الخميس، 26 نوفمبر 2015

تجاوُز إرهاب تنظيم "داعش" العراق وسوريا إلى فرنسا وأوروبا

 

بعد الهجمات المدمِّرة في باريس استنتج خبراء الإرهاب الفرنسيون أنَّ هناك تغييرًا جذريًا لا بد من أن يكون قد حدث في وعي الجهاديين، وذلك لأنهم باتوا قادرين على العمل في باريس تمامًا مثلما يعملون في سوريا أو في العراق. فهل غيَّر تنظيم "الدولة الإسلامية" استراتيجيته؟ الصحفية بيرغيت كاسبر تجيب لموقع قنطرة على هذا السؤال في تحليلها التالي.
أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند أنَّ بلاده في حالة حرب ضدَّ تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي نصَّب نفسه بنفسة كدولة. ومن جانبة قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس إنَّ الهجمات التي وقعت في باريس يوم الجمعة 13 / 11 / 2015 وراح ضحيتها مائة وتسعة وعشرون شخصًا على الأقل، قد تم التخطيط لها وتنظيمها بشكل رئيسي في سوريا.
وعلاوة على ذلك فإنَّ الفرنسيين يفترضون أنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" قد خطَّط للقيام بهجمات إرهابية أخرى - ليس في فرنسا وحدها، بل حتى في دول أوروبية أخرى. وبدورها ردَّت القوَّات الجوية الفرنسية بغارات استهدفت مواقعًا يُفترض أنَّها مراكز قيادية ومعسكر تدريب لمتطرِّفي "داعش" في محافظة الرقة السورية الشمالية.
وعلى الأرجح أنَّ مثل سيناريو الحرب هذا يحظى بالترحيب لدى منظِّري تنظيم "الدولة الإسلامية" والمتعاطفين معه. وهذا هو المنطق الذي يريدون نشره ويعملون ضمنه. والفرنسيون، الذين يتظاهرون هذه الأيَّام في شوارع باريس وتولوز وليون، يرفضون هذا المنطق حتى الآن، وكذلك يقاومه المثقَّفون الفرنسيون أيضًا.
حذَّر أستاذ العلوم السياسية في جامعة "ساينس بو" في باريس المختص في شؤون الإسلام، جيل كيبيل، من أنَّنا لسنا في وضع مناسب لمنطق الحرب التقليدية. وقال إنَّ "ما حدث في باريس هو إسقاط (بمعنى ارتسام) لسيناريو الحرب على الأراضي الفرنسية. لوهلة وجيزة حتى الآن نقلوا إلى باريس حالة الحرب، التي نشاهدها في لبنان وفي سوريا وفي مناطق أخرى - وهذا يعني أشخاصًا يفجرون أنفسهم وشبابًا يحملون بنادق الكلاشنيكوف".
ارتباط وثيق بساحة الحرب في الشرق الأوسط
الأوروبيون كان لديهم حتى الآن - على الرغم من وقوع بعض الهجمات والموجة الهائلة من اللاجئين القادمين من سوريا والعراق - شعورٌ بأنَّ ما يحدث في الشرق الأوسط بعيد جدًا عنهم. بيد أنَّ هذا تغيَّر فجأة منذ يوم الجمعة 13 / 11 / 2015.
إذ إنَّ أوروبا باتت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بساحة الحرب في الشرق الأوسط، مثلما يرى الخبير الفرنسي جيل كيبيل، خاصة من خلال عودة الجهاديين الأوروبيين إلى أوروبا.
يقول جيل كيبيل: "هذه ظاهرة جديدة، ظاهرة ’جان بيير وعبد الله دوبون‘، (جهادييون) يذهبون إلى سوريا من أجل تفجير أنفسهم هناك أو من أجل العودة والقيام باعتداءات على الأراضي الفرنسية".

جيل كيبيل. Foto: Joel Saget/AFP/Getty Images
نوعية جديدة من الإرهاب - حذَّر أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس المختص في شؤون الإسلام، جيل كيبيل، من أنَّنا لسنا في وضع مناسب لمنطق الحرب التقليدية. وقال إنَّ "ما حدث في باريس هو إسقاط (بمعنى ارتسام) لسيناريو الحرب على الأراضي الفرنسية. لوهلة وجيزة حتى الآن نقلوا إلى باريس حالة الحرب، التي نشاهدها في لبنان وفي سوريا وفي مناطق أخرى".
لقد كان قاضي مكافحة الإرهاب الباريسي السابق مارك تريفيديك على اتِّصال مباشر مع بعض من هؤلاء العائدين. وقد حذَّر بالفعل في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2015 من حمام دم فظيع. وقال إنَّ "الأشخاص الذين كانوا على استعداد للإدلاء بما لديهم، قالوا لنا إنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" ينوي مهاجمتنا بانتظام وبقوة". وأضاف أنَّ رجال "داعش" يمتلكون الوسائل لذلك: المال والقدرة على تزويد أنفسهم بالكمية التي يريدونها من الأسلحة وكذلك القدرة على تنظيم هجمات واسعة النطاق.
وهجمات باريس الدموية تظهر من عدة نواحي حسمًا للأمر وإصرارًا على تنفيذه: فالمهاجمون كانوا بحسب شهود العيان على قدر مخيف ومهني من برودة الدم، حيث كشفت التحقيقات حتى الآن عن أنَّ هذه عملية مخططة مركزيًا تهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من الناس - بصرف النظر عن دينهم أو أصولهم. وهذا يمثِّل نوعية جديدة، مثلما يؤكِّد جيل كيبيل. وذلك لأنَّ الجهاديين على الأراضي الفرنسية كانوا يختارون ضحاياهم حتى ذلك الحين بحسب معايير واضحة.
وبحسب تلك المعايير كانت توجد - مثلما يقول جيل كيبيل - ثلاثة أهداف رئيسية، حدَّدها المنظِّر الإيديولوجي للجهاد الحديث أبو مصعب السوري في عمل ضخم: المثقَّفون العلمانيون الذين ينتقدون الإسلام واليهود بالإضافة إلى المعروفين باسم المرتدين، أي المسلمين السيئين. يستنتج جيل كيبيل: "في فكر هؤلاء الجهاديين السلفيين المتطرِّفين لم يعد يوجد اليوم لا مسيحيون ولا يهود، ولا مسلمون مختلفون. بل صار يوجد فقط أعضاء طائفتهم. وعندما لا يكون المرء متطرِّفًا مثلهم بالذات، فعندئذ يتم تقديمه للقتل".
يتحدَّث العديد من الخبراء في شؤون الإسلام والإرهاب حول تغيير استراتيجي في تنظيم "الدولة الإسلامية". لفترة طويلة ركَّز تنطيم "الدولة الإسلامية" على تحقيق مكاسب إقليمية في سوريا والعراق أو توطيد هذه المكاسب. وعلى العكس ممن باتوا الآن منافسين، أي إرهابيي تنظيم القاعدة - التنظيم الذي خرج منه تنظيم "الدولة الإسلامية" كفرع أكثر تطرُّفًا في العراق - فإنَّ وجود أراضيها والإدارة شبه الحكومية يعتبر أمرًا ضروريًا من أجل إضفاء طابع الشرعية على هذه الخلافة التي نصَّبت نفسها بنفسها.

عناصر من تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق. Foto: picture-alliance/AP
محاصر في وضع صعب - لقد وقع تنظيم "الدولة الإسلامية" عسكريًا في الأسابيع الماضية تحت المزيد من الضغط: من ناحية من قبل القوَّات الروسية وحزب الله الشيعي المُتشدِّد، وكلاهما يقاتل إلى جانب قوَّات الرئيس السوري بشار الأسد، ومن ناحية أخرى من خلال غارات القوَّات الجوية الفرنسية.
ردّ على الضغط العسكري؟
إنَّ حقيقة التصعيد الحالي في تصدير "الحرب المقدسة" وأعمال العنف الوحشية يمكن أن تكون لها علاقة بأنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" قد وقع عسكريًا في الأسابيع الماضية تحت المزيد من الضغط. من ناحية من قبل القوَّات الروسية وحزب الله الشيعي المتشدِّد، وكلاهما يقاتل إلى جانب قوَّات الرئيس السوري بشار الأسد، ومن ناحية أخرى بدأت القوَّات الجوية الفرنسية علاوة على ذلك في شهر أيلول/سبتمبر 2015 وكجزء من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" بقصف أهداف لتنظيم "داعش". ولذلك يمكننا النظر إلى الهجمات الأخيرة التي استهدفت الطائرة الروسية المستأجرة فوق سيناء وكذلك معقلاً من معاقل حزب الله الشيعي في ضاحية بيروت الجنوبية والآن الهجمات في باريس، كردّ على هذا الضغط العسكري.
وحول الدوافع الكامنة خلف هذه الهجمات لا توجد حتى الآن سوى تكهُّنات: فقد تكون هناك "حملة عقابية" كجزء من هذه الهجمات. ولكن يمكن أن يتعلَّق الأمر بتلميع الصورة المشوَّهة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي كان في السابق مكللاً بالنصر، في نظر المتعاطفين معه والمجندين المحتملين.
وإذا جاز تصديق أقوال جاسوس سابق كان يتجسَّس على تنظيم "الدولة الإسلامية"، فإنَّ هذا التظيم بات بعدما مُني ببعض الخسائر الكبيرة في حاجة حاليًا إلى مجنَّدين جدد. فبينما كان يصل في فترات ذروة معيَّنة عدد المتطوِّعين الأجانب يوميًا إلى ثلاثة آلاف مقاتل، أصبح عددهم اليوم من خمسين إلى ستين متطوِّعًا فقط، مثلما يقول هذا الرجل الذي يُطلق عليه صحفي صحيفة "ديلي بيست" الأمريكية مايكل فايس اسم "أبو خالد".
ونظرًا إلى المجنَّدين الأجانب فقد حدث بالإضافة إلى ذلك تغيير استراتيجي، مثلما يقول "أبو خالد". ويضيف أنَّ قيادة تنظيم "الدولة الإسلامية" تريد الآن تشجيع المتعاطفين مع هذا التنظيم في الغرب على البقاء في أوطانهم والقيام بعمليات عنيفة هناك. وكذلك لقد تم تكليف جهاديين غربيين آخرين بالمهمة نفسها وإعادتهم إلى أوطانهم، بعد أن تم بالفعل تدريبهم في سوريا وإخضاعهم لغسل أدمغتهم.
أوروبا مُستهدَفة أكثر من الولايات المتَّحدة الأمريكية
وقبل فترة غير بعيدة صنَّف السياسيون الفرنسيون هؤلاء العائدين من سوريا على أنَّهم يشكِّلون واحدًا من أكبر المخاطر المحتملة. وبالإضافة إلى ذلك يجب علينا ألاَّ ننسى أنَّ أوروبا تعتبر على أية حال بالنسبة للجيل الجديد من الجهاديين "هدفًا سهلاً" في الغرب ومفضَّلاً.

ماتيو جيدير.  Foto: AFP
يقول الخبير الفرنسي المختص في شؤون الإرهاب، ماتيو جيدير: "لقد حدث تغير جذري في وعي الإرهابيين، وباتوا قادرين على العمل في باريس تمامًا مثلما يعملون في سوريا أو في العراق".
ومن وجهة نظر منظِّر الجهاديين الإيديولوجي أبو مصعب السوري ينبغي القيام بهجمات عنيفة في أوروبا أكثر من الولايات المتَّحدة الأمريكية، مثلما يقول جيل كيبيل. ويضيف أنَّ هدفهم هو إحداث انقسام في الشعب وإثارة ردود فعل شديدة ضدَّ المسلمين. وحسابهم هو أنَّ يشعر المسلمون المُهاجَمون في بلدانهم بالخوف، ليتبنُّوا رؤية الجهاديين المتطرِّفة ويقدِّموا الدعم لهم. وبحسب نظرية الجهاديين من الممكن في أحسن الأحوال أن تكون نتيجة ذلك سيناريوهات تشبه الحرب الأهلية.
غير أنَّ الناس في باريس بعيدون كلَّ البعد عن هذا الحساب، وذلك بفضل ردود الفعل الرزينة من قبل العديد من السياسيين الفرنسيين، وأيضًا وقبل كلِّ شيء بفضل المواطنين الفرنسييين العقلاء. من الممكن حتى أن يكون تنظيم "داعش" قد تجاوز هدفه المنشود من خلال عنفه المُتعِّطش للدماء في باريس. وعلى العكس مما كانت عليه الحال بعد الهجمات على صحيفة "شارلي إيبدو" والمتجر اليهودي في شهر كانون الثاني/يناير 2015، لم يكن يوجد هذه المرة في مواقع التواصل الاجتماعية المعروفة سوى قدر قليل جدًا من الاستحسان في فرنسا، مثلما يلاحظ جيل كيبيل:
"لقد وجدنا القليل جدًا من إعلانات الثناء على الجناة ومدحهم. وعلى الأرجح أنَّ سبب ذلك يعود إلى كون هذه الاعتداءات قد تم تنفيذها بأسلوب أعمى. وهذه الهجمات وصلت إلى مستوًى جديد. وكذلك لقد تم للمرة الأولى في فرنسا استخدام الانتحاريين. وكلُّ هذا أدَّى إلى نوع من إحياء الوحدة الوطنية".
بيد أنَّ هجمات باريس أظهرت أيضًا أنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" قادر على القيام بهجوم مُنَسَّق تنسيقًا جيدًا ومُدمِّر في عدة مواقع وفي الوقت نفسه، وقد تم تنفيذه من قبل عدد من الخلايا - وهذا على بعد آلاف الكيلومترات من الخلافة التي نصَّبت نفسها بنفسها.
لا بد أنَّ الاستعدادات لهذا العمل كانت طويلة والتدريبات مكثَّفة. وبالنسبة للخبير الفرنسي المختص في شؤون الإرهاب في جامعة تولوز الفرنسية، ماتيو جيدير، فقد تم بهذا العمل تجاوز الحدود النفسية. يقول ماثيو جيدير: "لقد حدث تغير جذري في وعي الإرهابيين، وباتوا قادرين على العمل في باريس تمامًا مثلما يعملون في سوريا أو في العراق".
 

ليست هناك تعليقات: