استغل شعبيته في الشرق ليحصل على مكاسب من الغرب
لن يدوم الاستقرار في تركيا إذ أن ما
حدث في العالم العربي قد يحدث هناك أيضاً
قبل
أكثر من عام، وبعد حادثة الاعتداء على أسطول الحرية المتوجه إلى سواحل غزة
لكسر الحصار الاسرائيلي الجائر على شعبنا الفلسطيني هناك، حصل رئيس وزراء
تركيا رجب طيب أردوغان على شعبية كبيرة جداً على الساحة العربية بعد أن
أدلى بتصريحات شبه نارية ضد السياسة الاسرائيلية القمعية، وتولى قيادة حملة
الانتقاد ضد ما تمارسه اسرائيل بحق أبناء قطاع غزة، وتبنى الدفاع عن
القضية الفلسطينية.
هذه
الشعبية الكبيرة لأردوغان، وخاصة بعد أن انسحب من مؤتمر دافوس احتجاجاً
على أقوال الرئيس الاسرائيلي شمعون بيرس، أدت الى أن تقوم مجموعات من أبناء
شعبنا برفع العلم التركي في مختلف أنحاء الوطن إجلالاً لهكذا موقف.
وشعر
كثيرون بأن تركيا عادت إلى الشرق بعد أن تخلى عنها الغرب، وصارت قوة
اقليمية فاعلة الى جانب سورية وايران. وحيّا كثيرون هذا الموقف التركي
متجاهلين عصور الاحتلال العثماني الاربعة للبلاد العربية، ومتغاضين عن
التعاون العسكري الاسرائيلي التركي الوطيد، وعن وجود قواعد عسكرية اميركية
على الأراضي التركية.. وظنوا جميعاً بأن الموقف التركي صادق، وانه يبشَّر
بالخير، وأن القضية الفلسطينية حصلت على نصير قوي، وان التحالف التركي
الاسرائيلي قد انتهى وحل محله إلى حد ما تعاون استراتيجي تركي سوري.. ولكن
هذا الموقف التركي لم يدم طويلاً، ليكشف حزب العدالة والتنمية في تركيا عن
حقيقة وجهه، وليعود من جديد إلى صف أعداء العرب والعروبة على حد سواء.
بدء التراجع التركي
بدأ
تراجع الموقف التركي الذي كان مناصراً للعرب الى معادٍ لهم في مطلع العام
الجاري عندما انطلقت ثورة تونس الشعبية، فقام أردوغان بالادلاء بتصريحات ضد
رئيس تونس آنذاك زين العابدين بن علي، وأيد تنحيه لا بل طرده عن سدة
الحكم.. وبعد ذلك أيد أردوغان مطلب المتظاهرين في ساحة التحرير في القاهرة
باسقاط النظام في مصر، ودعا إلى تنحي حسني مبارك عن رئاسة مصر. وكانت
تصريحات أردوغان ضد حسني مبارك عنيفة، وانتقاده لاذعاً جداً.
وقمة
العداء للعرب ظهرت في الأزمة الليبية إذ أن أردوغان هو من مؤيدي "الثوار"
في ليبيا، وهو من داعمي التدخل العسكري الغربي في ليبيا لاسقط نظام معمر
القذافي. وطالب وبكل صراحة بتنحي القذافي عن الحكم، واتهمه بارتكاب جرائم
بحق شعبه، واظهر أردوغان حقيقة عدائه للقادة العرب الذي كان يجتمع اليهم،
ويوقع اتفاقات معهم، ويظهر لهم أنه مساند لقضاياهم.. وتصريحاته ضد حسني
مبارك والقذافي اعتبرت تدخلاً في شؤون مصر وليبيا، وانعطافاً حاداً في
السياسة التركية تجاه عالمنا العربي.
قمة التراجع مع سورية
وبعد انطلاق الازمة المفتعلة في سورية، وبدء المؤامرة الكبيرة على سورية، وقف أردوغان إلى جانب الأعداء بشتى الوسائل والطرق ومنها:-
· الإدلاء
بتصريحات غريبة عجيبة لوسائل الاعلام يطالب فيها الرئيس الأسد بضرورة
اجراء اصلاح في سورية، والاسراع في ذلك، ويقول بتصريحاته أنه نصح الرئيس الأسد بذلك، وانه ضد سياسة قمع المظاهرات الشعبية.
· احتضانه
لمؤتمرين لما يسمى بـ المعارضة السورية، الأول في استانبول مع مطلع انطلاق
المؤامرة في شهر آذار المنصرم، والثاني في أوائل حزيران المنصرم وفي
انطاليا.
· السماح بتهريب السلاح الى المتمردين والارهابيين داخل سورية عبر الحدود التركية.
· استغلال
نزوح بضعة آلاف من أبناء سورية من منطقة جسر الشغور الحدودية الى داخل
الحدود التركية من خلال اقامة مخيمات لهم، وتسليط الاضواء الاعلامية على
ذلك، حتى ان هؤلاء النازحين لم تسمح لهم السلطات التركية بالعودة الى
منازلهم إلا بعد "شق الأنفس" وتدخل أكثر من دولة، لان عودة هؤلاء المهّجرين
من قبل المتمردين والارهابيين تعني أن الوضع في سورية مسيطر عليه، وان كل
ما يقال عن قمع ضد الشعب السوري من قبل أجهزة النظام هو كذب وعار عن
الصحة.. وقد تم استغلال هذه المخيمات بصورة بشعة مع أن عددهم لا يتجاوز
عشرة آلاف مواطن، في حين أن سورية استوعبت ملايين المهجرين والنازحين من
العراق ولبنان خلال العقد الماضي ولم تقم لهم مخيمات، بل رحبّت بهم
واعتبرتهم في وطنهم.
· السماح
للمعارضة باقامة مركز اعلامي على الحدود السورية التركية لضخ معلومات
مفبركة ضد النظام السوري، وضد مسيرة الاصلاح والحوار، وضد ما تحقق وأنجز
حتى الآن. وكذلك لتحريض أبناء الشعب السوري ضد دولتهم، ولكن هذا المركز لم
ينجح كما لم تنجح المراكز الاعلامية الأخرى التي أقيمت في اميركا وفي عدد
من العواصم والمدن الاوروبية.
· الرئيس التركي لم يعجبه خطاب الرئيس الأسد الذي ألقاه يوم الاثنين الموافق 20/6/2011 على مدرج جامعة دمشق، واعتبره غير كاف.
تدخل سافر في الشؤون العربية
الاقوال
والتصريحات التي تصدر عن كبار مسؤولي حزب العدالة والتنمية التركي، والتي
تنتقد هذا الرئيس او ذاك أو تطالب بالاصلاح في سورية، و"تَنصح" الرئيس
الأسد بالاسراع بعملية الاصلاح.. تعتبر هذه كلها تدخلاً سافراً بالشأن
العربي، وكأن هذا الحزب التركي هو ولي أمر العرب، والوصي عليهم. وكأنه
ايضاً أصبح مرجعاً من مراجع تقييم ما يجري في عالمنا العربي.. وهو صاحب
الكلمة الأولى والأخيرة.
أي
بكلمات أخرى بدأ قادة تركيا يشعرون بأنهم هم من يحكمون العالم العربي من
خلال "الشعبية" التي حصلوا عليها بعد ادانة اسرائيل، هذه الادانة التي
تراجعت لهجتها وحدتها إلى أن أصبحت غائبة عن الوجود.. أي أن أردوغان وغول
واوغلو يظنون أنهم وببعض مواقفهم الخجولة ضد اسرائيل، وعلاقتهم مع العرب
"اشترونا" و"أصبحوا يحكموننا".
لكن
الواقع كشف أموراً أخرى وخطيرة عن الدور التركي في المنطقة، وان هذه
التصريحات المعادية لاسرائيل كانت جسراً من أجل تنفيذ هذا الدور الخطير.
الدور الخطير والمشبوه
يبدو
أن تركيا مثّلت جيداً لتحصل على شعبية في الساحة العربية، وبالتالي لتلعب
دوراً خطيراً بالنيابة عن الادارة الاميركية، وهذا الدور يتمثل بالآتي:
1. مساعدة اميركا في تنفيذ سياسة الشرق الأوسط الجديد، أي في تمزيق العالم العربي.
2. أن
تكون رأس الحربة السنية لمواجهة الامتداد الشيعي في المنطقة، أي أن تساهم
في اشعال نار الفتنة الطائفية والمذهبية لادخال عالمنا العربي في صراعات
داخلية.
3. تعزيز
دور "الاسلام الليبرالي" في المنطقة العربية، ومساعدته في السيطرة على
الحكم في العديد من الدول العربية، وان حركة الاخوان المسلمين في عالمنا
العربي مقبولة لتركيا حالياً، وان اوباما يدعم هذه الحركة التي لها جذور
وفروع وامتداد ونفوذ داخل حزب العدالة والتنمية التركي، اي أن تركيا تريد
تولي مسؤولية تطبيق السياسة الاميركية في العالم العربي، والحفاظ على هذه
المصالح.
4. أن تكون رأس الحربة الاميركية ضد الأنظمة الممانعة في عالمنا العربي وفي مقدمتها النظام في سورية.
سياسة خداع واضحة
ما
مارسه أردوغان مؤخراً هي سياسة خداع واضحة المعالم ضد العرب، فقام بتمثيل
الدور الوطني من خلال الادلاء ببعض التصريحات، وتعزيز العلاقة مع سورية،
لكنه في الواقع كان يخدع لانه يريد أن يعود لكرسي الحكم مجدداً، وخاصة أن
الانتخابات التركية كانت وشيكة. وقد جرت هذه الانتخابات، ولم يربح أردوغان
كما كان يتوقع، ولم تنفعه المتاجرة بتصريحاته ومواقفه الموالية لاميركا من
المنطقة، ولم تنفعه "المعارضة" السورية التي احتضنها ووفر الدعم لها رغم
أنه "صديق" كما كان يدعي لسورية، الدولة الجارة.
أقام
علاقات مع عالمنا العربي حتى يحصل على شعبية كبيرة وليستغل هذه الشعبية في
تمرير المؤامرة الاميركية، وخاصة مؤامرة تفتيت العالم العربي.
هذه السياسة قد تكون "ناجحة" إلى حد ما بالنسبة له، ولكنها لها تداعياتها الخطيرة عليه مستقبلاً.
ستنقلب الطاولة على أردوغان
وكيف
ستنقلب الطاولة على أردوغان وحزبه ما دام قوياً، وفاز في الانتخابات
الأخيرة الى حد ما؟ والاجابة واضحة المعالم وهي ان في تركيا قوميات واثنيات
ومذاهب عديدة، فهو شجع الفتن في عالمنا العربي وقد تنقلب عليه قريباً..
وخاصة ان لديه العديد من المشاكل والقضايا العالقة، وفي مقدمتها القضية
الكردية، وحزب العمال الكردستاني الذي يطالب باستقلال الأكراد عن تركيا،
ودارت وتدور حروب بين الحزب والجيش، وان الجيش التركي "بطش" بهذا الحزب
ونكل به أبشع تنكيل تحت شعار محاربة هؤلاء "الارهابيين والمخربين"
المطالبين بالاستقلال.
وهناك
داخل تركيا الملايين من الشيعة والعلويين ويصل عددهم الى اكثر من 20
مليوناً، لذلك فإن أردوغان "يلعب بالنار" وقد تنعكس الأمور عليه، إذ يجب
ألا ننسى أنه مجاور لعدة دول قد تستطيع تقديم الدعم لحركة اصلاح داخل
تركيا، ولانتفاضة كردية، علوية، شيعية (سمها ما شئت) إذا أرادت ذلك، أي
ادخال تركيا في صراع داخلي مرير جداً.
ويجب
أن يتذكر اردوغان أن الاكراد في جنوب شرق تركيا يتربصون به، وكذلك ايران
ستقف الى جانب سورية، وسورية مستقبلاً لن تمر مر الكرام على هذا الموقف
المخادع والخطير، ولذلك فان هذه القوى الثلاث قادرة على التأثير على
الاقتصاد التركي، وتوجيه ضربة قوية له إن أرادوا ذلك، وبالتالي يسقطون
اردوغان وحزبه الموالي للغرب، وخاصة لاميركا.
الشرق يتخلى عن تركيا
إذا
ظن أردوغان أنه يستطيع أن يضحك على الشرق، ويتاجر به، ويستغله من أجل
العودة الى احضان الغرب، فانه يكون مخطئاً، لان الشرق العربي أدار ظهره
لاردوغان، وباعه لان مواقفه بانت للجميع، وتأكد أنه يمالق اميركا لأبعد
الحدود.
الشرق باعه وتخلى عنه لانه بدلاً من ان يقف الى جانب أصدقائه، ساهم في دعم من يطعنهم، لا بل شارك بالفعل في طعنهم.
اردوغان
يعمل على افشال اسطول الحرية رقم 2 المتوجه الى قطاع غزة، حتى انه سيعمل
على سحب المشاركة التركية من هذه المشاركة أو في هذا الاسطول. وهذا يؤكد ان
مواقفه لم تكن مبدئية بقدر ما هي انتهازية وبشكل فاضح.
أردوغان
خسر الشرق بعد أن رحّب به، ولا شك أن الغرب لن يرحب به ولن يكافئه على
مواقفه المتخاذلة، لذلك فإن حزب أردوغان قد يدفع الثمن غالياً، وسيدرك انه
سلك طريقاً يقوده للدمار والانهيار وليس الى الانتصار.. وهذا ما ستؤكده
الأشهر أو السنوات القليلة القادمة.