خاص: بانوراما الشرق الأوسط
أحمد الشرقاوي
**************************
عمليــة مدبــرة بليــل..
لا تجرح الدب إذا كنت غير قادر على قتله.. هذه حكمة روسية قديمة تنطبق حرفيا على تركيا، الدولة الإقليمية الكبيرة التي لا يمكن بحال من الأحوال تصور أنها في مستوى مواجهة دولة عظمى كروسيا لمجرد أن الأخيرة اخترقت مجالها الجوي على افتراض صحة ادعاء أنقرة..
هذا علما أن روسيا ليست دولة عدوة لتركيا، والطائرة التي تم إسقاطها لم تكن تهدد الأراضي التركية بحال من الأحوال، بل كانت تضرب المجاميع الإرهابية فوق التراب السوري، وتركيا عضو في التحالف الأمريكي لمحاربة الإرهاب، وبالتالي، مواجهة من يحارب الإرهاب في سورية هو دعم للإرهاب، الأمر الذي ينزع عن العملية التركية مبرر حق “الدفاع عن النفس” الذي قال به الرئيس أوباما، بسبب إنتفاء نية العمل العدائي أصلا..
والغريب في الأمر، أن العميل أردوغان، سبق وأن هدد قبل فترة بضرب أي طائرة تقترب من الحدود التركية خمسة كيلوميترات، بمعنى، أنه وضدا في المفاهيم والقوانين الدولية والأعراف العسكرية للسيادة، وضعت تركيا لنفسها خطوطا حمراء ومنطقة حظر الطيران خارج حدودها وفرضتها على الدولة السورية بمنطق الزعرنة والعنجهية، لذلك تعتبر إسقاطها للطائرة الروسية على بعد كيلوميتر من الحدود التركية داخل الأراضي السورية خرقا لمجالها الجوي الوهمي..
تركيا طبقت هذه الخطوط الحمراء في سورية والعراق أيضا، وكانت تقصف الأكراد الذين تعتبرهم تنظيمات إرهابية، لكن الأمر اختلف بدخول الروسي الحرب على الإرهاب في سورية، وبالتالي، هذا يعني بالواضح الفاضح، أن تركيا ما كانت لتقدم على عمل تصعيدي خطير من هذا النوع دون ضوء أخطر أمريكي ودعم ضمني من حلف الناتو.
وقد بلغ العهر السياسي بأردوغان مبلغه حين أعلن بعد إسقاط الطائرة الروسية في تحدي سافر لروسيا، أن بلاده ستقيم قريبا منطقة عازلة في سورية من جرابلس إلى شواطئ المتوسط غربا بمساعدة حلفاء كما قال دون أن يسميهم، في إشارة إلى واشنطن التي وافقت مؤخرا على المنطقة العازلة، ويسعى رئيس الوزراء البريطاني لنيل موافقة البلمان البريطاني لتوريط بلاده في هذا المشروع الإنتحاري.
ومهما يكن من أمر، فمن الواضح أن العملية العسكرية التركية كانت مدبرة ومبيتة ومخطط لها.. هذا ما استنتجته القيادة العسكرية الروسية، بدليل، أن الطائرات التركية (إف 16) كانتا في الجو تنتظران قدوم الطائرة الروسية وتتربصان بها، وعلى مسافة منهما كانت بضع طائرات أمريكية تحلق في الجو وتراقب، وتم قصف (السو 24) بصاروخ جو – جو على مسافة كيلومتر واحد من الحدود التركية في ظرف لا يتجاوز 5 دقائق، فسقطت الطائرة داخل الأراضي السورية بمسافة 4 كيلومترات، فيما قفز الطياران بالمظلة، أحدهما قتله التكرمان بالرصاص خلال الهبوط والثاني لا يزال مصيره مجهولا..
هذه هي الرواية الرسمية الروسية المدعومة بصور الأقمار الصناعية التي تثبت أنه لم يكن هناك خرق جوي ولا من يحزنون، وكل ما تقوله تركيا خلاف ذلك هو محض هراء.
فــي الخلفيـــات..
الجميع يعرف أن تركيا دولة وظيفية تنفذ تعليمات أسيادها في واشنطن، ويستحيل أن تغامر بقرار انفرادي يترتب عليه حكما جر أرجل حلف الناتو لحرب يهابها مع الدب الروسي لما لها من تداعيات إقليمية ودولية خطيرة.
موسكو تدرك أن هذا العدوان جاء بمثابة رسالة أمريكية أطلسية مفادها، أن على روسيا التراجع عن مغامرتها العسكرية للحسم مع الإرهاب في سورية، وتعديل أجندتها لتقتصر على ضرب تنظيم “داعش” دون سواه من التنظيمات الإرهابية التي تسميها واشنطن “معارضة معتدلة”..
وقد كان لافتا إشارة تقارير استخباراتية وعسكرية أمريكية إلى أن موسكو في حال استمرت في سحق الإرهابيين بالوثيرة الحالية، فستحرق كل أوراق واشنطن في سورية ولن تبقى لها من ورقة تساوم بها سياسيا، لأن الموازين تغيرت والمعادلات تبدلت، وروسيا ماضية في دعم الموقع الجيوسياسي لسورية كمكون رئيس من مكونات محور روسيا – إيران – الصين.
كما أن إجتماع الرئيس بوتين بالإمام الخامنئي في طهران وتوافقهما على تمتين تحالفهما السياسي والعسكري والإقتصادي في مواجهة أمريكا.. وإعلان بوتين أن روسيا لا تطعن حلفائها من الخلف ولا تخون.. وأن القائدان متفقان على دعم وحدة الأراضي السورية.. وأن لا خلاف بينهما حول مصير الأسد الرئيس الشرعي المنتخب من قبل شعبه، ما بدد كل التكهنات التي كانت تدور حول خلاف مزعوم بين موسكو وطهران بشأن مصير ‘الأسد’.. وأن روسيا ما كانت لتدخل عسكريا في سورية لمحاربة الإرهاب لو لم يكن بتوافق تام وتنسيق كامل مع طهران، الأمر الذي أسقط مقولة أن هناك صراع نفوذ بين موسكو وطهران حول سورية.. وأن البلدان عازمان على تطوير علاقاتهما في كل المجالات وعلى رأسها الطاقة النظيفة التي يمثلها الغاز اليوم..
كل ذلك جعل واشنطن تفقد رشدها، لأنها لم تكن تتوقع أن تقدم إيران بعد الإتفاق النووي على هذا التحالف الإستراتيجي الكبير والخطير مع روسيا، الأمر الذي فهم على أنه مؤشر خطير لتغيرات جيوسياسية وجيواستراتيجية قادمة سواء في الشرق الأوسط أو منطقة آسيا على حساب النفود الأمريكي والتوسع الأطلسي..
ولعل أخطر ما تراه واشنطن في التحالف الجديد، هو سعي البلدين الذان يعتبران من أكبر منتجي ومصدري الغاز في العالم للتحكم في أسواق الطاقة المستقبلية النظيفة، وفي أسعار السوق باعتماد العملات المحلية بديلا عن الدولار في مرحلة أولى في انتظار طبع عملية جديدة للفضاء الأوراسي الجديد لوضع حد للعبة العقوبات الأمريكية الغبية على الدول الممانعة والرافضة لهيمنها الإمبريالية، ما يهدد النظام المالي الرأسمالي الليبرالي المتوحش الذي يتغذى منه الإقتصاد الأمريكي بالإنهيار في بضع سنين..
تركيا بدورها استشعرت الخطورة من تخلي موسكو على أنبوب غاز “ناباكو” الذي لن يمر من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا، بل عبر إيران والعراق وسورية، وهذه ضربة قاضية لقطر أيضا، ولسوق النفط الذي تتربع على عرشه اليوم “السعودية”.
فــي التداعيـــات..
الجميع يتساءل.. كيف سيكون شكل وأبعاد الرد الروسي على إسقاط الطائرة الروسية فوق التراب السوري.. وكثيرة هي التخمينات في هذا الباب، بعضها ذهب حد الحديث عن رد عسكري قاس ضد تركيا..
والحقيقة، أنه من الصعوبة بمكان تصور رد عسكري يكون بمثابة انتقام قد يجر المنطقة برمتها لحرب إقليمية طاحنة تتطور بسرعة لحرب عالمية ثالثة مدمرة.. هذا غير وارد، لأن بوتين لا يتصرف بالعاطفة، بل بعقلانية وحكمة، وله أوراق عديدة يمكنه باستعمالها لتدمير تركيا بذكاء..
نقول هذا، لأن تركيا لو كانت حسنة النية لاعتذرت وطالبت روسيا باجتماع عاجل لتنسيق المواقف ضد الإرهاب في سورية، خصوصا وأن موسكو منفتحة على التعاون والتنسيق مع كل من يرغب في محاربة الإرهاب في سورية، لكن تركيا بدل ذلك، سارعت لتقديم شكوى لمجلس الأمن عملا بمقولة (ضربني وبكى وسبقني واشتكى)، وطالبت باجتماع عاجل للحلف الأطلسي لمناقشة واقعة انتهاك روسيا لمجالها الجوي المزعوم كما تدعي زورا وبهتانا..
الأمر الذي يؤكد طابع المؤامرة ومحاولة جر روسيا لرد فعل عاطفي قد يفتح أبواب الجحيم الذي يحرق الجميع.. لذلك الرئيس بوتين سارع للقول، أنه لم يقل أنه سيرد عسكريا، وهذا يعني أن بيده أوراقا كثيرة سيفعلها من جهته وبالتنسيق مع حلفائه، ليس لمعاقبة تركيا، بل لتدميرها كي لا تقوم لها قائمة بعد تطاولها على موسكو، لكن كيف ذلك؟..
أول الغيث جاء من هيأة الأركان الروسية التي أعلنت رسميا عن قطع كل علاقاتها العسكرية مع تركيا، فلا حوار ولا تنسيق ولا من يحزنون.. وجاء في الإعلان أيضا، أن الأجواء السورية أصبحت مقفلة من اليوم، ووضعت إحدى بوارجها الحربية التي تحمل النسخة البحرية من منظومة صواريخ (إس 300) في حالة تأهب قصوى، مهددة بقصف أي طائرة – دون استثناء – تدخل المجال الجوي السوري من دون إذن من القيادة الروسية، وهذا التهديد لا يستثني أحدا بعد انهيار التنسيق العسكري في الأجواء السورية بفعل المغامرة التركية الطائشة.
ثم تقرر إلغاء زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف إلى أنقرة التي كانت مقررة الأربعاء، في إشارة إلى أن العلاقات الديبلوماسية بين البلدين هي في مرحلة المراجعة.
نائب رئيس الدوما الروسي، وبسبب الغضب الشديد الذي يشعر به النواب والشعب الروسي من الإهانة الروسية التي روج لها بعض الإعلام وكأن أردوغان نجح في تمريغ أنف بوتين في التراب وكسر هيبة روسيا، قال بصريح العبارة “إنها مؤامرة دبرت في واشنطن ونفذتها تركيا”، وتوعد أنقرة بعقوبات لا قبل لها بتحملها، تشمل كل العلاقات العسكرية والديبلوماسية والسياسية الإقتصادية والتجارية، ما يؤشر إلى سقوط نظرية أن العلاقات بين تركيا وروسيا محصنة، وأن الخلافات تحل بالحوار..
وهذا يعني، أن تركيا التي تعتمد على استيراد أكثر من 60% من الغاز من تركيا سيصاب إقتصادها بالشلل وأسواقها المالية بالإنهيار، ناهيك عن عشرات مليارات الدولارات من التبادل التجاري والمشاريع الإقتصادية، كما توجد أكثر من 1400 شركة تركية عاملة في روسيا، كما أن موسكو ستنهي كل مشاريعها المستقبلية مع أنقرة، وخصوصا بناء مفاعلات نووية واستثمارات صناعية كبرى تم التوافق بشأنها أثناء زيارة بوتين لتركا.
لكن أخطر رد سيتخذه الرئيس بوتين دون أدنى شك، هو إعلانه في الساعات وربما الأيام القليلة القادمة عن فتح تنسيقية رسمية للأكراد في موسكو، ما يعد اعترافا رسميا بكيانهم ودعما معنويا وسياسيا لمطالبهم المحقة..
مراقبون روس يتوقعون أيضا في الجانب العسكري، أن يدعم بوتين أكراد تركيا بالسلاح باعتبارهم مقاومة شعبية لا حركة إرهابية كما تقول تركيا، وهناك حديث عن سعي روسي حثيث لتوحيد الأكراد والعلوين في تركيا، وخصوصا في لواء الإسكندرون لإشعال حرب أهلية في الداخل التركي ليذيق أردوغان وبال ما صنعه في سورية، مع حمايتهم في الحدود السورية، باعتبار أن أكراد سورية هم امتاداد لحزب العمال التركي، وكذلك الأمر بالنسبة للعلوين.
هذه استراتيجية خطيرة ستصيب تركيا في مقتل، وتتطلب التنسيق والتعاون مع إيران التي تملك الكثير من الأوراق للعبها في هذا المجال، سواء في سورية أو العراق، لأن تركيا أصبحت عدوا يهدد روسيا ومحور المقاومة بسبب امتدادها الأطلسي وتحالفها السري مع “إسرائيل”..
وهذا يعني، أننا سنرى مفاجآت متسارعة ليس في الساحة التركية فحسب، بل واليمنية والمصرية وما لذلك من انعكاسات وتداعيات خطيرة على “السعودية” وقطر أيضا، لأن الدب المجروح لن ينتظر طويلا قبل المرور لتفعيل استراتيجياته التدميرية التي يتقنها ويعرف كيف يرد بشكب قاس ومدمر دون أن يطلق رصاصة واحدة..
وهذه هي قواعد لعبة الحروب بالوكالة، تماما كما أرادتها أمريكا أن تكون.. وبالتالي، أمام تركيا حل واحد فقط لا غير، وهو أن يقوم الجيش بانقلاب على حزب العادلة والتنمية ويستلم السلطة ويغير من سياسات الدولة الخارجية، غير ذلك، ستنتقل الحرب الأهلية بسرعة الضوء إلى الداخل التركي، فيفقد أردوغان حلمه الأوروبي بعد أن طالب الرئيس الفرنسي هولاند بغلق الحدود الأوروبية مع تركيا لمنع تدفق اللاجئين والإرهابيين، ويفقد في نفس الوقت عمقه المشرقي من البوابة السورية كما كان يتوهم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق