية إكمال الطوق
الستيطاني بشكل كامل حول القدس، والفصل بين الحياء العربية في صور باهر وأم طوبا، وبين
مدينتي بيت لحم وبيت ساحور.
ولدى العلن عن خطة بناء المستوطنة مطلع العام تسعين، قال الصهاينة إن المرحلة الولى من
المشروع تهدف إلى إقامة أربعمائة وخمسين مسكنا على مساحة تبلغ ألفا وثمانمائة دونم، تمتد على
التلل بين أم طوبا وبيت ساحور.
وفي مطلع العام خمسة وتسعين، أعلن المتحدث باسم البلدية الصهيونية في القدس، أن مجلس البلدية
وافق على خطة لبناء مستوطنة جديدة تستوعب خمسة وعشرين ألف مستوطن، في جبل أبو غنيم.
أثار القرار الصهيوني ردود فعل فلسطينية حادة فحاول الصهاينة امتصاص الغضب الفلسطيني بالعلن
عن النية ببناء ألف وخمسمائة مسكن للفلسطينيين في القدس، ولكن الفلسطينيين رفضوا هذه التسوية
واعتبروا أنها محاولة للتغطية على استكمال تطويق القدس عبر بناء المستوطنة الجديدة.
انطلقت تظاهرات حاشدة في القدس، وأقام الفلسطينيون الصلة بالقرب من الراضي المصادرة كما
أقاموا اعتصاما مفتوحا، واعترض العشرات بأجسادهم تقدم الجرافات الصهيونية للبدء في العمل ببناء
المستوطنة، واستطاعوا إيقاف أعمال تمهيد الرض لعدة أشهر، ثم نجحوا في إيقاف العمل نهائيا، حتى
عام سبعة وتسعين.
مطلع عام سبعة وتسعين، هدد الرهابي أيهود أولمرت رئيس البلدية الصهيونية في القدس، بإرسال
الجرافات، للشروع فورا بالعمل في المستوطنة وترافق هذا التهديد مع إعلن عن أن خطة البناء في
جبل أبو غنيم، تشمل إقامة نحو سبعة عشر ألف وحدة سكنية بشكل أولي.
مرة أخرى أقام الفلسطينيون خيام العتصام في موقع الرض المصادرة، واندلعت تظاهرات في القدس
ومدن أخرى من الضفة، فيما هددت أحزاب صهيونية بالنسحاب من الحكومة إذا هي لم تشرع بالبناء
في المستوطنة، فقالت مصادر الحكومة الصهيونية، إن توقف العمل ل يرتبط بردود الفعل العربية
والسلمية بل بعدم جهوزية المخططات.
وتحت حراسة المئات من أفراد الشرطة وحرس الحدود، بإشرت جرافات الصهاينة في شباط عام سبعة
وتسعين، العمل في الشغال التمهيدية لبناء المستوطنة.
حاول الفلسطينيون تقديم التماسات إلى ما تسمى محكمة العدل العليا، دون جدوى ودعوا إلى تدخل
الهيئات الدولية، ولكن حكومة الرهابي نتنياهو واصلت العمل في المستوطنة وبوتائر سريعة جدا، وسط
استنفار عسكري كبير في المنطقة مع الكشف عن معطيات جديدة تتعلق بالمستوطنة، حيث أعلن أنها
ستستوعب خمسة وثلثين ألف مستوطن، وستقام فيها مؤسسات عامة مختلفة على مساحة مئتين
وستة وستين دونما.
شكلت مستوطنة جبل أبوغنيم وحسب التقديرات الصهيونية، ما نسبته اثنين وسبعين في المئة، من
مخططات تسويق الوحدات السكنية الستيطانية لعام سبعة وتسعين، وذلك رغم تصاعد العتراضات
الفلسطينية والعربية والدولية، ومع اللجوء إلى مجلس المن الدولي فإن الوليات المتحدة استخدمت
حق النقض /الفيتو/ ضد مشروع قرار يطالب الكيان الصهيوني بوقف بناء المستوطنة في جبل أبوغنيم.
جرى إتمام المرحلة الولى من بناء المستوطنة عام ألفين، ولكن اندلع انتفاضة القصى ترك الكثير من
بيوتها فارغة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد أقرت لجنة صهيونية خاصة مطلع العام ألفين وواحد، بناء ألف وخمسمائة
وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة جبل أبوغنيم، ثم قامت حكومة الرهابي شارون بإعطاء الضوء
الخضر لبناء ألفين وثمانمئة واثنين وثلثين وحدة سكنية في المستوطنة.
وتظهر معطيات مطلع العام ألفين واثنين عن الواقع الستيطاني في القدس، أن الكثير من الوحدات
الستيطانية في جبل أبوغنيم مازالت فارغة، رغم تسهيلت كبيرة في الدفع.
ولكن السلطات الصهيونية تصر على استمرار البناء. والتوسع فيها، مفترضة أن توقف انتفاضة
القصى سوف يجعل المستوطنين يتوجهون لشغال هذه الوحدات الستيطانية.
مستوطنة معاليه أدوميم
أقيمت مستوطنة )معاليه أدوميم( في منطقة الخان الحمر، بداية كمنطقة صناعية ولسكان العمال
وعائلتهم، ثم جرى توسيعها باستمرار، إلى أن أصبحت مدينة استيطانية.
في عام واحد وتسعين أعلن الرهابي شارون عن خطة لتوسيع مستوطنة )معاليه أدوميم(، ليبلغ عدد
المستوطنين فيها إلى خمسين ألفا بدل من خمسة عشر ألفا، وتصل مساحتها إلى خمسين ألف دونم.
وحسب الخطة التي أعلن عنها في حينه، سيتم توسيع الراضي الواقعة تحت سيطرة مجلس المستوطنة
باتجاه الغرب، وستتصل )معاليه أدوميم( تقريبا مع الحياء الستيطانية في القدس مثل )بسغات زئيف(،
وستشرف الحدود الجديدة للمستوطنة على قرى ومخيمات فلسطينية مثل شعفاط والعيزرية والزعيم، ما
يعني أن أراضي المستوطنة ستنحدر إلى قلب منطقة مسكونة بحوالي مئة ألف مواطن فلسطيني.
الرهابي إيلي هارنير، المسئول عن التخطيط الستراتيجي في المستوطنة، ادعى أن الراضي التي
ستنضم إلى حدود مجلس المستوطنة، تشمل فقط ما سماه أراضي دولة، ولكن نظرة إلى خريطة الخطة
تظهر أن في داخل المنطقة الجديدة المضافة إلى حدود المستوطنة أراض تعود ملكيتها للمواطنين
الفلسطينيين والتي لن يكون بوسع أصحابها استخدامها بأي شكل كان.
النيات الصهيونية اتضحت حين أعلن هارنير نفسه لحقا، أن الواقع الجديد سيحرك أصحاب الراضي
العرب باتجاه بيع أراضيهم، وبهذا ينشأ تواصل لراضي الدولة ضمن الحدود بأكملها.
وعمليا فإن معظم الراضي صودرت وجرى طرد عشيرة عرب الجهالين من أراضيهم للسيطرة عليها
والقيام بتوسيع المستوطنة.
خطة توسيع )معاليه أدوميم( وربطها بالقدس، هي جزء من خطة أكثر توسعا، يطلق عليها أسم باب
الشرق، وتهدف إلى خلق تواصل للمستوطنات الصهيونية في قطاع عرضي واسع يمر من القدس عن
طريق )معاليه أدوميم(، أريحا، والبحر الميت، وتشكل )معاليه أدوميم(، المدينة اللوائية لهذا القطاع،
وذلك من ضمن مخطط القدس الكبرى.
سرع عقد مؤتمر مدريد في عمليات توسيع )معاليه أدوميم(، إذ أن هدف تحويلها إلى مدينة استيطانية
كان محددا له العام ألفين، ولكنه تحقق عمليا قبل هذا التاريخ بكثير، واستوعبت المستوطنة أعدادا
كبيرة من المسجلين الجدد من التحاد السوفياتي السابق.
عام ستة وتسعين، كشف النقاب عن خطة جديدة لتسريع ضم عدد من المستوطنات الواقعة على ما
يسمى الخط الخضر إلى المدينة المقدسة، وهي تشمل ضم مستوطنات )معاليه أدوميم(، و)جعفات
زئيف( و)ميتسور أدوميم(.
واعتبرت هذه الخطة النقلة اللزمة، لشوط جديد في مشروع القدس اليهودية الكبرى. وقد طالب رئيس
بلدية )معاليه أدوميم(، باستكمال ربط المستوطنة بمدينة القدس، واعتبارها جزءا منها رسميا.
ووعد بتغيير الصورة الحالية التي يرى فيها المسافر عن طريق القدس أريحا إلى المستوطنة، مناطق
فارغة، وقرى عربية معادية، إلى صورة أخرى من الحياء والفنادق المتصلة على الطريق مع مضاعفة
عدد المستوطنين.
الخطة التي طالب رئيس البلدية بتطبيقها تلحظ مصادرة أراض فلسطينية ما بين المستوطنة ومدينة
القدس، والتي تعود ملكيتها لهالي الطور والعيزرية وأبوديس.
أيد ثمانون عضو كنيست صهيوني عام ستة وتسعين، مصادرة هذه الراضي، وتحقيق التواصل الذي
يدور الحديث عنه منذ زمن طويل، فيما جرى الشروع عمليا، وفي العام نفسه في بناء ألف ومائتي
سكن للمستوطنين، وأعلن أن الهدف هو استيعاب الزيادة العددية في المستوطنة.
عام تسعة وتسعين خطا الصهاينة خطوة أخرى في اتجاه مصادر المزيد من الراضي وتحقيق الوصل
بين )معاليه أدوميم( والقدس، وذلك حين صادقت ما تسمى المحكمة العليا في الكيان الصهيوني على
خطة التوسيع وردت التماسا تقدم به مواطنون فلسطينيون تتهدد المصادرة أراضيهم، ضد مشروع
التوسيع الذي يلتهم اثني عشر ألف دونم من أراضي أبوديس والعيزرية والعيسوية والطور وعناتا.
فور صدور قرار المحكمة العليا، قامت سلطات الحتلل بشق مسارب أرضية في جبل الزيتون، تشمل
نفقين، يربطان الحياء الستيطانية في القدس الشرقية ومستوطنة )معاليه أدوميم(، مع منطقة )شدروت
حاييم بارليف( غرب المدينة.
وأواسط العام ألفين أعلن الرهابي أيهودا باراك رئيس الوزراء الصهيوني، أنه سيضم مستوطنتي
)جعفات زئيف( و)معاليه أدوميم( إلى القدس بشكل عاجل، معطيا أمر المباشرة في التنفيذ.
وفي نيسان من عام ألفين وواحد أعلنت حكومة الرهابي شارون عن توسعه جديدة )لمعاليه أدوميم(،
تشمل إقامة أربعمائة وستة وتسعين مسكنا استيطانيا فيها.
مشروع القدس الكبرى
عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، قدم شموئيل نامير مشروعا إلى الكنيست الصهيوني سمي مشروع
القدس الكبرى التي تشمل بالضافة إلى مدينة القدس في حدودها البلدية الموسعة، ثلث مدن وسبعا
وعشرين قرية في الضفة الفلسطينية، هي مدن بيت لحم وبيت ساحور وبيت جال والقرى المحيطة بها.
جرت مناقشة هذا المشروع، وأدخلت تعديلت عليه، لكنه بقي قائما باسم القدس الكبرى، واستندت
نسخته الجديدة إلى ما يعرف بخطة الجيش وهي الخطة الستيطانية المنية القائلة بوجوب نقل حدود
القدس إلى ما وراء الجبال المحيطة بالمدينة ما بين منطقة قلنديا شمال، ومنطقة بيت لحم جنوبا،
ومابين )معاليه أدوميم( شرقا، و)معالية هعشميا( غربا بحيث تكون المساحة الكلية نحو مائتي ألف
دونم.
في العمليات التنفيذية جرى التحرك في نطاق مئة وعشرة آلف دونم، وهي ذات المساحة التي حددها
وزير الداخلية الصهيوني حاييم شابيرا سنة تسع وستين، ثم جرى تجاوز هذه المساحة تدريجيا، ما
يعني أن الحديث عن التقليص قد ظل في الطار النظري، ذلك أنه قد جرى الشروع عمليا في استيطان
سفوح الجبال المحيطة بالقدس لجهة المدن والقرى والتجمعات العربية، حتى أن كثيرا من قرى بيت لحم
وبيت ساحور جنوبا، ورام ال شمال قد أضحت ضمن الطوق الستيطاني الذي يشكل القدس الكبرى.
وفي سياق هذا المشروع عمد الصهاينة إلى السياسة المعروفة بتسمين المستوطنات، والتي تعني ضم
حيازات جديدة للمستوطنات، ثم إدارجها في نطاق القدس الكبرى، وهو ما حدث في مستوطنة )معالية
ادوميم(، فقد ضم إليها خمسة عشر ألف دونم، وأدخلت في نطاق القدس الكبرى، ويتطلع الصهاينة إلى
دمج كامل كتلة )غوش عتصون( الستيطانية في نطاق المشروع، ما يخلق كتلة هائلة من الستيطان
والمستوطنين، تشطر الضفة الفلسطينية إلى شطرين كبيرين، شمالي وجنوبي، تفصل بينهما القدس
الكبرى.
عام اثنين وتسعين أطقلت الحكومة الصهيونية حملة استيطانية باتجاه مناطق بيت لحم، وبيت جال،
وبيت ساحور، انطلقا من حدود الحياء الستيطانية في القدس، وضاعف الصهاينة شق الطرق في
منطقة )غوش عتسيون(، التي أعلن عن قرب ضمها إلى القدس، حيث قال اسحق شامير إن )إسرائيل(
لن تتخلى مطلقا عن أي جزء من عاصمتها القدس بل ستقوم بتوسيعها شرقا وغربا إن أي محاولة من
جانب أي شخص سيء النية لتقويض وحدة القدس ستبوء بالفشل.
وبالتزامن مع ذلك، أعلن عن نية الصهاينة إسكان القدس بمليون مستوطن، على نحو يجعل حياة
الفلسطينيين مستحيلة فيها.
هذا التصريح جاء في وقت جرى فيه استنفاذ مساحات الستيطان داخل القدس ما عنى توجها للتوسع
في مساحات جديدة، وهو ما حدث فعل بإبرام عقود لبناء عشرات الوحدات السكنية الستيطانية في
الفترة النتقالية الفاصلة ما بين حكومتي الليكود والعمل، وعندما جاء رابين إلى الحكم أعلن أنه ملزم
بتنفيذ العقود والمواثيق التي أبرمتها الحكومة السابقة بشأن الستيطان.
وقد أطلق رابين بالذات حملة مصادرات واسعة في الراضي حول القدس، وصفت بأنها الكبر من
نوعها في مدى زمني قصير نسبيا.
لحقا بدا أن كل السلوك الستيطاني الصهيوني في القدس، يندرج في إطار تنفيذ المخطط الهيكلي للقدس
الكبرى الذي نشر عام سبعة وثمانين، والذي أوضح جملة من البعاد المستهدفة صهيونيا وأهمها:
تعزيز المواقع الستيطانية القائمة تمهيدا لتطبيق مراحل جديدة من برنامج حزام المستوطنات، وتجزئة
الوحدة العضوية لراضي الضفة، عن طريق خطة شبكة الطرق القطرية، وشبكة الطرق القليمية، إلى
شرائح تنموية فرعية، ترتبط بمراكز ثقل تنموية مرادفة في الكيان الصهيوني.
يلحظ هذا المخطط مساحة للقدس بطول خمسة وأربعين كيلومترا، وبعرض عشرين كيلومتر، وهو يريد
تقويض البنية العمرانية في البلدة القديمة، وتقويض البنية السكانية الفلسطينية في هذه المساحة
الواسعة، وبدءا من عام ثلثة وتسعين أخذ الصهاينة يتحدثون عن مشروع القدس اليهودية العظمى.
معركة دير ياسين ومجزرتها
استغلت العصابات الصهيونية انشغال المجاهدين بتشييع المجاهد عبد القادر الحسيني، لقتراف المجزرة
البشعة في دير ياسين.
تقع دير ياسين إلى الغرب قليل من القدس ويندرج الهجوم الذي تعرضت له في إطار خطة )نحشون(
الصهيونية لفتح الطريق إلى القدس، ولكن بعض العصابات الصهيونية سعت إلى التخلص من
المسؤولية عما حدث في القرية بادعاء أن الهاغانا لم تشارك في الهجوم والمذبحة، وأن المر اقتصر
على عصابتي الرغون وشتيرن.
الحقيقة وحسب ما كشفت الكثير من الوثائق أن التنسيق بين العصابات الصهيونية قد بلغ أوجه عشية
المجزرة، وقد وجه زعيم الهاغاناه برقية إلى قائد الرغون يقول فيها: "لقد بلغني أنكم تخططون للهجوم
على دير ياسين، وفي هذا الصدد أود أن ألفت نظركم إلى أن غزو دير ياسين، هو خطوة واحدة ضمن
خطتنا، وأنني شخصيا ل أعترض على هذه المهمة".
فجر العاشر من نيسان سنة ثمانية وأربعين، بدأ الهجوم على دير ياسين، حيث تحركت وحدات
الرغون، إضافة إلى عناصر البالماخ والهاغاناه لكتساح دير ياسين من الشرق إلى الجنوب، وتبعتهم
جماعة شيترن بسيارتين مصفحتين، وضع عليهما مكبر للصوت. استوعب المدافعون عن القرية الموجة
الولى من الهجوم الصهيوني، وكادوا يردونه، لول قلة الذخائر، وعدم إمكانية وصول نجدات.
طور الصهاينة هجومهم مجددا، ودار القتال من بيت إلى بيت، وحسب اعتراف الرهابي مناحيم بيغن:
أن العرب دافعوا عن بيوتهم وأطفالهم ونسائهم بقوة، مع بدء تقدم الصهاينة داخل القرية، أخذوا بنسف
البيوت بيتا بيتا على من فيها، ووجهوا نداءات عبر مكبرات الصوت، بأنهم تركوا الطريق باتجاه بيت
كارم مفتوح لمن يريد الخروج، وعندما خرج عدد من الهالي حصدتهم رشاشات الصهاينة، أما الذين لم
يخرجوا، فقد جرى إلقاء القنابل داخل منازلهم، ثم الدخول إليها والجهاز على من تبقى فيها بواسطة
السكاكين والفؤوس والبلطات.
مع ذلك ظل تقدم الصهاينة إلى وسط القرية بطيئا بسبب المقاومة التي أبداها أهلها، ولذلك أرسل القادة
الصهاينة بشحنات كبيرة من المتفجرات إلى دير ياسين، مع تعليمات بتدمير كل منازلها، وإبادة كل
عربي فيها.
استمرت عمليات القتل والتدمير حتى الظهر، ومن أصل أربعمائة نسمة هم سكان دير ياسين استطاع
مغادرة القرية أربعون فقط، أما الباقون فقد قتلهم الصهاينة جميعا، ودفن مائتان وخمسون منهم في قبر
جماعي تولت عصابة الهاغاناه حفرة في أحد أطراف القرية.
أغلق الصهاينة البلدة أثناء القيام بعمليات الدفن، ومنعوا بعثة للصليب الحمر من دخولها، لكن رئيس
البعثة الفرنسي تمكن من الدخول وشاهد أكوام الجثث وكتب في تقرير له: "لم يرفضوا مساعدتي
فحسب، وإنما رفضوا أن يتحملوا مسؤولية ما يحدث لي، وكانت العصابة ترتدي ملبس الميدان وتعتمر
الخوذات، وكان جميع أفرادها شبانا ومراهقين ذكورا وإناثا، مدججين بالسلح، وكان القسم الكبر منهم
ل يزال ملطخا بالدماء، وخناجرهم الكبيرة في أيديهم، وعرضت فتاة جميلة تطفح عيناها بالجريمة يديها
وهما تقطران دماء وكانت تحركهما وكأنهما ميدالية حرب".
وقعت المجزرة في ظرف صعب، نظرا لستشهاد القائد عبد القادر الحسيني، كما أن القيادة الفلسطينية
في حينه لم تدرك الثر النفسي الذي تريده المجزرة، فجرى التهويل في الحديث عن الرقام والفظائع
التي اقترفت في دير ياسين، بهدف كسب تعاطف إنساني ولكن النتيجة جاءت لصالح الصهاينة، إذ قام
سكان بعض القرى بإخلئها دون قتال وحتى وصول الصهاينة إليها، وهو ما يقول الصهاينة أنه كان
خدمة كبيرة لهم، وحققت أهدافهم مما اقترفوه في دير ياسين.
قيام منظمة التحرير الفلسطينية
في بيت المقدس، التأم أواخر أيار من عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين شمل المؤتمر الفلسطيني
الول. حيث ضمت قاعات فندق النتركونتيننتال في المدينة ثلثمائة وسبعة وتسعين عضوا يمثلون
الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، للبحث في إقامة القواعد السليمة لنشاء الكيان الفلسطيني.
جاء انعقاد المؤتمر في القدس، حصيلة جهود مكثفة بذلها الستاذ أحمد الشقيري مكلفا من مؤتمر القمة
العربي الول، وهو في تحركه النشط تجاوز حدود قرار القمة من مجرد "التصال" بالشعب الفلسطيني،
إلى عقد مؤتمر وطني في القدس، سوف يتحول إلى المجلس الوطني الفلسطيني لحقا.
ويعتبر هذا المؤتمر هاما جدا من نواح عديدة، فهو قد انعقد في بيت المقدس، وشمل أوسع تمثيل ممكن
للشعب الفلسطيني في حينه. ثم شهد العلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، والمصادقة على
الميثاق القومي لمنظمة التحرير.
وقد قال الستاذ أحمد الشقيري الذي انتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير: إن شعب فلسطين
يجتمع في مدينة القدس الخالدة لول مرة بعد كارثة فلسطين ليعلن عبر هذا المؤتمر للدنيا بأسرها، أننا
نحن، أهل فلسطين، وأصحابها الشرعيين، قد التقينا على تحرير فلسطين.
وأعلن أن أهل فلسطين يرفضون السير في أي طريق إل طريق الكفاح المسلح. وقرر المؤتمر، أن قيام
)إسرائيل( في فلسطين، وهي جزء من الوطن العربي، رغم إرادة أصحابها الشرعيين يعتبر عدوانا
استعماريا صهيونيا مستمرا، ويخالف مبدأ حق تقرير المصير، وبقاء إسرائيل في هذا الجزء من الوطن
العربي يشكل خطرا مستمرا على كيانه وعلى السلم العالمي، وأن للشعب العربي الفلسطيني، بموجب
العراف الدولية والمبادئ المقررة، الحق في أن يناضل في سبيل تحرير وطنه بكافة الوسائل مدعوما
بمساعدة الدول العربية الشقيقة والدول المحبة للسلم.
كما قرر المؤتمر، المباشرة فورا بفتح معسكرات لتدريب جميع القادرين من الشعب الفلسطيني، رجال
ونساء، على حمل السلح، وبصورة إلزامية ودائمة، وتشكيل كتائب فلسطينية عسكرية نظامية، وكتائب
فدائية قادرة وفعالة. واتخاذ كافة الجراءات السريعة لتزود الكتائب الفلسطينية بمختلف أنواع السلحة
الحديثة والتجهيزات اللزمة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات للحاق الشباب الفلسطيني وزيادة أعداده في
الكليات العسكرية بأنواعها لدى الدول العربية والصديقة، وتطبيق نظام المقاومة الشعبية، والدفاع
المدني في صفوف الشعب الفلسطيني.
إضافة إلى عدد كبير من القرارات في المجالت السياسية والعسكرية والعلمية والقتصادية.
اتخذ المؤتمر من مدينة القدس مقرا له. كذلك أن تكون مقرا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
التي ظلت تعقد اجتماعاتها في مدينة القدس، حتى عدوان حزيران سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين.
وتقرر أن تكون مدينة القدس مقرا لكل أمانات المنظمات الشعبية والتحادات الفلسطينية التي تقرر
إنشاؤها. وهو ما حدث بالفعل، حيث عقدت منظمات واتحادات مؤتمرات لها في القدس. كما أن
المنظمات التابعة لجامعة الدول العربية، عقدت خلل عام ألف وتسعمائة وستة وستين مؤتمراتها في
مدينة القدس تأكيدا على عروبة المدينة ودعما لمنظمة التحرير الفلسطينية.
شكل المؤتمر الفلسطيني الول في القدس، قاعدة المؤسسة الرسمية الفلسطينية، التي شاركت في
مؤسسات جامعة الدول العربية، واعتبرت بمثابة الكيان السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني، ورغم
الثغرات التي حالت دون وضع الكثير من القرارات موضع التنفيذ، إل أن هذه المبادرة قد نجحت في
تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، وبعد وقت قصير انطلق الكفاح
الفلسطيني المسلح.
كلية العلوم والتكنولوجيا أبو ديس
تعود فكرة إنشاء جامعة عربية في القدس إلى عام واحد وثلثين، حيث اتخذ المؤتمر السلمي العام
قرارا بإنشاء جامعة إسلمية، وذلك بعد أن كان الصهاينة قد قاموا بافتتاح جامعة لهم، هي الجامعة
العبرية عام خمسة وعشرين.
غير أن القرار لم ينفذ لسباب متعددة، ثم عطلت نكبة فلسطين تحول الكلية العربية في القدس إلى
جامعة، وفي أواسط الستينات عادت الفكرة إلى الظهور مجددا، فاتخذ المؤتمر الطبي العربي المنعقد في
الكويت قرارا بإنشاء كلية الطب في القدس تكون نواة لجامعة فلسطين العربية.
وبعد أيام قليلة من اتخاذ القرار، قام الملك حسين، والشيخ صباح السالم أمير الكويت، بوضع حجر
الساس، لقامة المعهد العربي، وكلية العلوم والتكنولوجيا في أبو ديس بالقدس، وأعلن وزير الخارجية
الكويتي في حينه أن أمير الكويت سيسهم بمبلغ مئة ألف دينار لمشروع إنشاء المعهد العربي في
القدس لبناء اللجئين.
بدأ العمل في البناء، ولكنه تعطل بفعل الحتلل الصهيوني عام سبعة وستين، ثم بعد ثلث سنوات،
جرى الفتتاح كمدرسة إعدادية، واستمر يعمل بوصفه كذلك سنوات عدة. إذ برغم موافقة السلطات
الصهيونية على افتتاح جامعات عدة في المدن الفلسطينية، مثل بيرزيت، وبيت لحم، وجامعة النجاح في
نابلس، فقد رفضت باستمرار الموافقة على افتتاح كلية جامعية في القدس، مع أن المم المتحدة
أصدرت قرارات عدة بهذا الشأن تدعو الحكومة الصهيونية إلى الموافقة على افتتاح الجامعة في "أبو
ديس".
سنة تسعة وسبعين، اتخذت جمعية المعهد العربي في الكويت قرارا بدعم المعهد العربي في القدس،
وتطويره إلى كلية للعلوم والتكنولوجيا، تكون نواة جامعة عربية في القدس، وتم تخصيص مبلغ مئة
وخمسين ألف دينار لدعم المشروع، كما قدمت منظمة المؤتمر السلمي أربعمائة وثمانين ألف دولر
للغاية نفسها.
وفي السنة ذاتها تم افتتاح الصف العلمي الول في كلية العلوم والتكنولوجيا مع البقاء على المعهد
العربي كمدرسة إعدادية بكامل حقوقه وطلبه، عملت الكلية لشهر معدودة، قبل أن تقوم قوات الحتلل
بإغلقها تعسفا بذريعة افتتاحها دون موافقة السلطات الصهيونية والتي كانت تحارب أي وجود
مؤسساتي عربي في القدس وضواحيها.
لجأت الكلية إلى القضاء الصهيوني، الذي أصدر قرارا ملتبسا سمح بموجبه بافتتاح صف جامعي واحد،
ما يفقدها أي أفق للتطور كجامعة، وفي سنة إحدى وثمانين عاودت الكلية نشاطها، وتم تجديد المنحة
الكويتية لها، وكان عليها أن تخوض مجددا معركة الستمرار باستكمال صفوفها الجامعية.
تلقت الكلية دعما من مجلس التعليم الفلسطيني ومن اللجنة المشتركة الردنية الفلسطينية لدعم
الصمود، خاصة بعد أن أصدر اتحاد الجامعات العربية، في اجتماع له بالخرطوم سنة اثنين وثمانين،
قرارا اعترف بموجبه بقيام جامعة القدس، من كليات العلوم والتكنولوجيا في أبو ديس، الدعوة وأصول
الدين في القدس، العربية للمهن الطبية في البيرة، ثم انضمت إليها كلية الداب للبنات بالقدس نهاية
عام ثلثة وثمانين.
وبالتوازي مع ذلك أنشأ مجلس التعليم الفلسطيني العالي "جامعة القدس المفتوحة ".
كامب ديفيد الولى
في تشرين الثاني من عام سبعة وسبعين، ألقى الرئيس المصري أنور السادات خطابا أمام الكنيست
الصهيوني في القدس المحتلة، تجاوز السادات بهذه الخطوة كل الخطوط الحمراء ولكنه سعى إلى إظهار
تمسك لفظي بعودة الجزء المحتل من القدس سنة سبع وستين إلى السيادة العربية وتحدث عن اعتبار
دور العبادة السلمية والمسيحية شاهد صدق على الوجود العربي الذي لم ينقطع في هذا المكان سياسيا
وروحيا وفكريا.
وفي رده على كلم السادات، اعتبر الرهابي مناحيم بيغن أنه فيما يتعلق بإدارة الماكن المقدسة يصدر
ويقدم اقتراح خاص يضمن حرية وصول أبناء الديانات إلى الماكن المقدسة الخاصة بهم.
مع بدء المفاوضات بين الجانبين المصري والصهيوني برعاية أمريكية، طالب السادات الرئيس
المريكي جيمي كارتر بالضغط على الكيان الصهيوني لتقديم ضمانات حول القدس وقدم الوفد المصري
مشروعه للتسوية، الذي ضمنه حول القدس نصا يقول:
"تنسحب )إسرائيل( من القدس إلى خط الهدنة المبين في اتفاقية الهدنة الموقعة عام تسعة وأربعين
وتعود السيادة والدارة العربية إلى القدس العربية ويشكل مجلس بلدي مشترك للمدينة من عدد متساو
من العضاء الفلسطينيين والصهاينة".
لكن رسالة السادات التفصيلية إلى كارتر تضمنت أساسا سيعرف لحقا باقتراحات الحل البلدي للقدس.
تحدث السادات في رسالته عن أنه يجب "أن يكون لجميع الشعوب حرية الوصول إلى المدينة، والتمتع
بحرية ممارسة شعائرهم، وأن الماكن المقدسة لكل ديانة يمكن أن توضع تحت إدارة ممثليها وسلطتهم.
كذلك فإن الوظائف الساسية في المدينة يجب أل تقسم، ويشكل مجلس بلدي مشترك".
جواب الصهاينة على المقترحات المصرية، جاء في رسالة بيغن إلى كارتر والتي قال فيها: "إن حكومته
الصهيونية أصدرت مرسوما في تموز من عام سبعة وستين، ينص على أن القدس مدينة واحدة غير
قابلة للتقسيم، وهي عاصمة )دولة إسرائيل(.
لم تنكشف صيغة الحل البلدي الذي اقترحه السادات إل بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق حول القدس،
فقد قال السادات بعد توقيع التفاقية مع الصهاينة:
بالنسبة للقدس، إنها بين المور التي لم نتفق عليها تماما، ولم تتضمنها التفاقية، ومضيفا:
أنا غير مؤهل لتحدث وحدي عن القدس ل بد أن يكون معي الملك حسين، وكان هذا قرار مني ومن
أمريكا.
وفي تصريحاته ذاتها أوضح السادات أنه تقدم بمقترحات حول القدس، بحيث ل يعاد تقسيمها مرة أخرى
أو بحيث يكون في القسم الشرقي إدارة عربية، وفي القسم الغربي إدارة صهيونية وفوقهما بلدية
مشتركة.
سيكون هذا أساسا لقتراحات لحقة حول التسوية في القدس، وسيثابر السادات على القول أن الموقفين
المصري والمريكي من قضية القدس متطابقان، مستندا إلى رسالته تلقاها من جيمي كارتر يقول فيها
إن واشنطن ل تقر إعلن القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وأن الحل فيها يكون عبر المفاوضات.
كما سيثابر على طرح مشروعه بالحل البلدي واعتباره السبيل المتاح لحل قضية القدس. فبعد أن أصدر
الكنيست الصهيوني قراره بضم المدينة، قال السادات: حينما تحدثت مع صديقي بيغن بخصوص القدس
كانت وجهة نظري أن للقدس حساسية دينية لنا جميعا، وعلى ذلك فقد كان تصوري هو أن الدعوة
لتقسيم القدس مرة أخرى ل بالسلك الشائكة ول بغيرها وإنما تعود القدس مدينة موحدة، ولكن الجزء
العربي منها يكون تحت سيادة عربية، مع بلدية مشتركة ومجلس بلدي مشترك، وينتخب العمدة
بالترتيب".
ردود صديقه بيغن كانت بتثبيت ضم القدس وتوسيع حدودها، وإغراقها بالمستوطنين.
كامب ديفيد الثانية
يتردد كثيرا أن اجتماعات كامب ديفيد الثانية قد فشلت بسبب الخلف على الحلول بشأن وضع القدس.
دعا إلى الجتماعات الرئيس المريكي بيل كلينتون وشارك فيها كل من ياسر عرفات على رأس وفد
فلسطيني، والرهابي ايهود باراك على رأس وفد صهيوني، وذلك لمناقشة ما تعرف بقضايا الحل
النهائي حسب أجندة أوسلو وهي: القدس، المستوطنات، اللجئون. إلى جانب ملفات أخرى توصف
عادة بأنها ملفات القضايا الصعبة.
ذهب الصهاينة إلى تلك الجتماعات، وهم يعلنون أن القدس هي العاصمة البدية والموحدة لكيانهم
وأنهم لن يقبلوا أي تقاسم فيها، مع الستعداد لحل اعتبروا أنه يضمن حرية العبادة في المدينة
المقدسة.
أما خلف ما هو معلن، فقد كان يجري التداول في مجموعة من السيناريوهات، لتقسيم البلدة القديمة
من القدس التي تضم الحرم القدسي الشريف، والمقدسات السلمية والمسيحية.
كان الصهاينة قد أطلقوا منذ عام ثلثة وتسعين، العديد من التصورات الختبارية لتقسيم البلدة القديمة،
من بين هذه التصورات، ما نشرته الصحف الصهيونية في العام المذكور، بتوقيع الباحث أبراهام
أبولتكا، وفيه اقتراح بتحويل ساحة الحرم إلى نوع من الفاتيكان بطوابع وعلم، ويدار المكان من خلل
مجلس وهيئة إدارية تعينها كل الدول السلمية، والجهات السلمية في الدول غير السلمية كالوليات
المتحدة وإنكلترا. ويتحدث القتراح عن تحويل كنيسة القيامة وجوارها إلى دولة مسيحية، تدار من
هيئة تتشكل من مندوبي الكنائس المسيحية الممثلة في القيامة حاليا.
ثم دولة صهيون، التي تضم حائط البراق، بما في ذلك أقبية الحائط، وتدار من هيئة ينتجها اليهود في
جميع أنحاء العالم.
تكررت أمثال هذا القتراح كثيرا، كما جرى التداول في جعل إحدى ضواحي القدس، عاصمة لدولة
فلسطينية.
كان الرئيس المريكي يطمح إلى تسجيل إنجاز باسمه يوصل المفاوضات بين الجانبين إلى توقيع اتفاق،
فاختار منتجع كامب ديفيد مكانا للجتماعات وعزله عن الصحافة.
ربما أراد السير على خطى سلفه كارتر، بإنجاز التفاق في كامب ديفيد الولى، وكي يضمن النجاح
لجهوده، عمد إلى تقديم سلسلة من التصورات والقتراحات حول القضايا موضع النقاش.
في مسألة القدس، حاول الرئيس المريكي أن يستخلص تصورا من مجمل التصورات التي تم عرضها
بشأن القدس، منذ قرار التقسيم سنة سبعة وأربعين، حتى لحظة انعقاد الجتماعات في كامب ديفيد.
حاول كلينتون في اليام الولى للجتماعات تمرير اقتراح بتجميد الوضع الراهن داخل البلدة القديمة
ا إلى الحرم، ورفع العلم t آمن t ونقل التفاوض عليها إلى مرحلة قادمة، مع إعطاء الفلسطينيين ممرا
الفلسطيني فوق المساجد. لكن القتراح رفض، فعاد كلينتون إلى تقديم تصور تفصيلي في اللحظات
الخيرة.
استند التصور المريكي الجدي إلى القتراحات الختبارية الصهيونية فجاء فيه: "كل ما فوق الرض،
المسجد القصى وقبة الصخرة والباحة الواقعة بينهما تكون هي الحرم الشريف، وتحت السيادة
الفلسطينية، أما ما تحت المقدسات السلمية، والذي قد يحتوي على أطلل الهيكل اليهودي، فسوف
يخطى بمكانة خاصة يتم فيها احترام الصلة اليهودية.
ويقترح كلينتون بديلين:
"في الخيار الول تمنح )إسرائيل( السيادة ما تحت الرض والتي ستكون على ارتباط بباحة حائط البراق
الذي سيخضع في كل الحوال للسيادة )السرائيلية(.
أما الخيار الثاني، فيذكر الصلة بما يسميه المقدسات اليهودية الواقعة تحت الحرم القدسي، ويقترح
إقامة جهاز إشراف دولي خاص يقلص السيادة الفلسطينية على ما تحت الحرم ويمنع الحفريات في
المكان.
وفي البلدة القديمة، يقوم نظام خاص يتيح المرور الحر من دون سياج أو معابر حدودية، ويقضي هذا
النظام بإخضاع الحي المسيحي والحي السلمي للسيادة الفلسطينية، فيما يبقى الحي اليهودي وحائط
البراق تحت السيادة اليهودية.
ويتم تقسيم الحي الرمني بصورة تمنح )لسرائيل( سيادة على ممر باب يافا إلى حائط البراق، على أن
يخضع باقي الحي للسيادة الفلسطينية.
ويضم اقتراح وضع جبل الزيتون وسلوان )التي يسميها الصهاينة مدينة داوود( المجاورين للبلدة
القديمة تحت السيادة الصهيونية.
لم تلق مقترحات كلينتون نجاحا، ومعلوم أن كامب ديفيد الثانية انتهت إلى الفشل، وحمل الصهاينة
والمريكيون مسؤولية فشلها إلى الجانب الفلسطيني الذي لم يكن ليجرؤ على توقيع اتفاق ينقض من
السيادة على القدس ويسقط حق عودة اللجئين الفلسطينيين.
مجزرة الحرم القدسي
1990
مثلما كان حريق المسجد القصى سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين، فقد كانت المجزرة الوحشية التي
اقترفها الصهاينة في المسجد القصى يوم الثامن من تشرين الول سنة ألف وتسعمائة وتسعين جريمة
مدبرة.
قبل المجزرة بأيام، وزعت الجماعة المسماة "أمناء جبل الهيكل" بيانا على وسائل العلم الصهيونية
عرش اليهودي، أعلنت فيه أنها تنوي القيام بمسيرة باتجاه المسجد القصى يوم _ بمناسبة ما يسمى عيد ال
الثامن من تشرين الول، لسترداد المسجد من أيدي العرب، ودعت اليهود إلى المشاركة في هذه
المسيرة التي وصفها البيان بالحاسمة لوضع حجر الساس لبناء ما أسمته الهيكل الثالث.
مع صدور هذا البيان، تنادى المسلمون من كل أنحاء فلسطين لحماية المسجد، ومنذ صلة فجر ذلك
اليوم، بدأ المسلمون بالتوافد إلى المسجد للحيلولة دون دخول الجماعة الرهابية الصهيونية إليه.
السلطات الصهيونية التي كانت تبيت للجريمة سمحت بدخول المصلين بأعداد كبيرة رغم أنها دأبت على
منع من يقل عمره عن خمسة وثلثين عاما من دخول المسجد.
مع تقدم النهار، بدا الوضع هادئا، لكنه يشي بالريبة، فتعداد أفراد الشرطة الصهيونية كان أكبر من
حجمه المعتاد بكثير.
عند العاشرة وأربعين دقيقة عل صراخ النساء المتواجدات في مصلى النساء وعلى سطح مسجد قبة
الصخرة، حيث أمطر اليهود السماء بقنابل غازية تجاههن.
توجه المصلون صوب الصراخ، فبدأ الجنود الصهاينة بإطلق الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز
باتجاههم.
تعالت أصوات التكبير في المسجد وساحات الحرم القدسي، فخرج المصلون الذين انتبهوا إلى صوت
إطلق الرصاص إلى الساحات للدفاع عن مسجدهم.
واندلعت معركة غير متكافئة.. الصهاينة يطلقون الرصاص الحي.. والشبان والطفال والشيوخ والنساء
يردون عليهم بالحجارة، لتغوص ساحة المسجد وساحات الحرم بالدماء التي انتشرت على مساحة
واسعة.
افتدي القصى بدماء اثنين وعشرين شهيدا وأكثر من مائتي جريح تراوحت جراحهم بين الخفيفة
والمتوسطة، وكان يوما مشهودا آخر من أيام القدس.
قوات الحتلل التي اقترفت هذه المجزرة الوحشية ادعت أنها تعرضت لمضايقات أجبرتها على أن تقوم
بما قامت به.
في حين أكد شهود العيان أن الشرطة الصهيونية كانت تزود المستوطنين بأمشاط الرصاص كي
يساعدوها في إطلق النار على المصلين المسلمين في المسجد القصى وساحات الحرم القدسي.
الهيئة السلمية شكلت لجنة لتقصي الحقائق ردا على الدعاءات الصهيونية، وقد أكد التقرير الذي
أصدرته اللجنة التي شكلتها الهيئة على أن المجزرة كانت مبيتة وأن الصهاينة قاموا بالعداد لها بشكل
محكم.
وأورد التقرير قول للضابط المسئول عن حرس الحدود لمساعد مدير المسجد القصى:
"إذا ما رمي حجر صغير علينا، فإننا سنطلق الرصاص الحي، ول يكفيني قتل مئة ألف مسلم".
وهذا القول الذي ترجمه الصهاينة جزئيا يعكس نيتهم بتنفيذ الجريمة، علما أن الصهاينة هم من بدأ
العتداء بمهاجمة مصلى النساء.
مجلس المن الدولي أصدر قرارا دان فيه المجزرة الوحشية التي وقعت في الحرم القدسي وحمل القوات
الصهيونية المسؤولية عنها.
وهو قرار أضيف إلى قرارات سابقة وسوف تلحقه قرارات أخرى دون جدوى أو ترجمة فعلية على
الرض.
في قرارات اليونسكو
كان حال اليونسكو، وهي منظمة دولية تتبع المم المتحدة، مع الكيان الصهيوني، شبيها بحال الجمعية
العامة ومجلس المن، ربما باستثناء أن اليونسكو، نجحت في بعض الخطوات العملية المحدودة للحفاظ
على التراث الل نساني الحضاري في المدينة المقدسة.
عام واحد وسبعين، وضع أمين القدس روحي الخطيب المجلس التنفيذي لليونسكو في صورة المخاطر
التي تتهدد مدينة القدس، نتيجة الجراءات الصهيونية الهادفة إلى تغيير معالم المدينة وتهويدها.
وفي العام التالي انهار رباط الكرد جزئيا فدانت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم أعمال
الحفريات التي يقوم بها الصهاينة، والتي سببت هذا النهيار.
وفي العام نفسه، أقرت الدورة السابعة عشر لتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي التي
نظمتها اليونسكو، أقرت اعتبار البلدة القديمة من القدس ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر.
بذلت المنظمة الدولية جهودا مضنية مع الصهاينة لوقف أعمال الحفريات، ولكن الصهاينة أحبطوا كل
مساعيها، فقررت عرض القضية على المؤتمر العام لليونسكو الذي أدان الكيان الصهيوني عام أربعة
وسبعين، لقيامه بتبديل الشخصية الثقافية والتاريخية لمدينة القدس، كما اتخذ المؤتمر قرارا يدعو
المين العام لليونسكو إلى عدم تقديم أي عون في ميادين التربية والعلم والثقافة إلى الكيان الصهيوني.
عام ألف وتسعمائة وثمانين، دان المؤتمر العام لليونسكو مجددا وبشدة الكيان الصهيوني لرفضه
المستمر تنفيذ القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بشأن مدينة القدس، وأوصى لجنة التراث
بالتعجيل في اتخاذ الجراءات المتعلقة بإدراج مدينة القدس في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر،
تنفيذا للقرار المتخذ عام اثنين وسبعين، وهو ما تم تنفيذه فعليا عام ثلثة وثمانين، حيث أقر المؤتمر
العام لليونسكو في الن عينه، دعوة الدول العضاء إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير ضد الكيان الصهيوني
الذي يرفض المتثال لمطالبات اليونسكو المتكررة بوقف التغييرات التي يجريها في القدس.
عام خمسة وثمانين طالبت المنظمة الدولية بتوجيه دعم إلى الوقاف السلمية التي تقوم بصون التراث
السلمي الحضاري في المدينة المقدسة، وعقدت في العام التالي ندوة عالمية حول التراث الحضاري
النساني في القدس، فيما طالب المؤتمر العام مجددا دعم عمليات الترميم وصون التراث الحضاري في
المدينة المقدسة، بغية الحفاظ على طابعها.
ووجهت اليونسكو عام سبعة وثمانين نداء عاجل إلى الكيان الصهيوني طلبت فيه إليه التوقف الفوري
والنهائي عن الحفريات والجراءات الهادفة إلى تغيير طابع المدينة المقدسة.
بالطبع لم يلتفت الصهاينة إلى هذا النداء، فقررت منظمة اليونسكو في العام التالي فتح حساب خاص
لتلقي إسهامات الدول العضاء في صون التراث الثقافي في القدس، وأرفق العلن عن فتح الحساب
بنداء إلى كافة الدول العضاء لتقديم إسهاماتها.
حاولت المنظمة الدولية إيفاد بعثة تمثل المين العام إلى القدس، لدرس مختلف الجوانب الثرية والفنية
والجتماعية والثقافية المرتبطة بصون المواقع في المدينة.
عطل الصهاينة وصول هذه البعثة على مدى عامي تسعة وثمانين وتسعين، وعقب زيارتها القدس عام
واحد وتسعين، دعت المنظمة الدولية إلى تشكيل مجلس مؤلف من شخصيات علمية مشهود لها
بالكفاءة لتقديم المشورة لترميم الثار السلمية في القدس.
ساهمت اليونسكو في ترتيب دعم مالي لترميم المسجد القصى عام اثنين وتسعين، وكذلك لترميم كنيسة
القيامة.. ولكن المجلس التنفيذي دعا سلطة الوقاف السلمية إلى مواصلة العمال في قبة الصخرة
حتى تتوافق عمليات الترميم مع المعايير العلمية، وإلى وقف الترميم في كنيسة القيامة حتى استكمال
المتفق عليها في مجال صون وترميم المعالم التاريخية.
وعام أربعة وتسعين، نجحت اليونسكو في البدء بأعمال الصيانة والترميم في سوق القطانين وحمامات
الشفاء، على أن تشرع بعد ذلك في أعمال الترميم في المسجد القصى.
تابعت اليونسكو اهتمامها بالقدس، ونجحت في أن تفتح عام ألفين في مقرها في باريس معرضا بعنوان
القدس مدينة النسانية، رغم اعتراضات صهيونية قوية.
في قرارات مجلس المن الدولي
كانت القدس حاضرة معظم الوقت في مداولت مجلس المن الدولي حول القضية الفلسطينية، وإذا كان
يقال على سبيل التنذر، إن قرارات مجلس المن بشأن فلسطين، تمل بيتا، فإن للقدس نصيبا وافرا منها،
عدا تلك القرارات التي حال الفيتو المريكي، دون دخولها سجل القرارات الخاصة بالقدس وفلسطين.
في نيسان من عام ثمانية وأربعين شكل مجلس المن لجنة قنصلية لحلل هدنة بين الطرفين المتحاربين
في القدس، وفي أيار من العام نفسه، أصدر قراره رقم تسعة وأربعين، الذي يشدد فيه على إحلل
الهدنة، وهو ما كرره في قراره رقم خمسين وفيه تأكيد على العمل من أجل تأمين حرية الماكن
المقدسة وتعين وسيط للشراف على قراره بوقف القتال وتثبيت الهدنة، وهو ما تكرر في القرار رقم
أربعة وخمسين، حيث دعا الوسيط إلى مواصلة الجهود من أجل نزع السلح في القدس دون إجحاف
بمستقبل وضع القدس السياسي.
ونجح المجلس بقراره هذا في تثبيت الهدنة الثانية، ما أدى إلى انقلب الوضع العسكري في المدينة
رأسا على عقب لصالح الصهاينة.
في قراره رقم ستين، قرر المجلس إقامة لجنة فرعية لمساعدة الوسيط برنادوت في تنفيذ قرارات
المجلس في القدس وتقديم القتراحات المناسبة ثم قام بتثبيت خطوط الهدنة بين القوات الردنية، والعدو
الصهيوني.
ما بين عامي تسعة وأربعين وسبعة وستين اقتصرت قرارات المجلس على تأييد نظام دولي خاص
للقدس، وتثبيت الهدنة.
وعام ثمانية وستين، أصدر قراره رقم مائتين وخمسين، وفيه دعوة للكيان الصهيوني للمتناع عن إقامة
عرض عسكري في القدس، المر الذي رفضه الصهاينة، ليبدي المجلس أسفه في قرار لحق على اقامة
هذا العرض، ثم ليشجب في القرار رقم مائتين واثنين وخمسين، عدم امتثال الكيان الصهيوني لقرارات
الجمعية العامة الداعية لعدم إجراء تغييرات في القدس من قبل الصهاينة، ومرة أخرى ووجه القرار
برفض الصهاينة.
عام تسعة وستين، تبنى المجلس القرار رقم مائتين وسبعة وستين، وفيه تأكيد على مضمون قراره رقم
مائتين واثنين وخمسين، الداعي إلى إلغاء جميع الجراءات التي قام بها الصهاينة لتغيير وضع القدس.
وفي قراره رقم مائتين وواحد وسبعين، إدانة لفشل الكيان الصهيوني، في حماية الماكن المقدسة بعد
حريق المسجد القصى، عام تسعة وستين.
عام واحد وسبعين، أصدر المجلس قراره رقم مائتين وثمانية وتسعين، وفيه أسف لعدم احترام الكيان
الصهيوني القرارات السابقة الصادرة عن المجلس، وتأكيد على أن جميع الجراءات الصهيونية في
القدس لغية كليا، وعام ستة وسبعين حذر المجلس الكيان الصهيوني من أي تدنيس للماكن المقدسة
في المدينة.
جاء القرار رقم أربعمائة وخمسة وستين، لسنة ثمانين، خاصا بالنشاط الستيطاني الصهيوني في الضفة
وهو دعا إلى وقف الستيطان في القدس وأنحاء الضفة الخرى، ودعا دول العالم إلى عدم تقديم أية
مساعدة تتعلق بالمستوطنات الصهيونية إلى الكيان الصهيوني ووجه المجلس في قراره رقم أربعمائة
وثمانية وسبعين لوما شديدا إلى الكيان الصهيوني، بعد مصادقة الكنيست على اعتبار القدس موحدة
وعاصمة للكيان الصهيوني، واعتبر ما قام به الصهاينة انتهاكا للقانون الدولي، ودعا جميع الدول التي
أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحبها.
المجلس عبر عن جزعه في القرار رقم ستمائة واثنين وسبعين لسنة تسعين، لعمال العنف التي وقعت
في الحرم الشريف، حيث اقترف الصهاينة مجزرة أدت إلى استشهاد أكثر من عشرين مواطنا فلسطينيا.
ودان المجلس ما قام به الصهاينة، وهو طالب عام اثنين وتسعين، الكيان الصهيوني، بتطبيق اتفاقات
جنيف على القدس.
عام ستة وتسعين، اندلعت انتفاضة النفق بعد أن افتتح الصهاينة نفقا يهدد أساسات المسجد القصى،
وفي المواجهات التي شهدتها هذه النتفاضة استشهد عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين.
أصدر مجلس المن قراره رقم ألف وثلثة وسبعين، وفيه دعا إلى إغلق النفق، وإلى ضمان سلمة
المدنيين الفلسطينيين وحمايتهم.
أضيف القرار إلى سابقاته، وسوف تضاف إليه قرارات أخرى، ولكن بوتيرة أقل بعد أن دأبت واشنطن
على إحباط أي قرار ل يروق للصهاينة، ولكن حتى القرارات التي تم تمريرها ظلت دون تنفيذ، وكرست
حقيقة تقول: إن الكيان الصهيوني فوق القانون الدولي الذي يفلح مجلس المن في تطبيقه وبسرعة في
أماكن أخرى.
قضية المطران كبوجي
لم يطق المطران هيلريون كبوجي، مطران القدس للروم الكاثوليك،رؤية المدينة وهي تهود، ورأى من
واجبه التصدي للجرام الصهيوني في المدينة المقدسية. فما كان من الصهاينة إل أن أضافوا إلى
جرائهم جريمة أخرى باعتقال المطران عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين.
سبقت هذا العتقال محاولت عديدة من قبل الصهاينة لثني المطران كبوجي عن مواقفه، وطالب
أعضاء كنيسة صهاينة الفاتيكان بعزله، بسبب نشاطاته وآرائه التي وصفها الصهاينة بأنها اتخذت
طابعا متطرفا وانحرفت عن شؤون الكنيست على حد زعمهم.
وتعرض المطران لحملة دعائية من الصحف ووسائل العلم الصهيونية التي ذكرت مرارا أنه وطني
عربي متشدد، وكان الوحيد بين رجال الدين الذي رفض حضور الحتفالت والستقبالت التي تنظمها
السلطات الصهيونية.
وجه الصهاينة للمطران كبوجي ثلث تهم هي: حيازة أسلحة، القيام بخدمة منظمة غير مشروعة،
والمقصود منظمة التحرير الفلسطينية، والتصال بعملء أجانب.
بعد أيام قليلة من اعتقاله قدم الصهاينة المطران إلى المحاكمة، وكشفوا عن التهام الحقيقي الذي
يوجهونه إليه، وهو التعاون مع الفدائيين الفلسطينيين.
أثار اعتقال كبوجي ردود فعل واسعة النطاق اعتبرت أن ما قام به الصهاينة،كان عمل مبيتا على تهمة
ملفقة للتخلص منه كأحد رجال الدين البارزين الذين صمدوا بصلبة في وجه الحتلل وقاوموا بكل
جرأة وبسالة كل مخططات سلطات الحتلل الرامية إلى تهويد مدينة القدس وتفريقها من سكانها.
واعتبرت هيئة المؤتمر السلمي العام أن من واجب العالم المتحضر العمل بأقصى سرعة لنقاذ حياة
المطران، وإنهاء الحتلل الصهيوني لبيت المقدس، حتى تعود المدينة إلى سابق عهدها مدينة للتسامح
والمحبة.
استمرت محاكمة المطران كبوجي وقتا طويل أظهر خللها بسالة وجرأة في مواجهة المحققين
الصهاينة، حيث أوضح أن عميل في المخابرات الصهيونية هدده بالموت إن لم يدل بإفادة تدينه
بالتهامات الموجهة إليه.
رغم حملة الستنكار الواسعة عربيا ودوليا، واصل الصهاينة محاكمة المطران، وتعذيبه في السجون
الصهيونية دون مراعاة لمكانته الدينية، ثم أصدرت المحكمة الصهيونية في كانون الول من عام ألف
وتسعمائة وأربعة وسبعين، حكما بالسجن على المطران لمدة اثني عشر عاما، بالتهم التي تضمنها
القرار التهامي ببنوده الثلث.
انطلقت حملة تضامن واسعة جديدة مع المطران كبوجي للمطالبة بالفراج عنه ولكن سلطات الحتلل
صمت أذنيها أمام كل النداءات والمطالبات بالفراج عنه واستمرت في اعتقال رجل الدين لمدة ثلث
سنوات، حتى أظهرت استجابة لضغوط من الفاتيكان، فجرى الفراج عن المطران سنة سبع وسبعين
شريطة أن يتكفل البابا بعدم صدور إي تصريحات تتعلق بالكيان الصهيوني عن المطران كبوجي وعن
موضوع اعتقاله، وأل يعود إلى الشرق الوسط للقامة أو العمل.
قبل الفاتيكان هذه الشروط، وغادر المطران القدس حزينا، وهو يقول: "إنني الن في المنفى ولو كنت
في روما عاصمة الكاثوليكية، فإذا تركت وطني زرعت روحي في القدس على أمل العودة كما تزرع
حبة الحنطة فإذا لم تدفن حبة الحنطة في الرض تموت، وأنا دفنتها بشرط حياتها وقيامتها، إنني
أعيش ألم الغربة والستعداد لمل العودة إلى وطني الكبر،أي دنيا العرب، ومنه إلى الوطن الصغر
"القدس وفلسطين".
ظهرت جهود لتعيين كبوجي مطرانا للبرازيل أو أمريكا الجنوبية ..لكنه ظل على موقفه محتفظا بلقب
مطران القدس، يدافع عنها بالكلمة والموقف في كل المحافل والمنتديات، ويدعم صمود أهلها في وجه
المجرمين الصهاينة.
ومع اندلع انتفاضة القصى ظل المطران يردد: "أنا مؤمن إيمانا ل يتزعزع بحتمية النتصار والتحرير
والعودة إلى القدس."
قضية بيت الشرق
بيت الشرق ..كل شيء في بيت المقدس، يمتلك معنى خاصا.. وهكذا كان مقدرا لمنزل مقدسي يملكه
آل الحسيني، أن يتحول إلى قضية في القدس.
لعب فيصل الحسيني دورا كبيرا في خوض معركة الدفاع عن القدس، وكان مهجوسا بإقامة مؤسسات
فلسطينية في المدينة، فأنشأ جمعية الدراسات العربية التي تفرع عنها مكتب للخرائط وأخر للحصاء،
وثالث للدراسات ..وغيرها.
قاومت سلطات الحتلل نشاط الحسيني، وأغلقت عام ثمانية وثمانين مقر الجمعية والمؤسسات التابعة
لها، وتكررت أوامر الغلق أكثر من مرة على مدى سني النتفاضة الولى.
كانت سلطات الحتلل تركز على منع قيام أي مؤسسة فلسطينية في القدس، وفي المقابل نجح الحسيني
في جعل بيت الشرق مقرا فلسطينيا رسميا في المدينة تتبع له مؤسسات عديدة، ويقوم بنشاط سياسي
واجتماعي واسع.
وبعد مباشرة نشاطه بشكل عملي وفاعل، بدأت التهديدات الصهيونية بإغلق بيت الشرق عام أربعة
وتسعين، ثم شرعت سلطات الحتلل في اقتحام المؤسسات الفرعية التابعة لبيت الشرق ومصادرة
محتوياتها، وهددت بإغلق المقر نفسه إذا واظب الحسيني على استقبال مبعوثين سياسيين أوربيين
فيه، وسن الكنيست الصهيوني قانونا خاصا للحد من فعالية بيت الشرق ونشاطاته، ثم طبقت حكومة
الحتلل عقوبات خاصة ضد الدبلوماسيين الذين يلتقون الحسيني في المقر، الذي أخذ يشهد تظاهرات
للمستوطنين الصهاينة تهدد بإحراقه لنه يعطي ملمحا بسيطرة فلسطينية على شرقي القدس حسب ما
قالوا.
مع حلول عام خمسة وتسعين وتسعمائة وألف تزايدت المضايقات الصهيونية للنشطة الفلسطينية في
بيت الشرق، وأصدرت محكمة صهيونية قرارا بمنع أعمال الترميم الجارية فيه، لنها تتم بدون إذن
خاص من البلدية الصهيونية في القدس، وقام المستوطنون الصهاينة بنصب خيمة احتجاجية أمام البيت
الذي يرفع العلم الفلسطيني ،فيما انطلقت تظاهرات فلسطينية لحماية المقر.
صعدت السلطات الصهيونية من إجراءاتها ضد بيت الشرق وقالت أنها قررت منع الشخصيات الجنبية
من دخوله حتى لو اقتضى المر استخدام الشرطة، وطالبت في عام ستة وتسعين بإغلق مكتبي الشباب
والرياضة، والمساحة والخرائط الموجودين في المقر، ما رفضه الحسيني، فمرر نواب الليكود في
الكنيست الصهيوني قرارا بإغلق بيت الشرق نهائيا، فيما بدأوا بممارسة ضغط للقيام بقضم تدريجي
لنشطته ومؤسساته وهو ما حدث بقيام السلطة الفلسطينية باغلق المكاتب التي طالب الصهاينة
بإغلقها أي مكتب الشباب والرياضة ومكتب الجغرافيا.
أتبعت السلطات الصهيونية هذه الستجابة، بتسليم مكاتب فيصل الحسيني والخرائط، والعلقات الدولية
قرارات بإغلقها الفوري سنة تسع وتسعين، ما اضطر الحسيني إلى نقل نشاطاته مؤقتا إلى مشفى
المقاصد بالقدس، وتوالى إغلق المكاتب التابعة للبيت، ومنها مركز المعلومات لحقوق النسان. في
أيار من عام ألفين وواحد كشفت تقارير صحيفة صهيونية عن نية حكومة الحتلل، إغلق كافة
المؤسسات الفلسطينية في القدس، وبضمنها بيت الشرق الذي استولت عليه قوات الحتلل فعليا في
آب من العام نفسه، ورفعت فوقه العلم الصهيوني وصادرت الكثير من محتوياته، من وثائق وصور
وأجهزة كومبيوتر.
جوبه القرار الصهيوني بتظاهرات واسعة قام بها الفلسطينيون في القدس، وسط حملة انتقاد عربية
ودولية واسعة للجراء الذي اتخذته سلطات الحتلل، فيما منعت الوليات المتحدة مجلس المن من
تقديم مشروع قرار يدعو الصهاينة إلى النسحاب من بيت الشرق.
توالت الحتجاجات الفلسطينية على الجراء الصهيوني بإضراب عام في الضفة والقطاع، فيما رفض
جواد بولس، محامي عائلة الحسيني التوجه إلى ما يسمى محكمة العدل العليا في الكيان الصهيوني
لعرض أمر الحتلل الصهيوني لبيت الشرق أمامها، موضحا أن هذا المر يعتبر اعترافا بالحتلل
الصهيوني، فيما لم يظهر الصهاينة أي استجابة للمطالبات المتكررة دوليا لهم بالنسحاب من المكان.
جاء احتلل المقر بعد وفاة فيصل الحسيني بقليل وكأن في ذلك دليل على عمق الرابط الذي جمع بين
اسم الحسيني وبيت الشرق.
قضية بيت العفيفي وبيوت أخرى
بعد احتللهم ما تبقى من القدس عام سبعة وستين، رفع الصهاينة شعار: بيت وراء بيت، وتكون
القدس لنا.
عكس هذا الشعار نية الصهاينة بتهويد القدس كاملة.. وبالتدريج، وتمثل تطبيقه العملي في ممارسة كل
الوسائل للسيطرة على بيوت المدينة في البلدة القديمة، ومنع أهلها من إصلحها، وكذلك في منع
المقدسيين من إشادة بيوت جديدة لهم، ففي أحياء القدس وضواحيها، ظلت جرافات المحتلين ترتكب
مجازر يومية بهدم البيوت، بادعاء أنها مبنية دون ترخيص.
وحيث لم ينجح الصهاينة في الستيلء على بيت ما، فإنهم واصلوا الضغوط لدفع أصحابه للتخلي عنه.
وحكاية بيت العفيفي هي واحدة من حكايات كثيرة لصحاب بيوت تمسكوا بها ولم يرضخوا لرهاب
الصهاينة أو إغراءاتهم.. وهي إرهابية أيضا.
أصبح بيت العفيفي الن محاطا بأبنية الجامعة العبرية، والبؤر الستيطانية اليهودية، ولكن أصحابه
يرفضون مغادرته.
والبيت الذي يعرف باسم قصر العفيفي، ذو طراز عربي، ويطل على القدس، بني قبل أكثر من تسعين
عاما، وهو اليوم يبدو غريبا عن محيطه، ويصمد أهله للضغوط.
بدأت هذه الضغوط مع اليام الولى للحتلل عام سبعة وستين.
ويقول تقي الدين العفيفي:
بعد انتهاء الحرب مباشرة، وصلت إلى بيتنا مجموعة من الضباط الصهاينة، كانوا يشاركون في احتفال
في الجامعة العبرية، وقالوا لنا: يجب عليكم ترك المكان لنه تابع للجامعة. ورفضنا هذا التهديد
المبطن.
سكان المنزل، وهم جميعا من ورثة آل العفيفي يقيمون بصورة دائمة في غرفه الست، وهم جميعا
يرفضون مغادرة المنزل أو حتى قبول عروض البيع المتكررة، التي بلغ آخرها، أواسط التسعينات
ثمانية مليين دولر.
أما الضغوط اليومية المباشرة، فيتمثل بعضها في رفض شركة الهاتف الصهيونية تمديد خط للقصر
بحجة أن الجامعة العبرية لم تقر ذلك. إضافة إلى أن مدخل المنزل الرئيسي قد ضاع لمصلحة الطريق
التي تقطع الحي اليهودي صعودا إلى جبل الزيتون، وبات على أي مركبة تريد الوصول إلى المنزل أن
تمر فوق رصيف الشارع، كما يترك عمال التنظيفات أكوام من النفايات أمام القصر.
يقول العفيفي:
لقد بنى جدي هذا المنزل، قبل أن تقام الجامعة العبرية بعشر سنوات، هنا جذوري ولن أرحل.
في حي الشيخ جراح، حكاية أخرى لمنزل آخر، منزل عائلة مراد، الذي استولى عليه الصهاينة عام
واحد وتسعين، بأمر مما يسمى حارس أملك الغائبين، لن أصحابه يقيمون في نابلس.
هرعت عائلة مراد إلى منزلها، ولكنها لم تستطع دخوله، واشترط الصهاينة لذلك أن يبقى المنزل في
وضع "ملك غائب" و أل تقوم العائلة بتأجيره.
ما حدث مع آل مراد تكرر مع عائلت أخرى تمتلك بيوتا في القدس، و تقيم في مدن أخرى من الضفة
الفلسطينية.
لم يترك الصهاينة مكانا إل وحاولوا مهاجمته والستيلء عليه، وعندما أعيتهم الحيلة في الستيلء
على منزل لعائلة الدجاني، قاموا عام أربعة وتسعين بتدنيس مقبرة العائلة، الكائنة قرب مسجد النبي
داوود.
وفيما كانت عمليات الهدم متواصلة ودون انقطاع شارك المستوطنون في عمليات الهدم والستيلء،
على غرار ما حدث عام أربعة وتسعين حين هاجموا بواسطة الجرافات، منزل المواطن يعقوب جبري،
مدعين أن المنزل يعود إلى أجدادهم. كما استولى المستوطنون في العام التالي على بناء يقع بالقرب
من باب السلسلة بجانب الحرم القدسي.
وتمثل عملية الستيلء على البيوت في سلوان التي يسميها الصهاينة مدينة داوود، واحدة من أكبر
عمليات العتداء على البيوت في القدس، حيث اقتحمها المستوطنون الصهاينة بقوة السلح وتحصنوا
فيها رافضين مغادرتها، ومدعين أنها ملك لهم وقد كافح أهالي سلوان لوقت طويل لخلء عدد من هذه
البيوت، من المستوطنين الذين احتلوها.
وبعد، فما تقدم هو أمثلة فقط، من ممارسات الصهاينة ضد البيوت العربية في مدينة القدس، وهي
الممارسات الهادفة إلى تهويد المدينة المقدسة، وتزييف التاريخ، على نحو يعزز الصلة المفتعلة
للصهاينة بالقدس، ففي عام ألف وتسعمائة و تسعين، استولى طلبة مدرسة دينية يهودية، برفقة
الرهابي حنان بورات عضو الكنيسة على منزل لعائلة سبيتاني، قرب مشفى المطلع على جبل الزيتون
وما أن أقاموا المدرسة فيه، حتى باتوا يدعون أنها مدرسة تاريخية لليهود.
انتفاضة النفق 1996
، ر قيام الصهاينة بافتتاح نفق تحت أساسات المسجد القصى انتفاضة فلسطينية عارمة عام 1996 ] فج
بدأت في القدس وامتدت لتشمل كل أنحاء فلسطين. قدم الشعب الفلسطيني خللها نحو تسعين شهيدا
وتمكن المنتفضون من قتل ثلثة عشر جنديا صهيونيا.
اندرج قيام الصهاينة بافتتاح هذا النفق ضمن المخطط الصهيوني في الحفر تحت أساسات المسجد
من النفاق، وقاموا بإجراء حفريات تهدد بنيان المسجد القصى. t كبيرا t القصى المبارك، افتتحوا عددا
اتسم افتتاح هذا النفق بالذات بخطورة بالغة. وكان الصهاينة بدؤوا بفتحه عام 81 ، ولكن الوقاف
السلمية أوقفت عملهم عند حد معين، وعام 83 جرى اكتشاف كميات كبيرة من المتفجرات داخل هذا
النفق، وضعها أعضاء التنظيم الرهابي اليهودي بغية نسف المسجد القصى، وأحبطت المحاولة في
حينه على يد حراس الحرم الشريف، وتم إغلق الفتحة المؤدية إلى هذا النفق.
ا يمتد بجانب السور الغربي للحرم الشريف ويتجه شمال نحو باب الغوانمة t عام 86 افتتح الصهاينة نفق
، بغية ربط هذا النفق بحفريات باب العمود، ورغم التحذيرات المتكررة من أن هذا t على مسافة 450 مترا
النفق الذي لم يتم تدعيمه بالشكل الهندسي المطلوب يؤثر على أساسات المسجد القصى، فإن الصهاينة
من امتداد توسيع الحفريات والتفاق باتجاه t أبقوه مفتوحا. وعام 95 حذر الشيخ حسن طهبوب مجددا
باب السباط من جهة الشرق المر الذي سيؤدي إلى خلخلة أساسات المسجد القصى، وتصدع العديد
من المواقع السلمية داخل الحرم القدسي، ولكن الصهاينة ادعوا أن عمر النفق يقترب من 2000 عام،
إلى أن هدف t وأن أعمال الحفر تبعد 700 متر عن المسجد القصى، ول تهدده على حد زعمه، ومشيرا
الحفر هو اختصار المسافة على السياح للوصول إلى طريق اللم في البلدة القديمة واستغل الصهاينة أن
الصلحات القائمة في المصلى المرواني في الحرم الشريف وافترضوا أنه بالمكان المقايضة بين
استكمال الصلحات وترميم المصلى على يد الوقاف السلمية وبين قيامهم بافتتاح النفق أمام السياح
على هذه الخطوة التي تتهدد المسجد القصى بخطر جديد، أعلن wo وإجراء توسعات جديدة فيه. وراد
الضراب الشامل في الضفة والقطاع، وانطلقت مظاهرات صاخبة في القدس اصطدمت بشرطة الحتلل
ومن يسمونه حرس الحدود، وسرعان ما امتدت الصدامات والمواجهات العنيفة إلى مختلف أنحاء
. الضفة، وبعض أنحاء الراضي المحتلة عام 48
توالى سقوط الشهداء والجرحى، وأوقع المنتفضون قتلى وجرحى في صفوف الجنود الصهاينة فيما
أعلن الرهابي نتنيناهو أنه فخور بتطبيق القرار لفتح النفق. وقال الفلسطينيون أنهم سيستمرون
بالنتفاضة إلى أن يقوم الصهاينة بإغلقه.
إزاء المقاومة الشديدة التي أبداها الفلسطينيون في وجه محاولة فرض أمر واقع جديد في القدس، بدأت
أوساط الحكومة الصهيونية، بمحاولة التنصل من المسؤولية عن اتخاذ القرار بافتتاح النفق، ولكن
رئيس جهاز الشاباك الصهيوني قال: لقد اتخذ القرار على أعلى المستويات. لقد أخطأنا، ولم نتوقع أن
تقع مثل هذه الحداث التي وقعت. ادعى الصهاينة أنهم قاموا بافتتاح النفق وباتفاق مع الوقاف
مطالبة بالغلق الفوري للنفق الذي سيؤدي وضعه في t مطلقا t السلمية، التي نفت هذا المر نفيا
الستخدام إلى إلحاق أكبر الضرر بأساسات المسجد القصى.
بين الموافقة على افتتاح المصلى المرواني والسماح t عاد الصهاينة إلى محاولة المقايضة مجددا
ا وفي الستخدام. وأظهر بعض الصهاينة t باستكمال عمليات ترميمه، وبين البقاء على النفق مفتوح
على ما وصفوه، بتساهل حكومة نتنياهو مع الفلسطينيين حيث اختار نائب وزير الديان في t احتجاجا
الكيان الصهيوني: إن حكومة نتنياهو تتصرف بتسامح تجاه المواطنين الفلسطينيين الذين أثاروا
اضطرابات عاصفة، عندما تم فتح سنتيميترات في النفق. مع استمرار المواجهات العنيفة وإصرار
الفلسطينيين على إغلق النفق، بدأ الصهاينة إلى العلن عن تعديل وضعه في الستخدام مؤقتا. وهدأت
ولم يغلقوه، واعتبرت السلطة t الوضاع تدريجيا. حيث اعتبر الصهاينة أنهم أبقوا النفق مفتوحا
الفلسطينية أن عدم وضعه في الستخدام هو إجراء كاف.
عدم استخدام النفق لم يوقف المخططات الصهيونية التي تستهدف المسجد القصى، ولكنه أظهر مجددا
من الشعب الفلسطيني. t مقاوما t حقيقة أن كل تهديد المقدسات السلمية في بيت المقدس يستدعي ردا
ضرب المؤسسات الفلسطينية في المدينة المقدسة
عملت سلطات الحتلل بشكل دائم على ضرب كل رموز الوجود العربي في المدينة المقدسة. فإلى
استهدافها المقدسات السلمية والمسيحية، وهدم أحياء عربية بأكملها وإزالتها من الوجود، جاءت
الحرب على المؤسسات مثل شركة كهرباء القدس وجمعية الدراسات العربية، وبيت الشرق...
وقد عمد الصهاينة إلى حل أمانة القدس العربية بعد الحتلل، وأبعدوا الشخصيات المقدسية الموقرة،
مثل أمين القدس روحي الخطيب، وقوضوا كل المؤسسات والمكاتب التابعة لمانة المدينة، وعام ثلثة
وسبعين، أغلقت سلطات الحتلل دائرة الشؤون الجتماعية في القدس، وقامت بتوزيع اختصاصاتها بين
ثلثة مكاتب:
* مكتب صهيوني مقره القدس للشراف على جميع الجمعيات الخيرية العربية في المدينة.
* ومكتب عربي مقره رام ال للشراف على الجمعيات في رام ال والبيرة والقضاء.
* مكتب عربي فرعي أخر مقره أريحا للشراف على الجمعيات في قضائي أريحا وبيت لحم، دون أن
تربط هذه المكاتب بالقدس، وذلك لفصلها عن الدائرة الم في المدينة.
وإلى السيطرة على المؤسسات التعليمية، تعرضت الصحف والمراكز الثقافية إلى حملة إرهاب منظمة
لجبارها إما على إغلق أبوابها أو الرحيل نهائيا عن القدس.
بلغت هذه الحملة ذروتها في السنوات الولى للنتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى التي انطلقت عام
سبعة وثمانين، حيث صدرت سلسلة من الوامر الرهابية بإغلق الصحف والمكاتب الخدمات الصحفية،
ومنها المكتب الفلسطيني للخدمات الصحفية، ول تزال هذه الحملة متواصلة.
بعد اتفاقية أوسلو، التي أجلت البحث في قضية القدس إلى ما تسمى مفاوضات الوضع النهائي، اتخذت
الحملة الصهيونية على المؤسسات الفلسطينية في القدس طابعا منتظما، كان عنوانه "الحد من نشاطات
منظمة التحرير الفلسطينية"، والسلطة الفلسطينية في القدس.
ففي عام أربعة وتسعين، اتخذ الكنيست الصهيوني قرارا بأنه لن يكون من حق السلطة الفلسطينية، إل
إذا حصلت على إذن مسبق، إقامة ممثلية أو تنظيم تجمعات عامة في أرض تخضع للسيادة السرائيلية.
وفي العام التالي، طالبت أحزاب صهيونية، بإغلق عدد كبير من المؤسسات الفلسطينية العاملة في
القدس منها:
بيت الشرق، مؤسسة بكدار، الوقاف السلمية، غرفة الصناعة الفلسطينية، الجمعية العلمية
الفلسطينية، جمعية السكان الفلسطينية، مقر الذاعة الفلسطينية، مركز الطاقة الفلسطيني، مكتب
الحصاء الفلسطيني، مركز حقوق النسان، جامعة القدس المفتوحة.
وبالفعل، أغلقت سلطات الحتلل في العام نفسه سلطة الذاعة، ومكتب الصحة، والمكتب المركزي
للحصاء في القدس .. وطاولت الجراءات الصهيونية المطالبة بإلغاء مكاتب أعضاء المجلس التشريعي
الفلسطيني عن دائرة القدس ومنها مكتب النائب حاتم عبد القادر.
وعام سبعة وتسعين أغلقت السلطات الصهيونية بشكل تعسفي جمعية الرفاه، ومكتب المؤسسات
الوطنية، واللجنة الوطنية السلمية، ومؤسسة الجريح الفلسطيني في المدينة.
وبعد أقل من عامين، قرت لجنة وزارية صهيونية تعنى بشؤون القدس إغلق: نادي السير وهو
مؤسسة تعنى بشؤون السير الفلسطيني في سجون الحتلل، وتأهيل المحررين من السجون، وإغلق
مكتب وكالة أنباء فلسطين "وفا" ومكتب نائب وزير الوقاف في السلطة الفلسطينية.
بعد اندلع انتفاضة القصى، ازدادت الحملة الصهيونية على المؤسسات الفلسطينية في القدس شراسة،
فجرى احتلل بيت الشرق، وإغلق اتحاد الغرف التجارية، ومركز البحاث والنشر، ورئاسة جامعة
القدس المفتوحة، ومكتب وزارة الشؤون الجتماعية وشؤون المرأة، ومجلس السكان، ودائرة التربية.
أدت هذه الغلقات إلى تقويض معظم المؤسسات الفلسطينية في المدينة، حيث لم تبق من مؤسسات
عاملة فيها، باستثناء دوائر الوقاف السلمية.
قضية شركة كهرباء القدس
تعتبر قضية شركة كهرباء القدس، واحدة من قصص الكفاح الطويل ضد المطامع الصهيونية في القدس.
تعود القصة إلى مطالع القرن الماضي، حين حصل اليوناني يوربيد مغروماتس على امتياز من السلطات
العثمانية لتوليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها في القدس.
أعاقت الحرب العالمية الولى تنفيذ المشروع، وبعد النتداب البريطاني على فلسطين، حاول الصهيوني
بنحاس روتنبرع، الحصول من سلطات النتداب على امتياز لتوليد الكهرباء وتوزيعها في فلسطين، ما
يتعرض مع امتياز مفروماتس السابق.
تدخلت الحكومة اليونانية، وعبر محكمة العدل الدولية، استطاعت تثبيت امتياز المواطن اليوناني، الذي
باشرت شركته العمل سنة ثمان وعشرين، وفق عقد يستمر أربعة وأربعين عاما، ويجدد تلقائيا لمدة
ستة عشر عاما أخرى.
عشية النكبة، تنازل مفروماتس عن بعض مناطق امتيازه لصالح ما سمي شركة كهرباء فلسطين التي
أسسها الصهيوني بنحاس روتنبرع في القدس الغربية، وهي التي أصبحت لحقا شركة الكهرباء القطرية
)السرائيلية( ومع هذا التنازل، انقسمت القدس كهربائيا. وعام سبعة وخمسين، تنازل مغروماتس عن
امتيازه لصالح شركة لواء القدس الردنية، التي أصبحت تحمل اسم شركة كهرباء محافظة القدس
المساهمة المحدودة.
بعد عدوان حزيران، بدأ الصهاينة حربا شرسة على الشركة فاستولوا على أسهم أمانة القدس فيها ما
مكنهم من فرض عضوين في مجلس الدارة قابله انسحاب ممثلي بلدتي رام ال والبيرة.
ثم فرض الصهاينة على الشركة أن تمد المستوطنات والحياء الستيطانية الصهيونية في القدس الواقعة
ضمن منطقة امتياز الشركة بالكهرباء، وبالسعر الذي تحدده السلطات الصهيونية، والذي كان غالبا أقل
من سعر التكلفة، ما زاد في أعباء الشركة وتركها تحت وطأة ديون ثقيلة، استخدمتها السلطات
الصهيونية ذريعة لتصفية الشركة والحجز على أموالها وممتلكاتها.
تدخلت اللجنة الردنية الفلسطينية المشتركة لدعم الصمود، وقامت بتسديد ديون الشركة بقية إنفاذها،
وما أن استقامت أمورها مجددا حتى باشر الصهاينة الحرب عليها مجددا معلنين نيتهم شراءها بهدف
تصفية هذا المرفق القتصادي الفلسطيني الهام. رفض مجلس الدارة البيع بالكراه، وشهد العام ستة
وثمانين سلسلة من الجراءات الصهيونية التعسفية بحق الشركة تحت ذريعة أنها تشكل تهديدا في زمن
الحرب، باستطاعتها قطع الكهرباء عن المستوطنات في الحياء الستيطانية.
تسبب الصهاينة في وضع الشركة تحت وطأة ديون ثقيلة بلغت اثني عشر مليون دولر، وبذريعة عدم
التسديد عمدوا إلى مداهمة مكاتب الشركة وإقفالها بالشمع الحمر رافضين كل الطلبات بمنح الشركة
مهلة لتسوية أوضاعها.
قام مجلس إدارة الشركة وعمالها بتحركات احتجاجية متعددة، ومركزين على أن تسمح السلطات
الصهيونية للشركة باستيراد معدات جديدة، وأن تخفض سعر الكهرباء التي تشتريها الشركة من
الصهاينة لتغطية منطقة امتيازها.
قوبلت هذه الطلبات بالرفض، وبذريعة "المن" تم تقليص حدود امتياز الشركة إلى أضيق نطاق ممكن،
بتولي الشركة الصهيونية مد المستوطنات والحياء الستيطانية بالكهرباء.
وعندما تابعت الشركة الفلسطينية عملها، كان نطاق هذا العمل قد تقلص كثيرا، ونجح الصهاينة في
توجيه ضربة قاسية إلى هذا المعلم القتصادي الهام في مدينة القدس، في إطار حربهم على كل ما هو
عربي في المدينة.
استخدم الصهاينة تقليص امتياز شركة الكهرباء ذريعة لمصادرة المزيد من الراضي الفلسطينية حيث
قاموا فعليا بمصادرة ألفين وأربعين دونما من مناطق شعفاط والعيسوية وعناتا، بذريعة إقامة أبراج لمد
الكهرباء إلى المستوطنات الصهيونية.
لجنة إنقاذ القدس
تشكلت لجنة إنقاذ القدس في عمان عقب احتلل المدينة عام سبعة وستين، وأوضح عضو اللجنة
إسماعيل محادين الغاية من إنشائها بالقول :"إن السبب الساسي في تشكيل لجنة إنقاذ القدس، هو أن
الجراءات في بقية المناطق الخاضعة للحتلل، حيث أخذ الصهاينة يتصرفون في مدينة القدس، ل
كمنطقة محتلة، بل كمنطقة يعتبرها الصهاينة جزءا من الكيان الصهيوني، واللجنة ستعمل على كشف
النوايا الصهيونية فيما يتعلق بالمدينة المقدسة.
سوف تجهد اللجنة بعد تأسيسها في التأثير إلى ما تقوم به السلطات الصهيونية من عمليات تهويد في
المدينة، وإلى العمل من أجل حشد موقف عربي وإسلمي مناهض لهذه العمليات.
ففي عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين، وبمناسبة عيد الضحى، وجهت اللجنة نداء إلى المسلمين، كي
يجعلوا من العيد مناسبة يعبرون فيها للعالم عن تعلقهم بالمسجد القصى المبارك، وعن استعدادهم
للموت في سبيل تحرير القدس، كما دعت إلى أن تكون خطبة العيد في المساجد مكرسة لتأكيد أن القدس
هي مدينة عربية وللمسلمين، وأنهم لن يفرطوا فيها بأي حال.
سعت اللجنة بعد وقت قصير من هذا النداء إلى وضع خطة عمل مرحلية، الغاية منها دعم الصمود
العربي في القدس، والعمل على تحريرها بكل الوسائل، وإطلع الرأي العام العالمي السلمي والمسيحي
على ما يقوم به الصهاينة من تغيير لمعالم المدينة والعمل على تهويدها، وما يتعرض له سكانها من
ضغط وإرهاب، والحفاظ على عروبتها ومقدساتها.
الخطة تحدثت عن القيام بحملت دعائية على كافة المستويات، وفي جميع وسائل العلم، وإرسال
الوفود إلى عواصم الدول لشرح الوضاع في المدينة المقدسة، وجمع المساعدات بواسطة اللجان،
وإرسالها إلى اللجنة التي تتولى إيصالها إلى أهل المدينة.
وكذلك جمع المعلومات عما يقوم به الصهاينة من إجراءات في المدينة وتوزيعها على الجهات
المختصة.
نفذت اللجنة جانبا كبيرا من خطتها العلمية والدعائية، ووجهت عشرات المذكرات إلى الجامعة
العربية، ومنظمة المؤتمر السلمي، والجمعية العامة للمم المتحدة، وأجهزتها المختلفة المتخصصة.
تميزت مذكرات اللجنة بالحث على خطوات عملية لنقاذ القدس، المر الذي ووجه بالعجز عن التنفيذ، ما
جعل عملها يبدو وكأنه مقتصر على الجانب العلمي فقط.
ولعب وجود شخصيات مقدسية عديدة داخل اللجنة، في تضمين المذكرات معلومات دقيقة وحديثة دوما
عما تشهده المدينة.
عام واحد وسبعين، دعت اللجنة إلى توحيد الصفوف لفشال مخطط تهويد القدس، ومواجهة سياسة
خلق الوقائع الجديدة التي يتبعها الصهاينة،وفي العام التالي، لعبت اللجنة دورا في الحض على مقاومة
المسعى الصهيوني لجراء انتخابات بلدية في القدس، ومدن الضفة، وإشراك جماهير الشعب الفلسطيني
فيها، حيث دعت الفلسطينيين إلى مقاطعة هذه النتخابات التي تأتي مخالفة لمفهوم القانون الدولي،
واتفاقيات جينيف.
فضحت اللجنة عام أربعة وسبعين المحاولة الصهيونية الثانية لحراق المسجد القصى، وحذرت سلطات
الحتلل من التمادي في جرائمها وأهابت بالعرب المسلمين أن يكونوا يقظين لكل ما تبيت له الصهيونية
من مخططات عدوانية، ومن أهدافها هدم المسجد القصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
مع تشكيل منظمة المؤتمر السلمي للجنة القدس وقيام اللجنة المشتركة الفلسطينية /الردنية لدعم
الصمود، تراجعت أنشطة لجنة إنقاذ القدس، واندمجت في إطارات وهيئات أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق