ايها الوحدك
قال صديقي وصديقي في مطلع الثلاثينات، ولم يعش من ايام العرب سوي الخيبة
قال
وهو يُشرق بدموعه، لم يسمحوا لنا ان نعلن حبنا له، الزعيم الوطني العربي
الوحيد كان حبه تهمة، وها هو يموت وحيدا في المستشفي الباريسي ، قال
صديقي انه مصاب بالهلع امام الصمت الرسمي العربي، الزعيم الوحيد الذي زار
عرفات، و/او حاول الاطمئنان عليه هو الرئيس الفرنسي جاك شيراك. هل صارت
فرنسا هي البلد العربي الوحيد؟ الا يخجل رؤساء العرب من هذا السكوت الذي
يشبه التواطؤ ؟
قال
صديقي، وهو ينظر الي البعيد انه يشمّ رائحة الجريمة، وانّ القائد التاريخي
للشعب الفلسطيني يتم اغتياله، وان العالم العربي، اي انظمة هذا الزمن
المنقلب لا تريد سوي الخلاص من هذا الاحراج الذي يسببه لها استعصاء ياسر
عرفات ورفضه الخضوع للمشروع الامريكي الاسرائيلي. قال، انتم كنتم تحبون عبد
الناصر وتعلنون حبكم ، اما نحن ففي زمننا صار حبّ عرفات تُهمة، لقد نجح
السفهاء والخونة في تحويل العرفاتية الي تُهمة، كانوا ينحنون للامريكيين
ويحاصرون المخيمات، وبتهمون الفدائيين بالخيانة. هذا هو العهر الذي اوصل
العالم العربي الي اسفل السافلين
قلت
لصديقي، لا لم أقل، لكني تذكرت حوارا جري بيني وبين احد المناضلين
الفلسطينيين القدامي. كان ذلك بعد توقيع اتفاق اوسلو، كنت معترضا علي
الاتفاق، مثل الكثيرين من الذين رأوا فيه تسرّعا، وعدم توازن، لكنني أصبت
بالهلع وانا استمع الي تُهمة الخيانة تُلقي جزافا. قلت انني لا استطيع ان
ابتلع هذه التهمة، لا لأنني اقدّس هذا القائد بل لأنني اعلم من اين اتي.
فالذي ساهم في صنع تجربة فتح ، والذي اعاد فلسطين الي الخريطة السياسية في
العالم لا يمكن ان يُتهم بالخيانة ، يمكن
الاختلاف معه حول الكثير من الامور، وحول تقدير الموقف، اما الخيانة فلن
تكون في فتح أو قي قائدها. ثمّ طرحت علي محدثي سؤالا: ماذا ستقولون حين
سيقود عرفات انتفاضة ثانية ؟ قال ان هذا مستحيل لا يستطيع احد ان يلعب مع
اسرائيل وامريكا . اردت ان اقول، لكنني لم اقل، كنت في ندوة ثقافية، وكان
ذلك قبل عودة ابي عمارالي الوطن، أخذني أحدهم جانبا، وسمعت انه قال بأنه
ذاهب كي يقاتل قي فلسطين وصدقته . حين رويت هذا للمناضل الفلسطيني القديم
نظر اليّ باشفاق، لا تزال تؤمن بكلام رجال فتح وتصدّق ؟
صدقت
لأنني اعرف هؤلاء الرجال، واعرف ان ياسر عرفات وصل الي حدود التماهي
المطلق مع قضية بلاده. رجل عاش كلّ حياته فدائيا، لم يعرف من ملذات الدنيا
سوي النضال، ولم يرث سوي مواكب الشهداء .
فتح
هي ابوعلي اياد وكمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وابو جهاد وابو
الهول وابو اياد، هذه الحركة جعلت من قائدها وارثا للشهداء ومكمّلا لهم،
وحمّلته عبء مسيرة تنؤ دونها الجبال.ياسر عرفات في سعيه الي السلام، اي الي
هدنة طويلة مع محتلّ مسلح بتوازن دولي مال في شكل مطلق لمصلحة الولايات
المتحدة، بعد سقوط جدار برلين، وبلا توازن اقليمي بسبب انحطاط النظام
العربي وانهياره السياسي والاخلاقي، استند الي حائطين:الحائط الاول هو
التمسك بموقف مبدئي لا يفرّط في ثلاث: الدولة المستقلة ذات السيادة التي
يجب ان تقوم علي جميع الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967. والقدس
كعاصمة لدولة فلسطين، وحقّ العودة، في وصفه حقا مبدئيا.الحائط الثاني هو
الثقة بالطاقة النضالية التي لا تنضب في الشعب الفلسطيني.وكانت الانتفاضة
الثانية، واعلن شعب صغير، يقف وحده، انه لن يستسلم. الوف الشهداء والاسري،
بيوت تُهدم وزيتون يُجرف، وقائد الشعب يسجن في المقاطعة ، في عملية بلطجة
شارونية لا سابق لها، امريكا تقرر عزل الرئيس العربي الوحيد المنتخب من
شعبه، وفلسطين تصمد مثل اسطورة. وعرفات لا ينحني للضغوط، يحمل اعوامه
وكهولته ويقف صامدا لا ينحني، لذا كان لا بد من قتله، وها هم يقتلونه
اليوم.ياسر عرفات في غيبوبة الموت التي تحوطها الغاز مرض خفي وغير مُعلن،
يقترب من الاستشهاد، يلامس الموت ويخوض في داخل عوالمه الغامضة معركته
الاخيرة.عرفات وحده، لم يجرؤ زعيم عربي علي الاتصال مستفسرا، او متضامنا.
فضحهم في حياته ويفضحهم في موته.لن نعرف سرّ هذا القتل الغامض الا بعد
اعوام طويلة، لكن ما نعرفه اليوم، هو ان القلوب في فلسطين والعالم العربي
والعالم، مع الختيار في يقظته وغيبوبته، معه في الصمود الكبير، كي يكون
استشهاد ياسر عرفات جدارا للموقف الوطني الذي جسده الرجل. ما يعرفه
الفلسطينيون والعرب هو ان استشهاد عرفات لن يكون اقلّ اثرا من حياته.
فلسطين
التي حلم بها، سوف تولد ولو بعد صراع مرير، لأن ارض الجبارين لن تستسلم،
ولأن صمود عرفات رسم الحدّ الفاصل بين الحلم الفلسطيني والكابوس الامريكي
الاسرائيلي. لم اجد اكثر من دموعي التي كادت تُشرق بي، كي اقول لصديقي
الثلاثيني، انني معه، لا ابكي عرفات ولا اقول له ايها الوحدك، فالذي يأسر
القلوب اليوم ليس وحده.
بل ابكي عالما عربيا ينسي نفسه حين ينسي فلسطين، ويفقد شرفه حين يحوّل الصمود العرفاتي تهمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق