الاثنين، 26 ديسمبر 2016

عرفات .. بين الواقع والتاريخ

undefined

لن نجافى الحقيقة إن قلنا إن الرئيس الراحل ياسر عرفات هو أحد أكبر رموز التحرر الوطنى فى العالم المعاصر، من يقرأ سيرته الذاتية ويتعرف على مراحل حياته سيجد أمرا واحدا لا جدال فيه، إن فلسطين ككيان وفكرة وحركة تحرر، وحقوق مشروعة، ومعاناة شعب، ونضال مستمر لخيرة أبنائه، وتشتت عبر الزمن ولاجئين فى كل مكان، وطموح للحرية لا سقف له، وكفاح بكل الأشكال والألوان، ومفاوضات تحت الضغط العسكرى أحيانا والسياسى أحيانا أخرى، وإيمان بمبادئ لا تنازل عنها، وحصار وسجون طالت أم قصرت مدتها، وسلطة فلسطينية كبداية لمشروع دولة تهفو إليها النفوس وتتطلع إليها العقول، قد امتزجت واختلطت بشكل عجيب مع حياة هذا الرجل، بحيث أصبح تاريخ ياسر عرفات هو نفسه الجزء الأكبر من تاريخ فلسطين على مدى أربعة عقود متصلة.


مسيرة نضالية مبكرة وحافلة


بدأ عرفات مسيرته النضالية مبكرا حين امتزج فى العمل الطلابى الباحث عن هوية عربية فى نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضى، ومرورا بإنشاء حركة التحرر الفلسطينى « فتح» فى العام ١٩٥٧ بالكويت مع رفاق النضال كخليل الوزير»أبوجهاد» وعادل عبد الكريم ثم خالد الحسن وصلاح خلف، لتظهر فتح بقوة منذ أواخر العام ١٩٥٩، وهى الحركة التى قامت بأولى عملياتها ضد الدولة الصهيونية فى الأول من يناير ١٩٦٥ والمعروفة باسم عملية نفق عيبلون، معلنة بذلك النضال المسلح من أجل تحرير فلسطين.


رأس عرفات منظمة التحرير الفلسطينية ١٩٦٩ وفى ظل قيادته نالت عضوية الأمم المتحدة بصفة مراقب نوفمبر ١٩٧٤، واتسعت علاقات المنظمة مع العديد من الدول فى العالم كله، وفى العام ذاته وفى قمة الجزائر العربية اعترفت جامعة الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعى وحيد للشعب الفلسطينى، وفى يونيه ١٩٨٠ أصدرت السوق الأوربية المشتركة «إعلان البندقية» الذي يطالب بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في أية مفاوضات لإحلال السلام.


وفي ١٣ أيلول ١٩٩٣ بعد ستة أشهر من المفاوضات السرية في اوسلو، وقّع عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، في واشنطن، ما بات يعرف باتفاق أوسلو، وهو عبارة عن «إعلان مبادئ»، سمح للفلسطينيين بممارسة الحكم الذاتي في قطاع غزة ومدينة أريحا بالضفة الغربية مقابل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، لكن الإعلان لم يحسم عدة قضايا شائكة وأبرزها مستقبل المستوطنات المقامة على الأراضي المحتلة، ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك مدنهم وقراهم بعد حرب عام ١٩٤٨، والوضع النهائي لمدينة القدس، وهى القضايا التى شكلت دائما حجر عثرة فى الوصول إلى حل تاريخى ينهى معاناة الشعب الفلسطيني.


لقد ساهمت تحولات عدة فى اقتناع الرئيس عرفات بضرورة تغيير استراتيجية العمل الوطنى الفلسطينى وإضفاء طابع واقعي عليها وقبول بناء الدولة الفلسطينية على أى جزء يتم تحريره من الأرض الفلسطينية المحتلة، ومن أبرز تلك التحولات الانتقال من الأردن إلى بيروت، والعدوان الإسرائيلى على لبنان ١٩٨٢ وحصار بيروت وقصفها بوحشية إسرائيلية وتواطؤ دولى رهيب من أجل أن يسلم نفسه ولكنه أبى، والانتفاضة الشعبية العارمة التى عرفت بأطفال الحجارة ١٩٨٧، والمفاوضات السرية فى أوسلو ١٩٩٣ المُشار إليها، ثم مواجهة الانقلاب الإسرائيلى على عملية السلام مع تولى العدو اللدود شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية بعد رحيل إسحاق رابين، وفشل مفاوضات ٢٠٠٠ فى كامب ديفيد برعاية الرئيس الأسبق الأمريكى بيل كلينتون، ومواجهة تداعيات هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ فى الولايات المتحدة وما تلاها من وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب من أجل محاصرتها وإنهاء جذوتها، ثم الحصار الإسرائيلى للسلطة وللرجل فى رام الله لمدة ٨٠ يوما ما بين ٢٣ مارس إلى ٢ مايو ٢٠٠٢.


فلسطين الرقم الصعب


وفى كل هذه المحطات الرئيسية، ما نجح فيه وما شهد تعثرا، حوّل عرفات القضية الفلسطينية من أمر هامشى يتعلق بلاجئين لا نصير لهم إلى قضية شعب يهفو الى الحرية، وإلى رقم صعب فرض نفسه على طاولة السياسة الدولية والإقليمية بلا كلل أو ملل. كان عرفات قائدا ممسكا بكل الخيوط، خاضعا لإيمانه العميق بالله وسمو هدفه فى تحرير شعبه من أبغض وأحقر احتلال يعرفه التاريخ البشرى، ومؤمنا بأن كل المعاناة وكل التضحيات ليست سوى ثمن بسيط للهدف الأسمى وهو إقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية، له قابلية الحياة وعاصمتها القدس، تجذب الفلسطينيين من كل أماكن الشتات وتعطيهم حقهم الطبيعى فى الحياة كشعب حر له أرض ومؤسسات ودولة تحميه وتؤمن له حياة كريمة مثله مثل أى شعب آخر، فحين التقى عرفات مع الرئيس جمال عبد الناصر بعد نكسة ١٩٦٧، حيث طلب منه الاستمرار فى النضال العسكرى وإشعال مضاجع الأعداء، رد عرفات «بل سأشعل ثورة». وحينها قال عبد الناصر: إن الثورة الفلسطينية أنبل ظاهرة وهي وجدت لتبقى، فيضيف أبو عمار «ولتنتصر».


اقتضت الظروف من الرجل أحيانا مراجعة النفس وتقديم تنازلات رأى أنها ضرورية فى سياق الواقع المر الذى تمر به الأمة العربية، لكنه ظل مؤمنا أن تلك التنازلات ليست أمرا نهائيا، بل هى ضرورة من ضرورات اللحظة، وأن التاريخ سوف يصحح نفسه ذات يوم. فالمهم أن يرسخ فى ذهن العالم كله أن الشعب الفلسطينى قد ظُلم ظلما بينا، ومن حقه أن يحصل على دولته المستقلة، وأن هذا العالم مسئول عن هذه المعاناة، ومسئول عن إيجاد حل تاريخى ينهى تلك المأساة الى غير رجعة. وفى كل ذلك كان عليه أن يواجه الضغوط الإسرائيلية الصهيونية ومن ورائها الولايات المتحدة ودول أوربية عديدة خضعت لتلك الدعاية الصهيونية وصارت فى الصف الآخر تناصر الاحتلال أو ترى فيه شيئا طبيعيا، وأن الفلسطينيين لا خيار لهم سوى التوطن فى البلدان التى هم فيها. وبالإصرار والتحدى والمثابرة والاتصالات التى لا تنقطع وباستنهاض روح الحرية والعدل لدى قوى التحرر، بدأت معادلات جديدة تفرض نفسها وتحاصر الدعاية الإسرائيلية الصهيونية فى عقر دار الغرب وفى الولايات المتحدة، ومن ثم تحولت كثير من المواقف الغربية العدائية إلى مواقف نصرة ومساندة للفلسطينيين، وفى أقل الأحوال مواقف محايدة لكنها تتفهم الحق الفلسطينى ومشروعيته فى النضال من أجل وطن آمن ومستقل.


زعامة كبرى وقيادة واعية


كل من عرف عرفات مناضلا ثوريا وقائدا سياسيا وأبا يلتف حوله الأبناء والمريدون، وجد فيه الإصرار والقدرة على التعامل مع كل تطور بما يستحق، كما التف حوله الأصدقاء والمحبون والواثقون فى زعامته وفى قيادته، تعلموا منه التمسك بالأمل والإصرار على العمل وعدم الوقوع فى اليأس مهما اشتد اليأس وزاد الضغط والحصار وامتنع الأقربون عن تلبية واجبات القرابة، تجلت زعامته فى اعتراف المختلفين معه بزعامته وبعدم القدرة على تجاوزه، كذلك فى اعتراف العدو الإسرائيلى بزعامته ولو على مضض، كانت قضيته المركزية استقلال القرار الفلسطيني ومنع الضغوط أن تَفرض عليه وعلى شعبه خيارات تنتهى الى الهلاك وضياع الحقوق، لم يكن أمامه سوى الانفتاح على العالم كله الذى استقبله كرئيس لشعب مكلوم تدافع عنه منظمة التحرير الفلسطينية، وكزعيم متوج من أجل الحرية، وتجلت مهمته فى أن يُعرّف هذ العالم المغمض العينين بالحق الفلسطينى المشروع ويطلب منه المساندة والدعم من أجل إحقاق الحق، وإنهاء تلك الوصمة التى تشين العالم كله ممثلة فى احتلال استيطانى توسعى تخريبى هو الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين وتجاهله التام وجود شعب فلسطين الأصيل الذى جار عليه الزمن وتآمر عليه القريب والبعيد معا، ولم يجد السند والعون إلا من إخوة قليلين كالمصريين، الذين حاربوا وضحوا من أجل حرية وكرامة أشقاء لهم، وما زالوا يضحون.


مشاهد تاريخية لا تنسى


فى تاريخ عرفات مشاهد تاريخية لا تنسى جسدت معنى النضال من أجل الحرية وجسدت الإصرار حتى الرمق الأخير، فحين حصلت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسته على عضوية مراقب فى الأمم المتحدة، وفى سبتمبر ١٩٧٤ وأمام العالم كله تحدث عرفات من منبر المنظمة الدولية لأول مرة قائلا قولته الشهيرة «جئتكم ببندقية الثائر في يد، وغصن الزيتون في يدي الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي « وحين اتخذت الحكومة الإسرائيلية فى ١١ سبتمبر ٢٠٠٣ قراراً بإبعاد الرئيس ياسر عرفات عن أرض الوطن وحاصرت مقر إقامته فى رام الله بعد اقتحامه وتدمير معظم ما فيه، قال قولته الشهيرة التى ستظل محفورة فى وجدان أحرار العالم أجمعين: «على القدس رايحين شهداء بالملايين.. إنهم يريدوني أسيرا أو طريدا أو قتيلا .. لا .. أنا أقول لهم شهيدا.. شهيدا .. شهيدا».


سيظل عرفات رمزا مهما حاول الإسرائيليون والصهاينة إنكار دوره التاريخى، وهنا شهادة حديثة من الباحثة الإسرائيلية د. رونيت مرزان بجامعة حيفا التى أصدرت كتابا بعنوان « ياسر عرفات - خطاب زعيم وحيد»، قالت فيه « لا شك أن عرفات يعتبر زعيما للثورة الفلسطينية. فيعتبره الفلسطينيون زعيما حصريا شرعيا وحيدا من زعماء الشعب الفلسطيني، ورغم أنه لم ينجح في إقامة دولة مستقلة من أجل الشعب الفلسطيني، إلا أنه جعل الفلسطينيين، في نظر المجتمع الدولي شعبا معرّفا يستحق دولة، واليوم عندما أنظر في مواقع التواصل الاجتماعي الفلسطينية، ألاحظ الشوق الكبير إليه. يتوق الكثير من الشباب الفلسطينيين إلى التوحيد الذي حرص على رعايته بين الفلسطينيين في رام الله وفي غزة ونابلس، بين الذين يعيشون في القرى والمخيّمات وبين الذين يعيشون في المدن الكبرى. إنّ المجتمَع الفلسطيني مقسّم جدا وما زال يُعتبر عرفات أسطورة.. وإذا أردنا أن نفهم بشكل أفضل المجتمع الفلسطيني والأزمات التي مر بها فلا يمكن تجاهل هذه الشخصية».


أما نيلسون مانديلا أحد رموز التحرر الوطنى فى عالمنا المعاصر فقال عن عرفات «كنت أتابع نشاطات الرئيس ياسر عرفات من غياهب سجني، وكم أثار اهتمامي بثباته ومثابرته. لقد آمن به شعبه وسار معه خطوة بخطوة، في السراء كما في الضراء، فهو الذي وضع المسألة الفلسطينية على جدول أعمال المجتمع الدولي، ونقل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة بكامل المعنى، لقد كانت حماسته وثقته لا تتزعزع، والتزامه بالكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية تشكل قيما رمزية في نظر الكثيرين في العالم، سوف يبقى الرئيس عرفات إلى الأبد رمزا للبطولة بالنسبة لكل شعوب العالم التي تكافح من أجل العدالة والحرية»

ليست هناك تعليقات: