لم يتنفس الشعب السوري نسيم الحرية منذُ عام 1949، حيث اجتاحت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية التي عصفت بالديمقراطية النسبية التي تمتع بها الشعب السوري في ظل الحكومات البرجوازية التي كان أبرز قادتها حكومة السيد صبري العسلي وحكومة السيد خالد العظم.
لقد كانت الشعوب العربية، تشعر بالغضب والألم من سلوك الحكام العرب، وتواطئهم مع الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، وتآمرهم المكشوف على الشعب الفلسطيني لإقامة كيان صهيوني في فلسطين، وكانت مسرحية الحرب التي خاضتها الجيوش العربية ضد العصابات الإرهابية الصهيونية في فلسطين، والتي كان يقود الجيوش السورية والعراقية والأردنية الملك عبد الله جد الملك حسين وقائد جيشه البريطاني الجنرال [ كلوب باشا] في القاطع الشمالي، فيما تولى الجيش المصري مسؤولية القاطع الجنوبي، وانتهت تلك الحرب بهزيمة الجيوش العربية أمام تلك العصابات التي لم تكن تمتلك جيشاً بالمعنى الصحيح!!.
أثارت خيانة الحكام العرب لقضية فلسطين، واندحار الجيوش العربية أمام قوات المنظمات الإرهابية الصهيونية، وقبول الحكام العرب بالهدنة المعقودة في [رودس] مع الكيان الصهيوني، وبالتالي القبول بتقسيم فلسطين كأمر واقع، ردة فعل واسعة اجتاحت العالم العربي، وسارت المظاهرات المنددة بالحكام العرب، وتخاذلهم، وانغمار معظمهم في المؤامرة الانكلو أمريكية، وخلق ذلك الوضع لدى الشعوب العربية يأساً شديداً من أولئك الحكام، وأصبحت لديهم القناعة من أن أي إصلاح للأوضاع العربية لا يمكن أن يكون دون زوال تلك الأنظمة، وأولئك الحكام .
واستغلت الإمبريالية الأمريكيةوالبريطانية تلك الظروف اكبر استغلال على الساحة السورية، نظراً لأهمية موقع سوريا الجغرافي بالنسبة لضمان أمن دولة إسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبريالية في قلب العالم العربي، فقد كان قيام نظام حكم وطني حقيقي في سوريا يشكل خطراً على إسرائيل.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإزاحة النفوذ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط، والاستئثار بها لوحدها نظراً لما تشكله هذه المنطقة من أهمية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، حيث يوجد اكبر خزان للنفط في العالم، فيما كانت الإمبريالية البريطانية تسعى جاهدة لإحكام سيطرتها على المنطقة، فقد سعت إلى قلب الحكومة السورية، وإقامة مشروع [الهلال الخصيب ] بزعامة العرش الهاشمي، وتحت هيمنتها.
لعب نوري السعيد دوراً كبيراً في تنفيذ المخطط البريطاني، لكن الإمبريالية الأمريكية كانت أسرع في تحركها، حيث دبرت انقلاب[حسني الزعيم] رئيس الأركان السوري، في 30 آذار/مارس 1949، واستطاع حسني الزعيم السيطرة على الأوضاع في سوريا، دون أن يلقى انقلابه أية مقاومة تذكر، مستغلاً عواطف الجماهير السورية الناقمة على الحكومة السابقة، بسبب دورها في نكبة فلسطين.
وطبيعي أن يستغل حسني الزعيم تلك النكبة ليظهر نفسه بمظهر الوطني الحريص على قضية فلسطين، لكن الحقيقة لا تعدو أن تكون انقلاباً أمريكياً، حيث اعترف الكاتب الأمريكي [ كوبلاند ] في كتابه [لعبة الأمم] بأن الانقلاب كان من صنع أمريكا قائلا:
{ كان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر [ميد] بإنشاء علاقات منتظمة مع[ حسني الزعيم]،الذي كان رئيساً لأركان الجيش السوري، ومن خلال هذه الصداقة أوحى [الميجر ميد] لحسني الزعيم بفكرة الانقلاب العسكري، حيث اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كل خطته، وإثبات كافة التفصيلات المعقدة }.
أحدث انقلاب حسني الزعيم قلقاً عميقاً لدى الدوائر البريطانية والعرش الهاشمي في العراق، وأسرع نوري السعيد إلى دمشق، يستكشف طبيعة الانقلاب، واختلى السعيد بحسني الزعيم، ونصحه بالعودة إلى واجباته العسكرية، وترك الأمور السياسية، وكان نوري السعيد أثناء زيارته لدمشق يلبس بزة عسكرية برتبة كبيرة في محاولة للتأثير على حسني الزعيم. . لكن بريطانيا لم تستسلم لما حدث في سوريا، ونشطت أجهزة مخابراتها في العمل لتدبير انقلاب عسكري معاكس .
ونجحت الجهود البريطانية بإحداث انقلاب جديد بقيادة اللواء [سامي الحناوي] في 14 آب/ أغسطس 1949، وقبل أن يمض على انقلاب حسني الزعيم ستة اشهر، وكان واضحا أن الانقلاب الجديد كان بإخراج بريطاني.تم لسامي الحناوي السيطرة على البلاد، وجرى إعدام حسني الزعيم، ورئيس وزرائه [محسن البرازي] بعد محاكمة لم تدم سوى ساعتين، مما أثار غضب الإمبرياليين الأمريكيين. لم يخفِ العرش الهاشمي، ونوري السعيد، فرحهما وسرورهما لنجاح انقلاب [سامي الحناوي]،وسارع سامي الحناوي إلى بغداد، وبصحبته الملحق العسكري العراقي [ عبد المطلب الأمين ]، واجتمع مع نوري السعيد وعبد الإله، ثم عاد في نفس اليوم إلى دمشق.
ولم تلبث حكومة بغداد أن أرسلت رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] إلى دمشق، لمناقشة موضوع إقامة اتحاد بين العراق وسوريا، لكن المشروع لم يكتب له النجاح، فقد أفلح الأمريكيون في إحداث انقلاب جديد في سوريا بقيادة العقيد[أديب الشيشكلي] في 19 كانون الأول/ ديسمبر، بالتعاون[ فوزي سلو]، وتم اعتقال سامي الحناوي، لكن أديب الشيشكلي لم يستلم الحكم بصورة رسمية، بل حكم من وراء الستار، وأعاد الحكم المدني للواجهة حتى تشرين الثاني من عام 1951، حيث قام بانقلابه الثاني وأقال الحكومة المدنية، وأعلن نفسه دكتاتوراً للبلاد.
وبقي الشيشكلي في الحكم حتى شباط/ فبراير 1954، عندما أسقطه انقلاب جديد بقيادة [فيصل الأتاسي] بمساعدة [غسان جديد]، حيث تحرك الجيش بدعم من الأحزاب السياسية التي ضاقت الأمرين على أيدي الدكتاتور الشيشكلي. واستمر حكم الدكتاتور أديب الشيشكلي حتى عام 1954،عندما وقع انقلاب عسكري جديد في 25 شباط/ فبراير 1954 بقيادة فيصل الأتاسي وغسان جديد ومجموعة من الضباط العسكريين وإقامة دكتاتورية عسكرية من جديد حيث شهدت شوارع دمشق المظاهرات الشعبية العارمة واشتباك المتظاهرون مع القوات الأمنية.
لكن الساحة السورية شهدت من جديد انقلاباً عسكرياً جديداً في 22 أيلول/ سبتمبر 1961، قاده [مأمون الكزبري] بالتعاون مع [النحلاوي] و[دهمان]، ومشاركة [حزب البعث] وجرى اقامة نظام ذي واجهة مدنية، وجرى تنصيب [شكري القوتلي] رئيساً للجمهورية، حيث شهدت سورياً نوعاً من الانفتاح نحو الديمقراطية، واستطاعت القوى الديمقراطية أن تستعيد أنفاسها، وتستعيد نشاطها وخاصة الحزب الشيوعي بزعامة [ خالد بكداش].
لكن حكومة القوتلي وقد راعها النشاط الشيوعي في البلاد من جهة، وتآمر حكومة نوري السعيد بالتعاون مع عبد الإله، على سوريا، ومحاولة ضمها إلى العراق، أو إقامة عرش لعبد الإله فيها، وجدت أن السبيل لإنقاذ الموقف هو اللجوء إلى الزعيم المصري عبد الناصر، وإقامة وحدة بين البلدين، وتم لهم ذلك حيث تم بعد مفاوضات سريعة الاتفاق على وحدة البلدين تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة.
لكن تلك الوحدة التي جاءت بصورة مستعجلة ما لبثت أن تحولت إلى هيمنة نظام عبد الناصر على الحكم في سوريا، وتصفية الحريات الديمقراطية، مما افقدها التأييد الشعبي، ومن ثم تحول إلى الرغبة في التخلص من حكم الضباط المصريين ومعتمدهم [عبد الحميد السراج]، وانتهى المطاف بالوحدة إلى وقوع انقلاب عسكري جديد في 28 آذار/ مارس عام 1962بقيادة الجنرال [ عبد الكريم زهر الدين] الذي أعاد الحكم الدستوري المدني للبلاد، وجرى فسخ الوحدة السورية المصرية، وتنفس الشعب السوري نسيم الحرية لفترة زمنية قصيرة حيث وقع انقلاب عسكري بعثي بقيادة [لؤي الأتاسي] في 8 آذار / مارس 1963 بعد شهر واحد فقط من قيام انقلاب عسكري بعثي في العراق في 8 شباط /فبراير، وقيام دكتاتورية عسكرية في البلاد.
وفي 23شباط/فبراير 1966، وقع انقلاب عسكري جديد قاده الجناح اليساري في حزب البعث بقيادة[صلاح جديد]و[ سليم حاطوم] ضد حكم الجناح اليمني بالحزب المتمثل بـ[أمين الحافظ]و[صلاح الدين البيطار]ومؤسس الحزب [ميشيل عفلق].لكن حكم الجناح اليساري للحزب لم يدم طويلاً حيث وقع انقلاب عسكري جديد قاده وزير الدفاع[حافظ الأسد] في 13 تشرين الثاني/ أكتوبر 1970 دعاه بالحركة التصحيحية في الحزب، وزج في السجون رفاق الحزب الذين اتهمهم باليسارية والتطرف، وأقام دكتاتورية فاشية في البلاد، وقمع كل القوى السياسية، واستخدم كل الوسائل القمعية لإخضاع الشعب لحكمه الفاشي، بما فيها الدبابات والمدرعات والمدفعية الثقيلة، كما جرى في مدن حمص وحماة وحلب، ولم يترك أي مجال للقوى السياسية الأخرى للنشاط، وسيطر على كل وسائل الإعلام وسخرها لإدامة حكمه.
واستمر حكم الدكتاتور حافظ الأسد حتى وفاته في 10 تموز/ يوليو عام 2000 بعد أن هيأ كل الظروف لتوريث ابنه بشار الحكم منذ وفاته حتى يومنا هذا.
ورغم أن بشار الأسد كان قد وعد الشعب السوري بإجراء إصلاحات سياسية في البلاد ، إلا انه لم ينفذ أي من وعوده، واستمر الحال على وضعه، بل تجاوزت دكتاتوريته القمعية دكتاتورية والده، وأخذ التناقض بين النظام ألبعثي الفاشي والشعب يأخذ أبعادا جديدة يوماً بعد يوم.
وجاءت انتفاضة الشعب التونسي الشجاع ضد حكم الدكتاتور [زين العابدين بن علي] التي استطاعت إسقاط النظام، وهروب الدكتاتور، وتبعتها انتفاضة الشعب المصري العظيم، والتي استطاعت إسقاط حكم حسني مبارك، لتزلزل أنظمة الطغاة في اليمن وليبيا، والتي توشك إسقاط نظام علي عبد الله صالح ونظام معمر القذافي، ولتعطي الأمل الكبير، والحافز القوي للشعب السوري المناضل للانتفاض ضد حكم الدكتاتور بشار الأسد، وإستعادة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي حرم منها لما يقرب من خمسين عاماً من بطش الأنظمة الدكتاتورية.
لقد هب الشعب السوري البطل وكسر حاجز الخوف واندفع في تظاهرات سلمية تطالب بالتغيير في دمشق، ثم ما لبثت إن امتدت إلى مدينة درعة البطلة، ومدينة صنمين واللاذقية وحماة وحمص، وغيرها من المناطق الأخرى.لكن نظام البعث الفاشي جابه المتظاهرين بالرصاص مما أدى إلى استشهاد العشرات من المواطنين المتظاهرين، مما أدى هذا السلوك من جانب السلطة إلى توسع واشتداد الانتفاضة ضد النظام.
لقد ارتعب نظام الدكتاتور بشار الأسد، وسارع يتوسل الشعب، واعداً إياه بإجراء إصلاحات عاجلة في البلاد، وطالباً من الشعب الكف عن التظاهر، لكن الشعب الذي خبر جيداً السلطة ومواعيدها الكاذبة استمر بالتظاهر، وأنقلب الحمل الوديع من جديد إلى جلاد يقتل الشباب السوري بالرصاص.يبدو أن النظام البعثي في سوريا لم يعي لغاية اليوم أن عاصفة الحرية التي هبت على العالم العربي ستكنس دون رجعة كل أنظمة الطغاة الفاسدة لتقيم البديل الديمقراطي، وتنشر الحرية والعدالة الاجتماعية، بعد هذا الحرمان الطويل للشعوب العربية.
إن أمام نظام بشار الأسد طريقان لا ثالث لهما، فإما الرضوخ لمطالب الشعب لتحقيق إصلاح حقيقي في البلاد، ينهي حكم الحزب الواحد، وسن دستور جديد للبلاد، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وفي المقدمة حرية الصحافة، والتنظيم الحزبي والنقابي، ومنظمات المجتمع المدني، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي، وانتخاب رئيس جديد للبلاد لمدة 4 أعوام، ولا يتجاوز دورتين انتخابية، وتلبية مطالب الشعب في تحقيق الحياة الكريمة، وفي ظل العدالة الاجتماعية.
أما الطريق الثاني فهو طريق الإصرار على إبقاء النظام الدكتاتوري الفاشي، والتصدي لانتفاضة الشعب بكل الوسائل القمعية التي ستفضي إلى هدر دماء غزيرة، وضحايا لا يمكن تحديد حجمها، لكن النتيجة الحتمية للصراع ستكون النهاية الدامية للدكتاتورية، وسيدفع النظام وأعوانه الثمن الذي سيتناسب مع عِظم الجريمة التي يقترفها النظام، وسينتصر الشعب السوري الشجاع في نهاية الأمر وسيحقق حلمه في العيش الكريم، في ظل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وسيرحل الطغاة، كل الطغاة، إلى مزبلة التاريخ ولعنة شعوبهم. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق