فلسطين لم تكن وطنًا لبنى إسرائيل
عفيف البهنسى
أساطير التوراة
أما التشكيك فى التوراة فهو ليس انتهاكا لنص مقدس، كما لا يعد عفيف البهنسى أول من فنّد مزاعم التوراة، حيث أصبح معروفا اليوم أن الأسفار الخمسة الأولى التى تنسب إلى النبى موسى مشكوكا فى نسبها إليه عليه السلام، بل ترجع إلى جملة من الكتّاب اختلفت توجهاتهم العقائدية، والدليل على ذلك ما ذكره سيد القمنى عما ورد فى مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة فى عام 1960 مانصه : «ما من عالم كاثوليكى فى عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة، منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف حتى على وضع النص، لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده، لذلك يجب القول: إن ازديادا تدريجيا قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية».
المعروف أن العهد القديم يشمل مجموعة الكتب اليهودية المقدسة، التى يشار إليها مجازا باسم التوراة للدلالة على مجموع الكتب اليهودية التى يشملها ذلك العهد بكامله، وهو المختص فى صفحة عنوان الكتاب المقدس، بالترجمة عن اللغة العبرانية واللغة الكلدانية، أما العهد الجديد فيشمل مجموعة الكتب المقدس للعقيدة المسيحية، وهو فقط من بين مجموع كتب الكتاب المقدس، المترجم عن اللغة اليونانية.
وفى بحث عفيف البهنسى تظهر أهمية تفنيد وتحليل العلاقة بين التاريخ والتوراة فى كشف أساطير النص التوراتى الذى ظل مصدرا تاريخيا وحيدا فى العهد القديم إلى أن جاءت المكتشفات الأثرية لتكشف حقائق التاريخ. يذكر البهنسى: «كان هم مدونى التوراة أن يجعلوا أحداث التوراة هى أحداث الإنسان فى بداية التاريخ، وجعلوا من إبراهيم الخليل (أبو الأمم) بداية الوجود المتحضر، وربطوا وجودهم بهذا التاريخ مركزّين على علاقة أصحاب الدين الجديد (اليهودية) بإبراهيم الخليل نسبا وعقيدة. ولأن آل إبراهيم أطلق عليهم اسم بنى إسرائيل، فإن اليهود يسردون تاريخهم من خلال ربط المهاجرين إلى مصر مع يوسف بالقادمين مع موسى بعد خمسة قرون». أى أن السرد لا يخضع للمنطق الموضوعى ولا يراعى التسلسل الزمنى، بل تختلط فيه القصص الشخصية الثانوية بالأحداث التاريخية.
ومن ناحية أخرى يشير البحث إلى نهل الأسفار من الحضارات السابقة، فقد أظهرت المكتشفات الأثرية أن سفر التكوين شديد الشبه بالأفكار البابلية القديمة التى وردت فى أساطير إينوما إيليش عن نشأة الكون. وبهذا يؤكد أن التوراة تتضمن عرضا تاريخيا للعقائد الدينية التى كانت سارية قديما. بالإضافة إلى أن مفهوم الإله الأحد الأوحد غير واضح فى التوراة، إذ إن (يهوه) هو رب بنى إسرائيل فقط، وليس رب العالمين، وبالتالى يجدر هنا التساؤل عن الوعد الدينى بامتلاك الأرض الذى قطعه إله لا يتصف بالوحدانية؟
بنو اسرائيل عاشوا بعيدا عن أرض كنعان
يتناول الباحث النص التوراتى من خلال منطقه السردى ذاته مثل وصف اللقاء بين يعقوب وأولاده وبين يوسف الذى أعطاهم ملكا فى مصر أرض رعمسيس، ليخلص إلى أن «أرض بنى إسرائيل ليست هى بلاد كنعان، بل إنهم استمروا غرباء، فهى أرض غريبة أما أرضهم الأصلية فهى فدان آرام ــ حران ومنها اختاروا زوجات لهم»، ويضيف البهنسى أن أبناء يعقوب ــ المعروف بإسرائيل ــ الاثنى عشر ولدوا خارج الأرض المقدسة فلسطين، بمعنى أن بنى إسرائيل المعنيين فى التوراة بصفتهم أصحاب الأرض لم يعيشوا فيها بل مكث كل من يعقوب ويوسف بعيدا عنها. ولا يغيب عن الباحث تناول النظريات المختلفة التى سبقته فى التساؤل عن أرض التوراة مثل كمال الصليبى فى كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» الذى يذهب فيه بعيدا عن فلسطين، مؤكدا أن الممالك لم تتجاوز قرى أو مضارب للبدو، كان الملوك فيها رؤساء عشائر فى منطقة عسير بالجزيرة العربية.
انقلب السحر على الساحر
فى الوقت الذى هرول الإسرائيليين فيه نحو التنقيب الأثرى فى فلسطين على يد علماء غربيين وإسرائيليين لتأكيد وجودهم على الأراضى المحتلة والتشبث بالمطامع التى وردت فى التوراة، لم تقدم أى من الحفريات التى أجريت فى سوريا والأردن وإسرائيل أى دليل على الوجود الإسرائيلى تاريخيا أو على اعتبار أن هذه المنطقة الجغرافية هى أرض إسرائيل. ويقدم البحث أمثلة عديدة على ذلك منها أن الحجر المؤابى، وهو نصب حجرى عليه نص للملك مؤاب ميشع يتحدث فيه عن حروبه مع إسرائيل وعن طرد سكانها خارج مؤاب، فقد شكك العلماء فيه لتعرضه للإضافة واختفاء بعض كلماته. كما يؤكد الباحث أن جميع تأويلات التوراتيين ثبت بطلانها أمام دراسات علماء الآثار بعد عام 1952. حيث كانت لحفريات السيدة كاتلين كينيون ما بين أعوام 1952 و1958 أهمية بالغة ــ كما يرى عفيف البهنسى ــ لأنها أعادت النظر فى المسلمات وهزمت الخطاب التوراتى، فأثبتت على سبيل المثال أنه لا صحة ولا حجة من أن العبرانيين احتلوا أريحا على عكس ما ورد فى التوراة من تدميرها فى زمن يشوع، واعتمدت العالمة البريطانية فى تنقيبها فى القدس وأريحا على تاريخ الفخار أو أى جسم عضوى عن طريق الفحص بالأشعة خلال خمسة آلاف عام.
هيكل داود حقيقة أم سراب؟
وكانت من أهم النتائج التى توصلت إليها كاتلين كينيون ولم يستطع الأثريون بمن فيهم الإسرائيليون تقديم أى دليل أثرى يؤيد مرويات التوراة أنه لم تكن هناك ثمة آثار تعود إلى عهد داود أو سليمان وأن برج داود يعود إلى الفترة الهيلنستية وأنه لا وجود لإصطبلات تعود إلى زمن داود. وأثارت هذه النتائج ــ كما يروى البهنسى ــ استياء الإسرائيليين واستأنفوا التنقيب فى المنطقة المتاخمة لجدار الحرم الشريف فى الزاوية الجنوبية الغربية، «وكان ذلك بعد احتلال القدس فى عام 1967، وتولى التنقيب العالم الإسرائيلى مازار ومساعده بن دوف، وكانت المفاجأة باكتشاف آثار ثلاثة قصور ومسجد من العصر الأموى». كما يستعرض العديد من المحاولات لأثريين إسرائيليين فشلوا فى الكشف عن أى أثر للهيكل أو لوجود يهودى.
ويشير الباحث إلى استمرار هاجس البحث عن الهيكل يشغل المؤسسات الاسرائيلية وتصميمهم على التنقيب تحت الحرم الشريف مما يهدد الأبنية الاسلامية، ويخلص إلى أن العثور على آثار تعود إلى عصر الحديد ولا تنتسب إلى التاريخ التوراتى أصبح يفزع إسرائيل ويدفعها إلى التعتيم على نتائج التنقيب الفاشلة. «فالفشل فى العثور على أثر الهيكل، يعنى ــ كما يقول عفيف البهنسى ــ أن مدينة داود لم تكن حقيقة وأن عدم اكتشاف هيكل هيرودوس يعنى أن اليهود لم يتمتعوا بعهده باعتراف السلطة الرومانية، بل إن التوراة تذكر أن هيرودوس كان أكثر الحكام بطشا باليهود، وهذا يتناقض مع القول بتشييد هيكل لهم لا نظير له، لم يعثر على أى أثر لهذا الهيكل».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق