الخميس، 12 نوفمبر 2015

 

بقلم: إسماعيل مهر
القدس الآن – يصر نتنياهو من على كل منبر إعلامي على وصف ادعاءات الفلسطينيين بأن إسرائيل تقوم بتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى على طريق تقسيمه زمانيًا ومكانيًا، بأنها محض كذب وافتراء هدفها التحريض والتأليب، ويؤكد أن حكومته ملتزمة بالحفاظ على الوضع القائم المتفق علية مع الأردن منذ احتلال القدس سنة 67، والذي يمنح صلاحية إدارة المسجد الأقصى للأوقاف الأردنية، ويمنع صلاة اليهود داخل باحاته.
الحكومات الاسرائيلية لا زالت لم تسمح رسميًا لليهود بالصلاة في باحات الحرم، لكن ذلك لا يعني انها تحافظ على ما يسمى بالوضع القائم، وكنا كتبنا سابقا أن الوضع القائم هو وضع متحرك على مستوى مدينة القدس والمسجد الأقصى، والموقف الذي تنتهجه الحكومة تجاه المسجد الأقصى أشبه بموقفها من الدولة الفلسطينية أو من الاستيطان، أي فرض الأمر الواقع عمليًا.
المتتبع لعلاقة الصهيونية والحاخامية اليهودية بالمسجد الأقصى عبر التاريخ الحديث سيصل قطعًا إلى ان تغيرات كبيرة حدثت على الموقف الاسرائيلي من المسجد الأقصى على المستوى الديني والسياسي والايديولوجي الصهيوني والشعبي، ودراسة هذه التغيرات، فضلًا عن الممارسات اليومية (الاقتحامات والاستفزازات) لا تبقي أي مجال للتشكيك في صحة الاتهامات الفلسطينية.
منذ ما قبل نشأة الحركة الصهيونية كمنظمة سياسية؛ ربطت الحاخامية اليهودية صلاتها وقبلتها وخلاصها بمدينة القدس وهبوط الهيكل الثالث من السماء عندما يأذن الرب بخلاص اليهود، واستغلت الحركة الصهيونية ارتباط اليهود الديني بمدينة القدس لتتخذ من اسم أحد جبال المدينة (جبل صهيون) اسمًا لها، وهي حركة علمانية لم تكن تهتم بالمكانة الدينية للمدينة أو ما يسمى “جبل الهيكل” إلا من زاوية التوظيف الانتهازي، وهرتزل الأب المؤسس للحركة الصهيونية لم يتطرق في كتابة “دولة اليهود” لا من بعيد ولا من قريب لبناء الهيكل أو مزاحمة المسلمين على المسجد الأقصى.
كما ان جميع كبار مراجعهم الدينية بمختلف طوائفهم وتياراتهم السياسية حرموا، ليس فقط الصلاة في باحات الأقصى، بل وزيارة المكان؛ على اعتبار انه من أقدس الأقداس، وكل زيارة لليهود له قبل الخلاص تعتبر تدنيسًا يستحق مرتكبها عقاب السماء، ومن بين تلك المراجع المرجع الديني الأهم للصهيونية الدينية، الحاخام كوك وابنه. وعندما زار الأثرياء اليهود (روتشيلد ومونتفيوري) مدينة القدس وتجولا في باحات الأقصى برفقة القنصل البريطاني في العهد العثماني، احتج يهود فلسطين على خرقهم للحظر الديني وقاطعوا الاجتماع مع مونتفيوري، كما ان هرتزل امتنع عن زيارة باحات الأقصى عندما زار القدس سنة 1898.
وفي التاسع من يونيو 67 عندما احتلت المدينة سارع ديان للإعلان ليهود العالم ان “جبل الهيكل بأيدينا”، وقام الحاخام الأكبر لإسرائيل شموئيل غورين بالتجول في باحات الأقصى، ويصف ذلك الحاخام مناحيم هكوهين، الذي كان مساعدًا لغورين، ان الأمر تم بدوافع الاحتلال والشعور بالقوة، ورفع العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة، لكن ديان في الأسبوع التالي أمر بإنزاله وقال “لماذا احتاج الى دولة الفاتيكان هذه”، ولأسباب سياسية ودولية توصلت إسرائيل إلى تفاهم سمى بالمحافظة على الوضع القائم، وتم – كما يقال – إعادة مفاتيح الأقصى للأوقاف الاردنية التي استمرت بحسب التفاهم بالاحتفاظ بصلاحياتها في إدارة الأقصى والأوقاف الإسلامية في المدينة المقدسة، وفي فتح باحات الأقصى للزيارة السياحية مرتين يوميًا.
الصهيونية العلمانية – سواء العمالية أو صهيونية جابوتنسكي التنقيحية، والتي شكلت التيار المركزي الأكبر في تاريخ دولة إسرائيل حتى نهاية القرن الماضي – لم تنشغل أو تهتم بتغيير مكانة الأقصى، لكن الصهيونية الدينية التي مثلها سابقا “المفدال” واليوم حزب “البيت اليهودي”، وهي الممثل السياسي والحاضن الأيديولوجي للمستوطنين، أولت منذ احتلال الـ 67 اهتمامًا خاصًا بتغيير مكانة الأقصى، وقد نجحت في تقسيم المسجد الابراهيمي في الخليل.
قبل عقود كان ينظر لأمثال غرشون سلمون، رئيس منظمة أمناء جبل الهيكل، ومنظمات أخرى تشترك معه في هدف بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى؛ على أنهم مجموعة أذية ومجرد أعشاب ضارة، ويقول سلمون للقناة العاشرة “البذور التي زرعناها منذ 47 عامًا نمت ونجحت، وهي تنتشر اليوم، وأتباعنا لم يعودوا أقلية”.
الزعيم السياسي الأهم الذي أعطي الضوء الأخضر لحجيج اليهود الى الحرم القدسي، ونقل الفكرة من أوساط الصهيونية الدينية الى عموم أتباع اليمين الصهيوني، الذي يشكل اليوم التيار المركزي داخل إسرائيل؛ كان أريئيل شارون عندما قام باقتحام المسجد الأقصى في سبتمبر 2000، بهدف استفزاز الفلسطينيين واستقطاب جمهور اليمين. صحيح ان شارون الذي اقتحم الأقصى كان من أولى قراراته بعد ان شكل حكومته الأولى ان منع أعضاء الكنيست من اقتحام الأقصى؛ لكن اقتحامه للأقصى شكل مرحلة فارقة جديدة لدى اليهود ولدى سياسيي اليمين، لا سيما من أوساط “الليكود”، تجاه تحول حق اليهود في الصلاة واقتحام الاقصى الى إجماع وإلى شعار انتخابي مهم، فبدأت تتشكل مجموعات الضغط داخل الأحزاب، ورويدًا رويدًا بات اقتحام الأقصى يسيطر على توجهات وخطاب مجموعة واسعة ومرموقة من السياسيين داخل الكنيست وداخل الحكومة ومن رجال الإعلام. وتحرك العنصر الديني بموازاة العنصر السياسي، فأصدر خمسة وثلاثون حاخامًا ينتمون للصهيونية الدينية فتوى توجب على اليهود الصلاة في باحات الأقصى.
وتشهد الكنيست منذ سنوات نشاطًا محمومًا له علاقة بمحاولات تشريع قوانين لتغيير الوضع القائم بما يتيح لليهود تقاسم الأقصى زمانيًا ومكانيًا، وفي لجنة داخلية الكنيست التي كانت ترأسها ريغيف، وهي اليوم وزيرة الرياضة، عقدت عشرات الجلسات لمناقشة الأمر، حتى انهم في اللجنة ناقشوا لوائح تنظيم الصلاة وتقاسم الصلاحيات والوظائف.
يشكل اليوم “حق اليهود” الصلاة في باحات الأقصى إجماعًا إسرائيليًا، حتى ان زهافا غالؤون رئيسة الحزب اليساري الحمائمي “ميرتس” تعترف بهذا الحق، لكنها تستدرك ان هذا ليس الوقت المناسب لتحقيقه.
محكمة العدل العليا الإسرائيلية قررت في ردها على التماس بالسماح بالصلاة في باحات الحرم، ان من حق كل يهودي الصلاة في باحات الحرم، لكنها اعتبرت ان الجهات الأمنية هي صاحبة الحق في السماح أو المنع، ارتباطًا بالتقديرات الأمنية الخاصة بها.
أمام اندفاع مجموعات يهودية كبيرة لزيارة الحرم والصلاة فيه، وربما لأن أفراد وضباط الشرطة باتوا من المؤمنين بهذا الحق؛ فإن الشرطة تبدى الكثير من التساهل، بل وتغض النظر عندما يقوم اليهود بخرق الوضع القائم عبر الصلاة والقيام بالحركات الاستفزازية.
في استطلاع علني للقناة العاشرة بين أعضاء الكنيست الليكوديين؛ أكثر من ثلثهم أعلنوا تأييدهم تمكين اليهود من الحجيج الى الأقصى الذي يعتبرونه “جبل الهيكل”، فما كان في السابق تفكيرًا هاذيًا لقلة منبوذة بات اليوم يشكل إجماعًا كبيرًا لا يمكن تجاوزه من قبل أي من قادة “الليكود”.
ما يحدث اليوم في إسرائيل تجاه تغيير الوضع القائم الخاص بمدينة القدس والمقدسات الاسلامية أشبه بتسونامي تشدد يميني ديني أخروي كبير جدًا، والتغيير الرسمي الذي سيشرعن ويمنح الغطاء للتغيير الحاصل على الأرض مرتبط بالعامل الزمني وبردة الفعل الفلسطينية، ومع ذلك لا زال حاخاميو الأصولية الدينية الحريدية يحظرون زيارة الأقصى ويعتبرونها تدنيسًا للمكان يوجب العقاب الالهي ويحذرون من عواقبها السياسية، وهم في ذلك يشاركون جهاز “الشباك” تحذيراته من مخاطر تغيير الوضع القائم في الحرم.
أطلس للدراسات

ليست هناك تعليقات: