متى تكون زيارة القدس تطبيعاً ومتى تكون رباطاً | ||
| ||
بين وقت وآخر تثير مسألة دعوة الأمة من العرب والمسلمين إلى زيارة مدينة القدس المحتلة جدلاً واسعاً بين أبنائها، فمن مؤيد إلى معارض، ومن موجب ومحلل إلى محرم، ولتوضيح هذه المسألة أقول: إن هذه الزيارة شأنها شأن كل عمل يصدر عن المسلم ـ قد تكون حلالاً وقد تكون حراماً، فقد تكون تطبيعاً مع الاحتلال واعترافاً بهيمنته عليها وشرعنة لمحاولاته تهويدها وطمس معالمها العربية والإسلامية وتغيير هويتها، وقد تكون رباطاً في سبيل الله ودعماً لصمود أهلها وتكثيراً لسوادهم وتكثيفاً للحضور العربي والإسلامي فيها ودفاعاً عن مسجدها الأسير وشداً للرحال إليه، فالأمر أولاً منوط بنية الزائر، ثم بما سيصدر عنه من تصرفات وأعمال أثناء الزيارة. ومن المعلوم أن الفتوى الشرعية ليست مجرد إبداء رأي فقهي، بل هي إنزال الحكم الشرعي على الواقع، ومن هذا المنطلق ينبغي علينا قبل الإفتاء بتحريم زيارة القدس أن نشخص واقعها ونعرفه ونتفهمه وندرسه جيداً، وأن نعرف سلوك زائرها ووجهته وماذا سيفعل فيها. أما عن واقع القدس فكما هو معلوم وملحوظ ومشهود لمن يتابع الأحداث والأخبار فهي معزولة الآن تماماً عن محيطها الفلسطيني بجدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية والمعابر الحدودية التي وضعتها سلطات الاحتلال على مداخلها، وهناك منع دائم لأبناء الضفة الغربية والقرى المجاورة للقدس من دخولها والصلاة في مسجدها، بل حتى المجاورون للمسجد الأقصى المبارك من المقدسيين يمنعون دخوله ممن تقل أعمارهم عن الخمسين، وفي مقابل ذلك تقتحم الجماعات اليهودية المتطرفة المدعومة من جيش الاحتلال ساحات المسجد يومياً وتقيم صلواتها التلمودية فيها. كما أن مدينة القدس المحتلة تعتمد في اقتصادها على الفلسطينيين الذين يأتون للتسوق من أسواقها فهم شرايين الحياة فيها، وحينما تقطع هذه الشرايين عن القلب فالنتيجة الحتمية هي موتها. يضاف إلى ذلك الإعلانات المستمرة والصريحة من قبل المسؤولين الإسرائيليين عن مشاريع صهيونية ممنهجة ومتسارعة لإسكان اليهود اليمينيين وغلاة المستوطنين مكان أبناء القدس الأصليين بعد طردهم منها، وفي بيوتهم المصادرة وعلى أراضيهم التي تقام فيها البؤر الاستيطانية. فهل نترك القدس لقمة سائغة للمحتلين الغاصبين، أم نفعّل ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم بقوله { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى} رواه مسلم، وهو صلى الله عليه وسلم قد صلى فيه أصلاً بكل الأنبياء والمرسلين ليلة الإسراء والمعراج قبل الفتح الإسلامي لها في عهد عمر بن الخطاب، أفلا نتأسى به! لذا فإنني أناشد مجدداً سائر من يتمكن من أبناء هذه الأمة حكاماً ومسؤولين وشعوباً جماعات وأفراداً أن يستجيبوا لأمر حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم فيشدوا رحالهم إلى المسجد الأقصى المبارك، أن يتوجهوا إلى المدينة المقدسة بنية الرباط فيها: فلْيصلِّ المسلمون في مسجدها، وليصلِّ المسيحيون في كنيستها، وأناشدهم مؤازرة أهلها ودعم صمودهم بالشراء من حوانيتهم وأسواقهم العربية، والمبيت في فنادقهم العربية، إنعاشاً لاقتصادها، وليتمكن المقدسيون من مواجهة حملات التطهير العرقي والعنصري التي تمارس ضد مدينتهم، وليتجولوا في أزقتها وحواريها وشوارعها، وليزوروا آثارها وعمائرها التاريخية، وليتعرفوا على معالمها الدينية والحضارية، وأن يطلعوا على معاناة أهلها وإجراءات تهويدها وانتهاكات حرمة مسجدها، فهذا من أقوى صور الحفاظ على وجهها ومشهدها العربي والإسلامي، وليفشلوا محاولات تهويدها. كما أدعو أغنياء الأمة ورجال أعمال لإقامة مشاريع استثمارية على أرضها وإنشاء الأوقاف لصالحها، فثري يهودي واحد يدعى مسكوفيتش دعم الاستيطان اليهودي في القدس بمئات ملايين الدولارات من ماله الخاص، وخصوصاً مستوطنة رأس العامود في القدس. فإذا منعت سلطات الاحتلال الغاشمة أهل القدس وأهل الضفة الغربية وأهل قطاع غزة دخولها ودخول مسجدها رغماً عنهم، وإذا تخلت الأمة بمحض إرادتها واختيارها عن القدس وعن أهلها فمن لهم؟ وكيف سيواجهون هذه المخططات وإجراءات التهجير القسري وحدهم بصدور عارية وبلا نصير من بني جلدتهم؟ وأنى لهم أن يثبتوا على تراب وطنهم وأرضهم ويرابطوا فيها؟ أما تحريم زيارة القدس باعتبارها تطبيعاً مع الاحتلال، ففي رأيي أنه اجتهاد خاطئ ومجانب للصواب، ودعوة مريحة للاحتلال وداعمة لأهدافه السياسية، لأن القدس في هذه الحالة سوف لن يبقى فيها، على ضوء ما ذكرت من إجراءات التهويد والتطهير العرقي، إلا اليهود، والمشروع الصهيوني المخطط له أن يكون عدد السكان اليهود في القدس عام 2020م مليون يهودي، فكيف سنحفظ الوجود الإسلامي والعربي فيها، والبقية الباقية من أهلها العرب الأصليين بمن ستقوى ظهورهم وصدورهم؟ كما أن حصر جواز زيارتها في الفلسطينيين وحدهم تجريد لقضيتها من عمقها العربي والإسلامي، وهذا مما سيضعفها على المستوى العالمي. فمدينة القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، وإنما هي للأمة لأنها جزء من عقيدتها ودينها بنص القرآن الكريم، قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الإسراء 1، فهي عنوان عزتها وكرامتها، كما أن لها بعداً عالمياً لما تضم من كنوز حضارية وتراث إنساني، لذا تعمل إسرائيل على مصادرتها وطمسها وتهويدها وإلغائها. ففي كل يوم تصدر قراراتها بهدم المباني والعمائر التاريخية في القدس، وأعلن مسؤولوها في أكثر من مناسبة عن المخطط الصهيوني الرامي إلى تهويد الحوض المقدس والبلدة القديمة التي تضم كل التراث الإنساني: المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة والعمائر والمباني التاريخية، وهي تعمل على تنفيذ ذلك بشكل كامل لتحويله إلى مدينة يهودية مقدسة، وتخطط لاستحضار عشرة ملايين سائح لإطلاعهم على الحضارة والكنس اليهودية على أنقاض المقدسات الحضارة الإسلامية كذباً وزوراً وتزييفاً للحقائق التاريخية والدينية. ولي أن أتساءل: سبق أن وقعت القدس قبل قرون تحت احتلال الفرنجة لسنوات وعقود طويلة، فأين فتاوى العلماء بتحريم زيارتها على المسلمين؟ كان فيها العز بن عبد السلام سلطان العلماء، وأبو حامد الغزالي حجة الإسلام، وابن تيمية شيخ الإسلام، فهؤلاء أعلام في العلم والفتوى والجهاد بالكلمة وغيرها في تاريخ الأمة الإسلامية، زاروها ولم يقولوا -من خلال ما علمت وقرأت واطَّلعت- بأنهم لن يدخلوا القدس ما دامت تحت حراب الاحتلال الصليبي، بل على العكس من ذلك، فهذا أبو حامد الغزالي دخل القدس وهي تحت الاحتلال الصليبي من باب الأسباط فرأى 360 حلقة علم في ساحات المسجد الأقصى المبارك فبكى لانخفاض مستوى إقبال الناس على العلم. وخضعت الجزائر للاحتلال الفرنسي أكثر من 130 عاماً، ولم نسمع أحداً من العلماء حرم دخولها على غير الجزائريين بسبب احتلالها، ومثلها مصر والشام وغيرها من بلاد العرب والمسلمين التي خضعت للاحتلال الفرنسي أو البريطاني أو الإيطالي. إن زيارة مدينة القدس المباركة يمكن أن تكون تطبيعاً إذا كانت ذهاباً إلى المحتلين بهدف عقد اتفاقيات تجارية أو استثمارية أو اقتصادية أو سياحية معهم والمبيت في غنادفهم والتسوق من أسواقهم والتنزه في شواطئهم، أما زيارتها كمسلمين للصلاة في المسجد الأقصى المبارك وبنية الاعتكاف والرباط فيه ودعم صمود أهل القدس فهذا واجب مفروض على كل من يستطيعه، فالقدس تضيع من بين أيدينا، وأصبحت مستباحة لليهود وللغرباء ، فهل نحرمها على أبنائها وعلى المسلمين والمسيحيين! فالقدس في وضع خطير للغاية، فالحفريات على قدم وساق تحت أساسات المسجد الأقصى المبارك تسببت بانهيارات في ساحاته، وتصدعات في أعمدته وجدرانه وبالأخص الجدارين الجنوبي والشرقي، حتى الأتربة والصخور التي يقوم عليها أزالتها إسرائيل وفتحت شبكة من الأنفاق أسفله فأصبح الآن معلّقاً في الهواء، وتراهن إسرائيل على هزة أرضية أو زلزال ليهدم تلقائياً فتقيم الهيكل مكانه، واستولت على مفاتيح باب المغاربة منذ عام 1967، ومن يومها لم يسمح لنا بالمطلق أن ندخل منه أو أن نمر عبره ، وهدمت الطريق المؤدي إليه وأنشأت مكانه جسراً خشبياً، وتخطط لإقامة جسر أكبر يستوعب دبابات ومدرعات وآليات عسكرية وآلافاً من الجنود والمستوطنين، وآلافا من الجماعات اليهودية ليدخلوا إلى المسجد الأقصى المبارك في الوقت الذي يريدون، وسبق لها قبل عامين أن حاصرت المعتكفين فيه بهدف ارتكاب مجزرة في ساحاته ومن ثم الدخول إليه لتقتل وتعتقل من كان فيه. جميع الفلسطينيين الآن يمنعون الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، ولا يوجد مكان عبادة في العالم مسجد أو كنيسة أو غيرهما يحدد أعمار من يسمح لهم بدخوله والصلاة فيه، لا يوجد مكان عبادة في العالم يعتقل المصلي حينما يأتي للصلاة فيه إلا المسجد الأقصى المبارك، فإسرائيل تسعى لقطع الصلة بين القدس وبين كافة المسلمين والمسيحيين لتحكم السيطرة عليه ولتستفرد به لتنفذ مخططاتها ضده بعيداً عن أنظار العرب والمسلمين والعالم ، فينبغي ألاَّ نكون عوناً لها في تحقيق ذلك. وإذا كان دخول العرب والمسلمين القدس المباركة حراماً فما حكم زيارتهم أقاربهم في سائر المدن الفلسطينية؟ هل هي حرام لأنها تتم بتأشيرات وقرارات وتصاريح من الاحتلال؟ هل يصل الأمر إلى تقطيع الأرحام وصلات القربى وحرمان الفلسطينيين من قدوم أهليهم وذويهم إليهم! لكل ذلك أقول: إنه يجب إن كان هناك فتوى بالتحريم إعادة النظر فيها، وهذا من باب الأخذ بفقه الأولويات، ولا ننسى القاعدة الفقهية 'لا ينكر تغير الفتوى بتغير الزمان' بل حتى ولا بتغير المكان والإنسان والأحوال. | ||
الأحد، 4 مارس 2012
متى تكون زيارة القدس تطبيعاً ومتى تكون رباطاً
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق