لخّص محرر وكالة الأنباء الفلسطينية "معًا" مؤخرًا تصريحات قالها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في محادثة معه، بالإضافة إلى خطابه للشعب ألقاه في بيت لحم في الأسبوع الماضي.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس يلقي خطابا في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة في دورتها ال70 (AFP)حظيت بعض التصريحات التي قالها عباس وفقا لهذا الملخّص - مثلما حظي القول الذي بحسبه فإنّ السلطة الفلسطينية لن تنهار، ستختفي فقط عندما تقوم دولة فلسطينية - بتغطية إعلامية. في المقابل، لم تصل تصريحات أخرى قالها - بالإضافة إلى تصريحات قالها مؤخرًا جبريل الرجوب، عضو اللجنة المركزية في فتح - إلى آذان مستهلكي الإعلام الإسرائيلي والعالمي. وصلت إلى تلك الوسائل الإعلامية كمية محدودة من تصريحات الرجوب وعباس، والتي تحظى بعدم الانتقاد العلني.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس يلقي خطابا في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة في دورتها ال70 (AFP)
من يحاول أن يترك لدى الشعب الإسرائيلي انطباعا زائفا، والذي بحسبه يوجد في الجانب الفلسطيني شريك حقيقي للسلام، لا يعرف البنية التحتية للوعي الفلسطيني
فعلى سبيل المثال، قال عباس إنّ الحالة الأمنية في تل أبيب والقدس أصعب منها في غزة أو رام الله؛ لأنّ "الانتفاضة الشعبية ستستمر حتى إنهاء الاحتلال، ولن تكون هناك عودة إلى المفاوضات من دون الاعتراف بجميع حقوق الفلسطينيين"؛ لأنّ "التقدّم نحو التسوية يجب أن يتحقق من خلال التدخّل الدولي"؛ لأنّ "الانتفاضة كانت ستتم بسلام لو أن جنود الاحتلال لم يقتلوا المتظاهرين الفلسطينيين، ولكن الآن فهناك لكل عملية، لكل سكين ولكل إطلاق نار فلسطيني تفسير، والحكومة الإسرائيلية هي المسؤولة عن سفك الدماء في كلا الجانبين".
وفي تطرقه إلى دعوة بنيامين نتنياهو يهودَ فرنسا بالهجرة إلى إسرائيل قال عباس إنّه "يثق بالزمن وبالصراع الديمغرافي اللذين سيُسقطان النظرية الصهيونية".
وقد صرّح الرجوب، أنّ فتح تعتبر الـ 17 "شهيدا" الذين دُفنوا في الأول من كانون الثاني في الخليل (وهم مخرّبون تم تسليم جثثهم إلى الفلسطينيين) أبطالا، وتشجّع الشبان الفلسطينيين على المضيّ في طريقهم. وفقًا لكلامه، فقد طُرح هذا الموضوع للنقاش في اللجنة المركزية للحركة (التي يترأسها عباس)، وتقرّر تأييد هذه العمليات.
جبريل الرجوب (AFP)
جبريل الرجوب (AFP)
وبدلا من التقرير حول هذه التصريحات فقد حصل مستهلكو وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية على تقرير عن مخاوف المنظومة الأمنية من انهيار السلطة وعن إشارات تم الكشف عنها، والتي تدلّ على تغيير في تعامل عباس مع هجمات السكاكين والدهس، وهو تغيير تمثّل بكبح الشبان الفلسطينيين الذين كانوا في طريقهم إلى نقاط الاحتكاك وبزيادة الجهود الرامية إلى الحدّ من خطوات حماس.
ويجري الحديث عن عدم فهم موقف عباس، المستمر في تشجيع الإرهاب بطريقة أخرى غير الأسلحة النارية، والمستعد للتعاون بشكل محدود مع إسرائيل في الجهود الرامية إلى منع حماس تنفيذ عمليات إرهابية بأسلحة نارية. على أية حال، كانت هذه التقارير كافية كي تجعل نتنياهو يقرر، بأنّ علينا القيام بكل شيء لمنع انهيار السلطة.
شابان فلسطينيان يلقيان الحجارة في القدس الشرقية (Flash90)
شابان فلسطينيان يلقيان الحجارة في القدس الشرقية (Flash90)
ماذا يمكننا أن نتعلم من تصريحات عباس والرجوب؟ بداية، سواء كانوا مسؤولَين عن بدء موجة الإرهاب الحالية أم لا - فهم الآن يأخذان على عاتقهما مسؤوليتها. ليس فقط أنّهما يتجنّبان إدانتها، وإنما يشجّعانها أيضًا. أي إنّه لا يمكن الاستمرار بعرض العمليات الإرهابية كمجموعة من الأحداث الفردية. يجب الاعتراف بأنّها منظومة قومية، والتي يعمل المقاتلون فيها، أولئك الطاعنون والداهسون، علنًا وفقا لتوجيهات قيادتهم، التي لا تضطر إلى التنظيم والتوجيه المنهجي من أجل ضمان استجابة الجمهور. إنّ انعدام الأمن الذي تنشئه عملياتهم في شوارع القدس وتل أبيب هو الأداة لتحقيق الإنجازات على الصعيد السياسي، وفق توقعات القيادة.
عباس مستمر في البناء على أنّ الزمن والديمغرافيا سيؤديان في النهاية إلى انهيار الصهيونية
والاستنتاج الثاني هو، أنّ عباس أكثر واقعية مما كان يمكن التوصل إليه من تهديدات جهات مختلفة في إسرائيل ومن تبجّحه هو نفسه. ليس فقط أنّه يستبعد إمكانية الانهيار، الذي استخدمه من أجل تهديد إسرائيل، وإنما هو أيضًا يعترف للمرة الأولى، بأنّ السلطة السياسية التي يترأسها هي "سلطة" وليست دولة. في نظره، ليس هناك معنى لجميع الإشارات الخارجية التي حاول اعتمادها أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، فلنفترض أنّه لن يكون هناك انهيار، فإنّ إسرائيل لن تضطر إلى مواجهة تهديد اليسار الإسرائيلي والكثيرين في الغرب، والذي بحسبه سيكون عليها أن تختار بين دولة يهودية ودولة ديمقراطية.
والاستنتاج الثالث، وربما الأهم، هو أن عباس مستمر في البناء على أنّ الزمن والديمغرافيا سيؤديان في النهاية إلى انهيار الصهيونية. لم تتغير أهدافه الاستراتيجية، لذلك فهو يستمر برفضه للاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي. ويفسّر ذلك أيضًا معارضته لمشاركة عرب إسرائيل في العمليات - إذ يخشى من أنّ يحرّكوا عملية تؤدي إلى الترحيل.
وإسرائيل مضطرة إلى استغلال هذه التصريحات من أجل كشف الوجه الحقيقي للقيادة الفلسطينية. لا شكّ فإنّ الفلسطينيين لن يكرهوننا أكثر، ولكنهم قد يصلون إلى الاستنتاج أنّ استمرار الإرهاب لن ينفعهم.
ومن يحاول أن يترك لدى الشعب الإسرائيلي انطباعا زائفا، والذي بحسبه يوجد في الجانب الفلسطيني شريك حقيقي للسلام، لا يعرف البنية التحتية للوعي الفلسطيني. إنّ عباس مستعد فقط لاتفاق لا يتناقض مع طموحه الاستراتيجي بإسقاط الصهيونية. من يعرض تحقيق مثل هذا الاتفاق باعتباره الهدف الأسمى لإسرائيل، لا يتعجب بأنّ معظم الشعب لا يثق به. إذا أفاق اليسار والوسط الإسرائيلي من هذا الوهم، وأدانوا السياسة الفلسطينية ودعوا أيضًا الدول الغربية إلى القيام بذلك، فسيزداد تأييدهم، وربما يتطوّر الاحتمال لتغيير الأهداف الفلسطينية. في هذه الأثناء يقود عباس شعبه إلى تخليد المعاناة، حيث إنّه ليس هناك أي احتمال بأنّ تستسلم إسرائيل للإرهاب.
الكاتب هو مدير مشروع في المركز المقدسي للشؤون العامة والسياسية وهو رئيس شعبة البحوث في الاستخبارات العسكرية والمدير العام لمكتب الشؤون الاستراتيجية
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في صحيفة "هآرتس"