الكتيبة الطلابية" في حركة "فتح
مقابلة مع المناضل الفدائي معين الطاهر قائد "الكتيبة
الطلابية" في حركة "فتح".
معين طاهر: من ملاحم الصمود في لبنان
إلى إعادة التأسيس في فلسطين*
يروي قائد "كتيبة الجرمق / السريّة الطلابية"
التابعة لحركة "فتح" معين طاهر، قصة السريّة الطلابية التي تحولت إلى
كتيبة في قوات العاصفة لاحقاً، وكان لها دور مميز في التطورات التي شهدها لبنان
بين مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى أواسط ثمانينياته، عبر سيرة ذاتية تعود إلى
بدايات انتمائه إلى حركة "فتح" في نابلس وهو فتى، مروراً بتجربة الأردن.
ويركز، في مقابلة أُجريت معه في عمّان، على نقطة الذروة في تجربة "كتيبة
الجرمق" أو "السريّة الطلابية" في لبنان، التي كانت أكثر من تجربة
عسكرية، بل كانت مساحة لسجال الأفكار وتفاعلها من اليسار إلى اليمين، وأكثر من
تجربة فلسطينية كان فيها ناشطون لبنانيون من جميع الطوائف، ومن جنسيات عربية
مختلفة، وغير عربية.
المقابلة التي أجراها رئيس تحرير "مجلة الدراسات
الفلسطينية" إلياس خوري ومدير تحرير المجلة ميشال نوفل مع معين طاهر، وهي
مشروع لكتاب عن تجربة السريّة الطلابية، تفتح نافذة على ذاكرة حية، وتؤسس
لاحتمالات مستقبل آخر، في ساحة من التلاقي والالتزام بفلسطين كقضية كانت، ولا
تزال، أكبر من جغرافيتها المباشرة.
البدايات
س: معين طاهر، قائد كتيبة الجرمق ـ السريّة الطلابية. هل تروي
لنا قصتك مع حركة "فتح" وقوات العاصفة؟
ج: التحقت بـ "فتح" في سنة 1967 بعد نكسة حزيران /
يونيو عندما كان كل الجيل الذي بعمرنا، وكنت أنا في الخامسة عشرة، يبحث عن وسيلة
من وسائل المقاومة. عندما انتميت إلى حركة "فتح" لم يكن واضحاً في ذهني
ما هي "فتح"، كنت أبحث عن حركة مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين
كردة فعل على نكسة حزيران / يونيو 1967، وفيما بعد بدأت أكتشف أن "فتح"
بحكم أيديولوجيتها وتفكيرها هي حركة الشعب الفلسطيني بجميع أطيافه وفئاته. النظرة
إلى "فتح" بأنها حركة التحرر الوطني الفلسطيني تسمح للفرد، بغضّ النظر
عن خلفيته الفكرية وعن اتجاهه الأيديولوجي، بالانتماء إليها، ما دام يؤمن بأن
التناقض الرئيسي هو مع العدو الصهيوني، ففي "فتح" مساحة ما توفرها له كي
يمارس قناعاته، الأمر الذي دفع العديد من الأشخاص من مختلف الانتماءات الفكرية
والتنظيمية السابقة إلى الاندماج في إطار حركة "فتح".
س: ماذا فعلت بالتحديد في هذه الفترة؟
ج: بعد أن غادرت نابلس لظروف عائلية لجأت الى إربد مع والدتي
حيث أصبحت من مسؤولي التنظيم الطلابي لـ "فتح" في شمال الأردن، ومن
مؤسسي اتحاد طلبة الضفتين، وكان معي الشهيد علي أبو طوق ومجموعة من الشباب منهم
شمس التيني الذي بقي معنا فترة طويلة في بيروت، وكفاح (موسى عامر). في معركة الكرامة
التحقنا بقواعد الفدائيين في اﻷغوار الشمالية تحسباً لتطور الهجوم، ولدعم وحدات
الفدائيين في الكرامة، وحصلنا على ذخيرة رشاشات "كارلو" من الجيش العربي
اﻷردني. عملت لفترة مدرباً في معسكرات اﻷشبال في مخيم إربد ومخيم الحصن. في أيلول
/ سبتمبر 1970 كان يوجد في التنظيم الطلابي 300 طالب مدرب ومسلح. لم تحدث مواجهات
حقيقية داخل مدينة إربد التي كانت تحت سيطرة المقاومة. استلم زمام القيادة الشاعر
خالد أبو خالد، وعُيِّن له عدد من النواب كنت واحداً منهم على الرغم من أن عمري
كان 18 سنة.
بعد أحداث أيلول / سبتمبر غادرت الأردن إلى القاهرة لدراسة
الهندسة في الجامعة الأميركية هناك، لكنني مُنعت من دخول القاهرة، والسبب أنه في
ذلك الوقت كانوا يمنعون كل الناس من أصول فلسطينية من الدخول. وكان يوجد غرفة في
مطار القاهرة معروفة بأنها "غرفة المبعدين الفلسطينيين"، وقد نمتُ فيها
3 أو 4 ليالي حتى موعد الطائرة التي ستعيدني إلى دمشق، ومنها إلى بيروت حيث انتصرت
رغبتي على إرادة اﻷهل.
س: حتى الآن مررنا على أحداث أيلول / سبتمبر وقبلها معركة
الكرامة، ما الأثر الذي تركه فيك هذان المنعطفان، وهل أجريت تقويماً لتجربة أيلول
/ سبتمبر، وهل توصلت إلى استنتاجات معينة؟
ج: معركة الكرامة نقلت حركة "فتح" من تنظيم نخبة إلى
تنظيم أُطلق عليه في ذلك الوقت اسم "تنظيم الباص"، بمعنى أن الشخص الذي
يقف في أي ساحة من ساحات أي مدينة في الأردن معلناً التوجه إلى
"الكرامة"، يمكنه أن يستقطب عشرات المتطوعين. تدفّق بعدها آلاف المتطوعين
من أنحاء العالم العربي، وأصبح معظم الناس أعضاء في "فتح"! أذكر أنني
كنت بحكم موقعي في لجنة منطقة الشمال أتفقد أحياناً المناوبات الليلية للحراسة في
إربد، وكنت أجد أستاذي في المدرسة، وأخي الأكبر سناً، وجيراني!! وهكذا تحولت
"فتح" إلى تنظيم شعبي كبير. أمّا أيلول / سبتمبر فقصة أُخرى، طبعاً نحن
الآن نقرأ أيلول / سبتمبر بمرآة اليوم، ونقوّم على أساسها تلك الأحداث لنرى ما هي
آثارها ونتائجها، ولا نراها في مناخ اللحظة التي وقعت فيها. لكن لا شك في أن ثمة
نظرة نقدية صارمة للعديد من الممارسات والمسلكيات والشعارات والسياسات التي مورست
في تلك المرحلة.
ملامح تيار مختلف
س: نعرف أن تياراً يسارياً جديداً تشكّل من مصادر ومنابع
متنوعة في إطار الحاضنة الواسعة "فتح"، وهو تيار سيقوم فيما بعد بتجربة
رائدة بالنسبة إلى الشباب العربي، وليس الشباب الفلسطيني فقط. ما هي معالم هذا
التيار، كيف تشكّل، وما هو دورك أنت، على سبيل المثال، ودور التنظيم الطلابي لـ
"فتح"، في تشكّل هذا التيار؟
ج: بعد الخروج من الأردن دار جدل وحوار بين مجموعة كبيرة من
المثقفين والمفكرين والكوادر في "فتح" االذين يحملون وجهة نظر نقدية
تجاه القيادة وتجربة الثورة في الأردن، وعُرفت هذه المجموعات باسم يسار
"فتح"، وضمّت أبو حاتم وماجد أبو شرار وأبوصالح ومنير شفيق وناجي علوش
وأبونضال البنا وأبوداود، فضلاّ عن أحمد عبد الرحمن وحنّا مقبل ونزيه أبو نضال
وأبو نائل وأبو فارس والدكتور أبو عمر حنا وآخرين، وكان هؤلاء جميعاً، يحملون وجهة
نظر نقدية تجاه ممارسات القيادة، فأُطلقت عليهم تسمية يسار "فتح".. لكن
هذه الحالة لم تؤدّ إلى نتيجة، إذ كانت حوارات يغلب عليها بشكل أساسي انتقاد
القيادة من دون أي برامج عملية. نذهب ونتكلم ونشتم، ثم نعود ونفرح أننا شتمنا
وقلنا إن فلاناً يميني وفلاناً يساري، من دون أن نتمكن من عمل شيء! أنا أذكر أن
الشهيد أبو حسن قاسم في أحد هذه الحوارات قال لهم شيئاً واحداً، وهو كان يعمل في
الرصد الثوري في عمّان مع أبو إياد، ثم انتقل إلى العمل في القطاع الغربي مع
الشهيد كمال عدوان بصفته ضابط عمليات الأرض المحتلة، قال لهم: أريد أن أطلب شيئاً
واحداً؛ اعطوني مجموعة واحدة ودعونا ننزلها دورية إلى الأرض المحتلة ونعمل شيئاً
أساسياً هناك، وأنا أقول لكم إن كل الحديث الذي يشغلنا يصبح قابلاً للتطبيق، إذ إن
الشهيد أبو حسن قاسم والشهيد سعد جرادات وعدداً من الأخوة كانوا قد بلوروا نظرية متماسكة
عن العمل اليساري والثوري الفتحاوي تختلف جوهرياً عن اليسار الفتحاوي الذي راح
يتجه في أغلبيته نحو الخط السوفياتي. أصبح الحوار يدور مع مجموعة أضيق قليلاً في
إطار التنظيم الطلابي الذي كان يضم الشهيد مروان كيالي ونذير الأوبري وإدي زنانيري
وعلي أبو طوق وعدداً آخر من الشبان، بمعنى أن هناك مجموعة في التنظيم الطلابي بدأت
تتحاور وتشعر بأنها قريبة بعضها من بعض، علاوة على تواصلها مع مجموعات من القطاع
الغربي وشؤون الأردن كانت تعمل مع الشهيدين أبو حسن قاسم وحمدي سلطان التميمي ومع
محمود العالول وسعد جرادات، ومجموعات في القطاعات العسكرية مثل الشهيد الحاج حسن
والشهيد محمد علي، فضلاً عن حوار دائم مع الشهيد نعيم والشهيد جواد أبو الشعر،
وكذلك حالة حوارية مع ناجي علوش وأبو داود ومنير شفيق. هذه كانت النواة الأساسية
التي بدأت تتشكل حول تيار يمتلك برنامجاً كاملاً يعتمد أساساً على التنظيم الطلابي
وجزء مهم من القطاع الغربي، وموجود في صفوف قوات العاصفة بشكل أو بآخر.
وفي سنة 1973 طرأ عنصران أساسيان: الأول أحداث أيار / مايو
1973 في بيروت، والثاني حرب تشرين / أكتوبر. وقد تبلور عن تجربة أيار / مايو 1973
تشكيلٌ عسكري اسمه السريّة الطلابية.
س: دعنا ندخل أكثر في حنايا هذه المرحلة التأسيسية.
ج: في البداية بدأت تتشكل ملامح لهذا التيار تتعلق بأسلوب
العمل في الجامعات اللبنانية. ففي لبنان عامة، كانت توجد نظريتان للعمل الوطني:
الأولى تقول إن الأساس هو النضال المطلبي وصراع الطبقات، والثانية بدأت تتبلور
بفضل وجود المقاومة وتعطي الأولوية للنضال الوطني والتصدي للاعتداءات الإسرائيلية
على الجنوب وقضية التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني. هذا المشهد بدأ يظهر بشكل
أساسي في الجامعات اللبنانية. التيار المطلبي أخذ يتشكل على سبيل المثال في قيادة
اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية، وفي المقابل تشكلت في الجامعة الأميركية والجامعة
اللبنانية "الجبهة الوطنية الطلابية" في مواجهة الفصائل المنضوية تحت
جناح الحركة الوطنية واليسار اللبناني. وجاءت معركة كفر شوبا لتحدث فرزاً كاملاً
بين هذين الخطين: العدو الصهيوني دخل إلى كفر شوبا واندلعت المعركة. في بداية
المعركة أرسل التنظيم الطلابي 90 مقاتلاً إلى كفر شوبا، وانتهت المعركة وتم تدمير
كفر شوبا، وكان يتعين عمل شيء هناك؛ أخذت الجبهة الوطنية الطلابية مبادرة في هذا
الشأن بالتعاون مع السيد موسى الصدر. وذهبنا إلى كفر شوبا وتركز العمل على إعادة
إعمار القرية وإعادة الحياة العادية إليها بمشاركة المجموعات الطلابية التي قدمت
إلى البلدة. وهذه المبادرة كشفت تمايزاً في أسلوب العمل السياسي وأسلوب العمل
النضالي في الساحة اللبنانية، وأذكر ان السيد هاني فحص جاء مع السيد موسى الصدر
خلال زيارته إلى كفر شوبا، وإذ ذاك بدأت حركة أمل تظهر، أو "حركة
المحرومين"، بمبادرة من السيد موسى الصدر.
بعد ذلك بفترة قصيرة جاءت أحداث أيار / مايو 1973 عندما قرر
الجيش اللبناني أن يدخل إلى منطقة الطريق الجديدة حيث تتواجد مكاتب للمقاومة.
طبعاً بحكم وجود جامعة بيروت العربية، فإن الجسم الطلابي كان أول مَن تنبّه إلى
تقدّم الجيش اللبناني. كان لدينا بعض قطع السلاح في بيوت بعض الطلاب، فخرجنا إلى
الشارع وتصدّينا لقوة الجيش اللبناني المتقدمة على مستديرة الكولا بالتعاون مع بعض
مجموعات المكاتب ومنهم الشهيد أبو حسن قاسم في القطاع الغربي وغيفارا، وتم تدمير
آلية للجيش اللبناني على مستديرة الكولا. وفي اليوم نفسه تم استنفار عناصر التنظيم
الطلابي في الجامعات والثانويات، وجرى اختيار أبو حسن قاسم قائداً للمحور، وأصبحت
منطقة الجامعة العربية منذ سنة 1973 حتى سنة 1982 بعهدة التنظيم الطلابي لحركة
"فتح"، هذا الجسم الذي بقي شهرين في مواقع ثابتة حتى انتهت الأحداث، ثم
أُنيطت به مهمة حراسة المنطقة تحسباً لأي اعتداءات إسرائيلية مثلما حدث في عملية
فردان، وبات ضرورياً إيجاد تشكيل يضم قائداً لهذه المنطقة.
أتاحت هذه المعركة نوعاً من الاندماج الأكبر والحوار الأعمق
بين المجموعات المشاركة، فبعض النخب كان يعرف بعضه، لكن بما أن الجميع يأتون الآن
إلى الكمائن والمواقع يدفعهم الواجب، فقد كان ضرورياً أن يكون هناك معسكرات
للتدريب، ويجب أن نعدّ دورات عسكرية وتثقيفية. من جهة ثانية كانت الحركة الوطنية
اللبنانية، أو اليسار اللبناني، يشهدان في داخلهما تفاعلات كبيرة ناجمة عن حرب
حزيران / يونيو 1967، إذ راحت مجموعات كبيرة من اليسار تترك منظماتها، مثل الحزب
الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، إلخ.. بعدما وجدوا أن المكان الذي يمكّنهم من
ممارسة قناعاتهم الجديدة فيه هو "فتح". وقد انضمت عشرات المجموعات
والتشكيلات ومئات الاشخاص من اليسار اللبناني إلى "فتح"، كما انضمت
مجموعات أُخرى الى الجبهتين الشعبية والديمقراطية. قطاع كبير من هذه المجموعات وجد
في الإطار الطلابي، البوتقة التي يمكن التفاعل معها والاندماج فيها، باعتباره ينهض
على حالة ثقافية محددة ونقاش فكري، ويوفر ممارسة عملية على الأرض سواء في اتجاه
كفر شوبا، أو في اتجاه الجامعة العربية، أو مخيمات العمل في الجنوب اللبناني.
وقد حملت هذه الحالة الطلابية الفتحاوية توجّهاُ يسارياً له
طابعه الخاص المختلف تماماً عن التوجهات اليسارية المنتشرة، إذ كان هنالك صراع
جانبي واسع بشأن أيديولوجيا اليسار واستراتيجيته وخطه السياسي، الأمر الذي سمح
بانضمام عدد من المجموعات اليسارية واﻷفراد: لبنانيين وعرباً من ذوي الاتجاهات
الماركسية اللينينية والمتأثرون بأفكار ماو تسي تونغ، وهو ما أوجد بُعداً فكرياً
أيديولوجياً إضافياً لهذا التيار. لم يعد الموضوع مقتصراً على الهم الفلسطيني، أو
على جانب محدد من القضية، ومن هنا أعتقد أننا بدأنا ندخل إلى مرحلة نشوء هذا
التيار.
العامل الثاني الحاسم كان حرب تشرين / أكتوبر، التي كانت حرباً
عظيمة كسرت أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي، وأدت إلى مجموعة من النتائج بعضها
إيجابي وبعضها الآخر سلبي، لكنها دفعت بمسألة جديدة إلى مسرح الحوار، إذ أثبتت أن
التضامن العربي شيء مفيد للقضية الفلسطينية وليس مضراً لها، وأنه عند وجود انقسام
عربي تصبح الضربات متوقعة ومحتملة للواقع الفلسطيني. موضوع التضامن العربي لم
يوافق عليه الجميع لأن البعض كان يصنّف العرب بين رجعيين وتقدميين، ويضع الرجعيين
في مرتبة التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني، وهنا حدث فرز جديد.
حرب تشرين نقطة تحوّل
نقطة أُخرى مهمة: النتائج السياسية لحرب تشرين / أكتوبر بدأت
تفرز تسوية، إذ وضعت الجبهة الديمقراطية برنامجاً تبنّته "فتح"، وهو ما
يعرف ببرنامج النقاط العشر، لكن في الحقيقة كانت الجبهة الديمقراطية بمثابة دورية
الاستطلاع في هذا الشأن. لقد خلق برنامج النقاط العشر حالة من الحوار في صفوف
اليسار حتى في مجموعتنا، وأدى الى تباين بشأنه. نحن كنّا ضد عملية التسوية بالكامل
وضد برنامج النقاط العشر وضد شعار السلطة الوطنية، ولكن هذه الملامح جميعها أضافت
بعداً جديداً إلى تركيبة التيار. وبدأت موضوعات أُخرى تطرح بالتدريج، مثلاً، موضوع
الاستقلالية وعدم التبعية، لأن مجموعات اليسار الأُخرى راحت تنحاز أكثر في اتجاه
الاتحاد السوفياتي. وبدأت تظهر ملامح لتيار فكري مختلف في الساحة الفلسطينية، وهذا
التيار خرج منه ناجي علوش وأبو داود، وأعتقد أن الخلاف الأساسي كان معهما على
موضوع التضامن العربي، وعلى موضوع القيادة الفلسطينية بحد ذاته، لأن مجموعتنا رأت
أن القيادة الفلسطينية هي قيادة وطنية وليست قيادة خائنة ولا قيادة منحرفة، وأنه
يوجد سقف للتقاطع والتعامل معها، ونقاط نختلف معها وأُخرى نتفق معها. أمّا تطورها
المستقبلي فمفتوح على أكثر من احتمال، وذلك على الرغم من المؤشرات التي حملها
برنامج النقاط العشر إلى التوجه نحو التسوية، فالمسألة، ومنذ بداياتها، كانت تتعلق
بالموقف من القيادة، وما إذا كانت في موقع قتال العدو، وقد امتد ذلك حتى مدريد
وأوسلو في سنة 1993، أي كان هنالك عشرون عاماً من إمكان التقاطع معها وقتال العدو
الصهيوني. إن ميزة "فتح" الأساسية أنها وفرت مساحة ومجالاً للعمل حتى
للأشخاص الذين لا تتفق القيادة الفلسطينية معهم 100%. ففي جامعة بيروت العربية كنا
نسلط مكبرات الصوت الخاصة بالجامعة في اتجاه مكتب أبو عمار الذي كان يبعد 50
متراً، ونظل ننتقد ليلاً ونهاراً النقاط العشر ومشروع السلطة الوطنية، ومشروع
الدولة الفلسطينية... وفي آخر الليل يدعونا أبو عمار إلى الاجتماع فنتكلم ونختلف
ونتفق وينام أبو عمار بحراسة بنادق الذين يعارضون البرنامج أو المشروع السياسي
الذي طرحه. واستمرت القيادة الفلسطينية تنام بحراسة بنادق السريّة الطلابية من سنة
1973 حتى سنة 1982.
نقطة مفصلية أُخرى في ذلك الوقت مثّلها معسكر مصياف في سورية.
فقد قررنا أن ننشئ معسكراً تثقيفياً وعسكرياً لإعادة تأهيل وتدريب التنظيم الطلابي
ككل، وأذكر أنه كان في نهاية كانون الأول / ديسمبر 1973، وكان المطر لا ينقطع طوال
أيام مكوثنا، وجاء إلى المعسكر مجموعة من المثقفين والمفكرين من أجل تنظيم الندوات
والتدريب، إلخ. وكان الدكتور أبو عمر حنّا هو المسؤول السياسي للدورة، لأنه كان
عضو لجنة الإقليم المشرف على التنظيم الطلابي، كما جاء ناجي علوش ومنير شفيق وقدري
وآخرون. وحضرت أعداد كبيرة من الناس إلى المعسكر. عرف أبو عمار بهذا الموضوع، وجاء
في إحدى الليالي إلى المعسكر مباشرة، وبدأ حوار في ظل المطر والجو العاصف. وكان
يوجد في المعسكر أكثر من 150 شاباً وشابة توزعوا بين أغلبية وأقلية؛ الأغلبية في
اتجاه الخط الذي نطرحه، في مقابل أقلية يتزعمها أنيس النقاش وفيصل علمي.
جاء أبو عمار كي يطرح إشكالية حرب تشرين، وأن ثمة تسوية قادمة
بعد الحرب، فهل نكون جزءاً من هذه التسوية أو لا نكون؟ وكان رأيه أنه يجب أن نكون
جزءاً من هذه التسوية، ويجب أن نقبل بدولة فلسطينية ولو في مدينة أريحا فقط.
س: هل يمكن أن تحدثنا عن كيفية تطور النقاش مع أبو عمّار؟
ج: حصل نقاش حاد مع الأخ أبو عمار، وكان رأينا أن موقفه غير
صحيح ويستهدف حرف الثورة الفلسطينية عن أهدافها الكبرى، وأننا لا نستطيع أن نقيم
دولة فلسطينية إلاّ على مناطق نحررها بقوة الكفاح المسلح، وأن منظمة التحرير وُجدت
لتحرير فلسطين، أمّا الأراضي الفلسطينية التي احتُلت في سنة 1967، فإن واجب
استعادتها يقع أيضاً على الدول العربية التي احتُلت هذه الأراضي وهي تحت وصايتها،
مثل غزة بالنسبة إلى مصر والضفة الغربية بالنسبة إلى الأردن. وإذا تمكنت هذه الدول
من استعادتها من دون منظمة التحرير التي تمثّل الشعب الفلسطيني في العودة وفي الشتات،
إلخ، يصبح حق تقرير مصيرها للفلسطينيين. كانت هذه المسألة هي قمّة الخلاف الشديد
مع أبو عمار لدرجة أنه قال: يعني الضفة الغربية تريدون أن تتركوها للملك حسين،
أنتم الهاشميين الجدد؟ وغادر المعسكر منزعجاً لأنه رأى أن هناك أغلبية كبرى ضده،
واتهم الدكتور أبو عمر ومنير شفيق والآخرين بأنهم هم الذين حرضوا الشباب والطلاب،
إلخ. وأعتقد أيضاً أن هذا المعسكر كان علامة فارقة لأنه فرز بشكل كبير الخط
السياسي عند جزء كبير من الشباب في اتجاه المستقبل. وبعد ذلك مباشرة انفجرت الحرب
الأهلية في لبنان.
الماوية والتضامن العربي
س: أين كانت الماوية في التشكيل الجديد؟ كيف دخل تبنّي أفكار
ماو تسي تونغ في اللعبة؟ المجموعات كلها التي تحدثت عنها، من أبو فارس إلى ناجي
علوش كانت تتبنّىالماركسية وهذا مفهوم، لكن متى دخل عنصر التجربة الثورية في
الصين؟ أنت معين طاهر متى فكرت أنك ماوي، أو ماركسي؟
ج: أنا لا أستطيع أن أقول أنني كنت ماوياً على طريقة ميشال
نوفل، أو إيدي زنانيري. نحن، مثلما قلت سابقاً، دخل إلى مجموعاتنا جزء لا يستهان
به من الكتلة اليسارية اللبنانية، سواء كأفراد أو مجموعات. على سبيل المثال: بعض
الإخوان مثل هلال رسلان ومجموعة الجبل كلها كانوا يفكرون في إنشاء الحزب الشيوعي
العربي، وهؤلاء دخلوا كتلة ولم يدخلوا كأفراد، دخلوا عشرات ومئات، وكان لديهم
أفكارهم الخاصة في هذا الموضوع، وكثيرون ممّن تركوا منظمة العمل الشيوعي كان لديهم
أفكارهم اليسارية في هذا الاتجاه [....] فضلاّ عن أن الأخ منير شفيق أدى دوراً
أساسياً في تكريس هذا المفهوم من خلال كتبه في التناقض والممارسة واستلهام بعض
التجارب التي خاضها ماو تسي تونغ، والثورة الصينية والثورة الفييتنامية، إلخ. ونحن
على مستوانا كسريّة طلابية أو ككتيبة طلابية، لا أذكر أننا ناقشنا قصص عصابة
الأربعة أو الثورة الثقافية في الصين، ولم تكن ضمن برنامجنا، حتى قصة الإمبريالية
الاشتراكية لم تكن في جدول أعمالنا الفكرية. بالنسبة إلينا لم تكن المسألة أكثر من
أن نحافظ على استقلالية الثورة الفلسطينية بعيداً عن محاور الاستقطاب الدولي، لأن
محاور الاستقطاب الدولي تقود إلى حرب باردة، وبالتالي إلى تجميد القضية
الفلسطينية، ويجب ألاّ نكون جزءاً من هذا الاستقطاب. بالنسبة إلينا كانت الثورة
الصينية والماوية عبارة عن تجربة تحرر وطني نستلهمها في دروسنا، وليس لبناء حزب
شيوعي ماوي أو تيار فكري شيوعي أو ماركسي لينيني، إلخ. هذا الجانب يمكن أن يكون
موجوداً عند إخواننا الذين أتوا من المجموعات الأُخرى، لكنني لا أذكر أننا أرسلنا
أي رسالة إلى الأرض المحتلة، أو إلى السجون، تكلمنا فيها على هذه الموضوعات. في
التثقيف الداخلي كنا نركّز على الاستقلالية وخط الجماهير والكفاح المسلح وحرب
الشعب، وعلى مجموعة من القيم والعادات، وعلى الموضوع الأهم المتعلق بالتناقض
الرئيسي، علماً بأن الكتاب الأحمر كان موجوداً لدينا في جميع المواقع، ولدى
المقاتلين كلهم. بكلمة أُخرى، أستطيع أن أقول إن الخط الذي تبنّاه حتى أولئك
الإخوة الذين أصبحوا جزءاً من التيار، وكانوا من قبل يتبنّون أفكار ماو تسي تونغ،
كان خطاً يتفق مع موضوعات طرحها ماو وهوشي منه، لكن كان هنالك موضوعات متعلقة
بأوضاعنا، وقراءتنا الخاصة تختلف عن الخط الذي تتبنّاه الصين أو عدد من الحركات
الماوية؛ مثلاً، كنا نعتبر الاتحاد السوفياتي صديقاً للثورة، لكن ليس حليفاً مع
تأكيد الاستقلالية عنه. إن مراجعة جميع أدبياتنا وتقديرات الموقف التي كنا
نتداولها تؤكد هذه الحقيقة، لكن مجموعات اليسار المؤيدة للخط السوفياتي كانت
تعتبرنا ماويين بسبب هذا الموقف ﻷنهم كانوا يريدون الانضواء تحت السياسة
السوفياتية بما فيها خط التسوية.
س: على أي أساس تم
الافتراق عن ناجي علوش وأبو داود؟
ج: المسألة الرئيسية في هذا الموضوع تتفرع إلى 3 نقاط:
اﻷولى: الموقف من القيادة الفلسطينية واعتبارهما أن هذه
القيادة خائنة، ونحن رأينا أنها قيادة وطنية.
الثانية: الخلاف بشأن العديد من المسائل في الأزمة اللبنانية،
وللمثال: موضوع عزل الكتائب، والعلاقة مع موسى الصدر، وكيفية إدارة الأزمة
اللبنانية بصورة عامة.
الثالثه: موضوع التضامن العربي ونظرتنا إليه.
في تلك المرحلة كنّا نرى ضرورة للتفاهم مع السوريين، بينما كان
رأيهما مع آخرين أنه يجب أن يكون هناك صراع مع السوريين، وبالنتيجة التحقوا
بمجموعة أبو نضال، ثم تركوا أبو نضال وأنشأوا الحركة الشعبية العربية وكان توفيق
الهندي معهم. في هذه المرحلة بدأ الخط يأخذ شكله ومداه، وأصبح الموقف واضحاً من
الأزمة اللبنانية وطريقة إدارتها، إذ عارضنا شعار عزل الكتائب. وكان البعض يستغرب
كيف كنّا ضد عزل الكتائب، وكنّا في الوقت نفسه أشرس الناس في مواجهتهم! والجواب
سهل وهو أننا نقاتل الكتائب دفاعاً عن مواقعنا ودفاعاً عن الثورة، وليس تحت شعار
أن الطريق إلى فلسطين تمر بجونيه. كنّا نعتقد أن شعار عزل الكتائب يؤدي إلى عزل
المجتمع المسيحي وإلى تقسيم لبنان، وهو لا يعزل الكتائب بقدر ما يقوّيها، ويجعلها
ممثلة للمجتمع المسيحي، أي يعطي نتيجة عكسية للهدف المنشود من الشعار. كان رأينا
أن الثورة الفلسطينية يجب أن تحاول بأسرع وقت ممكن الخروج من الأزمة اللبنانية
وتوسيع إطار تحالفاتها بحيث لا تشمل فقط اليسار اللبناني، بل قوى تقليدية أيضاً
مثل الإمام موسى الصدر والأطراف اللبنانية الأُخرى، مثل رشيد كرامي والمفتي
والقيادات الإسلامية التقليدية.
أصبح لهذا التيار تشكيلاً عسكرياً بحكم الأزمة اللبنانية
واضطرار أبنائه إلى الدفاع عن المناطق التي يسكنون فيها. مثلاً: الشباب في رأس
النبع ومنطقة البسطة، اضطروا إلى الدفاع عنهما في مواجهة هجوم الكتائب من منطقة
الأشرفية. والأمر نفسه ينطبق على الشباب في الجبل ومناطق أُخرى، فقد وجدوا أنفسهم
مضطرين إلى أن يشكلوا ميليشيا محلية تدافع عن الحي الموجودين فيه، سواء في مواجهة
اعتداءات الكتائب، أو حتى لمواجهة الزعران ومحاولات تهجير المسيحيين. لقد فرض تطور
الحرب اللبنانية البحث في إطار عسكري ملائم.
س : جواد أبو شعر لم يعتبر نفسه جزءاً من هذا الإطار؟
ج: كلا لم يعتبر نفسه من الإطار. لم يكن الأمر مطروحاً، لكن
مجمل الموضوعات التي كانت موضع نقاش لم نكن مختلفين معه بشأنها، حتى موضوعات
الاستقلالية والاستقطاب، وموضوع التناقض الرئيسي. هذه الموضوعات كلها لم يكن هناك
خلاف عليها. أنا أذكر أن اللقاء مع جواد أبو شعر كان يومياً، كل ليلة الساعة 11
قبل منتصف الليل نلتقي ونبقى معاً حتى الساعة 4 فجراً بعد الجولة على جميع
المواقع؛ هو يذهب لينام ونحن أيضاً، ثم نلتقي في اليوم التالي. وحتى قبل استشهاده
بلحظات كنا معاً في مكتب الشهيد سعد جرادات وقالوا له إن أبو عمار عاد إلى بيروت
من السفر فذهب ليراه، وفي الطريق استهدفته قذيفة واستشهد بعد دقائق من مغادرتنا،
وكان رحيله خسارة كبيرة، والمشروع الذي كنا نناقشه معه لربط وحدات الميليشيا مع
قوات العاصفة توقف بعد استشهاده.
س: ماذا عن دور محجوب عمر هنا؟
ج: محجوب كان صديقاً قريباً جداً، لكن التيار كان عبارة عن جسم
صغير في جسم أوسع؛ الجسم الصغير لم يكن فيه لا جواد ولا محجوب، لكن في الجسم
الأوسع كان يوجد كل هؤلاء، يعني أننا كنا متفقين مع محجوب في جميع القضايا التي
طرحناها عليه، حتى موضوع السلطة الوطنية والنقاط العشر، وتأكيد استقلالية
"فتح" من الاحتواء السوفياتي، وانتهاج سياسة عدم التدخل في الشؤون
الداخلية للدول العربية والابتعاد عن سياسة المحاور العربية، وفي مجمل المواقف من
الأزمة اللبنانية كانت المواقف متطابقة. كان محجوب، إلى جانب اقتناعه التام بقيادة
"فتح"، وخصوصاً أبو عمار وأبو جهاد، حريصاً كونه مصرياً على ألاّ يدخل
في صراع مع القيادة، وعندما يشعر بأنه لم يعد قادراً على احتمال بعض المواقف، كان
يذهب لقضاء وقت في كتيبة نسور العرقوب بقيادة نعيم، والتي كان يعتبر نفسه أحد
أفرادها.
س: تتكلم عن مجموعة صغيرة، مَن يحدد المهمات القيادية؟
ج: منير شفيق وأبو حسن قاسم وحمدي ومروان كيالي وهلال رسلان
والدكتور عصمت وعلي أبو طوق ومحمود العالول ونذير أوبري وشباب من البقاع ومن الجبل
وعدد من القيادات العربية المناضلة، فحجم النواة كان واسعاً، ولم يكن في هاجسنا أن
نقيم تنظيماً بالمعنى التقليدي له أمين عام أو مكتب سياسي، أو أن نشكّل تنظيماً في
داخل التنظيم، ولم يكن لدينا مخططات أو أفكار انشقاقية أو محاولات للسيطرة على
القيادة أو انتزاع حصة منها، كان عملنا كتيار لا يتعارض رسمياً مع تنظيم
"فتح"، وهدفه اﻷسمى كان حمل كتف [المساهمة] في تجربة الكفاح المسلح على
خطوط التماس، أو في داخل اﻷرض المحتلة. كي أكون واضحاً، لم يكن لدينا مشروع أن
ننشئ حزباً، ويجب أن نميّز بين التيار والحزب.
س: لكنه كان مشروعاً عربياً.
ج: كان مشروع تيار عربي، وكان يضم عرباً كثيرين، وفي فترة من
الفترات كان عادل عبد المهدي، على سبيل المثال، في قلب تلك النواة، مع احتفاظه
بتنظيمه العراقي. كان في المشروع شباب من تونس ومصر وسورية والعراق، وبالتالي
تحولت الكتيبة إلى نقطة استقطاب، ليس فقط للعرب، بل حتى للإيرانيين والأتراك وبعض
اليساريين الغربيين. أبو حسن قاسم، على سبيل المثال، كان القائد الميداني للتيار،
فضلاً عن دوره النظري والسياسي المميز، أمّا الأخ أبو فادي [منير شفيق] فلم تُبنَ
العلاقة معه على أساس معلم وتلاميذ، إذ كان أي شيء يكتبه منير شفيق يخضع لدراسة
دقيقة ومتأنية من جانب مجموعة كبيرة من الناس، وتدور حوله مناقشات أحياناً حادة
وتصحيحات وتصويبات، بحيث إن الكلام الذي ينشره كان يعبّر عن رأي المجموعة. كان
منير شفيق يلتزم هذه القاعدة، ودوره كان، قطعاً، واضحا ًومميزاً ورائداً.
س: كيف تم تعيين سعد جرادات قائداً للسريّة، ومَن عيّنه؟
ج: تم اختيار سعد بالتوافق بيننا، وكان جواد يؤيد الذي نختاره.
وقبل سعد كان القائد العسكري الفعلي لهذه المجموعة أبو حسن قاسم، لكنه ذهب في مهمة
إلى الأردن تتعلق بمشروعه اﻷزلي: إقامة قواعد ارتكاز في الأرض المحتلة. وسعد أصلاً
كان المسؤول العسكري لشعبة الجامعة العربية، وأنا كنت أمين سر الشعبة. وكان يوجد
شاب من الأرض المحتلة في طور إعادة تأهيل وتدريب كي يقود دوريته ويرجع بها إلى
الأرض المحتلة، واسمه أبو الراتب، وتوافقنا عليه ليكون نائباً لسعد. وفي الحقيقة
لم يصدر قرار من جواد أو من ياسر عرفات، ولا أحد منا في يوم من الأيام أتاه قرار
أنه قائد لهذه المجموعة، حتى في وقت لاحق عندما أصبحتُ قائداً للكتيبة أو السريّة،
ومروان نائباً لقائد الكتيبة، لم يعطنا أحد قراراً بشأن تعيين فلان أو فلان
[....]. ميزة "فتح"، أنك موجود في حركة تختلف مع بعض سياستها، لكنك متفق
مع قيادتها الوطنية على شيء أساسي اسمه تناقض رئيسي تقاتل من أجله، شيء اسمه حماية
الثورة الفلسطينية تقاتل من أجله، ما عدا ذلك مسموح لك بأن تناقش وتختلف وتجتهد
بما تراه ملائماً، وتتحمّل مسؤولية اجتهادك.
س: بعد استشهاد سعد تم تعيينك قائداً للسريّة، ألم يكن نائبه
أبو الراتب؟
ج: أبو الراتب استشهد في وقت مبكر في حادث سيارة في الجبل. كان
آتياً من المعسكر في بيصور، وانقلب به "اللاند روفر". قبل استشهاده
أخذناه إلى بيصور كي يرتاح، وقد اقترب موعد دوريته إلى الأراضي المحتلة، وكان حمدي
في عمّان هو والحاج حسن الذي كان قائداً لقطاع الأردن. الحاج حسن كان قائد قطاع
الجليل في "فتح"، لكنه كان يذهب هو وحمدي وأبو حسن قاسم ومحمود العالول
متسللين عبر الحدود لتجهيز دوريات لعبور النهر [نهر الأردن]. المشروع الأساسي
للحاج حسن ولحمدي ولأبو حسن قاسم، كان إقامة قواعد ارتكاز داخل الأرض المحتلة،
وأبو الراتب وعبد الرحيم وسعيد كانوا يستعدون لدورية إلى الداخل ضمن هذا المفهوم،
وهنا تحضرني قصة بطلها أبو الراتب، إذ طُلب منّا إرسال فصيل للمشاركة في معركة
احتلال الدامور، وقام الفصيل بقيادة أبو الراتب بالواجب العسكري المطلوب منه
بكفاءة عالية، وبعد ذلك، عندما بدأت عمليات النهب والسرقة والتدمير وقتل بعض
المدنيين، انسحب الفصيل من الدامور احتجاجاً على ما يجري. وكان قائد الهجوم على
الدامور في ذلك الوقت أبو موسى الذي اتهم الفصيل بالفرار من المعركة، فاستدعاهم
أبو إياد وأخبروه بما جرى ولماذا انسحبوا احتجاجاً، وأثبتوا له أنهم أدّوا واجبهم
بالكامل، واحتلوا المنطقة التي طُلب منهم أن يحتلوها. عندها قال لهم أبو إياد:
أنتم ضمير "فتح"، ونُشرت هذه الرواية على نطاق واسع.
بعد ذلك طُلب منّا أن نشارك كلما نشبت معركة في مكان ما، في
الكحالة أو عاريا، وفي الجبل: في عينطورة وصنين. معارك صنين هي إحدى النقاط الأبرز
في تاريخ الكتيبة، وقد استشهد فيها أبو خالد جورج من مؤسسي التيار والمتميز دوماً
على مستوى النظرية والممارسة، كما استشهد في صنين نخبة من خيرة الشباب في السريّة
مثل المهندس طوني النمس ومحمد شبارو وحمّاد حيدر وجمال القرى وحرب وحسنين. كانت
الضربات مؤلمة وموجعة في صنين، ومع ذلك صمدنا فيها فترة طويلة. كان ذلك القاطع
بقيادة أبو خالد العملة، وكنا على خلاف كبير معه بشأن خطة المعركة والرؤية
الاستراتيجية [....]، وكان رأينا أنه يجب أن نتفادى المواجهة مع السوريين، وأن يتم
التوصل إلى اتفاق جديد مع سورية، وهذه الحرب الأهلية يجب أن نحاول إيجاد حلول لها،
وأن نتوجه نحو الجنوب اللبناني. هم كان رأيهم مع قطاعات من اليسار اللبناني أن
الجبهة تمتد من صوفر إلى موسكو، وأطلقوا على قاعدتهم اسم الجيب اﻷحمر. في هذه
الفترة سيطر يسار "فتح" مع فصائل من اليسار اللبناني على القرار السياسي
والعسكري، وكانا يدفعان في اتجاه تحقيق حسم عسكري للحرب اﻷهلية. أعتقد أن أبو عمار
وأبو جهاد لم يوافقا على هذا التوجه، لكنهما لم يتمكنا من إيقافه. وفي عدة مرات
كانت تنهال الصواريخ على بيروت الشرقية في اللحظة التي يعلن التوصل إلى اتفاق لوقف
إطلاق النار. ولعل أبرز هذه المرات ذلك القصف المجنون الذي سمّته جريدة
"السفير" ليلة تأديب اﻷشرفية، وكان ذلك رداً على اتفاق حمله أبو الزعيم
من الكسليك، وحمل في طياته تنازلات جوهرية من المعسكر المسيحي للمقاومة والحركة
الوطنية. وقد اتُّهم عرفات بأنه بهذا الاتفاق يخرق قرار عزل الكتائب.
استشهد سعد في معركة البرجاوي، في محاولة لفك الحصار عن تل
الزعتر، وتم ذلك في الليلة نفسها التي كان من المفترض أن يتقدم لخطيبته. وتم اختياري
قائداً للسريّة في مرحلتها الجديدة، فأدركت أولاً أنه يجب تنظيم هذه القوة
المبعثرة التي تمتد من الخندق العميق حتى صنين والجبل.
طلبنا من الأخ أبو جهاد أن يستبدل قوتنا في صنين بقوة أُخرى،
وبدأنا بتجميع قوتنا في معسكر بيصور، لإعادة تأهيلها وتدريبها بعد سقوط عشرات
الشهداء خلال المواجهات. وفعلاً، لم يمضِ على انسحابنا من صنين أسبوعان حتى سقطت
جبهة صنين ـ عينطورة التي كان يدّعي أبو خالد العملة أنها ستصمد أشهراً، فانهارت
في غضون دقائق، ومن دون اشتباك، عقب أول وجبات القصف الصاروخي السوري، وانسحبت
القوات بلا نظام في اتجاه رأس المتن والعبادية التحتا.
بانهيار جبهة عينطورة ـ صنين استعاد أبو عمار وأبو جهاد
القيادة الفعلية للقوات وإدارة الصراع مع السوريين، وضَعُف ضغط الحركة الوطنية
عليهما.
س: أنت كقائد للسريّة جمعت الشباب في بيصور؟
ج: طبعاً كان ضرورياً أن نعيد تنظيم السريّة في ظل تقدير
للموقف أن ثمّة معركة قادمة مع السوريين، ولا بد من خوض هذه المعركة كي نتمكن من
فرض وقف لإطلاق النار يتبعه وقف الحرب الأهلية، وأن ثمة معركة أُخرى ستليها، لكن
هذه المرة في الجنوب حيث تتابعت التقارير التي تفيد بتوسيع الجيب الحدودي الذي يقوده
سعد حداد. بدأنا باستطلاع الجنوب قبل مواجهة بحمدون، ورتّب أدهم جولة مع أبو ميسون
(عبد الحسن اﻷمين) وعلي يوسف، فاستطلعنا منطقتَي بنت جبيل وصور بالكامل، واجتمعنا
ببعض اﻷهالي، وعلمنا أن هنالك تهديدات جدية من حداد لبنت جبيل وحانين. عدنا إلى
الجبل ونحن نعلم أننا نحضّر أنفسنا لمواجهة مع سعد حداد في أي لحظة ينفّذ تهديده
ضد تلك المنطقة، الأمر الذي يتطلب أن نرسل جزءاً من القوة إلى منطقة الجنوب،
ووضَعْنا أبو جهاد في الصورة.
في هذه الأثناء بدأنا الاستعدادات لمعركة بحمدون بإشراف مباشر
من خليل الوزير (أبو جهاد)، وتم تعيين مسعود، وهو أحد قادة القوات، قائداً لبحمدون
[مسعود أصبح قائداً لميليشيا صور لاحقاً]. بدأنا بتنفيذ خطة لتحصين مواقعنا في
بحمدون التي كانت بقيادة محمود العالول، ومعه مجموعة كبيرة من الشباب بمَن فيهم
عدنان أبو جابر وغيفارا اللذان قاما بعمل التحصينات الهندسية وزرع الألغام
والسواتر الترابية بإشراف هلال رسلان وأبو حسن.
س: هل كان شفيق الغبرا معهم؟
ج: نعم كانوا مجموعة كبيرة تضم نحو 60 أو 70 شاباً، وبينهم
عمار وفلاح وصابر ومنصور وأبو علي، ومجموعات من اللجان الوطنية في الجبل وآخرين
(خبر كانوا؟؟؟). بدأنا نستعد لمعركة المواجهة في بحمدون، وكانت المواجهة على الخط
الرئيسي وفي منطقة الفيلات والقصور. واستشهد لنا الإخوه منير قانصو ويوسف جواد،
طالب الدراسات العليا في ألمانيا.
س: هل كنت معهم؟
ج: أنا كنت في بيصور. أول ساعات المعركة في الليل تحركت مع أبو
جهاد من بيصور إلى بحمدون واجتمعنا بالشباب هناك، علماً بأن المعركة انتهت مساء
اليوم الثاني في بحمدون. أمضينا الليل مع الشباب، وعدنا مرة أُخرى إلى بيصور،
وبدأت بترتيب خط الدفاع الثاني بعد بحمدون، وهو على جسر السكة عند ضهور العبادية،
مدخل عاليه في اتجاه الكحالة. تموضعت مجموعات في تلك المنطقة، وهنا أذكر حادثتين
في اليوم الثاني بعد معركة بحمدون: الأولى رواها أحد الإخوان وكان على حاجز السكة،
فقد رأى سائق سيارة أجرة قادماً من بحمدون يتوقف عنده قائلاً أريد أن أقابل مسؤول
الموقع، فقال له أنا المسؤول، وإذا بالسائق يبلّغه أن الضابط السوري فوق يقول لكم
إنكم مكشوفون له، وإذا أتته تعليمات بإطلاق النار فإنه يستطيع أن يؤذيكم،
فاختبئوا. الحادثة الثانية تتعلق بأهمية تقدير الموقف السياسي في العمل العسكري،
ذلك بأن الجيش السوري قام بتحركات توحي بعزمه على التقدم في اتجاه مواقعنا، فطلبت
من مسؤول اللاسلكي في كيفون، مقر قيادة أبو جهاد، أن يرسل برقية إلى الشباب،
مضمونها تقدير للموقف كنا قد تناقشنا فيه مع أبو حسن وأبو محمود ومنير وباقي
الإخوة. في ذلك الوقت كانت البرقيات كلها تحوي طابعاً عسكرياً مباشراً، فبعثت
ببرقية فيها تقدير موقف عن أهمية الصمود 24 أو 48 ساعة لأنه خلال هذه الفترة
سيُعقد اجتماع عربي على مستوى القمّة يؤدي إلى وقف إطلاق النار، وإلى وقف الحرب
الأهلية، وسنتفرغ بعد ذلك لمهمتنا الرئيسية، وهي القتال ضد العدو الصهيوني، ولذلك
يجب أن نحافظ على مواقعنا ونثبت بها أياً تكن التضحيات والخسائر. مأمور اللاسلكي
اعتبرني مخبولاً كأنه يتساءل: مَن هذا الذي يأتي ليعطيني هذه البرقية في هذا
الوقت؟! أبو جهاد كان موجوداً وقلت له أريد أن أرسل برقية ومأمور اللاسلكي لا يريد
أن يرسلها، فقرأها وقال له: أرسلها على الفور وعمّمها على الجميع لأنها أهم برقية.
وتم عقد مؤتمر الرياض، وتقدير الموقف كان دقيقاً وتوقّف القتال. في تلك المرحلة
انتهت معركة بحمدون وتحقق الاتفاق العربي على إرسال قوات الردع العربية.
لم نكن قد شرعنا في تفكيك مواقعنا على السكة وفي ضهور العبادية
عندما قصف سعد حداد بنت جبيل وأوقع فيها عدداً من الشهداء، ووجّه إنذاراً إلى
أهلها بالاستسلام. قررنا أن الأوان آن كي نتحرك نحو الجنوب. اجتمعنا مع أبو جهاد
الذي كان على معرفة بالاستطلاع الذي قمنا به سابقاً، وكان ما زال غير متيقن من أن
المعركة مع السوريين انتهت، وأن وقف إطلاق النار سيصمد، فطلب منّا الاستعداد
للتحرك والانتظار قليلاً، وعند منتصف الليل تيقن أن وقف إطلاق النار ثبت، فأرسل
رسالة فحواها أن تتحرك كامل السريّة الطلابية إلى منطقة بنت جبيل. لم تأخذ ترتيبات
التحرك أكثر من ساعة أو ساعتين، وقد توجهنا في قافلة إلى بنت جبيل مباشرة، وهي
منطقة تقع ضمن مسؤولية القطاع الأوسط الذي كان قائده الشهيد بلال ونائبه الشهيد
نور، لأن القطاع الأوسط كان ما زال متموضعاً شرقي صيدا جرّاء المعارك مع القوات
السورية، ولا توجد أي قوات لا من الحركة الوطنية ولا المقاومة الفلسطينية في منطقة
الشريط الحدودي كلها حتى منطقة صور.
وصلنا إلى منطقة بنت جبيل مباشرة، وارتفعت معنويات الأهالي،
وبدأنا بالانتشار على تلال مسعود وصفّ الهوا، وفي وسط البلدة، وفي عيناتا ورشاف،
وساعدنا الشهيد حسان شرارة ورفاقه من أبناء بنت جبيل الذين قاتلوا معنا في مواقع
متعددة، وأول شخص جاء إلينا أبو الفتح الذي كان في حينه مسؤول ميليشيا التنظيم في
تلك المنطقة، وكان عملياً وحده، ولم يكن بيده قوة تنفيذية، وبعد ذلك في المساء أتى
الشهيد نور.
س: كم كان عددكم؟
ج: كنا نحو 200 شخص، وتمكنّا من منع قوات سعد حداد من التقدم.
طبعاً قبل وصولنا بيوم واحد كانت حانين قد احتُلت، وهُجّر جميع سكانها وأُحرقت،
وهي بلدة علي يوسف الذي أخذنا إليها قبل أسبوع. وأطلقنا مجموعة فاعليات لإرباك سعد
حداد: دوريات قتالية وعمليات استطلاع كي نُشعره بأن ميزان القوى تغيّر في تلك
المنطقة، وذلك لتتمكن قوات المقاومة الفلسطينية من أن تعيد تنظيم نفسها، وتنسحب من
مواقع المواجهة مع السوريين، ومن الحرب الأهلية، وتعود إلى مواقعها في الجنوب.
تحمّلنا فعلاً مسؤولية المنطقة وحدنا عدة أيام كي نستطيع أن نوقف تمدد سعد حداد.
س: هل الطلاب الذين أمسكوا المحاور في بيروت، ثم قاتلوا في
صنين، لم يكونوا فدائيين محترفين، وجاء الانتقال إلى الجنوب كي يحوّلهم إلى
فدائيين؟
ج: قرار الانتقال إلى القوات المحترفة لم يكن وارداً حتى لحظة
نزولنا إلى الجنوب، لكن التحول إلى جزء من كتيبة عسكرية فدائية لم يكن وارداً. نحن
ذهبنا إلى الجنوب بالذهنية إياها التي قادتنا إلى صنين وكل المواقع الأُخرى، إذ
كان شعارنا هو: المناضل اﻷصلب في الموقع اﻷصعب. وعندما تبيّن أننا باقون في
الجنوب، عاودنا البحث في الفكرة القديمة التي كنا متفقين فيها مع الشهيد جواد، وهي
أن نحافظ على وضع التنظيم الطلابي والتيار في بيروت وفي مختلف المناطق اللبنانية،
ويكون لدينا طليعة متقدمة مرابطة في الجنوب ملحقة بإحدى الكتائب هناك ويتم تبديلها
باستمرار. للأسف قيادة الإقليم لم تقبل بهذه الفكرة، لأنها لم تكن مرتاحة إلى نمو
هذه الظاهرة، وقالت يجب أن نختار إمّا الميليشيا وإمّا القوات، فاخترنا القوات،
وأصبحنا كتيبة بعدما قرر عدد من الإخوة أن يتفرغوا كمقاتلين أو كجنود، وأن يحترفوا
العمل العسكري بشكل كامل، لكن بقي كل التنظيم السياسي والخط السياسي، سواء في
الجامعات أو في المناطق اللبنانية المتعددة، بمثابة رديف لهذه الوحدة، فما أن يعلن
الاستنفار حتى يرتفع العدد من 200 إلى 400 أو 500 شخص يأتون من جميع المناطق والجامعات
اللبنانية ومن الخارج، وهذه كانت حركة دينامية مع جبهة خلفية لم يتمكن قرار تنظيمي
من أن يمنعها، أو يحدّ منها. وتجدر الإشارة إلى أن تشكيل كتيبة مقاتلة من الطلاب
ومن الكوادر السياسية تضاف إلى قوات العاصفة، في الوقت الذي كان بعض الكتائب يتآكل
من الداخل، كان إنجازاً فريداً واستثنائياً، وكان نجاحاً للخط الفكري والسياسي
الذي تشكّل التيار على أساسه.
بالانضمام إلى القوات بدأنا تأهيل الكادر العسكري، ذلك بأننا
جميعاً تعلّمنا الحرب في الحرب ولم يكن قد تخرّج من كلية عسكرية إلاّ عدد محدود من
إخواننا الذين أرسلناهم في دورات خلال الحرب اﻷهلية. وشجّعنا على هذا الاتجاه
الشهيد أبو الوليد الذي أحاطنا برعايته وربطتنا به علاقة حميمة. أرسلنا علي أبو
طوق ورياض إلى الصين، وجهاد إلى كوريا [الشمالية]، وخالد ومروان وحسام وأدهم إلى
روسيا، وآخرين إلى فييتنام والجزائر والكلية العسكرية لـ "فتح"، وبعد
ذلك ذهبت أنا إلى مدرسة المشاة الباكستانية في سنة 1979.
س: مَن الذي اختار اسم الكتيبة؟
ج: جبل الجرمق هو أعلى
قمة في فلسطين، وقد اخترناه لأنه يرمز إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني.
س: وماذا عن اجتياح 1978؟
ج: يبدو أن الأوضاع بدأت تنضج لعملية عسكرية صهيونية واسعة بعد
أن فشلت جهود عملائه في الشريط الحدودي في توحيد جناحَي الشريط القليعة ومرجعيون
مع رميش وعين إبل. وتمثّل ذلك في فشل ضغطه على القرى الحدودية ما بين جناحَي
الشريط في الانضمام إليه، الأمر الذي دفعه إلى احتلال مارون الراس التي ترتفع 940
متراً عن سطح البحر وتشرف من جهة على فلسطين، ومن الجهة اﻷُخرى على بنت جبيل
وعيترون حتى أطراف تبنين. لم تكن لنا قوات في مارون الراس، وكنا قد توصلنا لاتفاق
مع العائلتين الرئيسيتين فيها على تحييد البلدة أسوة بباقي القرى الحدودية.
في فجر يوم 2 /3 /1978 احتلت قوات سامي الشدياق المعززة
بالدبابات مارون الراس، وأصبحت بنت جبيل واقعة تحت السيطرة بالنيران من البلدة،
وبدأت حركة نزوح للأهالي، وكان الموقف صعباً ويعني في حال استمراره سقوط كل قرى
الشريط الحدودي ووصل جناحيه ويحتّم علينا الانسحاب إلى أطراف تبنين.
كنا قد تدارسنا سابقاً هذا الاحتمال، ووصلنا إلى قرار أن علينا
أن نستعيد مارون الراس فوراً ومن دون تأخير كي لا يتمكن العدو من تعزيز مواقعه
فيها بحيث تصبح محاولة استعادتها صعبة ومكلفة. غادرت قيادة الكتيبة في تبنين إلى
بنت جبيل التي كانت طرقها مقطوعة بالنيران والقصف المعادي. كان جهاد [شفيق الغبرا]
قد بدأ استعداده للهجوم المعاكس. لم ننتظر أي تعزيزات من القوات الأُخرى كي لا
يضيع الوقت، ورفضتُ اقتراحاً من قيادة القوات بتأجيل الهجوم إلى حين إنهاء
الاستعدادات والحشد اللازم له. وصل بلال، قائد القطاع الأوسط إلى تبنين، وكانت علاقتنا
معه قد أضحت شبيهة بعلاقتنا مع جواد، وطلبت الإسناد منه ومن خالد، ضابط عمليات
تنسيق الإسناد مع واصف عريات، قائد المدفعية الثقيلة. تم شن الهجوم المعاكس في
الساعة الواحدة ظهراً بقيادة جهاد عبر ثلاثة محاور صعوداً على الأقدام عبر المرتفع
للسيطرة على مدخل البلدة وخراجها وتأمين الطريق العام الذي يربطها ببنت جبيل. ولأن
القوة التي ستصل إلى مارون الراس ستكون منهكة، فقد دفعنا بقوة محمولة بقيادة عمّار
للمحافظة على زخم الهجوم، كما قام رائد وفصيل الهاونات في الكتيبة بجهد مميز في
الإسناد. وشاركت في الهجوم مجموعات من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن منظمة
العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي. ونجحنا في تحرير مارون الراس من
دون أن نخسر أحداً، بينما فقد العدو 18 قتيلاً وعدداً من المدرعات التي تم تسليمها
إلى جيش لبنان العربي، في حين سُلّمت جثث القتلى إلى الصليب اﻷحمر. وبذلك أصبح
شمال فلسطين على مد البصر والحدود لا يبعد سوى أمتار، فقصف الصهيونيون مارون الراس
ساعة كاملة، ثم ساد المنطقة بعدها هدوء كبير يسبق عاصفة بدأت تباشيرها تلوح في
الأفق.
أنهت معركة مارون الراس الدور العسكرى لقوات حداد ـ شدياق،
وأصبح لزاماً على الجيش الصهيوني أن يأخذ اﻷمور بنفسه. أمّا نحن فبدأنا نستعد
للمواجهة المقبلة.
بعد عدة أيام، في 8 آذار / مارس 1978، جاءت عملية دلال
المغربي، وهي فدائية في الكتيبة شاركت في معارك بيروت وانتقلت معنا من بيصور إلى
بنت جبيل. في بيروت كان شبان وشابات الكتيبة من الجامعات يرابطون معاً في المواقع
القتالية، أمّا في الجنوب فقد كان الوضع أصعب، وكان من تقاليد الكتيبة أن تحترم
عادات الجمهور وتقاليده. حاولنا إنشاء فصيل نسائي بالكامل، لكن عدد اﻷخوات لم يكن
كافياً لذلك. ولم تقنع دلال بالعمل في المستوصف الذي تديره مجموعة مكونة من
الدكتور خالد القادم من فرنسا وعقبة والأخت بهية، وينضم إليه بعض المتطوعات بين
الحين والآخر سواء من أخواتنا أو من اﻷصدقاء اﻷجانب، ولا سيما النروجيين.
والمستوصف لم يقدم فقط الخدمات الطبية لبنت جبيل، بل للقرى
الحدودية بما في ذلك القرى الخاضعة لسعد حداد، وبالتالي كان عبارة عن نقطة علاج
طبي ونقطة للاتصال ونقطة أمنية؛ كانت مهماته متعددة. دلال لم تقنع بهذا الدور،
وكانت تصر على أن تذهب إلى المواقع الأمامية وترابط هناك، فسمحنا لها بذلك، لكنها
لم تقنع بهذا الدور أيضاً إذ يبدو أن طموحها كان أكبر، فانضمت إلى مجموعة الشهيد
كمال عدوان وذهبت في العملية الشهيرة إلى الساحل الفلسطيني. وكتبت في وصيتها إشادة
كبيرة بالشهيد سعد جرادات وبالكتيبة والتنظيم الطلابي.
بعد احتلال مارون الراس بدا التدخل العسكري الإسرائيلي أمراً
واقعاً، وبعملية دلال المغربي حُسم الموضوع. خيّم صمت كامل على خطوط الجبهة
وانعدمت الحركة في المستوطنات الصهيونية التي أُخليت من سكانها. وفي منتصف ليلة 14
آذار / مارس بدأ القصف الجوي والمدفعي على مواقعنا في مارون الراس وبنت جبيل. ومنذ
ساعات المساء كانت برقيات ربحي في مارون الراس تتوالى وتفيد بأنه لأول مرة يرى
تقدماً واضحاً لحشود آليات إسرائيلية، وأن الإسرائيليين ينطلقون من نقاط التجمع
الخلفية لخط انتشارهم. بلّغنا قيادة القوات أن الهجوم الإسرائيلي سيقع الليلة، لأن
العدو لا ينشر آلياته أمامنا إلاّ إذا كان يريد التقدم. لا أريد أن أدخل في
تفصيلات العمل العسكري الذي حدث في منطقة بنت جبيل، لكن أريد أن أقول إن الشباب
قاتلوا بضراوة شديدة في مارون الراس وفي جميع المواقع، واتّبعوا خطة ذكية لتجنّب
القصف المعادي: العدو يتوقع أنه عندما يقصف موقعك أن تنسحب إلى الخلف، نحن تقدّمنا
إلى الأمام، وبكلام آخر في مارون الراس تقدّم الشباب نحو الحدود الفلسطينية ـ
اللبنانية، وبالتالي لم يصب أحد منا قط في القصف. حتى المواقع المحصنة في بنت جبيل
غادرناها واتجهنا إلى الأمام. كانت النتيجة في مارون الراس أنه عندما التف العدو
عليها ودخل إلى موقعنا اكتشف أن الموقع فارغ. كان جنود العدو يحتفلون ويرقصون، فأطلق
الشباب النار عليهم وهم يحتفلون. واعترف العدو بحسب المصادر الإسرائيلية بسقوط 8
قتلى في مارون الراس نفسها، كما اعترف بخسائر كبيرة في بنت جبيل. كنّا متفقين على
خطة قتال تراجعي، وهذه الخطة تقضي بامتصاص الصدمة الأولى، والصمود في مواقعنا أطول
مدة ممكنة، ثم ننسحب إلى عقدة أُخرى وبعدها إلى عقدة ثانية إلخ، ثم نتوجه إلى عقدة
كبيرة لمواجهة العدو الذي يكون قد تقدم قليلاً وشعر بأن العقد صغيرة، الأمر الذي
يجعله يندفع بقوة فيفاجأ بعقدة كبيرة. وهكذا رتبنا القتال التراجعي بحيث يكون بعد
بنت جبيل عقدة مثلاً في بيت ياحون، ثم معركة في تبنين، وعقدة في السلطانية وأُخرى
في الشهابية، ثم معركة في جويا والعباسية. في بنت جبيل كانت خسائرنا كبيرة، لأن
امتصاص الصدمة كلّفنا استشهاد أغلبية الشبان الذين كانوا في المواقع مثل تلة مسعود
وتلة شلعبون، وبينهم الشهيد حسان شرارة والشهيد بشار فاعور والشهيد زيتون بزي
والشهيد أبو خالد شحيمي والشهيد أبو وجيه عنداري [هؤلاء الشهداء تم اكتشاف أماكن
دفنهم بعد تحرير الجنوب في سنة 2000 وأقيم لهم نصب تذكاري واحتفال كبير في بنت
جبيل تكريماً لصمودهم وبطولاتهم]. استمرت معركة 1978 حتى آخر نقطتين قاتلنا فيهما
وهما: جويا والعباسية. وفي العباسية ارتكب العدو مجزرة كبيرة، ومع ذلك فإن قتالنا
في العباسية وجويا أقنع الإسرائيليين بأنهم إذا واصلوا التقدم إلى منطقة صور
والمخيمات فهذا يعني أن قتالاً عنيفاً سيحدث، علماً بأن القتال من بنت جبيل حتى
جويا والعباسية استمر 8 أيام، ولهذا سُميت حرب الأيام الثمانية، وكنا نقاتل في هذا
القاطع مع الإخوة في القطاع اﻷوسط بقيادة الشهيد بلال القائد الفذ والشجاع. وحالت
هذه الخطة دون وصول الإسرائيليين إلى الليطاني، وبالتالي بقيت طريق صور ـ صيدا
مفتوحة والمخيمات الفلسطينية خارج نطاق الاحتلال. وهنا أريد أن أشير إلى دور مميز
قام به الشهيد علي أبو طوق الذي كان مسؤول الإدارة في ذلك الوقت، إذ لم يترك
مجموعة واحدة تحتاج إلى تموين، أو إلى سلاح. لم نفقد بالمناسبة مستودع سلاح
واحداً. وفي أحد مستودعات السلاح في منطقة البساتين في شبريحا، كان الإسرائيليون على
بعد 50 متراً فوق مخزن السلاح، وعلى الرغم من ذلك تمكّن علي من أن ينقل المستودع
كاملاً. لم نفقد قطعة سلاح واحدة، ولم ينقطع الاتصال بالمجموعات ولم نفقد التموين.
بعد انتهاء المعركة، عقد رئيس اﻷركان الصهيوني في حينه مردخاي
غور مؤتمراً صحافياً قال فيه إن الوحدات التي واجهتنا في بنت جبيل ومارون الراس
تختلف عن جميع الوحدات التي واجهناها سابقاً، وتحدث عن شيء وصفه بأنه مهم وهو أنهم
وجدوا في هذه المواقع نشرات تثقيفية ودروساً واستخلاص تجارب، واستنتج أنهم يواجهون
نوعية مختلفة من المقاتلين.
انتهت معركة 1978 وانتشرنا على الخط الساحلي. وجاءت قوات
الطوارئ الدولية وكان لدينا مخاوف من أن تنتشر قوات سعد حداد في مناطق قوات
الطوارئ الدولية، فقررنا أن ننتشر قبل أن تصل قوات الطوارئ الدولية إلى منطقة
الجنوب. تسللنا وانتشرنا في منطقة قوات الطوارئ، وعندما وصلت هذه القوات، وجدتنا أمراً
واقعاً في المنطقة. دخلت منطقة دير قانون فوجدت أن لنا قاعدة فيها، ودخلت إلى
شبريحا ووجدت أن لنا قاعدة فيها، وكذلك الأمر في قانا، فأصبحنا أمراً واقعاً، وصار
لا مفر من تشكيل هيئة ارتباط بين قواتنا وقوات الطوارئ الدولية تولى قيادتها ضابط
شجاع من إخواننا في جيش التحرير الفلسطيني هو الرائد محمد تمراز. خلال هذه المرحلة
حدث نوع من المواجهة عندما حاولت قوات سعد حداد أن تتسلل بدعم إسرائيلي إلى بعض
المناطق الحدودية، مثل منطقة خربة سلم وقبريخا، وبحيث يصبح وادي الحجير تحت
سيطرتهم النارية. أرسلنا بالتعاون مع أهالي هذه القرى، مجموعات كانت تقيم هناك في
بيوت الأهالي، وتحصل على تموين ودعم كاملين منهم، وفي الليل تذهب في دوريات إلى
وادي الحجير والشريط الحدودي. وبقيت هذه المجموعات على هذه الحال 3 أو 4 أشهر
لدرجة أن الإسرائيليين كانوا خائفين من التقدم في اتجاه هذه المناطق، معتقدين أننا
نضع كمائن لتنفيذ عمليات أسر للجنود. كنا نتحرك بلباس مدني من دون إنشاء أي قاعدة
ثابتة؛ كانوا أشخاصاً بلباس مدني ننقلهم كل يوم أو ثلاث من بيت إلى آخر، وبهذه
الطريقة لا حاجة إلى سيارات تموين أو سيارات عسكرية لتكون موضع مراقبة. استطعنا
فعلاً أن نمنع أي انتشار لقوات سعد حداد داخل منطقة قوات الطوارئ الدولية طوال تلك
الفترة، واستطعنا أن نحافظ على علاقات طيبة مع ضباط قوات الطوارئ الدولية، وحتى
التعاون معهم لنقل أسلحة وذخائر إلى داخل الأرض المحتلة. نفّذنا عشرات عمليات
النقل من خلال قوات الطوارئ الدولية، واكتشف الإسرائيليون واحدة منها فقط، وكان
لمحمد تمراز دور كبير في تنسيق ذلك بالتعاون مع أبو حسن وحمدي.
س: ذهبتم إلى بنت جبيل، وكنتم في الأغلب مثقفين ومتعلمين
ولديكم مؤهلات، وما عرفناه هو أنكم كنتم تلتزمون نظام قِيَمٍ في القواعد وفي
العلاقة مع الأهالي. هل يمكنك أن تحدثنا عن نظام القيم هذا؟
ج: المفروض أن تكون كل "فتح" على هذا المنوال، نحن
كنا نركّز أكثر على قواعد السلوك الأخلاقي، فكنّا نعتبر الاعتداء على الناس اعتداء
علينا، لم نتسامح قط مع أي كان في هذا الشأن، حتى لو اضطررنا إلى التهديد بالقوة،
أو على الأقل التلويح بالقوة لمنع هذا التصرف. أريد أن أقول إننا في تجربتنا كلها
في الجنوب اللبناني كنا نصطدم بتجار المخدرات واللصوص، وكانت هذه الحوادث تنتهي
سريعاً؛ التجاوزات على الأهالي ممنوعة منعاً باتاً بغضّ النظر عمّن يرتكبها،
واضطررنا أحياناً إلى التهديد بالاشتباك مع وحدات من "فتح"، ومن فصائل
أُخرى اعتدت على أهالي، أو على أملاك عامة. كنا نحارب كل محاولات الاستقواء على
الأهالي بالسلاح، الأمر الذي أوجد علاقة متينة بيننا وبين اﻷهالي، وقد ساعد على
ذلك، فضلاً عن المسلكية الثورية، موقفنا الإيجابي من حركة المحرومين وعلاقتنا
بالسيد موسى الصدر.
ومن جهة ثانية، هناك سمات محددة لمنطقة الجنوب كما لكل منطقة
في لبنان. ففي جميع المناطق توجد انقسامات، كما في أي مجتمع، ويوجد صراع وتنافس
بين العائلات، وهناك عائلات تنقل ولاءها من فصيل إلى آخر، ومن حزب إلى حزب آخر.
ونحن في هذا الموضوع لم نكن نحمل موقفاً مسبقاً؛ نعرف أن لنا حلفاء من الفصائل
الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن نعادي
الخصوم السياسيين لهذه الفصائل. بكلام آخر، إذا كان العراق يخوض حرباً ضد إيران
فهذا لا يعني أن نسمح لجماعة البعث أو جبهة التحرير العربية بأن تشتبك مع
الإسلاميين الشيعة المؤيدين لإيران، ولا نقبل أن نصبح أسرى لهذا الموقف. لذلك قمنا
بتجربة بدت غريبة في بنت جبيل تحديداً، وبعد ذلك في مناطق الجنوب كافة. حركة أمل
كانت تبدو قوة صاعدة في الجنوب اللبناني، وكانت أحزاب الحركة الوطنية، ولا سيما الحزب
الشيوعي، تعتبر الجنوب قاعدتها الأساسية، وترى أن الرصيد الذي كانت تحصل عليه حركة
أمل يقتطع فعلاً من رصيد فصائل الحركة الوطنية، الأمر الذي أوجد حالة من العداء
بين الطرفين، تحولت سريعاً إلى اشتباكات بالسلاح.
في منطقة بنت جبيل بدأنا حواراً مع حركة أمل علماً بأنه كان
لنا تجربة سابقة مع الحركة من خلال أول معسكر تدريب لها، إذ إن المدربين كانوا من
عندنا واستشهد فيه أحد إخواننا وهو مجاهد الضامن، فضلاً عن تجربة كفر شوبا
والعلاقة مع السيد موسى الصدر. فتحنا نقاشاً وحواراً مع الدكتور مصطفى شمران الذي
أصبح أول وزير دفاع في حكومة مهدي بازركان في إيران، وهو كان مدير المؤسسة
العاملية في صور. طبعاً كان هناك كثير من المخاوف والهواجس عند حركة أمل من جهة،
وعند الآخرين بما في ذلك "فتح" من جهة أُخرى. أقنعنا الدكتور مصطفى
شمران بأنهم يجب أن يكونوا في المواقع القتالية. وفعلاً بدأت حركة أمل ترسل
مجموعات كي ترابط معنا في منطقة بنت جبيل، وصار لديهم مجموعات دائمة هناك، حتى
الدكتور مصطفى شمران جاء مع هذه المجموعات، وهذا التطور كسر جزئياً حدة التوتر
القائم. وفي الوقت نفسه أقمنا علاقات مع الفاعليات الأُخرى، وفي مقدمها والد السيد
محمد حسين فضل الله السيد عبد الرؤوف فضل الله، وكنا نحرص على زيارته باستمرار في
منزله في عيناتا، وكان لنا علاقة أيضاً مع رئيس البلدية والمختار ونواب المنطقة.
لم يكن هناك حدود أو حواجز لإقامة مثل هذه العلاقات مع الجميع ما دامت تخدم
الاستقرار المجتمعي أو المدني، وتمنع أي احتكاك سلبي، وتحقق الصمود في وجه العدو.
وكان للشهيد حسان شرارة دور كبير في تنسيق هذه الاتصالات، فضلاً عن دوره القتالي
والقيادي المميز.
هذه الأمور نجحت في مرحلة أولى، لكن في مرحلة تالية عندما
ازداد التوتر واندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبدأ نفوذ حركة أمل يطغى، تحوّل
الموضوع إلى حالة من الاشتباكات المسلحة في سنوات 1980 و1981 و1982، وتورطت فصائل
فلسطينية في هذه الصراعات بين حركة أمل من جهة، وفصائل الحركة الوطنية من جهة
أُخرى. كان موقفنا حازماً ضد الذين يرتكبون التجاوزات بصرف النظر عن الجهة التي ينتمون
إليها، مثلاً في منطقة كفرتبنيت قتلت عناصر من حركة أمل اثنين من حزب العمل وهما
ذاهبان إلى موقعهما في أرنون. اتخذنا موقفاً حازماً وأكدنا أن هذه جبهة ضد العدو
الصهيوني، ومن غير المسموح ارتكاب مثل هذه الأعمال فيها، وألزمنا حركة أمل بأن
تسلّم الشخصين المسؤولين عن عملية القتل كي يُسجنا ويحوّلا إلى المحاكمة. لكن في
مناطق أُخرى وقعت اعتداءات وقصف على القرى، فقرية ما على سبيل المثال، إذا اعتُبرت
محسوبة على حركة أمل، كانت تُقصف بالصواريخ والهاون. في إطار موقفنا الحازم فعلاً
كنا نحرّك قوة حتى لو كانت القرية المعنية خارج إطار الوجود الجغرافي لنا، نحرك
قوة ونمنع انفلات العنف المسلح، لكن هذا بكل أسف أدى إلى تغيير وظيفتنا، إذ كان
لدينا في ذلك الوقت واجب قلعة الشقيف وكفرتبنيت وحرش النبي طاهر، الأمر الذي يعني
أن المواجهة الأساسية كانت مع قوات سعد حداد والعدو الصهيوني، لكن نصف الكتيبة
أصبح منشغلاً بفض الاشتباك في أنصار وزفتا وأنصارية والصرفند بحيث إذا واجهت أي
مجموعة مشكلة في المنطقة، فإن علينا أن نذهب نحن للمعالجة. يذهب معين أو مروان أو
أبو الفتح كي يحل المشكلة في صيدا أو صور، وهذا استنزف كثيراً من الطاقة. كان
لدينا سرية كاملة مهمتها حماية الخط الخلفي للقلعة وتتموضع على جسر القعقعية
وجبشيت وزوطر، لأننا كنا نتوقع أن الهجوم الإسرائيلي لن يأتي مواجهة عبر جسر
الخردلي، وإنما سيلتف عبر قوات الطوارئ الدولية ويندفع عبر القعقعية، وقد اضطررنا
إلى نقل هذه السريّة كي تفك الاشتباك في أنصار، فتمكّن العدو من عبور جسر القعقعية
بكل سهولة، ولم تتمكن السريّة من الاشتباك مع القوات الصهيونية سوى عند مداخل
جبشيت.
ملحمتا قلعة الشقيف
س: في القيم التي تكلمت عنها والسلوك المثالي الذي يعطي قدوة
للناس هل يمكن أن نعتبر أن ملحمة قلعة الشقيف هي قمّة هذا السلوك عندما قرر الشباب
أن يصمدوا ويقاتلوا وهم يعلمون أنهم لن يخرجوا أحياء من القلعة؟
ج: أعتقد أن هناك مجموعة قيم هي: القدوة الحسنة والتثقيف
والوعي والخط الفكري والسياسي والقدوة النضالية؛ أن يعرف المقاتل بالضبط ما هي
مهمته، وأن يعرف لماذا هو هنا وأهمية ما يقوم به. المقاتل الذي كان موجوداً في
القلعة أو في أي موقع آخر كان يعرف كيف سيتصرف في كل لحظة، وكان على أعلى درجات
الاستعداد واليقظة.
س: هل كان هناك قرار بالصمود حتى النهاية؟
ج: كان قرارنا هو
التشبث بقلعة الشقيف والتمسك بالمواقع الأُخرى في حرش النبي طاهر الذي كنا نعتبره
باللغة العسكرية الموقع الأكثر أهمية لأنه يحمي القلعة ويشرف على النبطية، وفي
كفرتبنيت وأرنون، لإسناد القلعة في معركتها.
كان معروفاً أن المقاتلين الذين تمركزوا في قلعة الشقيف لن
ينسحبوا منها، والمواقع الأُخرى مهمتها مساعدة الموجودين في القلعة للتمسك بها حتى
النهاية.
س: ماذا تعني بعبارة "حتى النهاية"؟
ج: أعني أن المقاتلين الموجودين في القلعة سيقاتلون حتى آخر
نفس، حتى الشهادة. أمّا القوات الموجودة في كفرتبنيت وحرش النبي طاهر وأرنون
فمهمتها إسناد القلعة والاشتباك مع القوات الصهيونية في حال تقدّمها عبر جسر
الخردلي، وهو كان محوراً لهجوم ثانوي قام به العدو. وكان يوجد سريّة أُخرى مهمتها
الاشتباك قبل القلعة مع القوات الإسرائيلية التي تأتي من جهة جسر القعقعية في
اتجاه القلعة، وهذه القوة كانت موجودة في أنصار لفك الاشتباك بين أمل والحركة
الوطنية، واشتبكت مع الإسرائيليين في منتصف الطريق على أبواب جبشيت، في حين دفعنا
بقوة أُخرى من النبطية للتصدي للقوات المعادية التي بدأت تتقدم من زوطر في اتجاه
أرنون حيث تصدت لها مواقعنا هناك. وتموضعت فصيلة دبابات من كتيبة شهداء أيلول كانت
ملحقة بنا في التلال المحاذية للحرش، وفي مواقع معدة مسبقاً، وبدأت بالتعامل مع
القوة المعادية المنتشرة بين زوطر وأرنون. وكان خيارنا أن نقاتل حتى الشهادة.
كانت خطة التحصين في القلعة مُعدّة على هذا الأساس، وكانت
تتطور يومياً بفضل الجهود الجبارة التي بذلها المقاتلون بقيادة علي أبو طوق، وبفضل
الدعم المتواصل من الجبهة الخلفية على مدى عامين، ويكفينا فخراً أنه، وعلى الرغم
من حدة القصف التمهيدي الجوي والمدفعي والصاروخي المعادي، ثم قصف مدفعية الدبابات
المباشر، لم يسقط لنا شهيد واحد، لكن استشهد جميع المقاتلين في الاشتباك المباشر،
ومن مسافة أمتار قليلة، ومن خندق إلى خندق.
في سنة 1980 صدرت إلينا التعليمات بالانتقال إلى النبطية
والقلعة بعد غارة صهيونية عليها. وصلنا إلى المنطقة فجراً، وانتشرنا تحت القصف
الجوي والمدفعي المعادي، وانسحبت كتيبة بيت المقدس التي كانت ترابط فيها لإعادة
التنظيم. ومن يومها باتت المنطقة ورشة عمل لا تنتهي: الأخوات من بيروت يعبئن أكياس
الرمل على البحر وينقلنه إلى المواقع اﻷماميه، والمشغل المركزي يصنع لنا هناغر
حديدية ندفنها في اﻷرض لتكون ملاجئ من القصف، وقد أحضر طلاب الهندسة في الجامعة
مخططاً قديماً للقلعة مكّننا، على الرغم من التدمير الصهيوني لمعالمها، من معرفه
أسرارها وأين يمكن أن نحفر وفي أي اتجاه، وأشرفوا على عمليات التحصين والحفر
المستمرة ليلاً ونهاراً ومن دون توقف وبوجود عشرات المتطوعين من مختلف المناطق
وتحت القصف المستمر. وكانت النتيجة أنه، وخلال عامين من القصف بما فيها حرب
الاستنزاف حتى الاجتياح، سقط لنا شهيدين فقط. ولذا، كتب المقاتلون على مدخل
القلعة: بناها بوفور وحررها صلاح الدين وغيّر معالمها علي أبو طوق.
س: القلعة تجربة إنسانية استثنائية، إذ قرر المقاتلون أن
يصمدوا حتى النهاية. مَن كان قائد مجموعة القلعة؟
ج: الشهيد يعقوب سمور [راسم] ومعه 34 مقاتلاً. الجميع استشهدوا
بعد قصف إسرائيلي مدمّر وقتال بطولي تكبّد فيه الإسرائيليون خسائر غير متوقعة. كان
قائد الهجوم الإسرائيلي جوني هارينك الذي قُتل في الهجوم، وعندما جاء بيغن وشارون
إلى القلعة فوجىء بيغن بحجم الخسائر الإسرائيلية وانزعج كثيراً. وعندما صعد بيغن
إلى الطائرة لم تمض ثوان حتى اكتشف الإسرائيليون أن هناك مقاتلاً فلسطينياً جريحاً
ما زال في قيد الحياة. وقد تحرك المقاتل الجريح وأطلق النار عليهم من بندقيته من
دون أن يصيب أحداً على ما قالوا، وأطلقوا عليه الرصاص فاستشهد.. تصوروا لو أن هذا
الحادث وقع قبل ثوان بوجود بيغن في القلعة؟
بين الاجتياحين والثورة الإيرانية
س: بين الاجتياحين بدأت حركة الأسلمة وانفتحتم على الإسلام..
الإسلام الشيعي بدأ صعوده، وكانت بداية انحسار الوجود الفلسطيني في الجنوب. ألا
تجد مفارقة هنا؟ وكيف نحلل هذه المفارقة التي لها علاقة بنظرية القاعدة الأمنية في
الجنوب اللبناني؟
ج: فتحت الثورة الإسلامية في إيران أعيننا على شيء جديد:.
النظرية الرائجة في ذلك الوقت أن الإسلاميين، أو الناس الذين يؤمنون بالإسلام
السياسي، يمثلون شيئاً رجعياً، لكن الثورة الإسلامية في إيران أكدت أن ثمّة
إمكاناً كبيراً لأن يكون الإسلام ثورياً ويحشد طاقات وجهوداً، ويتحول إلى عمل ثوري
أو تقدمي، ويساهم في عملية التحرير. لا أستطيع أن أقول أن الذي حدث عندنا هو
انتقال إيماني بالمفهوم العقيدي الديني بقدر ما هو انتقال سياسي، أي رفد دينامية
التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني بطاقة ثورية كبيرة.
كان تقديرنا أننا أمام تغيير كبير في المنطقة؛ ذهب الشاه حليف
إسرائيل وحدثت ثورة إسلامية. مفهوم الإسلام التقدمي أو الثوري يساهم في إحداث
عملية تغيير في الصراع مع العدو الصهيوني والأميركيين في المنطقة، ومن هذه الزاوية
ظهر اهتمام بالإسلام والفكر الإسلامي، وخصوصاً أن الجمهور المحيط بنا في الجنوب
اللبناني ينتمي إلى مجتمع إسلامي شيعي متأثر مباشرة بالتجربة الإيرانية.
على المستوى العملي لم أشعر أن شيئاً أساسياً تغيّر في الكتيبة
أو في طبيعة عملنا بصورة عامة، لأن القيم التي كانت موجودة بيننا بقيت هي إياها
ولم تتغير. يمكن أن بعض الإخوان، وعلى المستوى الفردي، تقدموا أكثر من غيرهم في
المستوى الإيماني وأداء الشعائر، اذ في داخل أطر الكتيبة لم تكن موضوعات، مثل
الماركسية أو الماوية، مطروحة للتداول. طبيعة العمل عندنا تجعل الأمور كلها تذهب
في اتجاه عملي إلى درجة أنه عندما نعقد اجتماعاً لقيادة الكتيبة، فإن علي أبو طوق
كان ينام من شدة التعب.
كانت تجري نقاشات أعمق على الأرجح في أجواء بيروت والشباب في
الجامعة. أجواء بعض المناضلين حولنا عرفت مثل هذا النقاش بشأن الماوية والإسلام،
والحقيقة أنها لم تؤثر في طبيعة العلاقات الداخلية الموجودة بيننا، ولا في طبيعة
المهمات. هاجسنا كان مختلفاً كلياً.
س: أين كنت في مشروع الأسلمة؟
ج: أنا كنت في المشروع الوطني العام، وقريباً من الموضوع
الإسلامي، وليس التحول إلى داعية أو فقيه . أنا أقول إن أي مشروع ثوري حقيقي في
بلادنا إذا تجاهل الثقافة الشعبية الإسلامية والمخزون الكبير الذي يمثله الإسلام
السياسي عند الناس ولم يعتبره أداة أساسية من أدواته التحريضية والنضالية، فإنه لا
ينجح ولا يقدر أن يحشد.
س: لكن مشكلة الإسلام، أن هناك مذاهب وإسلامات كثيرة...؟
ج: لا مشروع يمكن أن يقوم ما لم يتداخل هذا المخزون الإسلامي
العام مع الحركات القومية في بلادنا، وذلك بكل مذاهبه ومدارسه، فهي عملية توحيدية
لجهود اﻷمة في اتجاه تناقضها الرئيسي، وتشمل المذاهب الإسلامية والمسيحيين
والتكوينات القومية.
س: كيف انعكس ذلك على الكتيبة؟
ج: ككتيبة ، كانت المسألة أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران
يُعتبر مخزوناً نضالياً جديداً يمكن أن يمدّ في عمر الثورة والنضال الفلسطيني،
ويعجّل في الانتصار. منظومة القيم التي لدينا لم تختلف ولم تتغير كونها أساساً،
قريبة من الثقافة العربية الإسلامية، بل هي ثقافتنا. وهنالك عدة أدبيات للتيار
تشير إلى ذلك وفي فترات سابقة عن المد الإسلامي، فضلاً عن موقفنا العملي من أجل
بناء أوسع جبهة حول المقاومة.
اجتياح 1982: الانسحاب والعمليات الفدائية
س: ماذا حدث بعد سقوط قلعة الشقيف؟
ج: بدأ القصف التمهيدي الصهيوني في 4/6/1982، وفي صباح 6/6
تمكنّا من إسقاط طائره من طراز "سكاي هوك" في منطقة كفرتبنيت، وأُسر
الطيار واسمه أهارون بخعازي وتم تسليمه إلى القيادة في بيروت. أعيد الطيار ضمن
صفقة الخروج من بيروت، لم يكن هنالك عملية تبادل، ولم نأخذ في مقابله شيئاً. وفي 6
حزيران / يونيو ظهراً بدأت تصل تقارير فحواها أن دبابات إسرائيلية تتقدم، فقررنا
أن ننقل غرفة العمليات إلى نقطة ثانية، وهذه النقطة ممنوع أن تصلها سيارات، ممنوع
أن يصل إليها أحد إلاّ سيراً على الأقدام لئلا تنكشف. وإذا بمسؤول أحد الفصائل
يأتي بسيارته، ويقرر أنه بحاجه إلى بطارية جهاز اللاسلكي، ولم يكد يوقف السيارة
حتى قُصفنا على الأرجح بصاروخ أرض ـ أرض فوراً. وفي اللحظة نفسها كان عامل
اللاسلكي يتسلق الشجرة كي يثبت لاقط اللاسلكي فيها، فوقع واستشهد، وأنا جرحت مع
شاب كان جريحاً سابقاً اسمه أديب. أصبت في قدمي، واخترقت شظية الطحال، وبقيت في
الجسم. وجاء الطبيب الكندي دكتور يانو الذي رافقنا في النبطية وطرابلس وبقي مع
الشهيد علي أبو طوق في مخيم شاتيلا، فكسر الباب وصنع من الخشب "جبارة"
لقدمي، ونقلوني إلى صيدا، وكان الإسرائيليون قد قاموا بإنزال على صيدا وأغلقوا
جميع الطرق إلى المدينة. وفي ذلك اليوم التقيت شباب الجبل، وطلبت منهم أن يستطلعوا
الطريق الخلفية بين الجنوب والشوف، إذ كان تقديرنا أن طريق الساحل ستسقط بالقصف في
أول عملية اجتياح حتى لو لم يتقدم الإسرائيليون. وقبل خروجي من النبطية، وقع
اشتباك على مدخل النبطية مع الدبابات الإسرائيلية المتقدمة في اتجاه القلعة. أرسل
الإسرائيليون دورية استطلاع في اتجاه النبطية، فضربناها على مدخل النبطية. بدأت
تتضح معالم الاجتياح، وبدأت الاشتباكات تدور من مسافات قصيرة، فقمنا بإجلاء فصيلة
رشاشات 23 ملم محمولة إلى صيدا للحفاظ عليها، وعندما وصلت فصيلة الرشاشات هذه إلى
صيدا كانت تلة شرحبيل المشرفة على صيدا قد وقعت بيد العدو، فحدث هجوم معاكس على
التلة، واستعانوا بهذة الفصيلة لاستعادة التلة. في هذه الأثناء عرف حمدي والإخوان
أني أصبت فتحرك هو واثنين من مرافقي أبو جهاد بسيارة إسعاف من الهلال الأحمر برفقة
شاب من شباب الجبل على الطريق التي استطلعوها، وعندما وصلوا إلى صيدا كانت الطريق
مفتوحة.
س: كم من الوقت بقيت مفتوحة؟
ج: الهجوم المعاكس حررها لـ 30 دقيقة دخلوا خلالها إلى صيدا كي
ينقلوني من المستشفى، وكنت قد خرجت لتوي من غرفة العمليات في مستشفى غسان حمود.
وضعوني في سيارة الإسعاف وأخذوني إلى بيروت، بينما عاود الإسرائيليون الهجوم على
تلة شرحبيل. كنت أشاهد من السيارة النار والقذائف حولنا، وكان سائق أبو جهاد
[شريف] هو الذي يقود سيارة الإسعاف بسرعة، وأنا أقول له خفف السرعة، لأنه كلما
أسرع كنت أتألم كثيراً، وحمدي يقول له لا تُصغِ إليه. الحمد لله وصلنا إلى
المستشفى في بيروت، ووُضعت في غرفة قريبة من غرفة زوجتي التي كانت قبل يومين قد
وضعت طفلتنا اﻷولى. وبقيت فيها حتى خروجنا منها بعد الحرب. وفيما بعد اعتقل
الصهيونيون الدكتور يانو في صيدا، وأخضعوه لتحقيق قاس لمعرفة مكان وجودي، ولم
يصدقوا أنني غادرت صيدا في هذه الدقائق المحدودة.
س: والشباب؟
ج: الشباب في اليوم التالي فجراً بدأوا الانسحاب بالتدريج على
شكل مجموعات عبر إقليم التفاح، ولم يكن أحد يعلم أين ستكون حدود الاجتياح
الإسرائيلي. بدأوا بإخلاء المواقع في النبطية والنبي طاهر وكفرتبنيت، وانسحبوا
بصورة متدرجة عبر إقليم التفاح، حتى وصلوا أخيراً إلى البقاع. كان الانسحاب منظماً
واستمر الاتصال مع كافة المجموعات بفضل شجاعة أخت كنا وضعنا في بيتها في منطقة
الزرارية محطة لاسلكي حافظت عليها على الرغم من احتلال المنطقة، واستمرت تقوم
بواجبها حتى وصلت كل المجموعات بسلام. استمرت عملية الانسحاب 4 أو 5 أيام قبل أن
يعود المنسحبون إلى تعزيز منطقة الجبل. آنذاك وافق أبو جهاد على اقتراح إرسال حمدي
ومحمود العالول من بيروت كي يتولّيا تنظيم المقاومة في منطقة الجبل أمام الزحف
الصهيوني. وفي البقاع أصبحت المهمة الجديدة للشباب هي استيعاب المتطوعين الجدد،
وتعزيز منطقة الجبل، وإمداد بيروت، والشروع في عمليات خلف الخطوط، وكانت أول عملية
دونّها علي أبو طوق في يومياته في 23 حزيران / يونيو.
س: الكتيبة انسحبت، كم كانت خسائرها؟
ج: 50 شهيداً في قلعة الشقيف وأرنون وكفرتبنيت والنبطية
وجبشيت، وعدداً محدوداً من الجرحى، ولم يؤسر لنا أحد كما لم يستسلم أحد.
س: الشباب في الجبل قاموا بعمليات ضد الإسرائيليين؟
ج: هذه العمليات ضد الإسرائيليين تجاهلها الجميع ولم يتكلم
عنها أحد باستثناء كتاب يتيم لمحمد حمزة دوّن فيه البرقيات التي أُرسلت إلى
العمليات المركزية والوحدات العسكرية المتنوعة. إذا عدنا إلى المصادر العبرية
نكتشف أنه في الفترة من أواسط أو نهاية حزيران / يونيو 1982 حتى نهاية سنة 1983
ومعارك طرابلس، كان حجم خسائر الإسرائيليين في هذه العمليات أكبر من حجم خسائرهم
في الاجتياح كله. والأمر اللافت أيضاً أن حجم خسائرهم في تلك السنة يوازي حجم
خسائرهم في جميع عمليات المقاومة لاحقاً وحتى انسحابهم من لبنان، والسبب أن
الإسرائيليين في تلك الفترة أخذتهم نشوة الانتصار ولم يرتبوا أنفسهم، وكانوا
ينتشرون على مساحة واسعة جداً من الأراضي اللبنانية، الأمر الذي جعلهم هدفاً سهلاً.
س: لماذا لم يتم التحدث عن هذه العمليات ولم يبرزها أحد؟
ج: أعتقد أن القرار كان إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان،
وبالتالي ليس من مصلحة أحد أن يتحدث عن عمليات تلك المقاومة في لبنان، سواء خلال
حصار بيروت أو ما بعد الخروج من بيروت. ثانياً: وقع الانشقاق، وما دام يوجد
انشقاق، فإن الحديث لا يصح عن عمليات المقاومة، وخلافاً لذلك في ظل عملية الانشقاق
كنا حريصين على ألاّ تتوقف العمليات ضد الإسرائيليين؛ كنا نفصل ما بين المسألتين.
ثالثاً: المقاومة في لبنان يفترض أن تقدّم نمطاً خاصاً، ولا يجوز أن يجري الحديث
عن مقاومة من نمط آخر غير هذا النمط الخاص! أكثر ما كان يجري الحديث عنه عملية
الويمبي، لكن لم يتكلم أحد عن عملية باص عاليه التي خطط لها علي أبو طوق بالتعاون
مع إخوتنا في الجبل، والتي أوقعت60 إصابة إسرائيلية. أو باص عرمون والشهيد كمال
النعلاوي وعشرات العمليات اﻷُخرى. حتى عملية أسر 8 جنود صهيونيين في رويسة البلوط
من دون إطلاق رصاصة واحدة، وهذه أكبر عملية أسر في تاريخ المقاومة، وقد مرت مرور
الكرام.
س: مَن الذي قام بالعملية؟
ج: دورية تابعة لمجموعة اﻷخ محمود العالول، وبمساعدة من
مجموعات الجبل من رفاق هلال رسلان (أبو محمود)، حيث كان لنا باستمرار في تلك
المرحلة مجموعة من قواعد الارتكاز والاستطلاع.
س: كيف تمت العملية، وكيف تم أسرهم؟
ج: تسلل الشباب إلى كمين إسرائيلي، وكان الجنود في حال
استرخاء. اعتقد الجنود أن القادمين جاؤوا للتبديل أو التعزيز. وصلوا إليهم وكانوا
يتحدثون بالعبرية والفرنسية [قائد المجموعه طالب درس في الجزائر]، وفجأة سحبوا
عليهم السلاح وأسروا أربعة، وقبضوا على الأربعة الآخرين داخل مهجعهم وجعلوهم
يسيرون أمامهم بعد تكبيلهم وتحميلهم سلاحهم فوق ظهورهم. والسؤال كان كيف يتم نقلهم
إلى البقاع وسط الحواجز السورية؟ مرّوا بموقع للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة،
واستخدموا سيارات القيادة العامة في نقلهم إلى البقاع، وفي مقابل ذلك أخذت الجبهة
أسيرين لتسهيل المرور عبر الحواجز السوريه. كان الأمر جيداً، وتمت مبادلة الأسرى
خلال حصار طرابلس. طبعاً تبادل الأسرى أفرج عن أسرى أنصار كلهم، بل أغلق معتقل
أنصار كلياً، وأطلق جزءاً محدوداً من الأسرى في الداخل، أمّا عملية القيادة
العامة، فيما بعد، فنظفت تقريباً السجون في الداخل، عند مبادلة الأسيرين اللذين
كانا عندها.
اﻷسيران لدى القيادة العامه أُخذا إلى الشام، أمّا بالنسبة
إلينا فكانت المشكلة هي أين سنحتفظ باﻷسرى؟ كيف تحتفظ بـ 6 جنود إسرائيليين في
البقاع، في وقت كنا محاصرين بين شتورة ومدخل سعدنايل ـ تعلبايا؟ هذه المنطقة لا
تتعدى مساحتها كيلومترين، ومن الصعب أن تخبئ فيها 6 جنود إسرائيليين. وأيضاً، أين
سنأخذهم في ظل الانشقاق والمعارك مع المنشقين والجيش السوري الذين يريدون الأسرى،
والإسرائيليون خلفنا يريدون الأسرى! صار العالم كله يدور حول مصير 6 أسرى! مسألة
الأسير غلعاد شاليط لدى "حماس" أثارت هستيريا لدى المؤسسة اﻷمنية
الصهيونية، واعتُبر نجاح "حماس" في الاحتفاظ بمكانه سراً إنجازاً
كبيراً، نحن لدينا 6 أسرى كيف نخفيهم؟ نضعهم في مكان ونضع حراسة فننكشف في اليوم
التالي! بمجرد وجود حراسة في المكان، بمجرد أن ترسل الطعام، أو تحضر طبيباً!
باختصار خبأناهم عند الناس، عدنا إلى خط الجماهير، خط الشعب؛ وزّعناهم على البيوت،
يقيمون في غرفة ويأكلون من طعام البيت ولا أحد يأتي عندهم، ولا أحد يتفقدهم، وإذا
لاحظ الجيران شيئاً نغيّر أماكنهم، ونبحث عن مكان آخر. خبأناهم أكثر من عام، وهذه
فترة ليست قصيرة، وبدأت الدائرة تضيق علينا كثيراً، البقاع لم يعد منطقة آمنة،
ولذلك هرّبنا الستة إلى طرابلس على الرغم من وجود الحواجز الكثيفة، هرّبناهم
واحداً واحداً، وأخرجناهم من طرابلس بعد عام. أن تخبىء 6 جنود ضمن دائرة كيلومترين
هذا بحدّ ذاته إنجاز كبير. ويبقى أن العمليات خلف الخطوط، أو عمليات المقاومة
الفلسطينية ـ اللبنانية خلال الفترة 1982 ـ 1983، لا أحد يتكلم عنها، حتى اليوم.
الانشقاق والانسحاب الإسرائيلي من الجبل
س: كيف جرت عملية الانسحاب من البقاع؟
ج: عدت من العلاج قبل الانشقاق بـ 4 أيام، وخلال الانشقاق
حاولنا أن نتوسط وقلنا لهم تعالوا نتكلم ونتفاهم. شكّلنا لجنة كان فيها مروان
كيالي ومازن عز الدين وآخرون للحوار والاتفاق ولم تنجح. كان واضحاً أن قراراً يدفع
المنشقين إلى مهاجمة مواقعنا ورفض أي حوار. بدأوا بمهاجمة مواقع قوات اليرموك،
فأرسلنا تعزيزات إلى بعض هذه المواقع، مثلاً في دير زنون استشهد 3 شباب ونحن نحاول
أن ندافع عن قيادة قوات اليرموك. بعد ذلك شعرنا بأن الأمور ستفلت، وأن السوريين
والمنشقين سيتمكنون من اختراق معظم الوحدات الموجودة، إذ ليس من الضروري أن يكونوا
قد ضمنوا ولاءها، لكن لو كان عندهم 3 أو 4 عناصر، وهؤلاء يطلقون النار من قلب
الوحدة، ثم يهاجمونها من الخارج يحدث ارتباك ويأخذونها. كان زياد الأطرش في
البقاع، وأخذنا قراراً جريئاً يقضي بفرط كل الوحدات الموجودة في المنطقة التي كنّا
نتمركز فيها، وإعادة تشكيلها من جديد. وفي هذا الوقت كان جزء كبير من مواقعنا في
الجبل مكرساً للعمليات خلف الخطوط الإسرائيلية. كان لدينا مواقع في صوفر، 4 أو 5 قواعد
في الجبل بشكل أساسي، وقد حافظنا عليها. فرطنا كل الوحدات العسكرية الموجودة في
المنطقة، وأعدنا تشكيلها بحيث وضعنا عناصر منّا في كل وحدة من الوحدات وفي كل موقع
من المواقع، فلم يعد هناك إمكان لأن يقع خرق. في هذه الحالة توقف التمدد العسكري
للانشقاق بعدما حاولوا من دون جدوى أن يلتفوا علينا باحتلال منطقة جديتا، فهم في
حال أخذوا جديتا، وهم موجودون أصلاً في دير زنون والمصنع، نصبح محاصرين في تعلبايا
وسعدنايل، ولذلك قمنا بهجوم معاكس عليهم في جديتا وأسرنا 90 شخصاً. تركنا أسلحتهم
معهم وأعدناهم في اليوم التالي. كان موقفنا دفاعياً دوماً، ولم نبادر إلى الهجوم
قط. في معركة جديتا انتهى إمكان الحسم العسكري للانشقاق لمصلحتنا، وحدث تطور كبير
في المنطقة، إذ قرر الإسرائيليون الانسحاب من الجبل. وفي هذا الوقت، كانت الجبهتان
الديمقراطية والشعبية تتوليان ترتيب اللقاءات مع المنشقين، وتتداخل الوساطات
[....]، فجلست أنا ومروان وأبو موسى وأبو خالد العملة وأبو أكرم [....] وقلنا لهم:
أنتم تقولون إن أبو عمار يريد أن يسحب القوات من الساحة اللبنانية، وإنكم تريدون
استمرار الكفاح المسلح، نحن وأنتم لا نريد أن تخرج القوات من لبنان، ونريد أن نستمر
في الكفاح المسلح. لماذا لا نشكّل كتيبة مشتركة، نحن وأنتم، وليكن قائدها من طرفكم
ونائبه مروان، ولا همّ لهذه الكتيبة إلاّ قتال العدو، ولنصدر معاً بياناً نعلن فيه
انتهاء أزمة الانشقاق وتوجيه جهودنا نحو العدو، ووحدة قوات العاصفة تطالب القيادة
الفلسطينية بعقد مؤتمر عاجل لحل أي إشكالات داخلية، وأن هذه القوات لن تغادر
الساحة اللبنانية وساحة الصراع، ونطالب بعودة القوات التي أُخرجت من بيروت إلى هذه
الساحة.
لقد تبين أن قرارهم ليس بيدهم، إذ توقفت اللقاءات بعد هذا
الاجتماع. فقررنا أن ننقل قواتنا ونهرب من معركة الانشقاق بالصعود إلى الجبل حيث
يمكن قتال وتعقّب القوات الإسرائيلية المنسحبة. بدأنا نُخرج قواتنا من البقاع إلى
الجبل، كل يوم نخرج 10 أو 20 أو 30 مقاتلاً ونجعلهم يتسللون خلف المواقع
الإسرائيلية إلى بيصور والعبادية وكيفون وقبرشمون وكل الضيع الأُخرى، وأنشأنا قوة
مشتركة، نحن والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية وجبهة التحرير الفلسطينية. وكان
لدينا مشكلة أن قوات اليرموك، قوات نصر يوسف، كانت معزولة بسبب السوريين في منطقة
رياق، فصار لزاماً علينا أن نجلب هذه القوة كي نخلي البقاع كلياً، إلى المناطق حيث
لا يستطيع السوريون أن يلحقوا بنا. فعلاً ذهبت أنا ومروان إلى الجبل، وتركنا زياد
اﻷطرش وجمعة وسميح وعلي أبو طوق في البقاع. أشرف علي أبو طوق على نقل قوات اليرموك
من رياق حيث صنع جسراً من أنابيب الصرف الصحي فوق النهر وراح ينقل في الليل قوات
نصر يوسف كلها إلى منطقتنا. وخلال هده الفترة بدأ العدو بالانسحاب من الجبل، بينما
كانت قواتنا مندفعة مباشرة إلى بيصور وإلى قبرشمون، تاركين وراءنا جماعة أبو موسى
وأبو خالد العملة في صوفر وبحمدون.
في قبرشمون كانت المعركة الرئيسية مع الجيش اللبناني، وتحديداً
اللواء الرابع الذي درّبه المارينز، واستشهد منّا في ذلك الاشتباك ومن الجبهة
الديمقراطية والجبهة الشعبية وجبهة التحرير الفلسطينية 70 عنصراً، لكن اللواء
الرابع دُمّر وذهبنا إلى قبرشمون، بينما بدأت البارجة نيوجرسي تقصف، ووصل الشباب
إلى حي السلم والشويفات. السوريون أحسوا أن قوات اليرموك خرجت من الطوق وأصبحت
معنا، وأبو عمار عرف أننا أصبحنا في الشويفات وحي السلم، وأن الطريق إلى بيروت
مفتوحة، فجاء إلى طرابلس، وعُزلت قوات أبو موسى وجماعة القيادة العامة ولم يبق
لديها أي وجود. حتى عندما كنت تذهب إلى غرفة العمليات التي أنشأها وليد جنبلاط،
فإنك تدرك أنهم يتعاملون مع المقاومة الفلسطينية، مع القوة المشتركة التي أنشأناها
وسمّينا ممدوح نوفل ومروان ممثلين لها، لأننا القوة الفعلية التي تعمل على الأرض.
لكن مجيء أبو عمار إلى طرابلس أخاف السوريين، فقد أحس حافظ الأسد بأن الأمور تفلت
من يديه، فأخذ فوراً قرار حصارنا وإخراجنا من البقاع. تحركت الدبابات السورية
لتحاصرنا [....]، فأخرجنا 200 مقاتل إلى الجبل، لكن بقي 400 إلى 500 مقاتل في
البقاع ولم يكونوا قد خرجوا بعد، فحاصرهم الجيش السوري وأنذرنا بأنه يجب أن نخلي
البقاع فوراً تحت عنوان اذهبوا في اتجاه طرابلس. اتصل بي زياد وعلي وطلبا حضوري
فوراً. وصلت من الجبل إلى البقاع بصعوبة. كنا محاصرين تماماً من الجيش السوري
مباشرة. لم يعد في الإمكان تهريب القوات إلى الجبل كما خططنا سابقاً. كان أمامنا
خياران لا ثالث لهما: إمّا أن نخوض معركة مع السوريين في منطقة ضيقة بين تعلبايا
وسعدنايل، وإمّا أن نتجه إلى طرابلس. أبو عمار طبعاً كان رأيه أنه يجب أن نشتبك مع
السوريين في البقاع، أمّا نحن فاجتمعنا وقررنا أن الاشتباك مع السوريين في كيلومتر
مربع في تعلبايا لن يجدي، وإنما هو أقرب إلى الانتحار. اتصلنا بمحمود العالول الذي
كان في طرابلس وبلّغناه قرارنا. حاولنا أن نساوم ونماطل. وجاء غازي كنعان لعندنا،
وتعارك مع امرأة على باب الكتيبة كانت تُنزل اللعنات على حافظ الأسد وعلى غازي
كنعان، وظل هو يشتمها وهي تشتمه [....]. جاء يتأكد أننا نرتب أنفسنا للخروج.
خرجنا من البقاع وكان ذلك شبيهاً بخروج المقاومة من بيروت، إذ
كان الناس على طول الطريق من سعدنايل إلى تعلبايا ورياق يستقبلوننا بالزغاريد
والأرز والورود. وصلنا إلى الهرمل في المساء، ووجدنا اﻷخ طراد حمادة يقف في وسط
الطريق، ويصرخ: توقفوا لأن السوريين يريدون أن يحتجزوكم في منطقة جباب الحمر،
ابقوا هنا.
انتشرنا على جهتَي الشارع، بينما كان السوريون يحركون قوة إلى
المنطقة التي يريدون أن يحاصرونا فيها، وهذه المنطقة هي فعلاً مثل الصحن وحولها
مجموعة تلال يسيطرون على أغلبها، الأمر الذي يعني أنهم يضعونا تحت رحمتهم الكاملة.
انتشرنا وعندما جاء السوريون قلنا لن نتحرك من هنا.
في ذاك الوقت ذهبت عشائر الهرمل إلى الرئيس حافظ الأسد وقالت
له إذا كنت تريد أن تذبح الفلسطينيين فلماذا تأتي بهم لعندنا حتى تذبحهم؟! في
اليوم التالي أرسل طراد مجموعة من الشباب إلى الجرود، وشق بالجرافة طريقاً تخرجنا
من هذا الكمين في اتجاه طرابلس، وقال إذا وصلتم الى الجرود فوق لا يقدر أحد على أن
يلحق بكم. وجاء غازي كنعان مجدداً فدعانا طراد إلى الغداء معه على نهر العاصي،
فقلت لطراد لن أذهب ولن أُعيد تجربة البقاع لأن غازي كنعان اعتقل نصر يوسف،
وإسماعيل عنبة في دعوة مشابهة قبل خروجنا من البقاع. قال: يعلم أنكم عند العشائر ولذلك لن يفعلها،
لن يأخذكم من هنا.
لبّيت الدعوة فصار غازي كنعان يناور؛ يلقمني الطعام بيده ويقول
أريد أن أطرح عليك سؤالاً: لماذا يحبكم الناس في البقاع؟ لماذا الناس يحبونكم أنتم
أهل الكتيبة؟ أجبته: لأننا نصدق مع الناس، ولا نضايقهم ولا نعتدي عليهم، الناس
يريدون السترة، وإذا عاملتهم كما يجب يعطونك. ناورنا نحن أيضاً، فبدأنا نبحث معه
ترتيبات الإجازات والتنقل والتدريب في معسكرنا، أو معتقلنا، الجديد.
تحركنا في الليل كي لا يرانا السوريون بعد أن اتصلنا بقوة سميح
نصر التي اقتادها السوريون قبلنا إلى المكان ذاته. رتبنا مسار القافلة بحيث إن
السيارات المدنية والعسكرية المتهالكة كلها، تبقى في المؤخرة، لأنه إذا تعطلت
سيارة واحدة، فهذا يعني أن الرتل بأكمله سيتوقف. لم يكن أحد في القافلة يعلم ما
يجري، لكننا أفهمنا المجموعة الطليعية بقيادة أبو رحمة ما هي المهمة، وطلبنا أن تقوم
بعمل الشرطة العسكرية على مدخل الجرد، فما أن تصل القافلة حتى تتجه السيارات كلها
صعوداً، ولا يُسمح لأي سيارة بأن تتوقف في الأسفل. فعلاً رتبنا الموضوع، وخلال
ساعتين أو ثلاث لم يبق أحد في "الصحن" الذي أرادوا لنا أن نحاصر فيه
إلاّ بضع سيارات متهالكة. نمنا في الجرد حتى الفجر، وأتى الرعاة وأحضروا الغنم
وذبحوه وأطعمونا. سألناهم عن الطريق إلى طرابلس فأرشدونا، ولم يكد يمضي قليل من
الوقت حتى رأينا أبو جهاد قادماً من طرابلس إلى جرود الهرمل، ورتبنا معه الأمور،
وطلبنا منه أن يرحل، فعاد إلى طرابلس فوراً. وكنا أبقينا نقطة مراقبة في الأسفل،
فقالوا لنا إن قائد الفرقة السورية جاء ليتفقد، وسأل أين الشباب؟ فأجابوه أنهم
يخافون من القصف الإسرائيلي، وهم منتشرون هنا. وأعتقد أنه بدأت تصل إلى السوريين
أخبار تفيد بأننا ابتعدنا، ومعلوم أن في الخرائط لا يظهر عند السوريين أنه يوجد طرق.
فما رأيناه إلاّ وقد تحرك في اتجاهنا حيث نتمركز، فجلسنا نتكلم معه مستعيدين
الحديث السابق: كيف نرتب الإجازات، وكيف يتحرك القادة، إلخ. وعندما غادر قدّرتُ
أنه فهم اللعبة، وأن ثمة جسراً يجب أن نعبره كي نذهب إلى طرابلس، وهو سيحرك قوات
سورية في اتجاه هذا الجسر. حرّكنا قوة سيطرت على الجسر، وفوراً تحركنا عندما بدأ
الظلام يحل. حرّكنا قافلة من 400 أو 500 مقاتل اجتازت الحواجز السورية من دون أن
تتوقف. لم يحاولوا إيقافنا؛ لقد فوجئوا بحركتنا هذه على الأرجح، وفجراً كنا قد
أصبحنا في مخيم البداوي. وصلنا إلى طرابلس ليبدأ فصل جديد.
كان مؤسفاً هذا الصراع في البقاع أو طرابلس مع المنشقين والجيش
السوري، إذ كان مخالفاً لخطّنا ورؤيتنا ومبادئنا وأولوية الصراع ضد العدو
الصهيوني، لكن ما يعزّينا أننا كنا دوماً في حالة دفاع عن النفس.
قواعد ارتكاز في الأردن.. ونحو الضفة
س: خلال المسيرة التي كنت تتحدث عنها وصولاً إلى طرابلس، أين
كان أبو حسن وحمدي؟ ماذا كانا يفعلان، وكيف كانت ترتب الأمور؟
ج: أبو حسن وحمدي في هذه الفترة كانا في عمّان يعدّان العدة
لإعادة تنشيط العمل داخل الوطن، فموضوع الأرض المحتلة كان حاضراً في الذهن، وفي
جميع الأحوال التي مرت فيها المقاومة، حتى في فترة الحرب الأهلية في لبنان. وكان
يجري إعداد الشهيد أبو الراتب والشهيد حسنين ومجموعة أُخرى من الإخوان كي يُنزلوا
دورية إلى الأرض المحتلة. لم تكن عمّان في أي لحظة خالية من وجود عدد من الكوادر
الأساسية، بما في ذلك حمدي وأبو حسن ومحمود وحتى الحاج حسن الذي كان قائد قطاع
الجليل في "فتح" في ذلك الوقت، فجميعهم كانوا موجودين في عمّان في
محاولة لإدخال الدوريات. والذي ساعدنا على ذلك أن جزءاً أساسياً من التنظيم
الطلابي ممّن أهلهم مقيمون في الأردن، عندما يتخرج يجري إعداده ويتم إرساله مباشرة
إلى عمّان للإقامة فيها ولعمل نقاط ارتكاز لاستيعاب الإخوان أو الدوريات أو السلاح
الذي يأتي إلى الأردن، على الرغم من الأوضاع الأمنية الصعبة في تلك الفترة.
الإخوان الذين استقروا في عمّان في هذه الفترة قاموا بجهد كبير جداً، وأصبح لدينا
قواعد ارتكاز في الأغوار وفي عمّان وعلى الحدود، وكان لدينا مجموعة من جنود
مجهولين اختصوا بعبور الحدود الأردنية ـ السورية. كان هناك يومياً وباستمرار أحد
ما يعبر الأردن في اتجاه سورية كي يصل إلى لبنان، أو لينقل المتطوعين من المخيمات
في الأردن إلى الكتيبة، أو كي يُحضر أفراد دوريات أو معدات من سورية إلى الأردن.
كان لدينا عقبة في فترة من الفترات تتعلق بكيفية إخراج "الأغراض" من
لبنان إلى سورية، وذلك بسبب وجود عدة حدود علينا اجتيازها: الحدود اللبنانية ـ
السورية، والحدود السورية ـ الأردنية. ومن لبنان إلى سورية، استعنّا أحياناً بأفراد
فرقة الاستطلاع السورية التي كانت لدينا في قلعة الشقيف، فكان بعض ضباط وجنود
الجيش السوري يتعاونون معنا في هذا الموضوع، وأحياناً أُخرى كنا نستعين بمرافقي
أبو عمار أو أبو جهاد عندما يكونون في طريقهم إلى الشام [....]. كنا نستعين بوسائل
وعدة طرق، أو بمخزون الحركة داخل سورية. وفي إحدى المراحل تم إعداد دورية بقيادة
الأخ عدنان أبو جابر والأخ عزيز، وفعلاً تم تدريبهما وتهيئتهما، والأخ عدنان أبو
جابر ساهم في تدريب أغلبية كوادر الكتيبة في إبان مراحل تأسيسها. عبر عدنان وعزيز
نهر الأردن إلى الأرض المحتلة حيث استقبلتهم خلايا موجودة في الأرض المحتلة
[....]، وبقيا [مع آخرين] في منطقة الخليل أكثر من عام، ونفذوا العملية المعروفة
باسم "عملية دبّويا" داخل الخليل. وبعد هذه العملية مباشرة قام
الإسرائيليون بإبعاد رؤساء البلديات المنتخبين في الضفة الغربية: فهد القواسمة
والشيخ رجب التميمي ومحمد ملحم، وتشاء الصدف أن يُبعَد هؤلاء إلى جسر القعقعية في
الجنوب اللبناني حيث استقبلهم الشهيد مروان كيالي، كأن الإسرائيليين يقولون أنتم
أرسلتم لنا هدية ونحن، في المقابل، نرسل لكم هدية!
الذهاب إلى الأرض المحتلة وإقامة قواعد ارتكازية، كان هاجساً
دائماً في ذهن حمدي وأبو حسن، وكان الشعار الدائم داخل الكتيبة أن المناضل الأفضل،
والكادر الأفضل والأصلب، والأكثر لياقة وقدرة، هو الذي يهيئ نفسه للذهاب إلى الأرض
المحتلة، ومن أجل ذلك جرى إعداد مجموعة كبيرة من الإخوان، حتى علي أبو طوق كان من
الذين أُعدّوا في فترة من الفترات كي ينزلوا إلى الأرض المحتلة، وهو ذهب لهذه
الغاية إلى الأردن عبر سورية، وبقي فترة فيها تمهيداً للعبور إلى الأرض المحتلة،
لكن الأوضاع لم تسمح. وفي أثناء وجودنا في الجنوب أرسلنا مجموعات أُخرى من الإخوان
خلال الفترة 1978 ـ 1982، وأرسلنا من الكتيبة دورية ثانية كان فيها الشهيد أبو
فتحي الذي استشهد في الانتفاضة الثانية على يد الصهيونيين بعد أن أسس "كتائب
شهداء اﻷقصى" وقادها في منطقة الخليل، والأخ أبو العز، وهما عبرا النهر مع أخ
ثالث، واشتبكوا مع القوات الإسرائيلية في منطقة طوباس وأصيبوا بجروح وتم أسرهم بعد
المعركة، ثم أُفرج عنهم لاحقاً في تبادل للأسرى. وفي وقت آخر عبر الشهيد أبو خلدون
بعد صراع مع النهر إلى منطقة رام الله.
وجرت محاولات كثيرة لتنفيذ عمليات نوعية، غير العمليات اليومية
كتفجير في زاوية أو شارع أو سينما؛ عمليات عدة ذات طابع نوعي أهمها على ما أعتقد
في تلك المرحلة اثنتان:
العملية الأولى كانت عملية الأخت عطاف عليان التي تم الإعداد
لها طويلاً، وكانت تستهدف نسف مقر رئاسة الحكومة الإسرائيلية؛ وجرى تدريب الكادر
تدريباً عالياً في أماكن بعيدة، وتم تجهيز الأخت عطاف عليان لنقل متفجرات كي توضع
في السيارة، وتفصيل زي عسكري لعطاف، وهي مُحَجَّبة. وقد حصل الإخوان على فتوى من
أحد رجال الدين كي تستطيع أن ترتدي لباس المجندات الإسرائيليات، وهي ثياب قصيرة
ومن غير حجاب، وتقود السيارة وتدخل إلى مقر الحكومة الإسرائيلية. طبعاً كُشفت هذه
العملية في لحظاتها الأخيرة بعد أن تم تجهيز السيارة، وأعتقد أن سبب ذلك هو رغبة
أحد المنفذين بزيادة كمية المتفجرات في السيارة، فقرر أن يحضر قديفتَي مدفعية من
مخلفات الحروب السابقة، فحدث اختراق. طبعاً هذه العملية ولّدت رعباً كبيراً داخل
الكيان الصهيوني، إذ قبل ساعات من تنفيدها يتم اكتشاف سيارة مجهزة بالمتفجرات،
وشخص جاهز لأن يقودها وعلى معرفة بأدق التفصيلات: كيف يجتاز الحواجز الأمنية ويدخل
إلى مقر رئاسة الحكومة. وأنا أذكر أن أبو جهاد أخبرنا وهو يبتسم أن الأخ أبو عمار
قال له: هل تعلم أن هؤلاء المجانين كانوا يريدون أن ينسفوا مقر الحكومة الإسرائيلية؟!
طبعاً كان ذلك خرقاً لخطوط حمر وسقوف تفاهمات وحمايات دولية. إذ حدث ذلك بعد
الانتفاضة الأولى، وقبل اتفاق أوسلو [....]. اعتُقلت عطاف عليان والمهندس كامل
الزهيري الذي كان يشرف على العملية، وبقيا فترة في السجن. وقد أُطلقا بعد ذلك
بعملية تبادل الأسرى التي تمت نتيجة أسر الجنود الثمانية.
العملية الثانية كانت عملية حائط البراق لمجموعة من شباب
القدس. فمن المعروف أنه عندما تنتهي الوحدات الخاصة الإسرائيلية من دورات التدريب،
يذهب أفرادها، كنوع من التقليد، كي يقسموا يمين الولاء على حائط البراق المسمّى
عندهم حائط المبكى. تضمّن التخطيط للعملية أن يجري إلقاء قنابل يدوية على الجنود
الإسرائيليين الذين يقسمون اليمين [....]، وتم تنفيد العملية وأُرسل بيان في شأنها
إلى وكالة الصحافة الفرنسية في القدس، وقد اعترف الإسرائيليون بخسائر كبيرة، وهذا
أربكهم كثيراً، ولم تكن العملية سهلة.
العمليتان حدثتا خلال الفترة نفسها تقريباً، وكانتا بمثابة
إعلان بدء مشروع "سرايا الجهاد"، الأمر الذي جعل وجود حمدي وأبو حسن
ثقيلاً في الأردن، حتى على السلطات الأردنية. فقرر الإخوان أنه يجب أن يغادرا
الأردن إلى سورية ومنها إلى لبنان، ومن هناك إلى أي مكان في الدنيا. وفعلاً تحرك
أبو حسن مع الأخ هارون وعبرا الحدود، وشاءت المصادفة أن تعتقلهما وحدة هجانة مع
وحدة مكافحة التهريب في الجانب السوري من الحدود، وأمضى أبو حسن فترة 10 أشهر في
السجن في سورية قبل أن يُطلَق ويغادر إلى الخارج. وتعرّض خلال فترة اعتقاله لتعذيب
شديد داخل السجن. بعد هذا الحادث بفترة عاش حمدي في عمّان عاماً كاملاً، متخفياً
وحذراً جداً. مسؤول أمني أردني قال لحمدي: أنتم بعد قصة عطاف عليان والبراق رؤوسكم
مطلوبة، الإسرائيليون يريدونكم ونحن لا نقدر أن نتحمّل مسؤولية أن يتم اغتيالك في
عمّان، ولا نريد أن نأخد إجراءات ضدك ونسجنك كي نحميك، لأن هذا يرتب عليك وعلينا
التزامات كثيرة. نريد منك أن تغادر البلد.
غادر حمدي إلى تونس وكذلك أبو حسن الذي كان قد أُفرج عنه،
واجتمعا هناك بالشهيد أبو جهاد، وكانت العلاقة مع الشهيد أبو جهاد تمر بمراحل مد
وجزر فتنقطع أحياناً، وتزدهر أحياناً أُخرى. كان اللقاء صريحاً هذه المرة، والجميع
لديه تصميم على مزيد من تصعيد المواجهة ضد العدو، ومعروف أن علاقة أبو جهاد بأبو
عمار في تلك الفترة كانت تمر بأزمة على خلفية الاستعدادات لمؤتمر الحركة، ودعم أبو
عمار لما سمّاه القطاع الغربي لجيش التحرير. وجرى تقويم لإدارة العمل كلها داخل
الأرض المحتلة، وكان هذا اللقاء من أنجح اللقاءات، وتم بقلوب مفتوحة تماماً، واتفق
الجميع على إعادة هيكلة القطاع الغربي لحركة "فتح"، على أن يعود أبو حسن
مرة أُخرى ليشغل الموقع الذي كان يشغله أيام الشهيد كمال عدوان كضابط عمليات
للقطاع الغربي، وعلى إنشاء غرفة عمليات موحدة يتولاها أبو حسن. وكان مقرراً أن
يذهب أبو حسن وحمدي في جولة لترتيب الاتصال بمناطق متعددة من العالم، ثم يعودان
مباشرة إلى تونس للبدء بالإجراءات التي اتفقا عليها مع الشهيد أبو جهاد.
مشروع سرايا الجهاد
س: هنا نأتي إلى قصة سرايا الجهاد. الإخوان عندما جلسوا مع أبو
جهاد واتفقوا على إعادة هيكلة القطاع الغربي، هل كانت السرايا موجودة؟
ج: نعم السرايا كانت موجودة، وقد أُعلن باسمها تنفيذُ عدة
عمليات منها ما أشرت إليه. وفي الحقيقة كان أبو جهاد يعتبر موضوع الكفاح المسلح في
فلسطين وضد العدو الصهيوني موضوعاً مقدساً، ولا يتردد على الإطلاق في أن يفتح
أبواباً واسعة لمَن يستطيع تقديم جهد في هذا المجال. ثم إن اﻷخوة حافظوا على
اتصالهم وتطويرهم لعمل المجموعات الفتحاوية التي كانت على اتصال معهم، فضلاً عن
قيادتهم عمل السرايا. وقد وُلدت فكرة سرايا الجهاد وتقدمت منذ سنة 1983، ونمت خلال
فترة الانتفاضة الأولى، وبعد ذلك في بعض العمليات العسكرية. وأذكر في هذا السياق
تجربة قواعد الشيوخ خلال الفترة 1968 ـ 1970 عندما جاء الإسلاميون وقالوا لـ
"فتح" نريد أن نشارك في الكفاح المسلح، لكننا غير قادرين على أن نكون
ضمن القواعد العامة لديكم، اِفرزوا لنا قاطعاً أو منطقة كي نجمع الناس بإشرافكم،
وفعلاً تم إنشاء "وحدة الشيوخ" في ذلك الوقت، وقد أبلت بلاء حسناً في
قتال العدو، ثم انحلّت بعد خروج "فتح" من الأردن في سنة 1970.
لكن في الثمانينيات شارك بعض كوادر هذه الوحدة مع أبو حسن
وحمدي إلى جانب الجماعة الإسلامية في غزة، والتي عُرفت لاحقاً باسم "حركة
الجهاد الإسلامي"، وأفراد وتنظيمات كان بينهم الشباب الذين هربوا من سجن غزة،
وكانوا السبب في اندلاع الانتفاضة اﻷولى. وأنا أتذكر تماماً الرسالة التي أرسلها مصباح
الصوري إلى حمدي، والردّ عليها والسلاح الذي تم تأمينه لهم.
خرج الدكتور فتحي الشقاقي من السجن وأنشأ حركة الجهاد الإسلامي
التي أصبحت حركة واضحة لها قيادتها العلنية المعروفة. لكن كادرهم العسكري كان يعمل
قبل ذلك باسم السرايا، وحتى الكادرات الأولى لحركة "حماس" جرى تدريبها
وتسليحها وتجهيزها على يد السرايا، لكن عندما أصبح هناك حركات إسلامية كاملة صارت
هذه الحركات تقوم بالكفاح المسلح، ولا سيما "حماس" و"الجهاد"،
ولم يعد هناك داعٍ أو مبرر لاستمرار سرايا الجهاد، إلاّ إذا أردت أن تنشئ تنظيماً
إسلامياً ثالثاً، وهذه الفكرة لم تكن واردة من حيث الأساس، فضلاً عن أن استشهاد
حمدي وأبو حسن ومروان ساهم في جعل الأمور تتوقف عند هذا الحد.
س: ماذا حل بعد استشهاد أبو حسن وحمدي ومروان في قبرص،
واستشهاد أبو جهاد في تونس؟
ج: لا شك في أن استشهاد حمدي وأبو حسن ومروان كان له تأثير
كبير في مجمل العمل، إلاّ إن عدداً من الإخوة
مثل جهاد العمري ومروان زلوم وميسرة ومجموعة أُخرى من الشباب تابعوا
المسيرة، وقاموا بتشكيل كتائب شهداء اﻷقصى في الضفة وغزة. لقد كان لدينا وجهة نظر
خلال فترة الانتفاضة اﻷولى وهي أن يكون التركيز على أشكال المواجهة الشعبية، على أن
يقتصر العمل المسلح على الردّ على بعض جرائم الإسرائيليين بعيداً عن الفاعليات
الشعبية. وطبعاً خلال فترة الانتفاضة ركزنا بشكل أساسي أيضاً على عملية التسليح في
الداخل، وعلى نقل السلاح والمتفجرات، علاوة على بعض العمليات المحدودة داخل قطاع
غزة أو في الضفة الغربية.
في التسعينيات، ولا سيما بعد حرب الخليج ومؤتمر مدريد واتفاق
أوسلو وتراجع دور فصائل منظمة التحرير عن المشاركة في المقاومة المسلحة وبعد بروز
المقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين، "حماس" والجهاد، دخلت اﻷوضاع
في منطقتنا والعالم مرحلة جديدة مختلفة نوعياً عن مرحلة السبعينيات والثمانينيات،
فكان ذلك سبباً في إحداث تغيير في أشكال العمل بالنسبه إلى عدد كبير من الإخوة
الذين حافظوا على أشكال متعددة من الترابط والاتصال من دون إخلال في اتجاه البوصلة
التي تأسس عليها التيار أو الكتيبة أو السرايا.
*قائد "الكتيبة الطلابية" في حركة "فتح".
أجرى المقابلة: إلياس خوري وميشال نوفل
شفيق الغبرا يروي الكتيبة الطلابية: جيل الأحلام والغضب
صقر أبو فخر | كانون الثاني 2012
ما تزال قصة الكتيبة الطلابية (أو السرية الطلابية) في حركة
فتح تنعش ذاكرة جيل بكامله، وتستدعي حكايات شائقة عن مجموعة من المناضلين الرواد
الذين قدموا أعمارهم في سبيل فلسطين، وضربوا أروع الأمثلة في البطولة والتجرد
والالتزام. وحتى اليوم ما برحت أسماء عبد القادر جرادات (سعد) وعلي أبو طوق وجورج
عسل (أبو خالد) وطوني النمس وأحمد القرى وجمال القرى وكثيرين من رفاقهم تلهب
الخيال، وتضفي جمالاً أخّاذاً على سيرة النضال الفلسطيني، وعلى مسيرة الثورة
الفلسطينية في مرحلتها اللبنانية، والتي أسهم فيها مناضلون متميزون من لبنان
وسورية وفلسطين بالطبع.
لم يؤرخ أحد، حتى الآن، تجربة الكتيبة الطلابية، وما كتب عنها
عبارة عن شذرات متناثرة هنا وهناك، أو فقرات ترددت في سياق الحديث عن هذا الشهيد
أو ذاك. غير أن الدكتور شفيق الغبرا، وهو فلسطيني ذو جذور سورية (ويحمل الجنسية
الكويتية في الوقت نفسه) تصدى للكتابة عن هذه التجربة البهية، فأصدر لهذه الغاية
كتاباً وافياً بعنوان «حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات» (بيروت: دار
الساقي، 2011).
وهذا الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية مفصّلة تستعيد أبرز محطات
حياته منذ ولادته في الكويت سنة 1953 لأسرة حيفاوية (أصلها من دمشق) هاجرت جراء
النكبة إلى مصر، ثم هاجر والده الطبيب إلى الكويت وعاش فيها منذ ذلك الوقت، وأصبح
كويتي الجنسية، لكنه ظل فلسطيني الهوى والانتماء.
***
في هذه السيرة تاريخ للأشخاص وللوقائع معاً. فالكاتب لا يكتفي
برسم الخطوط العامة لتجربته، بل ينحاز إلى التفصيلات اليومية، ولاسيما منذ أن تفتح
وعيه على النضال الفلسطيني بعد معركة الكرامة في سنة 1968، ومنذ أن تعرف إلى حركة
فتح في الكويت ثم في بيروت قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة
دراسته، وهناك التقى هشام شرابي الذي عمّق لديه فهم قضية فلسطين، والتقى كمال
بلاطة من القدس والمغرم بدراسة الفن، وفواز تركي وحاتم الحسيني وآخرين، وهؤلاء
مهدوا الطريق أمامه للالتحاق بحركة فتح، وقادته رجلاه إلى لبنان الذي أصبح بعد
أيلول 1970 الساحة الرئيسة للعمل الفدائي.
***
يروي شفيق الغبرا في سيرته هذه كيف التحق بحركة فتح، وهو
القادم من جامعة جورجتاون في الولايات المتحدة الأميركية، وكيف خضع لدورة عسكرية
في بلدة مصياف بسورية، وكيف ترك أميركا بصورة نهائية وجاء إلى لبنان ليلتحق مباشرة
بالعمل العسكري وليس بالعمل الإعلامي أو الدبلوماسي أو السياسي. فقد تزامن وصوله
إلى بيروت مع اغتيال معروف سعد في صيدا سنة 1975، ثم اندلعت الحرب الأهلية، ووجد
الكاتب نفسه في معمعان المعارك فانخرط فيها. ثم يسرد قصة «السرية الطلابية» التي
أُسست بُعيد أحداث أيار 1973، وتحول اسمها إلى «الكتيبة الطلابية» ثم إلى «كتيبة
الجرمق»، والتي قاتل عناصرها في معركة الطبية في بيروت (كلية الطب التابعة للجامعة
اليسوعية والواقعة في إحدى نقاط طريق الشام)، ودافعوا عن حي البرجاوي، وقاتلوا
بشهامة في مرتفعات صنين وتلال العرقوب، وشاركوا في التصدي للإسرائيليين وجماعة سعد
حداد في جبال البطم وتلة مسعود وتلة شلعبون... وغيرها من المواقع الملتهبة.
***
يعيد شفيق الغبرا إحياء كثير من أسماء الشهداء والمناضلين
الذين خاضوا تجربة «الكتيبة الطلابية»، فيروي حكايات دافئة عن الشهداء حنا ميخائيل
(أبو عمر) ومحمد بحيص (أبو حسن) وعبد القادر جرادات (سعد) وعلي أبو طوق ومروان
كيالي وجورج عسل وسمير الشيخ وعصمت مراد وباسم سلطان التميمي (حمدي) ونعيم (عبد
الحميد الوشاحي) وأمين العنداري (أبو وجيه) ونقولا عبود وجواد أبو الشعر ومحمد
شبارو وجودت المصري (أبو الوفا) ودلال المغربي وغيرهم. ويعيد تذكيرنا بمناضلين
كثيرين تناثروا أيدي سبأ بعد الخروج من لبنان في سنة 1982 أمثال أنيس نقاش وعادل
عبد المهدي (الذي صار نائباً لرئيس الحكومة العراقية) وإدي زنانيري ومعين الطاهر
ويزيد صايغ والسيد هاني فحص وحسن صالح وسعود المولى ونظير الأوبري (الحلبي الجذور)
ومحمود العالول وسامي عبود. ونعمان العويني وهلال رسلان (من جبل العرب في سوريا)
ومحجوب عمر (من مصر) وربحي وأدهم وهالة صايغ وسامية عيسى ومحمد صالح الحسيني (من
إيران) والعشرات من الأسماء الحركية أو المختصرة، والتي كانت جميعها تتكوكب في
إطار «السرية الطلابية».
***
غادر الكاتب لبنان في سنة 1981 إلى الكويت، لكن أطياف رفاقه
ظلت تأتيه في أحلامه، وترافقه في صحوه. ومع أن هذه التجربة انتهت مع تحوّل «خط
الشعب» اليساري إلى الإسلام السياسي، الأمر الذي أدى إلى خروج كثير من المسيحيين
اللبنانيين والفلسطينيين على هذه الصيغة، إلا أن الثورة الإسلامية في إيران سنة
1979 كانت من الأسباب المباشرة للقضاء عليها. وفي ذلك مفارقة غريبة، فالكتيبة
الطلابية التي رأى معظم عناصرها أن الثورة الإيرانية هي النموذج الذي يمكن
احتذاؤه، ومالوا إلى التفكير الإسلامي بعدما كانوا اعتنقوا الماوية في البداية
وأفكارها في حرب الشعب وخط الجماهير والتناقضات... الخ، انقسموا إلى يساريين
وإسلاميين جدد، وخرج كثيرون من صفوفها. ثم ان المجتمع اللبناني والفلسطيني من
حولها انقسم بدوره غداة اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية في سنة 1980، بين مؤيد
للعراق ومؤيد لإيران. وعند هذا الحد راحت الكتيبة تعاني التشقق، ثم انتهت التجربة
في حرب 1982 بعدما قدم عناصرها مثالاً رائعاً للصمود والثبات والشجاعة في معركة
الشقيف. وها هو شفيق الغبرا يعيد الألق إلى أسماء ناصعة غيبتها الذاكرة تحت ركام
الوقائع اللاحقة.
ص.أ.ف.
اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة
فتح
نيكولا دوت بويار
تنقسم الدراسة إلى عدة محاور رئيسية، منها نقاط التقارب
الانتقائية بين الإسلام والعالمثالثية، ونشأة الحركة الماوية الفلسطينية –
اللبنانية في فتح، وقصة الكتيبة الطلابية لحركة فتح، وما الذي يمكن استخلاصه منها،
بالإضافة إلى حوار مع منير شفيق وسعود المولى؛ شخصين من الكتيبة الطلابية.
وتبين الدراسة في البداية أن مركزية الصراع الإسرائيلي
الفلسطيني والتأثير الطارد للمسألة الفلسطينية، واستمرارية المسألة الوطنية ومنطق
العالمثالثية في منطقة الشرق الأوسط، سمحت دائمًا بحدوث حالات فريدة ومتداخلة من
الانتقال السياسي التي تتقاطع فيها الحدود بين القومية العلمانية والإسلام
السياسي. وبذلك، فقد حدثت التقاءات وجدانية، عبر ما يسمى بنقاط تقارب انتقائية،
بين الحركة الوطنية الفلسطينية وبعض حركات اليسار اللبنانية وبين الثورة
الإيرانية، نتيجة التموقع الاستراتيجي وخطوط التباين السياسي والإيديولوجي.
ويتطرق الباحث إلى أهمية الحركة الماوية الفلسطينية –
اللبنانية في فتح، وكيف أن تلك الكتيبة الطلابية، بالرغم من أنها كانت هامشية في
حركة فتح، إلا أنها أخرجت بعض الشخصيات المحورية في الإسلام السياسي ذي النزعة
الوطنية. وقد ولدت الكتيبة الطلابية لحركة فتح عام 1974 عبر اتجاهين اثنين: الأول
كان بواسطة شباب الطلبة اللبنانيين الذين خرجوا من منظمة العمل الشيوعي في لبنان،
والذين أسسوا عام 1972 مجموعة ماوية صغيرة أو ما سمي "نواة الشعب
الثوري"، والثاني عبر القادة اليساريين الفلسطينيين الذين عارضوا الخط
السياسي الجديد الذي انتهجته حركة فتح الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات.
ويرى بويار أن الكتيبة الطلابية هي ثمرة التقاء فلسطيني
لبناني، لاتجاه يساري مستوحى من تجارب الانغماس الشعبي لدى اليسار البروليتاري
ولدى الثورة الثقافية الصينية، وبين كوادر فلسطينية راغبين في إعادة توجيه مسار
حركة فتح باتجاه اليسار الوطني، لتتحد الكتيبة الطلابية مع حركات أخرى مثل
المقاومة الشعبية التابعة لخليل عكاوي بشكل خاص، وهو اللبناني ذو الأصل الفلسطيني
والزعيم الكاريزمي لحي باب التبانة الشعبي في طرابلس، وكانت حركته هي الأخرى
تستلهم في جزء منها تجارب العالمثالثية ذات الاتجاهات الماوية والفيتنامية
والأمريكولاتينية.
ويوضح البحث أنه في أعقاب الثورة الإيرانية، قاد الإسلام
السياسي دفة القيادة بالنتيجة؛ فمن ثالوث اليسار والعالمثالثية والإسلام الذي كان
يحمله هذا اليسار الماوي، لم يتبقى في النهاية سوى عنصريه الأخيرين. ذلك أن الثورة
الإيرانية بوصفها ثورة الجماهير الشعبية الوحيدة في المنطقة تاريخيًّا، نجحت بقوة
في الاستحواذ على المفردات الكلاسيكية: مناهضة الإمبريالية، والانقسام شمال -
جنوب، ومركزية نموذج الإنسان المضطهد، مرورًا بأسلمة تطبيقاتها.
ويشير الباحث إلى أنه يمكن استخلاص عدد كبير من النقاط من
تجربة الكتائب الطلابية و"ماويي فتح"، أولها أولوية السياسي على
الأيديولوجي، أو بشكل أكثر دقة، أولوية المنطق القومي العالمثالثي على
الأيديولوجيات التي يتم إنشاؤها. فلم يتم تبني الماركسية والماوية عبر الافتتان
النظري بها ولكن لأجل البعد العملي فيها. فإن أولوية السياسي هذه تدفع عبر الزمن
إلى التفكير في الوظيفة التعبوية المتفردة التي تقوم بها الأديان في تاريخ نزاعات
التحرر الوطني، والإسلام ليس إلا مثالاً ضمن أمثلة أخرى. الإسلام ليس إذن ديانة
سياسية بالماهية: إنه كذلك في إطار ظروف سياسية محددة حيث يقوم بدور المورد
السياسي التعبوي، الرئيسي، أو الثانوي، بحسب الأيديولوجية المهيمنة في المرحلة
المعنية.
ويتضح أن تجربة الكتائب الطلابية و"ماويي فتح"، قد
أظهرت بقوة الأهمية المعطاة لمفهوم الشعب و"الجماهير" الذي جاء في خطاب
"ماويي فتح". هذا النداء الروحاني تمامًا والموجه للشعب تتقاسمه الماوية
مع الإسلام الثوري. ويتطرق البحث إلى فكرة التعالي وارتباطها بعقيدة الخلاص، فإن
انتقال ماويين وشيوعيين وقوميين عرب من اليسار إلى الإسلام السياسي يسمح بالتساؤل
حول هذه العلاقة المتفردة التي يتضمنها كل حدث ثوري مع فكرة التعالي. والتعالي ليس
بالضرورة ذلك الأفق البعيد المتعلق بالغيب، حيث يصف الفاعلون في كل ثورة الانتفاضة
الثورية بمصطلح رسالي لأنها تعبر عن حدث، ولأنها فريدة، من جهتها، تعتبر الثورة
الإيرانية مختلفة لأنها تؤكد تعاليها أيديولوجيًّا طالما أنها تعرف نفسها رسميًّا
بمصطلحات سياسية ودينية.
وتتابع الدراسة تشظي مسارات اليسار المتحول للإسلام، بعد
التحول الديني وانتهاء الثورة الإيرانية وتراجعها تحت أنقاض الحرب مع العراق
والسياسات القمعية ومصادرة السياسي والحدث الثوري معًا، وهكذا بقي الإسلام ليمثل
الأمل الوحيد لدى "ماويي فتح". وأتى الإسلام في المرتبة الأولى حتى حين
لم يعد يعتبر بالضرورة إسلامًا ثوريًا. قليلون هم من عادوا عن تحولهم الديني، أما
الآخرون فقد ابتعدوا شيئًا فشيئًا عن العمل السياسي، أما الاتصال الفلسطيني
اللبناني الذي شكل عمود "اليوتوبيات العملية" الثورية بين سنوات 1969
و1984 اختفي واعقبه تشتت للفاعلين السياسيين، وهكذا تنتهي شيئا فشيئا مرحلة كاملة،
ويضمحل خط الجماهير والإسلام الشعبي الثوري شيئًا فشيئًا.
وتبين الدراسة أن التشظي يتم وفق ثلاثة نماذج: النموذج الأول
هو نموذج الاستقلالية والابتعاد، والفاعل هنا يشعر أن المجال السياسي لا يترك له
هامشًا للحركة، أما النموذج الثاني هو نموذج الالتزام السياسي المستمر، وهنا ثمة
شكل متكامل من البراغماتية. والنموذج الثالث وهو الأكثر ندرة ودراماتيكية أيضًا،
وهو نموذج الاختفاء نهائيًا أو نموذج الشهيد. ويعتبر خليل عكاوي هو المثال الصارخ
على هذا النموذج، ويمثل الشهيد بكلمة واحدة النهاية المنطقية للاستحالة، للحلم
المجهض.
ويتطرق الباحث إلى النقاش الدائر حول وجود لاهوت إسلامي
للتحرير، مشيرًا إلى أنها مسألة مازالت لم تحسم بعد، فهي لم تكن موجودة ولم توجد
أبدًا بوصفها كذلك، ولكن المحاولات المتكررة لرسم معالمها تدفع إلى التساؤل حول
القوة التي تتمتع بها هذه الفكرة، فقد وقعت تجربة ماويي فتح في سياق ظرفي حيث بدت
أكبر من سياقها وغير مكتملة في الوقت نفسه. دينامكية اليسار والعالمثالثية قد بدأت
بالتراجع، ثم الدينامكية الإسلامية التي كانت في مرحلة الزخم. حدث المنعرج هنا
واضحًا، فالإسلام بدا حينذاك بوصفه أيديولوجية فعالة في مرحلة خابت فيها الآمال،
وماويو فتح في هذا الإطار التاريخي لم يكن أمامهم ووفق منطق خط الجماهير سوى
التحول. تجربة الماويين في طرابلس وفي جنوب لبنان تتعلق ربما بيوتوبيا عملية لم
تتحقق نظريًّا وتمت أسلمتها سريعًا، لتعلن عن تركيب حقيقي بين الماوية العالمثالثية
والإسلام الثوري.
ويشير بويار إلى نوع جديد من أنواع الخطاب، وهو خطاب الممانعة،
والذي يمثل عودة الإيديولوجية الضمنية، فإن البعد "القومي" والمقاوم في
خطاب الفاعلين، والانقسام العمودي بين "المهيمنين المستعمرين"
و"المهيمن عليهم المستعمرون"، وثنائية "المركز المحيط"
و"شمال/جنوب" هي التي ستظل، تحدد خطوط الاستمرارية والتلاقي بين الإسلام
السياسي والقومية العربية واليسار الراديكالي، وترسم الأيديولوجية الضمنية
الحقيقية الجارية في قطاعات واسعة من المسرح السياسي في الشرق الأوسط.
ويضيف الباحث: "كانت تجربة الكتيبة الطلابية ترسم ضمنيًّا
تجربة لشيوعية مسلمة كامنة: لكن في النهاية الإسلام السياسي هو الذي سيحدد
الدينامكية الكلية. لكن الإسلام السياسي نفسه اليوم سيلتقي على الأرضية
الأيديولوجية الضمنية الأساسية: سيبني شرعيته ليس على الإسلام فقط ولكن أيضًا على
خطاب يرتكز على المصطلح المزدوج للمقاومة والممانعة، هذه المفاهيم الأولى نفسها
التي تم تقاسمها تاريخيًّا بشكل مشترك من الإسلاميين إلى القوميين العرب مرورًا
باليسار الماركسي. إذا كان الحدث الثوري الرسالي قد اختفى، فقد بقي خطاب الممانعة
الذي يخترق الأيديولوجيات الأخرى من الطرف إلى الطرف: بشكل عام، وبدلاً من الحديث
عن لاهوت للتحرير، فسيكون من الدقة الحديث عن "لاهوت للممانعة"."
ويفرد بويار الصفحات الأخيرة لدراسته لشخصين من الكتيبة
الطلابية، أنجز كل منهما انتقالاً متقدمًا إلى الإسلام السياسي في نهاية
السبعينيات. الاستماع ويتحاور بويار مع كل منهما لالتقاط أفضل للتطورات المتلاحقة
التي قادت إلى الإسلام السياسي انطلاقًا من الماركسية الثورية العالمثالثية.
والشخص الأول هو منير شفيق؛ مسيحي وفلسطيني تحول إلى الإسلام، كان عضوًا في مكتب
التخطيط في منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة فتح، وهو أحد الفاعلين في تيار اليسار
فيها في السبعينيات. كما أنه كان القائد الرئيسي للكتيبة الطلابية في حركة فتح
وقريب من أبو جهاد الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية. أصبح في سنوات
الثمانينيات أحد ملهمي كتائب الجهاد الإسلامي في فلسطين وهي حركة مسلمة اندمجت في بداياتها
في حركة فتح، وهو يظل يمثل المرجعية بالنسبة للحركة الإسلامية والقومية.
أما الشخص الثاني فهو سعود المولى؛ لبناني يعمل اليوم أستاذًا
في الجامعة اللبنانية وعضوًا في المؤتمر العربي للحوار الإسلامي المسيحي والمؤتمر
الشيعي الأعلى. كان مقربًا من الإمام شمس الدين ومعروفًا بابتعاده الكبير عن حزب
الله الذي كان عضوًا فيه حتى عام 1988، حيث تقلد وظيفة رئيس تحرير مجلة الوحدة
الإسلامية، وهو مناضل سابق في الكتيبة الطلابية في فتح حيث انضم إليها بعد فترة من
دخوله حزب العمل الشيوعي في لبنان عام 1969 ثم نواة الشعب الثوري. (less)
الكتيبة الطلابية/ بقلم: عبد الغني سلامه
2015-06-09
02:06:38
"كتيبة الجرمق"، جُل أبنائها مثقفين ومتعلمين، مقاتلون لا
يشق لهم غبار، ولا يعرفون الاستسلام، قال عنهم "أبو إياد": إنهم ضمير
"فتح"، وكانت القيادة تستدعيهم للمهمات الصعبة، وفي أسخن المواقع، أما
الأهالي فكانوا يستبشرون خيرا حين يعرفون أن من يسيطر على المنطقة هم أبناء
الجرمق، لما عُرف عنهم من أخلاق ثورية. بعد انتهاء معركة الليطاني، قال رئيس
اﻷركان الصهيوني "مردخاي غور": "إن الوحدات التي واجهتنا في بنت
جبيل ومارون الراس تختلف عن جميع الوحدات التي واجهناها سابقاً". وبعد معركة
الشقيف قال "شارون" بانكسار: "فقدنا خيرة ضباطنا وجنودنا" أما
رئيس هيئة الأركان "رفائيل إيتان" فقد أدى التحية العسكرية للشهداء وهم
مضرجون بدمائهم، اعترافا منه بشجاعتهم.
في ذكرى نكسة حزيران عرضت قناة الجزيرة الوثائقية فيلماً
وثائقياً حمل عنوان "من السريّة إلى السرايا"، استعرض بشكل موجز تاريخ
الكتيبة الطلابية (الجرمق) منذ نشأتها في بداية السبعينات وحتى تفككها في أواخر
الثمانينات. وكما هو متوقع؛ فإن الفيلم عجز عن الإحاطة بالتجربة من كافة جوانبها،
ولم يقُل كل ما يتوجب قوله؛ إذ أن ساعة واحدة لا تكفي لمقابلة كل الشخوص، ولتبيان
كل الحقائق والأحداث التي شكلت تلك الظاهرة الاستثنائية في تاريخ الكفاح
الفلسطيني، ومع ذلك فإن الفيلم نجح بتسليط الضوء على أهم المفاصل والحيثيات التي
تعطي فكرة عامة. ونظراً لأهمية الموضوع؛ ولمزيد من التوسع وتقديم قراءة أوسع
وأشمل، فقد قمت بمراجعة الحوار الذي أجراه كل من "إلياس خوري" رئيس
تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية" ومدير تحريرها "ميشال نوفل"
مع الأخ "معين الطاهر"، قائد الكتيبة، التي ستلعب دورا محوريا بالغ
الأهمية في العقد الأهم والأكثر سخونة في تاريخ لبنان المعاصر، وهذا الحوار سيشكل
المادة الأساسية للكتاب الذي سيحمل عنوان "حوار مع معين الطاهر". في هذا
المقال سأقتبس بعضا مما قاله الأخ "معين".
من خلاصة القراءة، يمكن القول أن كتيبة الجرمق، أو السريّة
الطلابية، لم تكن مجرد تجربة عسكرية متميزة؛ بل كانت ساحة لحوار عقلاني ناضج،
تفاعلت فيها الأفكار والنظريات بين اليسار واليمين، وبين الوطنية والقومية
والأممية. كما أنها لم تكن تجربة فلسطينية محضة؛ إذْ أنها ضمّت ناشطون لبنانيون
وسوريون من جميع الطوائف والتيارات الفكرية، ومن جنسيات عربية وأجنبية مختلفة.
وأهم ما ميزها إلى جانب الكفاءة العسكرية، الروح الانضباطية العالية، والإلتزام
بأخلاق الثائر الإنسان.
عن البدايات الأولى يقول الأخ "معين": التحقتُ بـ
"فتح" لأنها مثلت حركة المقاومة الأهم ضد الاحتلال الصهيوني،
ولأنها بحكم منهجها وبنيتها هي حركة الشعب
الفلسطيني بجميع أطيافه وفئاته؛ تسمح للفرد، بغضّ النظر عن خلفيته الفكرية وعن
اتجاهه الأيديولوجي، بالانتماء إليها، ما دام يؤمن بأن التناقض الرئيسي هو مع
العدو الصهيوني.
ويضيف "معين": بعد معركة الكرامة التحقنا بقواعد
الفدائيين في اﻷغوار تحسباً لتطور الهجوم، ثم أسّسنا في معسكرات اﻷشبال في إربد
نواة للتنظيم الطلابي ضم نحو 300 طالب مدرب ومسلح، بقيادة الشاعر "خالد أبو
خالد".
وعن الإرهاصات الفكرية والسياسية التي سبقت التجربة،
يصف"معين" مرحلة ما بعد أحداث أيلول، وانتقال قوات الثورة إلى لبنان، حيث دار جدل وحوار بين مجموعات
كبيرة من مثقفي وكوادر فتح، ممن ينادون بضرورة تقييم ومراجعة تجربة الثورة في
الأردن، ويحملون وجهة نظر نقدية تجاه القيادة، وتجاه العديد من المسلكيات
والشعارات والسياسات التي مورست في تلك المرحلة، عُرفت هذه المجموعات باسم يسار
"فتح".
وحسب
"معين"، فإن تلك النقاشات لم تؤدّ إلى نتيجة، إذ كانت حوارات يغلب عليها
بشكل أساسي انتقاد القيادة من دون أي برامج عملية. أما عن نقطة التحول العملي
لتأسيس الكتيبة، يقول "معين": في خضم تلك الحوارات قال "أبو حسن
قاسم": "أريد أن أطلب شيئاً واحداً؛ أعطوني مجموعة واحدة ودعونا ننزلها
دورية إلى الأرض المحتلة ونعمل شيئاً أساسياً هناك، وأنا أقول لكم إن كل الحديث
الذي يشغلنا يصبح قابلاً للتطبيق". وبهذا القول بلور "أبو حسن
قاسم" ومعه "سعد جرادات" و"مروان كيالي" و"نذير
الأوبري" و"إدي زنانيري" و"علي أبو طوق" وعدداً آخر من
الكوادر، بلوروا نظرية متماسكة عن العمل اليساري والثوري الفتحاوي تختلف جوهرياً
عن اليسار الفتحاوي الذي راح يتجه في أغلبيته نحو الخط السوفياتي. وأصبح الحوار
يدور مع مجموعة أضيق قليلاً في إطار التنظيم الطلابي الذي ضم أيضا "حمدي
التميمي" و"محمود العالول"، وكذلك حالة حوارية مع "ناجي علوش"
و"أبو داود" و"منير شفيق". وهذه كانت النواة الأساسية التي
بدأت تتشكل حول تيار يمتلك برنامجاً كاملاً يعتمد أساساً على التنظيم الطلابي وجزء
مهم من القطاع الغربي، وقوات العاصفة.
ويصف "معين" البيئة الفكرية التي حكمت توجهات القوى
الوطنية في لبنان (قبل اندلاع الحرب الأهلية)، حيث كانت توجد نظريتان للعمل
الوطني: الأولى تقوم على أساس الصراع الطبقي، والثانية تعطي الأولوية للنضال
الوطني والتصدي للاعتداءات الإسرائيلية، جاعلة تناقضها المركزي مع العدو الصهيوني.
ومن جهة ثانية كانت الحركة الوطنية اللبنانية، أو اليسار اللبناني، يشهدان في
داخلهما تفاعلات كبيرة ناجمة عن نكسة حزيران 1967، على إثرها راحت مجموعات كبيرة
من اليسار تترك منظماتها، وتنضم إلى "فتح". ونظرا للنزعة اليسارية
الجديدة والمختلفة لهذه الحالة الطلابية الفتحاوية فقد انضمت إليها مجموعات يسارية
عربية أخرى من ذوي الاتجاهات الماركسية المتأثرة بالماوية، الأمر الذي أوجد بُعداً
فكرياً أيديولوجياً إضافياً لهذا التيار. وهكذا تحولت الكتيبة إلى نقطة استقطاب،
ليس فقط للعرب، بل حتى للإيرانيين والأتراك وبعض اليساريين الغربيين. ومع ذلك، لم
تكن ضمن أولويات الكتيبة قصة الإمبريالية والاشتراكية. كانت المسألة الأهم هي
الحفاظ على استقلالية الثورة الفلسطينية بعيداً عن محاور الاستقطاب الدولي.
النقطة الأُخرى التي شكلت أرضية سياسية للكتيبة هي النتائج
السياسية لحرب تشرين واحتمالات التسوية، إلى جانب الموقف الرافض لبرنامج النقاط
العشر. وعن هذه النقطة يتحدث "معين": "في جامعة بيروت العربية كنا
نسلط مكبرات الصوت في اتجاه مكتب أبو عمار الذي كان يبعد 50 متراً، ونظلُّ ننتقد
ليلاً ونهاراً النقاط العشر ومشروع السلطة الوطنية، وفي آخر الليل يدعونا أبو عمار
إلى الاجتماع فنتكلم ونختلف ونتفق، وينام أبو عمار بحراسة بنادق معارضيه.
في هذه الأثناء أُنشئ معسكر "مصياف" في سورية، ليكون
معسكراً تثقيفياً وعسكرياً لإعادة تأهيل وتدريب التنظيم الطلابي ككل، ثم تحول إلى
كتيبة، بعدما قرر عدد من الإخوة أن يتفرغوا كمقاتلين محترفين، بتشجيع من "سعد
صايل" الذي أحاط الكتيبة برعايته وربطته بها علاقة حميمة. لكن بقي كل التنظيم
السياسي والخط السياسي، سواء في الجامعات أو خارجها، بمثابة رديف لهذه الكتيبة
المقاتلة.
على صعيد الإنجازات العسكرية، فقد قاتلت الكتيبة الطلابية
بضراوة وشجاعة، وتصدت ببسالة لكافة الاجتياحات الإسرائيلية بدءأ من العرقوب
والليطاني ومعركة الشقيف، وحتى اجتياح بيروت 1982، وأوقعت خسائر فادحة في صفوف
الإسرائيليين، حيث أسقطت طائرة مروحية وطائرة "سكاي هوك"، وأسرت طيارها،
كما أسرت ثمانية جنود إسرائيليين وبادلتهم في صفقتين: الأولى تحرر بموجبها كافة أسرى
معتقل أنصار مع عدد محدود من أسرى الداخل، وفي الثانية (تمت مع القيادة العامة) تم
تحرير 1150 أسيرا من السجون الإسرائيلية، كما نفذت الكتيبة العديد من العمليات
الفدائية أشهرها عملية دلال المغربي، السافوي، الدبويا، ومحاولة تفجير مقر
الكنيست، وغيرها العشرات. وفي انتفاضة الأقصى واصل عدد من كوادر الكتيبة مسيرة
الكفاح المسلح، منهم "جهاد العمري" و"مروان زلوم"
و"ميسرة" وغيرهم، وقاموا بتشكيل كتائب شهداء اﻷقصى في الضفة وغزة.
وفي أثناء الحرب اللبنانية، لعبت الكتيبة دورا مهما في حماية
الثورة، والدفاع عن المخيمات (استشهد "سعد جرادات" في معركة البرجاوي،
في محاولة لفك الحصار عن تل الزعتر، واستشهد "علي ابو طوق" دفاعا عن
مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة)، وقد حاولت تجنب التورط في الحرب الأهلية، إلا أنها
كانت تجد نفسها مجبرة على الانخراط فيها، للدفاع عن النفس، فمثلا، يقول الأخ
"معين": "كنا نقاتل حزب الكتائب دفاعاً عن مواقعنا ودفاعاً عن
الثورة، وليس تحت شعار أن الطريق إلى فلسطين تمر بجونيه. وكنّا نرى أن شعار عزل
الكتائب يؤدي إلى عزل المجتمع المسيحي وإلى تقسيم لبنان". ويضيف: "كان
رأينا أنه يجب أن نتفادى المواجهة مع السوريين، باعتبار أن المشروع الأساسي
للكتيبة هو إقامة قواعد ارتكاز داخل الأرض المحتلة، والتمركز في الجنوب اللبناني
للتصدي للهجمات الإسرائيلية، ومنع أي انتشار لقوات سعد حداد".
في الوقت الذي تورط
فيه الجميع في مستنقع الحرب الأهلية، وارتكبوا الكثير من الأخطاء والجرائم، وبينما
توحشت الكثير من الأطراف المتصارعة، وانقادت لغرائزها العدوانية؛ كانت الكتيبة
الطلابية شيء مختلف تماما؛ كانت تقيم أفضل العلاقات مع الأهالي، وتركّز على قواعد
السلوك الأخلاقي، وترفض أي إعتداء على الناس، وتحارب كل محاولات الاستقواء على
السكان بالسلاح، بل أنها كانت تحارب العدو لأنه غازي ومعتدي، وليس لأنها تريد
الانتقام منه، وقد اعتاد أبناء الكتيبة على القيام بمراجعات ومكاشفات دائمة،
وعمليات نقد ذاتي جريئة، على قاعدة مكافحة الخطأ نفسه وليس المخطئ. وكان الفدائيون
في استراحاتهم يتجمعون حول أحدهم وهو يعزف على آلته الموسيقية، أو يشدو بيرغوله،
ويرددون من خلفه الأغاني الوطنية والإنسانية، حتى تُصقل نفسياتهم، وتُنقى من نزعات
الانتقام والعنف المجرد، للتأكيد على أن الثورة ليست فقط بندقية ومقاتل، بقدر ما
هي أغنية وقصيدة ولوحة وإبداع إنساني تدعو للتمسك بالحياة الحرة الكريمة.
حقا، كانت كتيبة الجرمق ضمير الثورة الفلسطينية، وفخرها ومجدها
... لشهدائها ومقاتليها أنحني احتراما وتقديرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق