الجمعة، 4 يناير 2013



ثورات الربيع العربي الى أين
الدكتور  داوود الزبيدي
دول الربيع العربي تواجه مشكلات وإحباطات متزايدة تجعل التحسر على الأيام السابقة حقيقة لا ينكرها أحد فهناك من يذكر هذا الأمر من واقع الحسرة إزاء الانتكاسات كما حدث فى تونس وتعثر العملية الديموقراطية المنشودة واصابة الطبقة الفقيرة بالاحباط  وهناك من منطلق الشماتة في من فرحوا بتغييرات هذا الربيع ومن الانقسام الشعبى بين اصولى وغير اصولى فى مصر والازمة حول صياغة واقرار الدستورالجديد وانهيار الوضع الاقتصادى وعدم قدرة الحكومة على ادارة شؤون البلاد ولا نرى فى الافق تحسن جدي لتولى مصر القيادة وفتح الابواب المغلقة مع غزه ودعم السياحة باعتبارها ام العالم للحضارة هى ووادى الرافدين
هذه الإحباطات ناجمة عن التوقعات الكبيرة التي علقها الناس على الثورات وآمالهم في تغيير أوضاعهم وأحوالهم  وفي زوال كل إرث الماضي ومشاكله وصدم الكثيرون من تسلق الإسلاميين للثورات ووصولهم إلى الحكم ومواقع النفوذ واعتبروا أن الثورات إما أجهضت أو سرقت
لاشك أن الربيع العربي كان نتاج أوضاع داخلية متردية أفرزتها تراكمات حكم الاستبداد والفساد كما فى ليبيا التى كان يقودها نظام مصاب  بجنون العظمة والنرجسية  أدت إلى إحباط عميق بين جيل الشباب الذي لم يعد يرى حاضرا أو مستقبلا أمامه  وبعد انهيار النظام لا نرى ديمقراطية بل اقتتال وتشرذم وانقسام وانهيار ونهب الثروات فى الداخل والخارج وكما فى اليمن لا ديموقراطية ولا حكم جديد يسير نحو الحرية والاستقلال والديموقراطية والعراق الذى لا يزال ينزف دما وخسر جيشه وقطعت اوصاله  وقتل وشرد علمائه وأطبائه فى العالم
الربيع العربي لم يكن بلا مقدمات ففي مصر ظلت الأمور تتفاعل على مدى سنوات  من مظاهرات وإضرابات  و حركات احتجاجية معبرة عن غضب من تردي الأوضاع سياسيا واقتصاديا وضيق متزايد من ترهل النظام والفساد المستشري  
واذا كان هدف الثورة فى سوريه هو حكم مشابه لهذه الأقطار فلا شك ان المستقبل سيكون قاتم ومظلم ، أن الثورة في تونس ثم في مصر ألهبت وشجعت على انفجار المظاهرات المطالبة بالتغيير وبالحريات  لكن الثورات لم تكن لتنتقل وتشتعل لولا وجود عوامل داخلية أدت إلى اشتعالها لذلك رأينا بعض الدول تنضم للربيع العربي في سرعة شديدة  بينما دول أخرى لم تتأثر به وكثيرون أخطأوا عندما اعتبروا أن الثورات ستنتقل تلقائيا من دولة إلى أخرى  وأن التغييرات ستعم المنطقة كلها  ولن يسلم منها أي نظام لأنهم اعتقدوا بإمكانية التقليد لظاهرة معقدة تتداخل فيها عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية تختلف بالضرورة من بلد إلى آخر، حتى ولو كانت هناك بعض الاعتبارات والقواسم المشتركة  فالثورات لم تحدث فقط بسبب العامل السياسي، بل لعبت العوامل الاقتصادية والاجتماعية دورا كبيرا فيها  خصوصا بين جيل من الشباب المحبط الذي شعربفقدان الأمل في حياة يتمتع فيها بالحقوق والأمل في وظيفة وسكن واستقرار
كما أسهمت أيضا وسائل التواصل الجديدة لأنها أسقطت القيود الأمنية وكسرت أبواب سجن الكلمة لتفتح الفضاء أمام تبادل المعلومات وتتيح إمكانية الحشد والتحفيز بين شباب اصبح يعتمد بشكل متزايد على الإعلام الجديد كمصدر للمعلومات والأخبار والتواصل
الثورات العربية ربما فاجأت الكثيرين لأن القناعة التي كانت سائدة هي أن الإنسان العربي فقد الإرادة والقدرة على التغيير  والعديد من الأنظمة التي غرقت في الفساد والاستبداد اكتفت بالقناعة بأن قبضة أجهزتها الأمنية قادرة على منع أي تحرك للإطاحة بها لهذا بدا تأثير المفاجأة واضحا على نظامي بن علي ومبارك اللذين اضطربت ردود فعلهما لأنهما لم  يصدقا ما يحدث  ولم يقدرا حجم الغضب  تحت السطح  ولم يتوقعا السقوط السريع وما إن زال عنصر المباغتة واستوعبت الأنظمة الأخرى حجم ما يحدث أمامها  حتى بدأت قمعا أشد وغرق في  الدم ووقتا أطول مثلما حدث  في ليبيا ثم في اليمن والآن في سوريا
 الربيع العربي كان زلزالا هز المنطقة وما يزال، ومحاولة فهمه وتحليل أسبابه ونتائجه لا يمكن أن تتجاهل كل العوامل والتراكمات الداخلية وفاجأت المناخات العربية التى مارست القطيعة مع الديمقراطية وأصبحنا نعلم أن من  ادعوا انهم  فاعلين في التحول الديمقراطي ليسوا هم من فعلوا هذا التحول
ينظر المراقبون إلى الاحتجاجات التي اجتاحت بعض الدول العربية بنوع من المفاجأة لكن هذه النظرة ليست صحيحة
فالاحتجاجات جاءت نتيجة تفاعل متغيرات عدة منها الوعي في إدراك الحرية لإحداث التغيير ونمو طبقة    تعيش انعدام عدالة توزيع الدخل واستشراء البطالة  وتخلف الاقتصاد  وإطلاعها على ما يجري في بلدانهم وفي العالم والقدرة على التواصل بينهم بدون حدود وقيود
لقد بدأت الاحتجاجات في تونس ردة فعل عفوية على واقع عفن ومن اللافت أن المطالب كانت في بدايتها متواضعة حيث لم تتجاوز المطالبة بالمزيد من الحريات ومحاربة الفساد، لكن ما لبث سقفها أن ارتفع في مواجهة القمع الشديد وهذا يعني أن الحراك الجماهيري بدأ متواضعا من حيث وعي أهدافه لكنه ما لبث أن أنضج وعيا ذاتيا من داخل الحراك تمثل في الالتفاف حول هدف إسقاط النظام ولكن لم يتم تحديد هذا الهدف  بشكل يجعله غير قابل للاختلاف حول تأويله  فالكل يريد إسقاط النظام  بدون أن يكون هناك تحديد للنظام  هل هو شخص بن علي  أم هو مجموعة المصالح التي يمثلها وكان لهذا تأثير كبير في نتائج الحراك ولم يأتِ الحراك الجماهيري التونسي كفعل إرادة ناتج من تحديد دقيق للغايات يمكن أن يجعل منها مرجعية للحكم عند الاختلاف بل جاء استجابة لحادث عرضي غذته عوامل موضوعية ووجود لحظة تاريخية اتسمت بانفتاح كبيرعلى مستوى الاتصال وانتقل الاحتجاج من تونس إلى مصر التي جاء فيها الحراك الجماهيري مطابقا لما حدث في تونس من حيث سعي المتظاهرين إلى استهداف استبداد النظام طلبا لإسقاطه وطابق الحراك المصري الحراك التونسي في عدم التحديد الدقيق للغايات وهذا ما جعل  الاحتجاج في الحالتين ردة فعل عفوية  ولم  تكن نتيجة تخطيط مسبق أن مستوى العفوية في الحراك التونسي المصري يظهر أن ما جرى هو  فرصة سياسية مما يؤكد أن ما حدث فيهما  لم يصل إلى استبداله بواقع مغاير بل بقيت هناك جيوب وأركان من الواقع السابق ولو فتشنا في ليبيا عن طبقة متوسطة واعية وذات تجربة في الممارسة العامة  لجاءت النتيجة خلافا لتونس ومصر اللتين راكمت الجماهير فيهما تجربة كبيرة وعميقة من  العمل النقابي والحزبي  لم تعرف الجماهير الليبية أية تجربة في العمل العام  وفي اليمن أدى الولاء للقبيلة إلى إفراغ هذا العمل من محتواه  وحال دون تكريس تجربة ذات بعد نضالي
ولم تصل الجماهير إلى مرحلة الوعي التي تكون فيها جاهزة لتقدير وترتيب الأولويات  مع تباين بسيط في اليمن  والنتيجة وعي بهدف إسقاط النظام متفاوت وضوحه بالنسبة إلى الحالتين  فعدم تقدير خطورة العنف أدى في ليبيا إلى درجة الاستقواء بالخارج  وهو ما أفرغ الحراك من قيمته كفعل إرادة طلبا للحرية  بينما أدى في الحالة اليمنية إلى ارتكاب ممارسات عدة لا تبشر  
هناك تعميم خاطئ ومبالغ فيه في إطلاق تعبير الثورة على جميع الأحداث التي جرت في بعض البلدان العربية  وغالبا ما يستخدم تعبير الثورة لوصف انقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية مؤقتة تقود إلى تغيير محدود في نظام الحكم السائد بينما المعنى الدقيق للثورة هو أنها مجمل الأفعال والأحداث التي تقود إلى تغييرات جذرية في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل شامل وعميق على المدى الطويل وإذا كان هذا التعريف ينطبق على الحالتين التونسية والمصرية  فإنه لا ينطبق على الحالتين الليبية واليمنية اللتين هما أقرب إلى الانتفاضة منهما إلى الثورة
ان تجارب التاريخ تؤكد أن كل ثورة لا تقوم إلا ولها ثورة مضادة  فالذين يفقدون السلطة  يتراجعون  للتآمر على قلب النظام  وإن عجزوا بذلوا كل ما في وسعهم لعرقلة المسار وتشويهه  وهذا بالضبط ما شهدته تونس حيث الفلول التي تركها نظام بن علي تتعاون مع فلول البوليس السياسي والحزب المنحل لبث الفوضى والعنف وهناك في الثورة نفسها قوى تدفع إلى الفوضى والعنف وعدم الاستقرار فيقوم الثوريين بمجابهة الأعداء وآنذاك تعود الآلة الجهنمية للقمع السياسي إلى العمل فالثوار ليسوا من يجنون ثمار الثورة  حيث يأتي بعد الثوريين الانتهازيين  وبعد الملحمة خيبة الأمل ففقراء سيدي بوزيد يعودون إلى فقرهم وسكان المقابر في القاهرة إلى مقابرهم  فلا حلول جذرية لمشكلاتهم  أما الغنيمة الكبرى فهي لمن كانت تنعم تحت انظمة الاستبداد
ثبت بالتجربة  أن التغيير من الداخل ممكن وبدون الحاجة إلى الخارج  كما جرى فى تونس ومصر وإسقاط نظام أسهل من بناء نظام جديد وما حدث في  يشير إلى وجود بوادر نهضة عربية شاملة وإلى تفاعل كبير في الوعي العربي تبين من تجربة ما حدث  
أن الانتفاضات تحولت إلى ثورات عندما استطاعت تحييد الجيش وتبين أيضا خطأ تعميم شعارات الثورتين التونسية والمصرية على باقي الحالات في العالم العربي
ادعاء دول الخليج العربي أنها غير معنية برياح التغيير وأنها حالة استثنائية في محيطها العربي غير صحيح فدول الخليج لا تعيش في فراغ ولا تستطيع الابتعاد عما يجري في محيطها العربي لقد طرق الربيع العربي أبواب الخليج  وإن كانت التداعيات جاءت بنسب متفاوتة من بلد خليجي إلى آخر وبعض بلدان الخليج سعيدة بالربيع العربي وبعضها الآخر خائف ويعود هذا إلى نقاط قوة تتسم بها بعض الدول ونقاط ضعف تتسم بها دول أخرى والمخرج فى هذا الحال هو صياغة انسان عربي جديد له روح ديموقراطية يؤمن بالعدالة والحرية والمساواه وحق الأختلاف
لكن هذه القراءة السوداوية لمستقبل الثورات العربية تستتبع بقراءة متفائلة  حيث حققت الثورات
إنجازات فى إعادة بناء الإنسان العربي وإعادة بناء الأمة 





ليست هناك تعليقات: