لندن - ميلاد-لابد من الاعتراف بأن الكتابة عن كتاب الصحافي الفلسطيني المقيم في لندن عبد الباري عطوان امر صعب.
بعض الصعوبة كائن في انك اذا كتبت بموضوعية انطباعاتك عن الكتاب الضخم
فهناك خشية الا تبدو موضوعيا بل منحازا الى نوع متميز من الاعمال فكرا
وكتابة.
في عمل عبد الباري عطوان المعرب عن الاصل الذي كتب بالانجليزية "وطن من
كلمات .. رحلة لاجىء من المخيم الى الصفحة الاولى" نوع من التميز الذي
ينعكس في قدرة الكاتب على ان يستحوذ على القارىء مقدما له جوا نادرا من
المتعة.
من وجوه تلك المتعة انها تقدم الى القارىء الحزن والأسى والمرارة مغلفة
بسخرية طيبة لا تتوفر الا لنفوس كبيرة قادرة على ان تسخر من الاخرين ومن
الذات قبلهم لكن في احترام كبير للذات وللآخر الذي تختلف عنه او تختلف معه.
عبد الباري عطوان في كتابته يعامل نفسه كالآخرين وبكثير من الصراحة وعدم
المحاباة ويعامل الآخرين كمن يعامل نفسه فهو دائما ذو عين تفتش عن وجهات
النظر الاخرى لتبرزها ولو كانت تتناقض مع وجهات نظره.
وهو دائما ذو قدرة كاريكاتيرية يسلطها على الذات وعلى الآخرين فتضحك حتى في
الحديث عن المؤلم لكنها على حدتها وشدتها تبقى غالبا بعيدة عن القسوة وعن
الظلم ومرتبطة بقضايا نبيلة.
في كتاب عطوان امور عن الذات منذ الطفولة وحديث عن ايام الفاقة والجوع ومن
ناحية اخرى تطل علينا السياسات العربية في شكل خاص والسياسيون ايضا بعمق في
الغور يتميز غالبا بقدرة على ان يأتي رقراقا كحديث من القلب الى القلب دون
وساطة بلاغية او اي تنميق مدعى. انه -وبصور ما- نوع من السهل الممتنع.
هذا السهل الممتنع يجمع سمات مختلفة اولها الكتابة الصحفية المميزة التي
تقدم الوضوح والبرهان وتبتعد عن التعقيد ومنها شعرية سيالة احيانا وقدرة
قصصية غير عادية دائما.
كتاب "وطن من كلمات .. رحلة لاجىء من المخيم الى الصفحة الاولى" يتناول
رحلة عبد الباري عطوان من بؤس المخيم في فلسطين وحياة الفقر والجوع الى
العمل في الاردن في مهن صعبة ودنيا الى الدراسة الجامعية بمنحة في القاهرة
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ثم الى العمل الصحافي في السعودية وصولا الى
الانتقال الى لندن في المجال الصحافي ايضا الى ان اصبح رئيسا لتحرير جريدة
"القدس العربي" في العاصمة البريطانية. وقد اكمل دراسته الجامعية في مجال
الصحافة في لندن.
الاحداث في المنطقة العربية والعالم سلطت الاضواء على الصحافي الشاب
لطلاقته وبلاغته وحيويته وسهره الدائم علي "حفظ الدرس" فلا يؤخذ بغتة. اصبح
دائم الحضور على الشاشات التلفزيونية الغربية الكبرى. وصارت شهرته عالمية
في شكل خاص عندما قابل اسامة بن لادن في تورا بورا.
ترجمة الكتاب عن الانجليزية جيدة الى درجة لا يشعر معها القارىء بأنه
مترجم. قام بالترجمة الناقد الادبي والصحافي حسام الدين محمد. والكتاب صدر
عن دار الساقي في 494 صفحة كبيرة القطع. اهدى عطوان كتابه الى "اطفال
المخيمات خاصة اولئك الذين يعيشون في مخيمات فلسطين والشتات".
في مقدمة الطبعة العربية قال عطوان انه كتب الكتاب بالانجليزية اصلا "خصوصا
ان مؤلفه يتحدث عن ذكرياته ورحلته الصحافية والمهنية في الدول العربية...
بهدف الوصول الى عشرات الملايين من الناطقين باللغة الانكليزية سواء كانوا
من الغربيين او من ملايين العرب والمسلمين الذين يقيمون في اوروبا وأمريكا
وأجزاء عديدة من العالم
"اردت ان اقدم الى هؤلاء جميعا تجربة انسان فلسطيني مشرد ينتمي الى القاع
العربي حيث نبتت بذرته وتعمقت جذوره. تجربة لاجىء استطاع ان يشق طريقه وسط
صخور المعاناة بصلابة وتحمل ومثابرة في عالم السياسة والصحافة والفكر
متجاوزا عقبات عديدة ومحاربا على اكثر من جبهة في مواجهة اعداء شرسين...
"هذا الانسان قاتل من اجل لقمة العيش اولا وقهر الفقر والتمييز ثانيا في
مواجهة اباطرة الكذب والتضليل من حكام عرب مضللين فاسدين قمعيين ولوبيات
يهودية اسرائيلية تفننت في اعمال التزوير ولي عنق الحقائق وبث الأكاذيب
والأباطيل."
اضاف "كان المخيم جمهورية افلاطون الفاضلة. العدالة فيه تتحقق بالمساواة
بين الجميع.. فالجميع فقراء يعيشون من معونات وكالة الغوث التابعة للامم
المتحدة... لقد جمعت بين الحسنين الفقر والانتماء الى اسرة ريفية الجذور
قبل النكبة.
"في هذا الكتاب تحدثت عن رحلتي مع العمل الشاق في مصنع او كسائق حافلة قمامة او مسجل لبزوغ نجم المقاومة.
تحدثت عن الانتقال الى قاهرة المعز والمرحلة الأهم والأخطر في تاريخها
مرحلة الانتقال من العهد الناصري القومي المواجه للاستعمار الى العهد
الساداتي المستسلم."
وتحت عنوان "مشينا على الاشواك" يقدم لنا صورة من صور حياة الفقر والعوز
وإن جاء بها مغلفة في جو رومانتيكي مؤثر. قال "في فلسطين فترة اربعين يوما
تبدأ من اواخر كانون الاول ديسمبر تكون الليالي فيها ثلجية باردة ولا يغامر
احد خلالها في الخروج من منزله. ذكرياتي الاولى يغمرها ذلك الظلام الشتوي.
"في مخيم دير البلح للاجئين في قطاع غزة كنا نحن الاطفال معتادين على
الجلوس على الارض متحلقين حول النار مقتربين بعضنا من بعض بحثا عن الدفء
فيما تضيء قطع الحطب المتوهجة وجوهنا وتسرد لنا امنا حكاياتها. كان سقفنا
مصنوعا من الاغصان والقضبان الخشبية وكانت حيطاننا من طين غير ان ذلك البيت
كان فاخرا بالمقارنة بالخيمة التي اعطتنا اياها الامم المتحدة."
مشهد اخر في القسم الاخير من الكتاب خلال زيارة اخيرة مع عائلته الى الوطن
بصفتهم مواطنين بريطانيين. خلال مرور سيارة التاكسي في اسدود التي تحولت
الى اشدود الان وتغيرت معالمها وهي منبت عائلة عبد الباري عطوان وفيها ولد
بعض اخوته توقف عند بقايا مقهى كان والده يتحدث عنه.
يقول "فيما كنا نعبر الشارع الرئيسي المغبر داخل اسدود شاهدت بناء مهدما
الى يساري بمواجهة كرم عنب. كانت هناك كتابات عربية مطبوعة بالأبيض على
الحيطان الحمراء المهدمة... كانت الكتابة تقول "مقهى غابين". لم استطع ان
اصدق عيني.. مقهى غابين.. كم مرة سمعت ابي يتحدث عن هذا المكان. ودخلت الى
اطلال المكان. كان مليئا بالاعشاب والزجاجات المكسرة وكان بعض العابرين قد
استخدموه مرحاضا.
"كانت اصوات الرجال لاتزال ترن بين الجدران.. ثرثرات تتبعها ضحكات وصوت
يرتفع منزعجا او محتجا فيما تقرقع فناجين القهوة ويتصاعد عطر الأراكيل."
مستوطن اسرائيلي مسلح برشاش سأله عما يفعل وقال له "انها خربة ومن الأفضل لك ان تخرج من اجل سلامتك الشخصية."
ورد عليه عطوان "اخوتي ولدوا في اسدود.. قرية فلسطينية. هذه قريتنا وآثار ابي واعمامي اراها هناك."
فرد المستوطن وقد بدت عليه العصبية والإحراج "هذا كان في الماضي." فعلق عطوان قائلا "لا.. انه المستقبل."
كتاب عبد الباري عطوان هو كتاب للقراءة الممتعة المؤثرة المحزنة والمضحكة
بمأساوية غريبة وبأمل كبير. انه كتاب يقرأ ويصعب ان يفيه اي عرض نقدي حقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق