السبت، 27 أكتوبر 2012

تحية طيبة وبعد .. بقلم : هناء عبيد ............................ hanayousef17@yahoo.com رحلة إلى القدس..ج1 ............................................................... معاناة عند جسر العبور هناء عبيد .............. كان لا بد من أخذ الإذن أولا من دخول مدينة السلام، مدينة ميلادنا وميلاد أبائنا وأجدادنا، فالأبواب موصدة في وجوهنا. علينا الإنتظار لوصول مفاتيحها ووصول تلك الورقة التي تسمى بالتصريح. . فلا زلت أذكر عندما كنت صغيرة، كم كنا نعد الأيام تلو الأيام كي تمر سريعا ويأتي الفرج بوصول تلك الورقة السحرية التي يصرح لنا من خلالها دخول مدينة الأحبة، مدينة القدس. ورقة شفافة رقيقة تكتب عليها أسماؤنا بالعبرية التي لا نعرفها. كانت هذه الورقة هي الفرج لرؤية الأحباب، وما خلفته ذكرياتنا من أيام جميلة في أرض التراب الطاهر المقدس، وأرض مهبط الأنبياء. مرت الأيام وجاء أحد الأقرباء زائرا من أرض الأحباب يحمل معه رائحة نسيم القدس العليل، ومعه كان مفتاح الفرج الذي فتح في قلوبنا أبواب السعادة، ونوافذ الامل بزيارة أقدس الأراضي، وإطفاء نار الشوق إلى الأحبة . بدأت الرحلة بتاكسي لجسر الملك حسين. وقد أخذنا معنا حقائبنا كالعادة، مع فارق أننا أكثرنا هذه المرة من حمل العتاد إعتقادا منا بأنها المرة الأخيرة التي سيكون فيها ترحالنا، آملين بما يسمى بلم الشمل، تلك العبارة التي كثيرا ما سمعتها تتردد على ألسنة الأهل دون أن أفهم ما تعني، إلى أن أيقنت أخيرا بأنها إحدى مرادفات المستحيل، فلا الأيام، ولا السنون، لمت هذا الشمل المنشود، وبقينا مشتتين في غربة طال أمدها في بقاع لا عد لها ولا حصر على وجه الأرض. من خلال رحلتنا في التاكسي يتكرر المشهد في كل مرة، حيث يبدأ السائق تبادل أطراف الحديث مع الركاب، الذي يتمحور حول نفس الموضوع في كل مرة، قصص الرحيل، والعناء، والمشقة، وضنك العيش، والحزن الشديد بعيدا عن الأرض والأهل والأحبة . بعد عناء مرهق، وصلنا إلى المنطقة التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني من جسر الملك حسين أو جسر اللنبي الذي يعتبر نقطة العبور بين الأردن والضفة الغربية والعكس، والذي كان قد أطلق عليه هذا الإسم تيمنا بالقائد الإنجليزي الذي عبر بجيشه للسيطرة على فلسطين عام 1917م، وهو جسر لا يزيد طوله أو عرضه عن بضعة أمتار، وعلى الناحية الغربية منه تقع مدينة أريحا. في هذا المكان، الشاهد على عذاب وإهانة ومعاناة الفلسطينيين الذين يريدون العبور إلى الضفة الأخرى من الجسر،كانت تتنوع أشكال المعاناة على ملامح الوجوه. ففي ركن ما كانت تجلس امرأة لم تدع السنون جزءا من وجهها إلا ووضعت بصمات الحزن عليه، تسيطر عليها ملامح توضح شوقا لأب، أو أم، أو ربما اخ ابعدهم الظلم عنها مسافات شاسعة. وفي الركن الآخر جلست عجوز حنى الشوق والحنين ظهرها فلم تبعد المسافة بين رأسها والأرض كثيرا، وكان بجانبها كيس من قماش يمتلئ بحاجيات لا بد وأنها اختيرت بعناية فائقة لإرضاء أطفال القرية وبقية الأحبة والخلان، ولا أحد يعلم، فقد يكون ثمن هذه الهدايا قد استنفذ آخر ما في الجيب من نقود. أما في الركن الثالث فكان يجلس عجوز بجانب عصاه الملقاة على الأرض متنتظرة قيامه لتسند جسدا أنهكه الشوق لتقبيل أرض طاهرة حرثها بكل حب وود، وزادتها قدسية شجرة زيتون غرست جذورها بقوة بين ترابها. ولا زال ذلك الشيخ الجليل يحتفظ بذلك المفتاح، والأمل لا يفارقه بأنه ربما قد آن الأوان لفتح باب الدار ليينتعش برائحة المكان، ودفئ العائلة عندما كانت ملمومة حول ذلك الموقد الناري الذي يرقد في مكان ذهبي من الذاكرة. هناك وعند ذلك الجسر تبدأ المعاناة والعذاب والإهانة، حيث تبدأ الإجراءات القانونية لتأخذ طريقها بطرق مهينة، لتبدأ بعدها عملية التفتيش الدقيقه، التي تجرد الانسانية من كرامتها. كنت أنظر إلى السيدات اللاتي كن يقمن بعملية التفتيش وأدقق في ملامحهن التي كانت تختلف اختلافا كبيرا من واحدة للأخرى مستغربة من أي البقاع أتين، وكأني أنظر لكائنات غريبة لا تنتمي بأي صلة إلى كوكبنا الذي نعيش عليه. كان الإستغراب والفضول عندي كبير، ترى لم كل هذه الإجراءات، ولماذا هذا الخوف الذي يكتنفهن..؟ وعن ماذا يبحثن..؟ بعد انتهاء الإجراءات المرهقة المملة، والمعاملة المذلة، المهينة، والحر الشديد، والإنتظار الطويل، تبدأ عملية البحث عن الحقائب وأكياس القماش المتناثرة هنا وهناك، لنبدأ بعدها تنفس الصعداء، ها نحن أخيرا قد عبرنا ما وراء الجسر الذي أصبح اسمه مقترنا بالذل والإهانة والتعذيب، ولعل ما كان يشفع له، أن تخطيه كان يعني بارقة الأمل، التي تجلب إلى الذاكرة، مدينة القدس، تلك المدينة الخيالية الساحرة. رأيناه يلوح لنا من بعيد حيث تصطف سيارات الأجرة التي تنقل الركاب من الجسر إلى رام الله أو أريحا أو القدس. عندها شعرنا بسعادة كبيرة وكأننا تخطينا حواجز من نار لنصل إلى بر الأمان، إنه أحد الأقارب الذي كان يعمل على خط الجسر-أريحا، والذي كان ينتظرنا هناك لعلمه المسبق بقدومنا، فيكون دوما أول من يستقبلنا عند وصولنا. ومن هنا تبدأ الرحلة، التي تتكرر في كل زيارة، نبدأ أولا بزيارة بيت الأقارب في أريحا، حيث أبناء العمومة. وبما أننا أطفال عرفنا الغربة منذ نعومة أظافرنا، كدنا لا نصدق بأن هناك أناسا من البشرية على وجه هذه الأرض يحملون نفس أسم عائلتنا التي كنا ننفرد في حملها في بداية جلائنا عن الأرض إلى أردن المحبة والخير. كانت عائلات كثيرة تتجمع للترحيب بنا، وكأننا كنا في حضرة عرس كبير كان قد أقيم خصيصا للإحتفاء بقدومنا قلما حضرنا له مثيلا . أخيرا وصلنا أريحا، أقدم مدينة في التاريخ، وأجمل مشتى يقصده السياح للإستمتاع بدفئها وقت الشتاء. كم أنت جميلة يا أريحا وكم لرائحتك العطرة المميزة سحرها. حتى حرارتك التي لو تعدت درجتها فوق ما تستحمل رؤوسنا، تظل دفئا يسري في العروق، دفئ مدينة جليلة من مدن الأرض الطاهرة. وما أجمل ليلك يا أريحا. فحينما كان يخيم ظلامك المؤنس على حدائقك الغناء، كنا نجري بين أشجارك الجميلة، أشجار البومل والبرتقال والليمون ورائحتهم المميزة التي تظل سحرا مسيطرا على حواسنا لا تقدر ان تزيله السنون. وبين ضحكات الأهل وقصصهم الشيقة المسلية، كنا ننعم بدفئ عذب حديثهم، وبينما الجميع منهمك في الحديث كانت تتعالى أصوات تزن بإستمرار في أذاننا، كنا نحاول عبثا معرفة مصدرها دون جدوى. وأجمل ما كان يبهرنا في تلك الأثناء حشرة"ضو الغولة" المسكينة، تلك الحشرة التي كانت تضيء وتطفئ بشكل متوال، والتي لم تكن تنج من شقاوتنا حينما كنا نلاحقها من مكان لآخر في محاولة لإمساكها كي نكشف سرها العجيب. بعد الإستمتاع بدفئ أريحا وأحاديث الأهل فيها، كنا نواصل رحلتنا متوجهين إلى القدس تلك المدينة التي لا يكاد يذكر إسمها إلا وترغرغت عيناي بالدموع، وأصابتني قشعريرة اللوعة والحنين. وكان يتخلل زيارتنا للحبيبة القدس مرورنا بقرية العيزرية، إحدى قرى القدس، لتنبهر أعيننا لجمال العمارة ونحن نشاهد إحدى الكنائس الأثرية فيها والصور الجميلة المرسومة عليها، إلى أن نصل مدينة القدس مدينة السلام، مدينة القداسة والعراقة، مدينة الأهل والأحبة التي تركناهم قسرا. فأي مدينة بسحرك يا قدس، وأي شمس تنشر شعاعا ذهبيا يخطف الأبصار كشمسك يا قدس، وأي نسيم عليل كهوائك يا قدس. وهل عرفنا الذهول قبل أن نرى قبة الصخرة تتوسط حاراتك الاثرية وشوارعك القديمة، وهي تعكس أشعة الشمس الذهبية لتزيد نورك بهاءا وجمالا. كم هي كبيرة سعادتنا ونحن بين أحضانك، نتنسم هوائك، نشرب عذب مائك، نتبارك بدوس ترابك، نتطهر بزيارة أقصاك الحبيب، وكنيستك المقدسة، نعانق الأحبة لنطفي شوق اللوعة والشوق والحنين، نقبل يدي الجد والجدة، نمتع ناظرينا بجمال حدائقك الغناء، نأكل من شجرة زيتونك المباركة، ونستلذ بمذاق تينك الأكثر حلاوة، فهنيئا لنا أننا ننتعش بالحياة بين أحضانك الدافئة ولو لحين.... رحلة إلى القدس ج2 ............................................................... تهويد القدس هناء عبيد ........... العيسويه.. وجدتي بعد زيارة الأهل والأحبة في أريحا ، تكون المحطة الثانية لنا في قرية العيسوية ، إحدى قرى مدينة القدس والتي تقع إلى الشمال الشرقي منها ، وظروف قرية العيسويه كغيرها من قرى القدس ، من حيث الإجحاف في المعاملة ، وسلب الحقوق من قبل سلطات الاحتلال الغاشم . فقد صادرت سلطات الاحتلال ما يقارب 8 آلاف دونم من أخصب أراضيها الزراعية . ومنعتها من التطور ، كما كان لجدار الفصل العنصري الأثر الكبير في صعوبة التنقل من مكان إلى آخر مما أدى إلى الحد من فرص العمل المتاحه ، وبالتالي إلى تدني مستوى الحالة المعيشية ، فأصبح من اللازم على جميع أفراد العائلة العمل لتأمين متطلبات الحياة ، وهذا بدوره أدى إلى تسرب الطلاب من مدارسهم طلبا للرزق . كما تقوم سلطات الاحتلال بالهدم المستمر بجرافاتها لبعض المنازل في القرية بحجة البناء غير المرخص ، هذا وتغص سجون الاحتلال الغاشم بالعديد من الأسرى من هذه القرية الصامده. وتعد قرية العيسوية ذات موقع أثري ، حيث تحتوي على صهاريج منقورة في الصخر ومدافن ومغر وخزان مستقل ، وفيها صناديق للعظام يعود تاريخها إلى عصر هيرودوس ، وقد اختلفت الآراء في سبب تسميتها بهذا الاسم ، فبعضهم يعتقد بأنها سميت بالعيسوية نسبة إلى سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي أقام فيها لمدة يومين . وهناك رواية أخرى تقول أنها سميت بذلك نسبة إلى القائد عيسى أبو أيوب ابن أخت المجاهد العظيم صلاح الدين الأيوبي ، والذي كان حاكما على منطقة القدس . وقيل أيضا بأنه قد جلس مع قواد جيشه تحت شجرة خروب بالقرية ، التي أصبحت فيما بعد لها مكانتها في النفوس حيث يذهب الناس إليها ليلا لإضاءتها بفتيل الزيت طوال الليل. وهناك، في قرية الأجداد ، كان موعدنا مع استقبال آخر حافل بكل أنواع الحب والشوق والحنين ، حيث كان في انتظارنا أغلى الأحبة على قلوبنا، الجدة والجد والعمات والأعمام . وفي هذا التجمع العائلي النادر بالنسبة لنا والذي كنا دوما نتوق إليه ، لم يكن أحد يستطيع أن يكبح جماح عينيه من فيض الدموع فرحا ، صغارا أوكبارا ، وكنا نحاول عبثا تهدئة جدتي التي ترى بعضا من أحفادها لأول مرة فلا تتوقف عن البكاء لحظة فرحا بلقاء طال انتظاره . تلك الجدة التي لا أظن بأن هناك قلبا يحمل بين ضلوعه مثل الكم الهائل من الحب والعطف والحنان الذي تحمله. كم كانت فرحتنا كبيرة بأن نحاط بهذه الهالة من الحب والعطف، ودفء العائلة الذي سرى في عظامنا. في بيت الجد والجدة، كانت الحياة تختلف. حيث حضن الجدة الدافئ، وحديثها الطيب الذي لا يخلو من خفة الظل. فقد كان كل أمر من أمورها مميزا، حتى أثاث بيتها كان له ما يجعله متميزا لنا، فلا يمكن لأحد منا ان ينسى ثلاجتها الغريبة العجيبة التي كنا نندفع عدة أمتار للخلف بعد النجاح في محاولة فتحها التي تتطلب جهدا مضاعفا. وأجمل من ذلك كانت النملية الخاصة بحفظ المؤونة ، والتي هي عبارة عن خزانة خشبية تحتوي على عدة رفوف، كانت تضع فيها، الخبز الشهي ومرطبانات الدبس، والمربى، والتي لا أعرف السر للآن في تسميتها بهذا الاسم، فهل سميت بذلك لأن النمل كان يجد اللذة في غزو محتوياتها، أم سميت بذلك لأنها كانت تمنع النمل من الوصول إلى تلك المحتويات. وأكثر ما كان ملفتا في جدتي، ثوبها الفلاحي الجميل، المطرز بأجمل الألوان من الحرير، والمزركش برسومات جميلة يطغى عليها الفن الفلسطيني التقليدي، ويظهر بوضوح من خلالها مدى الدقة المتناهية في إتقان أياد لا شك انها غاية في المهارة، كذلك طرحتها البيضاء التي كانت تتوشح بها، وقد كان جيب ثوبها الكبير محط أنظارنا وأطماعنا، حيث كانت تخبئ فيه الحلوى وكل ما لذ وطاب مما كنا نعشقه ونحن صغار . كان بيت جدي مبنيا من طابقين، أما الطابق الأول فهو سكن العائلة، وأما الطابق الأرضي فقد تم تأجيره إلى مدرسة ابتدائية كنت قد التحقت بها لمدة وجيزة هي مدة إقامتي والعائلة في القدس، وكان أمام البيت، حديقة تتشابه مع أية حديقة أخرى في قرى القدس، تحتوي على أشجار التين والزيتون واللوز والتوت بالإضافة إلى كروم العنب. وقد كنا نلهو ونقضي أوقاتا جميلة في اللعب في هذه الحديقة وفي قطف ألذ وأحلى الثمار، ولم تكن تنجو أية شجرة من شقاوتنا، خاصة شجرة التين التي كنا نتسلق عليها يوميا ، ونثقل على أغصانها، ولكنها كانت تظل صامدة تقاوم الانكسار، لتأتينا بأحلى الثمار، قوية راسخة، تماما مثل امرأة فلسطينية تتحدى الصعاب في غربة تحاول كسرها، فتأبى وترفع قامتها شموخا، أو أما فلسطينية يزيدها استشهاد فلذة كبدها قوة وإصرارا على إمداد التراب بمزيد من دماء تروي عطش الأرض وتنعش كرامتها. من أمام الدار الممتلئة بالحب والدفء كانت تمر مجموعات من اليهود، فكنا نحاول مشاكستهم من خلال التحدث معهم من بعيد بلغتهم العبرية، التي تعلمنا القليل منها في المدرسة أثناء إقامتنا في البلدة، وما أن ننهي ما نتلعثم به من جمل مكسرة حتى نختبئ عن أعينهم ، ولكن من العجيب أنهم كانوا يضحكون علينا، مما يزيدنا حنقا وغضبا، ويبدو أنهم ضحكوا علينا في صغرنا وسيظلون يضحكون علينا إلى مماتنا ما دمنا لا نحرك ساكنا، كنا نعتقد أننا بذلك نقاومهم ونقلق راحتهم، هكذا هو الطفل الفلسطيني، يشب على عشق الأرض، ويخترع الوسائل للمقاومة. كان آخرها الحجر الذي أقض مضاجع العدو، وأوجد لديه فوبيا الحجر،وجاء بنتائج إيجابية فاقت كل الاتفاقيات والمفاوضات. والتي أصبح بعدها طفل الحجارة، الصورة المشرفة للمقاومة ضد الاحتلال التي حفظت في الوجه ما تبقى من ماء، وأعادت لو قليل من كرامة مهدورة، وباتت صوره تتصدر الصحف ممثلا رمز البطولة والكرامة والصمود. أما يوم الجمعة فقد كان يوما مميزا، حيث كان يذهب الجد والجدة للصلاة في مسجد قبة الصخرة المشرفة، إنها إحدى واجباتهم الدينية التي تعودوا عليها منذ نعومة أظفارهم. ويقع مسجد قبة الصخرة في حرم المسجد الأقصى في البلدة القديمة من القدس، وقد أمر ببنائه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خلال الفترة 688م-692م وفي الجنوب منه يقع المسجد الأقصى وهو أولى القبلتين. وقد ذكر في القرآن الكريم قال الله تعالى( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). وللمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ الدعوة الإسلامية، وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي "ص" قبل أن يتم تحويل القبلة إلى مكة. وقد أسري بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء حيث فرضت الصلاة. وقد عبثت وما تزال تعبث اليد النجسة بتدنيسه ومحاولة زعزعة جذوره إلى يومنا هذا دون أن نحرك ساكنا. وقد نالني الحظ الكبير بالذهاب معهم في إحدى المرات للصلاة في مسجد قبة الصخرة العظيم، لأصاب بذهول من الصعب نسيانه، حيث فن العمارة العريق، والزخارف الإسلامية الرائعة، والآيات القرآنية التي تزين جدران المسجد والتي تأبى إلا أن تجعلنا نحني رؤوسنا خشوعا وإجلالا لرب العباد، وتقديرا للسواعد التي بنت هذا الصرح الطاهر، وخجلا لإهمال أمة بأسرها في حماية أحد أعظم بيوت الله. كنت أنظر لوجه جدتي وهو يشع نورا وبهجة وإيمانا فرحا لصلاتها في أجمل مساجد الأرض، فتغمرني سعادة لا تماثلها سعادة على الأرض. يجعلني الآن أحمد الله أنها قد وافتها المنية قبل أن ترى الصعوبات التي يواجهها أصحاب القلوب العامرة بالإيمان حين يتوقون للصلاة في هذا المسجد العظيم. كم أنت محظوظة يا جدتي بأنك لم تري المسجد مطوقا لمنع المصلين من الوصول إليه، والتبرك بالصلاة فيه. فكيف سيتسنى لك الصلاة لو أنك ما زلت على قيد الحياة؟ هل سيتسلق جسدك الهزيل الجدران المشيدة لتتمكني من الوصول اليه، أم ستنالك ركلة من حذاء جندي حقير تطيح بك أرضا مثلما أطاحت بالمئات من العجائز اللاتي لم تحترم أعمارهن، ولا كهولتهن وعجزهن، وهل نستغرب ذلك و هن لم تحترم أجسادهن في قبورهن، لقد نبشوا الأرض يا جدتي، وأخرجوا رفات العظام من قبورها فهل طالتك جرافاتهم؟ وأيديهم القذرة؟ أم أنك سلمت وترقدين في قبرك في سلام... رحلة إلى القدس ج3 تهويد القدس هناء عبيد ........... القدس العتيقة.. والشيخ جراح بعد انشراح قلوبنا بالصلاة في مسجد قبة الصخرة المشرفة ، وشرف زيارة المسجد الأقصى الذي لم ولن تتوقف محاولات زعزعة جذوره من قبل سلطات الاحتلال بكل الوسائل الممكنة من حفريات بل واستخدام مواد كيماوية لإضعاف أساساته وذلك لإقامة بناء الهيكل المزعوم الذي نسج اليهود المعاصرون حوله أسطورة كبيرة لتعطيهم الحجة في هدم واحد من أعظم مساجد الله لطمس الهوية الإسلامية , والعربية في مدينة السلام . بعد هذه الزيارة العظيمة المباركة تأتي مرحلة التسوق في أسواق القدس العتيقة التي تعتبر أبرز معالم المدينة المقدسة ، والتي تظهر تاريخا عريقا منذ أيام الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين. من أشهر هذه الأسواق سوق العطارين وهي سوق مسقوفة وفي سقفها توجد نوافذ لإدخال أشعة الشمس من خلالها. كذلك هناك سوق اللحامين وهي مسقوفة أيضا ولكنها مظلمة بالرغم من وجود النوافذ في سقفها. ومن الأسواق المشهورة أيضا سوق البازار التي تباع فيها الخضروات والفاكهة بمختلف أنواعها وتحتوي على رصفات جميلة بديعة تسر الناظرين ، وسوق باب العامود وسوق الباشورة وسوق القطانين وغيرها من الأسواق التي يتواجد فيها كثير من البضائع المختلفة. وتحاول سلطات الاحتلال طمس هذه الأسواق ومعالمها وذلك باتباع عدة سياسات من شأنها التضييق على أصحاب المحلات لإغلاقها، منها مثلا فرض الضرائب الباهظة التي لا يستطيع أصحاب المحال تسديدها مما يؤدي إلى مصادرتها، أيضا من الوسائل المتبعة للقضاء على رونق هذه الأسواق ما تقوم به بلدية القدس من إهمال هذه الأسواق من ناحية عوامل النظافة اللازمة ، مما يؤدي إلى تراكم القمامة والروائح الكريهة التي تسبب مكاره صحية وتعمل على تكاثر القوارض والجرذان وبالتالي إلى إتلاف البضائع. إضافة إلى الصورة القبيحة التي تصبح عليها هذه الأسواق أمام المتسوقين. فبدلا من الروائح الجميلة المنبعثة من البخور وأسواق العطارة أصبحت الروائح الكريهة تنفذ إلى المنطقة لتنفير المتسوقين من متعة زيارة هذه الأسواق وبالتالي إلى المخاسر الفادحة لأصحاب الدكاكين الذين لا يجدون مفرا غير إغلاقها لتفادي هذه المخاسر . لا شك بأن مساعي سلطات الاحتلال كبيرة جدا لطمس معالم المدينة عربيا وإسلاميا ، وملئها بالمستوطنات اليهودية ، وتغيير البنية الديموغرافية فيها، لذلك فإن سلطات الاحتلال تحاول دوما التحرش بسكان المدينة والتضييق عليهم لإجبارهم على الرحيل عنها . وهذا بالطبع مخطط مدروس لصرف نظر العرب والمسلمين عن واحدة من أعظم المدن المقدسة ، ومحاولة منهم أن يمحوا هذه المدينة من ذاكرتنا ولإقناع العالم بأننا مجرد ضيوف على مدينة مهبط الأنبياء ، وأنهم أصحابها الحقيقيون. في كل أسبوع وبعد كل صلاة جمعة كانت جدتي تقوم بالتسوق في هذه الأسواق القديمة المميزة التي يتجلى فيها قدم وعراقة هذه المدينة الطاهرة ، وكانت تجد متعة كبيرة في التنقل بين محالها التي تبعث في النفس الفخر والإعتزاز بالأصالة والعراقة والتراث الإسلامي المبهر. ولكن للأسف الشديد فإن عدم التدخل السريع لإنقاذ هذه الأسواق من عبث أيدي سلطات الإحتلال سيؤدي الى دمارها ، وإلى أن تؤول إلى طي النسيان وبذلك سيمحى تاريخ عريق بأكمله . أما محطتنا الثالثة بين الأهل فتكون في منطقة الشيخ جراح. حيث يقطن الأخوال هناك، ومنطقة الشيخ جراح هي أحد الأحياء المشهورة في مدينة القدس . وهي تقع في الجانب الشرقي لمدينة القدس وقد وقع هذا الحي تحت الاحتلال الصهيوني عام 1967م . أما اسمه فقد استمده من اسم الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي طبيب القائد صلاح الدين الأيوبي . ومنذ سنوات وهذا الحي يتعرض لهجمات استيطانية كغيره من مناطق القدس . حيث تحاول بعض الجماعات اليهودية إقامة حي يهودي هناك ، فالمخطط قائم لتهويد هذا الحي وما تبقى من القدس العربية. حيث تم طرد العديد من السكان الفلسطينيين الأصليين من منازلهم في الشيخ جراح ، وإسكان عائلات يهودية مكانهم . وقد تم في هذا الحي السيطرة على ضريح الشيخ سعدي أحد المعالم الإسلامية فيه وتحويله إلى معلم يهودي حيث حول إلى قبر شمعون الصديق. بالطبع كنا نقضي أوقاتا جميلة في دفء العائلة في حي الشيخ جراح ، وهناك تكون الأمور مختلفة قليلا عما هي عليه في قرية العيسوية حيث اللهجة الفلسطينية لأهل المدينة التي تختلف في بعض المفردات البسيطة، بالإضافة إلى الاختلاف في لفظ بعض الحروف. فمثلا في القرية يلفظ حرف القاف كافاً بينما في المدينة يلفظ هذا الحرف همزة . وهذا كان موضع تهكم وممازحة للجدة التي ترعرعت في قرية العيسوية ، فقد كنا أحيانا نطلب منها أن تتحدث باللهجة المدنية لتخلق حوارا وسيناريو كوميديا ما زلنا نتحدث عنه إلى يومنا هذا ، فقد كانت تقلب حرف الكاف إلى همزة مما يؤدي بالصغار إلى الضحك عاليا ، فمثلا كانت تلفظ كلمة كهرباء أهرباء اعتقادا منها بأن اللهجة المدنية لا تحتوي على حرف الكاف فتتعالى ضحكاتنا صغارا على ذلك مما يبعث المسرة في قلبها ، وفي الشيخ جراح حيث يقطن أهل المدينة لم يكن الثوب الفلاحي يظهر بشكل بارز هناك ، حيث كانت السيدات كبيرات السن يلبسن ملابس سوداء ويضعن على رؤوسهن مناديل بيضاء يعلوها غطاء أسود. ولم يكن الفرق شاسعا بين معيشة القرية ومعيشة المدينة فقد تلاشت الفروق إلى حد كبير بين قرى ومدن فلسطين وبخاصة في مدينة القدس . وكما كانت لنا جدتنا في قرية العيسوية كانت لنا أيضا جدتنا في الشيخ جراح والتي لم تختلف صفاتها كثيرا عن جدتنا ابنة القرية ، فكلتاهما كانت تحمل قلبا يمتلئ بالحب والدفء ، ووجها بشوشا يمتلئ بالنور . لقد تمسكت هذه الجدة بهويتها الإسلامية العربية الأصيلة فلم تقبل أن تحصل على الهوية الصادرة عن الكيان الصهيوني ، مضحية بامتيازات كثيرة كانت تعتبرها خيانة للإسلام والعروبة والأرض والتراث . في الشيخ جراح كنا نقيم لعدة أيام بين الأهل والأحبة . كان للمكان رائحته المميزة ، وشوارعه العتيقة التي تنقش في الذاكرة أصالة وعراقة وتراثا . وكان للطفولة هناك منافذ لإطلاق كل طاقاتها ، فالمكان فسيح يحتوي على كل ما يشبع شقاوة الأطفال . كانت الأيام في الشيخ جراح تسير على وتيرة جميلة ، ففي الصباح كنا نصحو على صوت بائع الكعك مروجا لألذ وأشهى كعك في المدينة والذي كانت تنفذ رائحته إلى حواسنا بالرغم من المسافة الكبيرة التي تفصلنا عنه ، وكان ينافسه في الصباح بائع اللبن الطازج ، كان صباح الشيخ جراح مشرقا بشمس دافئة ونسمات هواء عليلة وقد كانت الأوقات تمر بسعادة بين جمال المكان وعطف و حنان الأهل ، كانت المحلات التجارية والدكاكين في الشيخ جراح تحمل رمزا وصورا جميلة كانت وما تزال تؤثث غرفات ذاكرتنا بأناقة وروعة منقطعتي النظير ، بحيث لا يمكن نسيان أثرهما الرائع على وجداننا ، فقد كانت هذه الدكاكين المكان الذي نتطلع اليه لشراء كل ما لذ وطاب لمذاق طفولتنا البريئة . هكذا كانت تمضي أيامنا متنقلين بين العيسوية والشيخ جراح ، أيام جميلة ، سعيدة ، نعتبرها من أروع أيام حياتنا ، فقد استطاعت ان تنقش في الذاكرة حنينا وشوقا ودفئا لا يمكن للأيام ولا السنين محوها ، إلى أن آن الأوان لترك مدينة الأحبة ، مدينة السلام ، مدينة الآباء والأجداد حيث صدر قرار الترحيل من قبل سلطات الاحتلال بعد رفضها لنا في الحصول على ما يسمى بلم الشمل الذي يصرح لنا من خلاله الإقامة الدائمة في القدس ، فما كان علينا إلا أن نلملم شتاتنا مرة أخرى لنغادر المدينه إلى شتات آخر لينتهي اللقاء مع الأحبة تماما كما بدأ ، بالدموع ، ولكنها هذه المرة دموع الفراق والألم. لنعود أدراجنا إلى بلد المحبة والخير الأردن الذي أصبح يحتل في القلب مكانة عظيمة، وأصبحت ذكرياته تحتل ركنا جميلا في الذاكرة ، وكلنا أمل بأن اليوم سيأتي لتستعيد الأمة العربية كرامتها المهدورة وتسترد أراضيها المنهوبة وتحافظ على أماكنها المقدسة المسلوبة ، فإلى ذلك اللقاء الذي ندعو الله أن لا يطول.




 
تحية طيبة وبعد ..
بقلم : هناء عبيد
............................

رحلة إلى القدس..ج1
...............................................................

معاناة عند جسر العبور

هناء عبيد
..............

كان لا بد من أخذ الإذن أولا من دخول مدينة السلام، مدينة ميلادنا وميلاد أبائنا وأجدادنا، فالأبواب موصدة في وجوهنا.  علينا الإنتظار لوصول مفاتيحها ووصول تلك الورقة التي تسمى بالتصريح. .  فلا زلت أذكر عندما كنت صغيرة، كم كنا نعد الأيام تلو الأيام كي تمر سريعا ويأتي الفرج بوصول تلك الورقة السحرية التي يصرح لنا من خلالها دخول مدينة الأحبة، مدينة القدس.  ورقة شفافة رقيقة تكتب عليها أسماؤنا بالعبرية التي لا نعرفها.  كانت هذه الورقة هي الفرج لرؤية الأحباب، وما خلفته ذكرياتنا من أيام جميلة في أرض التراب الطاهر المقدس، وأرض مهبط الأنبياء.  مرت الأيام وجاء أحد الأقرباء زائرا من أرض الأحباب يحمل معه رائحة نسيم القدس العليل، ومعه كان مفتاح الفرج الذي فتح في قلوبنا أبواب السعادة، ونوافذ الامل بزيارة أقدس الأراضي، وإطفاء نار الشوق إلى الأحبة .
 بدأت الرحلة بتاكسي لجسر الملك حسين.  وقد أخذنا معنا حقائبنا كالعادة، مع فارق أننا أكثرنا هذه المرة من حمل العتاد إعتقادا منا بأنها المرة الأخيرة التي سيكون فيها ترحالنا، آملين بما يسمى بلم الشمل، تلك العبارة التي كثيرا ما سمعتها تتردد على ألسنة الأهل دون أن أفهم ما تعني، إلى أن أيقنت أخيرا بأنها إحدى مرادفات المستحيل، فلا الأيام، ولا السنون، لمت هذا الشمل المنشود، وبقينا مشتتين في غربة طال أمدها في بقاع لا عد لها ولا حصر على وجه الأرض.
 من خلال رحلتنا في التاكسي يتكرر المشهد في كل مرة، حيث يبدأ السائق تبادل أطراف الحديث مع الركاب، الذي يتمحور حول نفس الموضوع في كل مرة، قصص الرحيل، والعناء، والمشقة، وضنك العيش، والحزن الشديد بعيدا عن الأرض والأهل والأحبة .
 بعد عناء مرهق،  وصلنا إلى المنطقة التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني من جسر الملك حسين أو جسر اللنبي الذي يعتبر نقطة العبور بين الأردن والضفة الغربية والعكس، والذي كان قد أطلق عليه هذا الإسم تيمنا بالقائد الإنجليزي الذي عبر بجيشه للسيطرة على فلسطين عام 1917م، وهو جسر لا يزيد طوله أو عرضه عن بضعة أمتار، وعلى الناحية الغربية منه تقع مدينة أريحا.   في هذا المكان، الشاهد على عذاب وإهانة ومعاناة الفلسطينيين الذين يريدون العبور إلى الضفة الأخرى من الجسر،كانت تتنوع أشكال المعاناة على ملامح الوجوه.  ففي ركن ما كانت تجلس امرأة لم تدع السنون جزءا من وجهها إلا ووضعت بصمات الحزن عليه، تسيطر عليها ملامح توضح شوقا لأب، أو أم، أو ربما اخ ابعدهم الظلم عنها مسافات شاسعة.  وفي الركن الآخر  جلست عجوز حنى الشوق والحنين ظهرها فلم تبعد المسافة بين رأسها والأرض كثيرا، وكان بجانبها كيس من قماش يمتلئ بحاجيات لا بد وأنها اختيرت بعناية فائقة لإرضاء أطفال القرية وبقية الأحبة والخلان، ولا أحد يعلم، فقد يكون ثمن هذه الهدايا قد استنفذ آخر ما في الجيب من نقود.  أما في الركن الثالث فكان يجلس عجوز بجانب عصاه الملقاة على الأرض متنتظرة قيامه لتسند جسدا أنهكه الشوق لتقبيل أرض طاهرة حرثها بكل حب وود، وزادتها قدسية  شجرة زيتون غرست جذورها بقوة بين ترابها.  ولا زال ذلك الشيخ الجليل يحتفظ بذلك المفتاح، والأمل لا يفارقه بأنه ربما قد آن الأوان لفتح باب الدار ليينتعش برائحة المكان، ودفئ العائلة عندما كانت ملمومة حول ذلك الموقد الناري الذي يرقد في مكان ذهبي من الذاكرة.
 هناك  وعند ذلك الجسر تبدأ المعاناة والعذاب والإهانة، حيث تبدأ الإجراءات القانونية لتأخذ طريقها بطرق مهينة، لتبدأ بعدها عملية التفتيش الدقيقه، التي تجرد الانسانية من كرامتها.  كنت أنظر إلى السيدات اللاتي كن يقمن بعملية التفتيش وأدقق في ملامحهن التي كانت تختلف اختلافا كبيرا من واحدة للأخرى مستغربة من أي البقاع أتين، وكأني أنظر لكائنات غريبة لا تنتمي بأي صلة إلى كوكبنا الذي نعيش عليه.  كان الإستغراب والفضول عندي كبير، ترى لم كل هذه الإجراءات، ولماذا هذا الخوف الذي يكتنفهن..؟ وعن ماذا يبحثن..؟  بعد انتهاء الإجراءات المرهقة المملة،  والمعاملة المذلة، المهينة، والحر الشديد، والإنتظار الطويل، تبدأ عملية البحث عن الحقائب وأكياس القماش المتناثرة هنا وهناك، لنبدأ بعدها تنفس الصعداء، ها نحن أخيرا قد عبرنا ما وراء الجسر الذي أصبح اسمه مقترنا بالذل والإهانة والتعذيب، ولعل ما كان يشفع له، أن تخطيه كان يعني بارقة الأمل، التي تجلب إلى الذاكرة، مدينة القدس، تلك المدينة الخيالية الساحرة.
  رأيناه يلوح لنا من بعيد حيث تصطف سيارات الأجرة التي تنقل الركاب من الجسر إلى رام الله أو أريحا أو القدس. عندها شعرنا بسعادة كبيرة وكأننا تخطينا حواجز من نار لنصل إلى بر الأمان، إنه أحد الأقارب الذي كان يعمل على خط الجسر-أريحا، والذي كان ينتظرنا هناك لعلمه المسبق بقدومنا، فيكون دوما أول من يستقبلنا عند وصولنا.  ومن هنا تبدأ الرحلة، التي تتكرر في كل زيارة، نبدأ أولا بزيارة بيت الأقارب في أريحا، حيث أبناء العمومة.  وبما أننا أطفال عرفنا الغربة منذ نعومة أظافرنا، كدنا لا نصدق بأن هناك أناسا من البشرية على وجه هذه الأرض يحملون نفس أسم عائلتنا التي كنا ننفرد في حملها في بداية جلائنا عن الأرض إلى أردن المحبة والخير.  كانت عائلات كثيرة تتجمع للترحيب بنا، وكأننا كنا في حضرة عرس كبير كان قد أقيم خصيصا للإحتفاء بقدومنا قلما حضرنا له مثيلا . 
 أخيرا وصلنا أريحا، أقدم مدينة في التاريخ، وأجمل مشتى يقصده السياح للإستمتاع بدفئها وقت الشتاء. كم أنت جميلة يا أريحا وكم لرائحتك العطرة المميزة سحرها.   حتى حرارتك التي لو تعدت درجتها فوق ما تستحمل رؤوسنا، تظل دفئا يسري في العروق، دفئ مدينة جليلة من مدن الأرض الطاهرة.  وما أجمل ليلك يا أريحا.  فحينما كان يخيم ظلامك المؤنس على حدائقك الغناء، كنا نجري بين أشجارك الجميلة، أشجار البومل والبرتقال والليمون ورائحتهم المميزة التي تظل سحرا مسيطرا على حواسنا لا تقدر ان تزيله السنون.  وبين ضحكات الأهل وقصصهم الشيقة المسلية، كنا ننعم بدفئ عذب حديثهم، وبينما الجميع منهمك في الحديث كانت تتعالى أصوات تزن بإستمرار في أذاننا، كنا نحاول عبثا معرفة مصدرها دون جدوى.  وأجمل ما كان يبهرنا في تلك الأثناء حشرة"ضو الغولة" المسكينة، تلك الحشرة التي كانت تضيء وتطفئ بشكل متوال، والتي لم تكن تنج من شقاوتنا حينما كنا نلاحقها من مكان لآخر في محاولة لإمساكها كي نكشف سرها العجيب.
 بعد الإستمتاع بدفئ أريحا وأحاديث الأهل فيها، كنا نواصل رحلتنا متوجهين إلى القدس تلك المدينة التي لا يكاد يذكر إسمها إلا وترغرغت عيناي بالدموع، وأصابتني قشعريرة اللوعة والحنين.  وكان يتخلل زيارتنا للحبيبة القدس مرورنا بقرية العيزرية، إحدى قرى القدس، لتنبهر أعيننا لجمال العمارة ونحن نشاهد إحدى الكنائس الأثرية فيها والصور الجميلة المرسومة عليها، إلى أن نصل مدينة القدس مدينة السلام، مدينة القداسة والعراقة، مدينة الأهل والأحبة التي تركناهم قسرا.  فأي مدينة بسحرك يا قدس، وأي شمس تنشر شعاعا ذهبيا يخطف الأبصار كشمسك يا قدس، وأي نسيم عليل كهوائك يا قدس.  وهل عرفنا الذهول قبل أن نرى قبة الصخرة تتوسط حاراتك الاثرية وشوارعك القديمة، وهي تعكس أشعة الشمس الذهبية لتزيد نورك بهاءا وجمالا.  كم هي كبيرة سعادتنا ونحن بين أحضانك، نتنسم هوائك، نشرب عذب مائك، نتبارك بدوس ترابك، نتطهر بزيارة أقصاك الحبيب، وكنيستك المقدسة، نعانق الأحبة لنطفي شوق اللوعة والشوق والحنين، نقبل يدي الجد والجدة، نمتع ناظرينا بجمال حدائقك الغناء، نأكل من شجرة زيتونك المباركة، ونستلذ بمذاق تينك الأكثر حلاوة، فهنيئا لنا أننا ننتعش بالحياة بين أحضانك الدافئة ولو لحين....
 رحلة إلى القدس ج2
...............................................................

تهويد القدس

هناء عبيد
...........

العيسويه.. وجدتي

بعد زيارة الأهل والأحبة في أريحا ، تكون المحطة الثانية لنا في قرية العيسوية ، إحدى قرى مدينة القدس والتي تقع إلى الشمال الشرقي منها ، وظروف قرية العيسويه كغيرها من قرى القدس ، من حيث الإجحاف في المعاملة ، وسلب الحقوق من قبل سلطات الاحتلال الغاشم . فقد صادرت سلطات الاحتلال ما يقارب 8 آلاف دونم من أخصب أراضيها الزراعية . ومنعتها من التطور ، كما كان لجدار الفصل العنصري الأثر الكبير في صعوبة التنقل من مكان إلى آخر مما أدى إلى الحد من فرص العمل المتاحه ، وبالتالي إلى تدني مستوى الحالة المعيشية ، فأصبح من اللازم على جميع أفراد العائلة العمل لتأمين متطلبات الحياة ، وهذا بدوره أدى إلى تسرب الطلاب من مدارسهم طلبا للرزق . كما تقوم سلطات الاحتلال بالهدم المستمر بجرافاتها لبعض المنازل في القرية بحجة البناء غير المرخص ، هذا وتغص سجون الاحتلال الغاشم بالعديد من الأسرى من هذه القرية الصامده.

وتعد قرية العيسوية ذات موقع أثري ، حيث تحتوي على صهاريج منقورة في الصخر ومدافن ومغر وخزان مستقل ، وفيها صناديق للعظام يعود تاريخها إلى عصر هيرودوس ، وقد اختلفت الآراء في سبب تسميتها بهذا الاسم ، فبعضهم يعتقد بأنها سميت بالعيسوية نسبة إلى سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي أقام فيها لمدة يومين . وهناك رواية أخرى تقول أنها سميت بذلك نسبة إلى القائد عيسى أبو أيوب ابن أخت المجاهد العظيم صلاح الدين الأيوبي ، والذي كان حاكما على منطقة القدس . وقيل أيضا بأنه قد جلس مع قواد جيشه تحت شجرة خروب بالقرية ، التي أصبحت فيما بعد لها مكانتها في النفوس حيث يذهب الناس إليها ليلا لإضاءتها بفتيل الزيت طوال الليل.

وهناك، في قرية الأجداد ، كان موعدنا مع استقبال آخر حافل بكل أنواع الحب والشوق والحنين ، حيث كان في انتظارنا أغلى الأحبة على قلوبنا، الجدة والجد والعمات والأعمام . وفي هذا التجمع العائلي النادر بالنسبة لنا والذي كنا دوما نتوق إليه ، لم يكن أحد يستطيع أن يكبح جماح عينيه من فيض الدموع فرحا ، صغارا أوكبارا ، وكنا نحاول عبثا تهدئة جدتي التي ترى بعضا من أحفادها لأول مرة فلا تتوقف عن البكاء لحظة فرحا بلقاء طال انتظاره . تلك الجدة التي لا أظن بأن هناك قلبا يحمل بين ضلوعه مثل الكم الهائل من الحب والعطف والحنان الذي تحمله. كم كانت فرحتنا كبيرة بأن نحاط بهذه الهالة من الحب والعطف، ودفء العائلة الذي سرى في عظامنا.

في بيت الجد والجدة، كانت الحياة تختلف. حيث حضن الجدة الدافئ، وحديثها الطيب الذي لا يخلو من خفة الظل. فقد كان كل أمر من أمورها مميزا، حتى أثاث بيتها كان له ما يجعله متميزا لنا، فلا يمكن لأحد منا ان ينسى ثلاجتها الغريبة العجيبة التي كنا نندفع عدة أمتار للخلف بعد النجاح في محاولة فتحها التي تتطلب جهدا مضاعفا. وأجمل من ذلك كانت النملية الخاصة بحفظ المؤونة ، والتي هي عبارة عن خزانة خشبية تحتوي على عدة رفوف، كانت تضع فيها، الخبز الشهي ومرطبانات الدبس، والمربى، والتي لا أعرف السر للآن في تسميتها بهذا الاسم، فهل سميت بذلك لأن النمل كان يجد اللذة في غزو محتوياتها، أم سميت بذلك لأنها كانت تمنع النمل من الوصول إلى تلك المحتويات. وأكثر ما كان ملفتا في جدتي، ثوبها الفلاحي الجميل، المطرز بأجمل الألوان من الحرير، والمزركش برسومات جميلة يطغى عليها الفن الفلسطيني التقليدي، ويظهر بوضوح من خلالها مدى الدقة المتناهية في إتقان أياد لا شك انها غاية في المهارة، كذلك طرحتها البيضاء التي كانت تتوشح بها، وقد كان جيب ثوبها الكبير محط أنظارنا وأطماعنا، حيث كانت تخبئ فيه الحلوى وكل ما لذ وطاب مما كنا نعشقه ونحن صغار .

كان بيت جدي مبنيا من طابقين، أما الطابق الأول فهو سكن العائلة، وأما الطابق الأرضي فقد تم تأجيره إلى مدرسة ابتدائية كنت قد التحقت بها لمدة وجيزة هي مدة إقامتي والعائلة في القدس، وكان أمام البيت، حديقة تتشابه مع أية حديقة أخرى في قرى القدس، تحتوي على أشجار التين والزيتون واللوز والتوت بالإضافة إلى كروم العنب. وقد كنا نلهو ونقضي أوقاتا جميلة في اللعب في هذه الحديقة وفي قطف ألذ وأحلى الثمار، ولم تكن تنجو أية شجرة من شقاوتنا، خاصة شجرة التين التي كنا نتسلق عليها يوميا ، ونثقل على أغصانها، ولكنها كانت تظل صامدة تقاوم الانكسار، لتأتينا بأحلى الثمار، قوية راسخة، تماما مثل امرأة فلسطينية تتحدى الصعاب في غربة تحاول كسرها، فتأبى وترفع قامتها شموخا، أو أما فلسطينية يزيدها استشهاد فلذة كبدها قوة وإصرارا على إمداد التراب بمزيد من دماء تروي عطش الأرض وتنعش كرامتها.

من أمام الدار الممتلئة بالحب والدفء كانت تمر مجموعات من اليهود، فكنا نحاول مشاكستهم من خلال التحدث معهم من بعيد بلغتهم العبرية، التي تعلمنا القليل منها في المدرسة أثناء إقامتنا في البلدة، وما أن ننهي ما نتلعثم به من جمل مكسرة حتى نختبئ عن أعينهم ، ولكن من العجيب أنهم كانوا يضحكون علينا، مما يزيدنا حنقا وغضبا، ويبدو أنهم ضحكوا علينا في صغرنا وسيظلون يضحكون علينا إلى مماتنا ما دمنا لا نحرك ساكنا، كنا نعتقد أننا بذلك نقاومهم ونقلق راحتهم، هكذا هو الطفل الفلسطيني، يشب على عشق الأرض، ويخترع الوسائل للمقاومة. كان آخرها الحجر الذي أقض مضاجع العدو، وأوجد لديه فوبيا الحجر،وجاء بنتائج إيجابية فاقت كل الاتفاقيات والمفاوضات. والتي أصبح بعدها طفل الحجارة، الصورة المشرفة للمقاومة ضد الاحتلال التي حفظت في الوجه ما تبقى من ماء، وأعادت لو قليل من كرامة مهدورة، وباتت صوره تتصدر الصحف ممثلا رمز البطولة والكرامة والصمود.

أما يوم الجمعة فقد كان يوما مميزا، حيث كان يذهب الجد والجدة للصلاة في مسجد قبة الصخرة المشرفة، إنها إحدى واجباتهم الدينية التي تعودوا عليها منذ نعومة أظفارهم. ويقع مسجد قبة الصخرة في حرم المسجد الأقصى في البلدة القديمة من القدس، وقد أمر ببنائه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خلال الفترة 688م-692م وفي الجنوب منه يقع المسجد الأقصى وهو أولى القبلتين. وقد ذكر في القرآن الكريم قال الله تعالى( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). وللمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ الدعوة الإسلامية، وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي "ص" قبل أن يتم تحويل القبلة إلى مكة. وقد أسري بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء حيث فرضت الصلاة. وقد عبثت وما تزال تعبث اليد النجسة بتدنيسه ومحاولة زعزعة جذوره إلى يومنا هذا دون أن نحرك ساكنا.

وقد نالني الحظ الكبير بالذهاب معهم في إحدى المرات للصلاة في مسجد قبة الصخرة العظيم، لأصاب بذهول من الصعب نسيانه، حيث فن العمارة العريق، والزخارف الإسلامية الرائعة، والآيات القرآنية التي تزين جدران المسجد والتي تأبى إلا أن تجعلنا نحني رؤوسنا خشوعا وإجلالا لرب العباد، وتقديرا للسواعد التي بنت هذا الصرح الطاهر، وخجلا لإهمال أمة بأسرها في حماية أحد أعظم بيوت الله. كنت أنظر لوجه جدتي وهو يشع نورا وبهجة وإيمانا فرحا لصلاتها في أجمل مساجد الأرض، فتغمرني سعادة لا تماثلها سعادة على الأرض. يجعلني الآن أحمد الله أنها قد وافتها المنية قبل أن ترى الصعوبات التي يواجهها أصحاب القلوب العامرة بالإيمان حين يتوقون للصلاة في هذا المسجد العظيم. كم أنت محظوظة يا جدتي بأنك لم تري المسجد مطوقا لمنع المصلين من الوصول إليه، والتبرك بالصلاة فيه. فكيف سيتسنى لك الصلاة لو أنك ما زلت على قيد الحياة؟ هل سيتسلق جسدك الهزيل الجدران المشيدة لتتمكني من الوصول اليه، أم ستنالك ركلة من حذاء جندي حقير تطيح بك أرضا مثلما أطاحت بالمئات من العجائز اللاتي لم تحترم أعمارهن، ولا كهولتهن وعجزهن، وهل نستغرب ذلك و هن لم تحترم أجسادهن في قبورهن، لقد نبشوا الأرض يا جدتي، وأخرجوا رفات العظام من قبورها فهل طالتك جرافاتهم؟ وأيديهم القذرة؟ أم أنك سلمت وترقدين في قبرك في سلام...
 رحلة إلى القدس ج3

تهويد القدس

هناء عبيد
...........

 القدس العتيقة.. والشيخ جراح

بعد انشراح قلوبنا بالصلاة في مسجد قبة الصخرة المشرفة ، وشرف زيارة المسجد الأقصى الذي لم ولن تتوقف محاولات زعزعة جذوره من قبل سلطات الاحتلال بكل الوسائل الممكنة من حفريات بل واستخدام مواد كيماوية لإضعاف أساساته وذلك لإقامة بناء الهيكل المزعوم الذي نسج اليهود المعاصرون حوله أسطورة كبيرة لتعطيهم الحجة في هدم واحد من أعظم مساجد الله لطمس الهوية الإسلامية , والعربية في مدينة السلام . بعد هذه الزيارة العظيمة المباركة تأتي مرحلة التسوق في أسواق القدس العتيقة التي تعتبر أبرز معالم المدينة المقدسة ، والتي تظهر تاريخا عريقا منذ أيام الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين. من أشهر هذه الأسواق سوق العطارين وهي سوق مسقوفة وفي سقفها توجد نوافذ لإدخال أشعة الشمس من خلالها. كذلك هناك سوق اللحامين وهي مسقوفة أيضا ولكنها مظلمة بالرغم من وجود النوافذ في سقفها. ومن الأسواق المشهورة أيضا سوق البازار التي تباع فيها الخضروات والفاكهة بمختلف أنواعها وتحتوي على رصفات جميلة بديعة تسر الناظرين ، وسوق باب العامود وسوق الباشورة وسوق القطانين وغيرها من الأسواق التي يتواجد فيها كثير من البضائع المختلفة. وتحاول سلطات الاحتلال طمس هذه الأسواق ومعالمها وذلك باتباع عدة سياسات من شأنها التضييق على أصحاب المحلات لإغلاقها، منها مثلا فرض الضرائب الباهظة التي لا يستطيع أصحاب المحال تسديدها مما يؤدي إلى مصادرتها، أيضا من الوسائل المتبعة للقضاء على رونق هذه الأسواق ما تقوم به بلدية القدس من إهمال هذه الأسواق من ناحية عوامل النظافة اللازمة ، مما يؤدي إلى تراكم القمامة والروائح الكريهة التي تسبب مكاره صحية وتعمل على تكاثر القوارض والجرذان وبالتالي إلى إتلاف البضائع. إضافة إلى الصورة القبيحة التي تصبح عليها هذه الأسواق أمام المتسوقين. فبدلا من الروائح الجميلة المنبعثة من البخور وأسواق العطارة أصبحت الروائح الكريهة تنفذ إلى المنطقة لتنفير المتسوقين من متعة زيارة هذه الأسواق وبالتالي إلى المخاسر الفادحة لأصحاب الدكاكين الذين لا يجدون مفرا غير إغلاقها لتفادي هذه المخاسر .

لا شك بأن مساعي سلطات الاحتلال كبيرة جدا لطمس معالم المدينة عربيا وإسلاميا ، وملئها بالمستوطنات اليهودية ، وتغيير البنية الديموغرافية فيها، لذلك فإن سلطات الاحتلال تحاول دوما التحرش بسكان المدينة والتضييق عليهم لإجبارهم على الرحيل عنها . وهذا بالطبع مخطط مدروس لصرف نظر العرب والمسلمين عن واحدة من أعظم المدن المقدسة ، ومحاولة منهم أن يمحوا هذه المدينة من ذاكرتنا ولإقناع العالم بأننا مجرد ضيوف على مدينة مهبط الأنبياء ، وأنهم أصحابها الحقيقيون.

في كل أسبوع وبعد كل صلاة جمعة كانت جدتي تقوم بالتسوق في هذه الأسواق القديمة المميزة التي يتجلى فيها قدم وعراقة هذه المدينة الطاهرة ، وكانت تجد متعة كبيرة في التنقل بين محالها التي تبعث في النفس الفخر والإعتزاز بالأصالة والعراقة والتراث الإسلامي المبهر. ولكن للأسف الشديد فإن عدم التدخل السريع لإنقاذ هذه الأسواق من عبث أيدي سلطات الإحتلال سيؤدي الى دمارها ، وإلى أن تؤول إلى طي النسيان وبذلك سيمحى تاريخ عريق بأكمله .

أما محطتنا الثالثة بين الأهل فتكون في منطقة الشيخ جراح. حيث يقطن الأخوال هناك، ومنطقة الشيخ جراح هي أحد الأحياء المشهورة في مدينة القدس . وهي تقع في الجانب الشرقي لمدينة القدس وقد وقع هذا الحي تحت الاحتلال الصهيوني عام 1967م . أما اسمه فقد استمده من اسم الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي طبيب القائد صلاح الدين الأيوبي . ومنذ سنوات وهذا الحي يتعرض لهجمات استيطانية كغيره من مناطق القدس . حيث تحاول بعض الجماعات اليهودية إقامة حي يهودي هناك ، فالمخطط قائم لتهويد هذا الحي وما تبقى من القدس العربية. حيث تم طرد العديد من السكان الفلسطينيين الأصليين من منازلهم في الشيخ جراح ، وإسكان عائلات يهودية مكانهم . وقد تم في هذا الحي السيطرة على ضريح الشيخ سعدي أحد المعالم الإسلامية فيه وتحويله إلى معلم يهودي حيث حول إلى قبر شمعون الصديق.

بالطبع كنا نقضي أوقاتا جميلة في دفء العائلة في حي الشيخ جراح ، وهناك تكون الأمور مختلفة قليلا عما هي عليه في قرية العيسوية حيث اللهجة الفلسطينية لأهل المدينة التي تختلف في بعض المفردات البسيطة، بالإضافة إلى الاختلاف في لفظ بعض الحروف. فمثلا في القرية يلفظ حرف القاف كافاً بينما في المدينة يلفظ هذا الحرف همزة . وهذا كان موضع تهكم وممازحة للجدة التي ترعرعت في قرية العيسوية ، فقد كنا أحيانا نطلب منها أن تتحدث باللهجة المدنية لتخلق حوارا وسيناريو كوميديا ما زلنا نتحدث عنه إلى يومنا هذا ، فقد كانت تقلب حرف الكاف إلى همزة مما يؤدي بالصغار إلى الضحك عاليا ، فمثلا كانت تلفظ كلمة كهرباء أهرباء اعتقادا منها بأن اللهجة المدنية لا تحتوي على حرف الكاف فتتعالى ضحكاتنا صغارا على ذلك مما يبعث المسرة في قلبها ، وفي الشيخ جراح حيث يقطن أهل المدينة لم يكن الثوب الفلاحي يظهر بشكل بارز هناك ، حيث كانت السيدات كبيرات السن يلبسن ملابس سوداء ويضعن على رؤوسهن مناديل بيضاء يعلوها غطاء أسود. ولم يكن الفرق شاسعا بين معيشة القرية ومعيشة المدينة فقد تلاشت الفروق إلى حد كبير بين قرى ومدن فلسطين وبخاصة في مدينة القدس .

وكما كانت لنا جدتنا في قرية العيسوية كانت لنا أيضا جدتنا في الشيخ جراح والتي لم تختلف صفاتها كثيرا عن جدتنا ابنة القرية ، فكلتاهما كانت تحمل قلبا يمتلئ بالحب والدفء ، ووجها بشوشا يمتلئ بالنور . لقد تمسكت هذه الجدة بهويتها الإسلامية العربية الأصيلة فلم تقبل أن تحصل على الهوية الصادرة عن الكيان الصهيوني ، مضحية بامتيازات كثيرة كانت تعتبرها خيانة للإسلام والعروبة والأرض والتراث .

في الشيخ جراح كنا نقيم لعدة أيام بين الأهل والأحبة . كان للمكان رائحته المميزة ، وشوارعه العتيقة التي تنقش في الذاكرة أصالة وعراقة وتراثا . وكان للطفولة هناك منافذ لإطلاق كل طاقاتها ، فالمكان فسيح يحتوي على كل ما يشبع شقاوة الأطفال . كانت الأيام في الشيخ جراح تسير على وتيرة جميلة ، ففي الصباح كنا نصحو على صوت بائع الكعك مروجا لألذ وأشهى كعك في المدينة والذي كانت تنفذ رائحته إلى حواسنا بالرغم من المسافة الكبيرة التي تفصلنا عنه ، وكان ينافسه في الصباح بائع اللبن الطازج ، كان صباح الشيخ جراح مشرقا بشمس دافئة ونسمات هواء عليلة وقد كانت الأوقات تمر بسعادة بين جمال المكان وعطف و حنان الأهل ، كانت المحلات التجارية والدكاكين في الشيخ جراح تحمل رمزا وصورا جميلة كانت وما تزال تؤثث غرفات ذاكرتنا بأناقة وروعة منقطعتي النظير ، بحيث لا يمكن نسيان أثرهما الرائع على وجداننا ، فقد كانت هذه الدكاكين المكان الذي نتطلع اليه لشراء كل ما لذ وطاب لمذاق طفولتنا البريئة .

هكذا كانت تمضي أيامنا متنقلين بين العيسوية والشيخ جراح ، أيام جميلة ، سعيدة ، نعتبرها من أروع أيام حياتنا ، فقد استطاعت ان تنقش في الذاكرة حنينا وشوقا ودفئا لا يمكن للأيام ولا السنين محوها ، إلى أن آن الأوان لترك مدينة الأحبة ، مدينة السلام ، مدينة الآباء والأجداد حيث صدر قرار الترحيل من قبل سلطات الاحتلال بعد رفضها لنا في الحصول على ما يسمى بلم الشمل الذي يصرح لنا من خلاله الإقامة الدائمة في القدس ، فما كان علينا إلا أن نلملم شتاتنا مرة أخرى لنغادر المدينه إلى شتات آخر لينتهي اللقاء مع الأحبة تماما كما بدأ ، بالدموع ، ولكنها هذه المرة دموع الفراق والألم. لنعود أدراجنا إلى بلد المحبة والخير الأردن الذي أصبح يحتل في القلب مكانة عظيمة، وأصبحت ذكرياته تحتل ركنا جميلا في الذاكرة ، وكلنا أمل بأن اليوم سيأتي لتستعيد الأمة العربية كرامتها المهدورة وتسترد أراضيها المنهوبة وتحافظ على أماكنها المقدسة المسلوبة ، فإلى ذلك اللقاء الذي ندعو الله أن لا يطول.

ليست هناك تعليقات: